أرشيف المقالات

الأعاظم (2) أعظم تخطيط

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن الهمم العالية مطلب يتمناه أصحاب النفوس الكبيرة، التي تتوق للمعالي، للوصول إلى أعاظم الأمور، بما يعود عليها من نفع كبير وخير وفير، تؤهلها لنيل الدرجات العُلى والمنازل العُظمى في الفردوس الأعلى، فمن جد وجد ومن زرع حصد، ومن سار على الدرب وصل، ومن سعى جنى، ومن طلب العُلى سهر الليالي.
وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِباراً                   تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ
سلسلة "الأعاظم" هي وقفات إيمانية وخواطر تربوية ونظرة دقيقة حقيقية؛ لتزكية النفس وتهذيبها، وتطهير القلب وطمأنينته، وانشراح الصدر وراحته، من خلال تصويب البوصلة وتعديل الاتجاه ووضوح الهدف، والارتقاء في تفكير المسلم من النظرة المادية المحضة والتركيز على عوائد مؤقتة زائلة، إلى نظرة شرعية تأصيلية تؤثر الباقية على الفانية، والعائد الأخروي الدائم على الدنيوي المنقطع.

إن أي مشروع يراد له النجاح وتحقيق نتائج طيبة وثمار مرجوة؛ لابد له من تخطيط دقيق سليم جيد، بل النجاح في الحياة عموما ما هو إلا ثمرة من ثمار التخطيط الناجح، حتى أن وزارة التخطيط في الدول المتقدمة من أهم الوزارات، وتعتبر حجر الأساس في رقي الدولة الاقتصادي والعمراني والخدمي والتنموي.

التخطيط الاستراتيجي في بيئة العمل من أهم العمليات الإدارية المعاصرة، لمساهمته في تحديد إطار زمني للوصول إلى أهداف واضحة، مع استخدام أمثل للموارد وجعل العمل أكثر فاعلية، من خلال تحديد نقاط القوة واستثمارها، ومعرفة نقاط الضعف وتجاوزها، واغتنام الفرص والتغلب على التحديات.

كل مشروع في هذه الدنيا مهما كان عظيما قويا متماسكا، وتحققت أهدافه وعوائده وتم تنفيذه بخطط محكمة، فإنه سينتهي ويضمحل ويتلاشى طالما متعلقه دنيوي، فكل ما ارتبط وتعلق بزائل فهو زائل.

بالمقابل حتى يضمن المسلم ويحقق أمثل تخطيط بأعلى ثمار وعوائد وديمومة، وأقصر طريق للوصول إلى الأهداف؛ لابد من توفر وتحقيق عناصر أربعة مهمة:

1- الخروج من دائرة شخصنة المشروع إلى دائرة مشروع الأمة.

2- الصدق والإخلاص واستحضار النية الصالحة والمقصد الحسن.

3- أن يكون هدف التخطيط دوام واستمرارية الصلاح والاستقامة وتحقيق العبودية في الأرض.

4- بذل الأسباب الشرعية والعمل بموجبها.

إن أفشل مُخَطِّط ومُخَطَّط على وجه الأرض هو إبليس ومشروعه في إغواء وإضلال بني آدم، فلما خطط لنفسه وأراد تحقيق مشروعه الشخصي ورفض السجود لآدم واستكبر وأبى {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[1].

إذا عرفنا معالم التخطيط الإفسادي للمشروع الشيطاني، من ضيق الأفق وسوء النية، وأن نهايته إلى زوال واضمحلال، مع حرصه على نشر الفساد وتحقيق الشرك في الأرض، واتخاذ كافة الأسباب والطرق والوسائل، من الكيد والمكر والخداع والدسائس والغواية؛ علمنا أن أعظم تخطيط لمشروع ناجح دائم، إعلان العداوة للشيطان، بشمولية وإخلاص وديمومة وبذل، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [2].

وحتى نحقق ونصل لأمثل تخطيط، لابد من النظر والتأمل في سير العظماء والكبار والقدوات، وأخذ العظات والعبر من مواقفهم وطريقتهم في هذه الحياة، نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر:

إبراهيم عليه السلام:

كان يعيش في بيئة جمعت كل أصول الكفر؛ من عبادة الأًصنام والكواكب والحاكم الطاغوت النمرود، وبذل وسعه لدعوة قومه إلا أنه لم يؤمن معه إلا ابن أخيه لوط وزوجه سارة، فاضطر للهجرة في سبيل الله من مكان الشرك والكفر في العراق، إلى الأرض المباركة في فلسطين، ليتسنى له التخطيط الناجح الذي يحقق أفضل الثمار في حياته وبعد وفاته.

لو تأملنا عناصر أعظم تخطيط في حياة خليل الرحمن عليه السلام، لوجدنا دقة متناهية وحرصا شديدا وجهود مستمرة حتى الممات، لذلك أصبح أمة بمفرده من خلال تحمله للمسؤولية وصدقه ومثابرته وأخذه بالأسباب وتخطيطه الدقيق.

فمن حيث مشروعه الشمولي وبعد نظره لما يصلح وينفع الأمة بكل مجالاتها، لم يحتكر الإمامة والريادة لوحده ولم يحرص فقط على محيطه الصغير ودائرته القريبة، {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [3]، وقال تعالى على لسان إبراهيم بتخطيط عجيب لأعظم بقعة على وجه الأرض وتحقيق العبودية والأمن فيها {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [4].

فأخلص النية وصدق مع الله {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [5]، وراقبه في السر والعلن {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [6]، ولضمان تحقيق العبودية وانتقالها من جيل لآخر قال {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ.
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}
[7].

ومع أنه خليل الرحمن ونبي ورسول من أولي العزم من الرسل اصطفاه الله واجتباه، إلا أنه أخذ بالأسباب التي تعينه على أنفع الثمار وأفضل النتائج، ليبقى أثر ذلك التخطيط مستمرا إلى ما شاء الله، فانتقل وترك بيئة الشرك وطلب الذرية {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ.
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}
[8]، فاستثمرهم لتأسيس مجتمعا موحدا مع ضمان الاستدامة بهذه الأسباب {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ.
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}
[9].

بقي استحضار هم التوحيد وتحقيق العبودية وديمومة ذلك، حتى آخر رمق من حياته متوارثين متناقلين حاملين للهم مع ذرياتهم، ليضعوا بذلك ركائز وقواعد وأصول التخطيط الناجح المثمر، قال تعالى {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [10].

زكريا عليه السلام:

لما تقدم به العمر وكانت امرأته عاقرا، أخلص وصدق ودعا الله سبحانه بالذرية الصالحة، لا ليحملوا اسمه أو يعينوه على هموم الدنيا، بل حتى لا يحل الفساد في مجتمعه بدلا من الصلاح، ولا الشرك بدلا من التوحيد، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [11]، لتحقيق الإخلاص.

ولتقديم مصلحة الأمة وعمارة المجتمع بالطاعة على منفعته الشخصية، قال {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي}[12]، ولأخذه بالأسباب قال {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}[13]، ولضمان ديمومة ذلك قال {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [14].

امرأة عمران:

حتى لا يُظنَّ أن أعظم تخطيط مقصورا على الرجال، فهذه امرأة عمران لما تقدم بها العمر سألت الله عز وجل مولودا ذكرا، نذرته لخدمة بيت المقدس خالصا لله متحررا من رق الدنيا وملذاتها، فكانت ثمرة ذلك مريم عليها السلام سيدة نساء العالمين، ثم المسيح عيسى بن مريم عليه السلام الذي ولد بمعجزة وتكلم في المهد صبيا، ورفعه الله إليه وسينزل آخر الزمان ليكمل مسيرة أجداده من الأنبياء وعمارة الأرض بالعبودية والتوحيد لله سبحانه وتعالى.

أخلصت النية لله وصدقت {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[15]، ولم ترغب في الذرية لسبب خاص بل لخدمة المسجد الأقصى الذي هو من المساجد المعظمة المقدسة المباركة فهو مشروع أمة، وبذلت الأسباب عندما طلبت الذرية، ولتستمر عمارة الأرض بالصلاح قالت {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[16].

محمد عليه الصلاة والسلام أعظم مُخطط:

أرسل الله سبحانه وتعالى عبده صلى الله عليه وسلم بالحق بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين.

المتأمل في مراحل حياته عليه الصلاة والسلام وسيرته، منذ بداية البعثة والعهد المكي بمرحلتيه السرية والعلنية، ثم إلى العهد المدني؛ يجد تخطيطا دقيقا وحسن إدارة وتدبير، ونظرة مستقبلية استشرافية ثاقبة، يشهد بتلك النتائج المبهرة والآثار العظيمة، القاصي والداني والبعيد والقريب، بل الأعداء قبل الأصدقاء، يشهد لذلك كتاب" الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله " للعالم الفلكي في هيئة الفضاء الأمريكي " مايكل هارت " ووصف فيه نبينا عليه الصلاة والسلام قائلا: هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحا مطلقا على المستوى الديني والدنيوي.

غرس عليه الصلاة والسلام في نفوس أصحابه وأمته من بعدهم، تحمل مسؤولية الدين وهم الدعوة إلى الله وتحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، والتركيز على رفع راية الإسلام عالية وأن يكون الدين كله لله، دون شخصنة أو أنانية أو حب الذات فضربوا بذلك أروع الأمثلة وسطروا أعظم المواقف.

عندما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له:   «إِنَّكَ تقدَمُ علَى قومٍ أهلِ كتابٍ، فلْيَكُنْ أوَّلَ مَا تدعوهم إليه عبادةُ اللهِ، فإذا عرفوا اللهَ، فأخبرْهم أنَّ اللهَ قدْ فرَضَ عليهم خمسَ صلَوَاتٍ في يومِهم وليلتِهم، فإذا فعلُوا فأخبرْهم أنَّ اللهَ قدْ فرَضَ عليهم زكاةً؛ تؤخَذُ مِنْ أموالِهم، فتُرَدُّ علَى فقرائِهم، فإذا أطاعوا بها فخذْ منهم، وتوَقَّ كرائِمَ أموالِ الناسِ».[17]

حياة النبي عليه الصلاة والسلام مليئة بالنماذج والشواهد، في تخطيطه المحكم والأخذ بالأسباب؛ يتجلى ذلك بشكل واضح في أحداث الهجرة النبوية، من اختيار الصديق المناسب، وتجهيز الوسائل الضرورية، والتورية والتمويه ومخادعة المشركين، وإشراك النساء بتجهيز الراحلتين، والأطفال بتقصي الأخبار ونقلها، وتكليف الراعي بإزالة آثار الأقدام، واختيار دليلا عارفا بالطريق، وأعظم من ذلك كله اختيار البيئة الصالحة وتهيئتها إيمانيا ومجتمعيا.

إن عمارة الأرض بالتوحيد وتحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة؛ ما هو إلا أثر ونتيجة وثمرة لأعظم تخطيط عبر التاريخ من النبي عليه الصلاة والسلام، بعد توفيق الله عز وجل الذي بيده مقاليد كل شيء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] (ص:76-83).
[2] (فاطر:6).
[3] (البقرة:124).
[4] (إبراهيم:35).
[5] (الأنعام:162).
[6] (إبراهيم:38).
[7] (إ[راهيم:40-41).
[8] (الصافات:99-100).
[9] (الأنبياء:72-73).
[10] (البقرة:130-134).
[11] (مريم:3).
[12] (مريم:5).
[13] (مريم:5).
[14] (مريم:6).
[15] (آل عمران:35).
[16] (آل عمران:36).
[17] صحيح الجامع برقم 2296.


شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير