شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الجنايات [7]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ومن أكره مكلفاً على قتل مكافئه فقتله فالقتل أو الدية عليهما].

تقدم في المجلس الماضي استفتاح المصنف رحمه الله لهذا الفصل بحكم قتل الجماعة للواحد، وبناءً على ذلك فسينصب كلام الإمام رحمه الله في هذا الموضع على القتل بالاشتراك، وهو يأتي على صور: منها ما ذكرناه سابقاً أن تشترك جماعة في قتل معصوم الدم فيقتلونه، ويكون فعل كل واحد منهما مفضياً إلى القتل، وقد بينا حكم ذلك.

لكن هناك اشتراك من نوعٍ ثانٍ، وهو اشتراك السببية والمباشرة، بحيث يشترك اثنان في القتل على سبيل الإكراه، وقد تقدم معنا في كتاب النكاح -حينما بينا أحكام الطلاق- حكم طلاق المكره، وبينا حقيقة الإكراه لغة واصطلاحاً، وأن الشريعة الإسلامية أعطت هذا النوع من الأمور حكماً خاصاً، لكنه هنا في باب القتل لا رخصة فيه، مع أن الأصل أن المكره معذور بحكم الإكراه، ولكن في باب القتل إذا أكره على قتل معصوم؛ فإنه يُقتص من المُكرِه والمُكرَه معاً، فبين المصنف رحمه الله أن القصاص واجب على الاثنين: على الشخص الذي أكرَه، وعلى الشخص الذي أُكرِه فقتل؛ والسبب في ذلك: أن الذي أكرِه على القتل نجى نفسه بقتل أخيه المسلم، وحينئذٍ يكون كمن قتل غيره ليأكله وينجو.

أقوال العلماء في قتل المكرَه

ذهب جمهور العلماء رحمهم الله -وهو مذهب المالكية والحنابلة في المشهور، والشافعية على الصحيح- إلى أنه إذا أكرِه شخصٌ على قتل معصومٍ فإنه لا يستجيب للإكراه، ولا يحق له شرعاً أن يقتل ذلك المعصوم، والسبب في ذلك: أن دم المعصوم محرمٌ كدمه هو، فإذا قال له: إن لم تقتل فلاناً أقتلك؛ فإنه في هذه الحالة ينجي نفسه بقتل أخيه، ومن شرط الإكراه حتى يكون مؤثراً -كما تقدم معنا في كتاب الطلاق-: أن يكون الذي يطلب من الشخص أهون من الذي يهدد به، فحينما يقول له: طلق زوجتك وإلا قتلتك. فالطلاق أخف من القتل، فحينئذٍ يكون مكرهاً، لكن لو قال له: طلق زوجتك وإلا أخذت منك عشرة ريالات. فتكون العشرة رخيصة، فالعشرة ليست في الضرر والمفسدة كالطلاق، فهذا بلاء يصبر عليه.

فإذا قيل له: إن لم تقتل زيداً نقتلك، وإن لم تقتل فلاناً -وهو معصوم الدم- نقتلك. فالواجب عليه أن يمتنع؛ لأنها نفسٌ محرمة، معصومة في الشرع، لا يجوز أن يستبيح حرمتها ولا أن يسفك دمها فيزهقها بدون حق، ومن هنا لا يعتبر الإكراه موجباً للرخصة، وهذا أصح قولي العلماء.

وخالف في هذه المسألة الحنفية رحمهم الله فقالوا: إنه لا قصاص لا على الذي أكرَه ولا على المُكرَه؛ لأن الذي أكره وهدد لم يباشر القتل وإنما قتل غيره، والقصاص للقاتل، وهذا لم يقتل، وليس هناك قصاصٌ على الذي هُدِّد -المكرَه- لأنه خرج عن اختياره، وإذا خرج عن اختياره لم يحاسب، وليس هو بقاتلٍ حقيقة؛ لأن الغير ألجأه، ومن هنا قالوا: كما لو دفع فسقط على الغير فقتله؛ فإنه لا يقتص منه.

أدلة القائلين بأنه يقتص من المكرِه والمكرَه

والصحيح هو ما ذهب إليه الجمهور، والدليل على ذلك:

أولاً: ما ذكرناه من أنه ليس بمكره حقيقة؛ لاستواء ما طلب منه وما هدد به، فلم يتحقق به الشرط المعتبر شرعاً للإكراه.

ثانياً: أن المكرَه الذي أمر بالقتل يُقتص منه؛ لأنه كالشخص الذي أمسك حية فأنهشها للغير فقتلته، فإن الذي قتل في الحقيقة هو الحية، لكن الذي قربها منه وأوصلها إليه وكانت سببية للقتل مؤثرة هو الممسك، ومن هنا يكون الذي أكره وحرك على القتل دافعاً للشخص لسببية لم يشك في تأثيرها في إزهاق الروح؛ لأنه لولا الله ثم هذا الإكراه والضغط لما حصل الإزهاق ولما حصل القتل، ومن هنا يكون الذي أَكرَه قاتلاً من هذا الوجه.

ثالثاً: أننا لو قلنا: إنه لا يُقتص من المكره؛ لعاث الناس في الأرض فساداً، فكل شخصٍ يريد أن يقتل شخصاً ما عليه إلا أن يضع سلاحه على شخصٍ آخر ويقول له: اقتل فلاناً وإلا قتلتك، وحينئذٍ ينجو القتلة من القتل، ويذهب معنى القصاص الذي أمر الله عز وجل به وشرعه لعباده.

وأيضاً: أهل الفساد يتذرعون بالإكراه لخروجهم من تبعة القصاص، ومن تبعة القتل وما ترتب عليه من القصاص والقضاء، ومن هنا فقول من قال: (إنه يقتص من الآمر والمأمور) قولٌ صحيح؛ لأن الذي أمر وهدد فعل فعلاً أفضى إلى القتل وأثر فيه تأثيراً قوياً، بحيث لو انعدم هذا التأثير لما حصل الإزهاق والقتل، والذي قتل باشر، فحينئذٍ لا يسقط القصاص عن الذي باشر؛ لأنه لا رخصة له؛ لأنه فدى نفسه بأخيه، فكانت أنانية لا يقرها الشرع، وليس مثله مرخصاً له أن يقتل، وعلى هذا يقتص من الاثنين الآمر والمأمور على أصح قولي العلماء، وقد اختار المصنف هذا ودرج عليه.

شروط الاقتصاص من المكرِه والمكرَه

وقوله (ومن أكره مكلفاً) فخرج من أكره غير المكلف، ومن هنا لو أكره مجنوناً أو صبياً وقال له: اذهب واقتل فلاناً وإلا قتلتك، وهدده بما يخاف، فإنه في هذه الحالة يُقتص من الذي أمر ولا يُقتص من الذي باشر؛ لأن غير المكلف يسقط القصاص عنه، ومن شروط القصاص: أن يكون القاتل مكلفاً، فلو أنه هدد صبياً وقال له: اقتل فلاناً، فإن الصبي لا يعقل الأمور ولا يميزها، وقد رفع الله عنه القلم، فأسقط عنه المؤاخذة، فلذلك جماهير السلف والخلف -إلا قولاً ضعيفاً- أن الصبي ولو كان مميزاً غير مكلف؛ لظاهر النصوص الصحيحة الصريحة التي تدل على عدم تكليفه، فإذا ثبت هذا؛ فإننا نقول: يشترط في القصاص من الاثنين (الآمر والمأمور) أن يكونا مكلفين.

والعكس: فلو أن مجنوناً وضع السلاح على عاقل ومكلفٍ وقال له: إن لم تقتل قتلتك، فإن الحكم لا يختلف، لكن إذا قتل هذا المأمور؛ فإنه يقتص منه ولا يُقتص من الآمر؛ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه، وهذا لا يباح في الشريعة.

وقوله: (على قتل مكافئه) من شرط القصاص -كما سيأتي- وجود المكافأة، أي: أن يقتل مكافئاً، فلو كان الذي قتله أعلى منه ففي هذه الحالة ننظر: فتارة يكره حر على قتل عبدٍ؛ فإنه لا يقتل الحر بالعبد، أو مسلمٌ يُكره مسلماً على قتل كافر، فإذا كان هذا الكافر مباح الدم فلا تأثير؛ لأنه لا قصاص مثل الحرب، أو غير معصوم الدم كالزاني المحصن، أو أكرهه على قتل كافرٍ أو على قتل عبدٍ، وهما حران؛ فإنه لا يُقتص منهما.

لكن لو أن مسلماً أكره ذمياً على قتل ذمي، فإن الذمي والذمي مرتبتهما واحدة، فيُقتص منهما، وفي هذه الحالة يُقتل الذمي بالذمي، لكن لا يُقتل المسلم بالذمي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ في حديث عليٍ الصحيح: (لا يُقتل مسلم بكافر)، فبين المصنف رحمه الله أن شرط القصاص من الاثنين: أن يكون المقتول مكافئاً لهما، فإذا كان مكافئاً لأحدهما؛ اقتص من ذلك الذي يكافئ، وسقط القصاص عن غير المكافئ، كما لو اشترك مكلف وغير مكلف.

وبناءً على ذلك لو أن المسلم أكره الذمي على قتل ذمي؛ اقتص من الذمي القاتل، ولم يُقتص من المسلم المكرِه، وإنما يعزر، على تفصيل عند العلماء في مسألة الإكراه إذا سقطت عن الطرف الثاني، والعكس: فلو أن ذمياً أكره مسلماً على قتل ذمي؛ وجب القصاص على المُكْرِه الذمي دون المُكْرَه المسلم؛ لأنه غير مكافئ له؛ لأن الكافر ليس بكفء للمسلم فيقتص منه، وهذا على مذهب الجمهور، خلافاً للحنفية رحمهم الله الذين يرون أن المسلم يقتل بالذمي، لكن الأحناف رحمة الله عليهم لا يرون في الإكراه قصاصاً، وعندهم قاعدة في هذه المسألة وهي حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، قالوا: إن الذي قتل عنده شبهة، وهي الإكراه، والذي هدد لم يقتل حقيقة، فلا قصاص على الذي هدد؛ لأنه لم يقتل حقيقة، وقد أمر الله بالقصاص من القاتل حقيقة، ولا قصاص على المكرَه؛ لأن فيه شبهة، وقد أمرنا بدرء الحدود بالشبهات.

وهذا قول ضعيف بل باطل لما ذكرناه؛ فكلٌ منهما قاتلٌ من وجه، فإنك لو نظرت إلى الجماعة يشتركون في قتل واحد، لوجدت الإكراه أشبه باشتراك الجماعة في قتل الواحد، كما لو أن أحدهما أمسكه على وجهٍ يحصل به الزهوق، وأزهق الآخر روحه؛ فإنه في هذه الحالة يُقتص من الاثنين: من الذي تعاطى السبب المؤثر في الإزهاق، والذي قتل حقيقة، فكل منهما قاتل.

ويجاب كذلك بأن حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات) الشبهة فيه مؤثرة، وهنا الشبهة غير مؤثرة؛ لأن الإكراه لم يثبت حقيقة، وكذلك نقول لهم: الشبهة تكون مؤثرة وموجبة للإسقاط في الحدود والقصاص إذا كانت قوية، وهنا لم تقو على إسقاط حكمٍ شرعي، فكل من الآمر والمأمور قاتل من وجه؛ إذ لولا الله ثم هذا الإكراه لما حصل هذا القتل، فهو قاتل وهو يريد القتل، وهو الذي حرك المأمور والمُكرَه على القتل.

والذي قتل وهو المأمور -المكرَه- لا إشكال فيه؛ لأن الإزهاق حصل بفعله، وحينئذٍ يُقتص من الاثنين، فأما الشبهة التي ذكروها فإن الإكراه شرطه: أن يكون ما هدد به أعظم ضرراً مما طُلب منه، وهذا لم يتحقق، فإن المطلوب مساوٍ لما هدد به، وحينئذٍ لم يكن مكرهاً حقيقة.

ثم أيضاً: العجب أن الحنفية رحمة الله عليهم من أضيق المذاهب في تحقيق الإكراه، والحكم بالإكراه، فعندهم الإكراه التام، والإكراه الناقص، والإكراه الملجئ وغير الملجئ، وهذا لأنهم لا يرون الإكراه إلا في حدود ضيقة جداً، ويرون أن الإنسان ينعدم به التصرف كلية كما لو رمي شخص فسقط على الغير وهو مكره؛ لأنه لا يستطيع أن يميل يمنة أو يسرة، فالإكراه عندهم مضيق، وهنا اعتبروه شبهة، مع أنه إكراه غير مؤثر، حتى في الطلاق ومسائل الطلاق، ومثل هذا الإكراه الناقص لا يرونه إكراهاً مؤثراً، ولذلك نقول: الصحيح هو مذهب الجمهور، خاصة وأننا إذا نظرنا إلى حكمة الشرع ومقصوده من القصاص كما قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، فإن هذا ينعدم؛ إذ لا ضير على أحد بل حتى على المجرمين، لا بأس ولا خوف عليهم، وكلما أراد مجرم أن يقتل شخصاً آخر ما عليه إلا أن يهدد شخصاً جريئاً على أن يقتل، أو شخصاً كثير الخوف على القتل فيقول له: اذهب واقتل فلاناً وإلا قتلتك.. وهكذا.

الشروط التي يتحقق بها الإكراه

وقوله: (ومن أكرَه) لا بد من تحقق شروط الإكراه وهي:

أولاً: أن يكون الشخص الذي يهدد قادراً على تنفيذ ما هدد به.

ثانياً: أن يكون الذي هدد به فيه ضرر كالقتل هنا، فيقول له: إن لم تقتل أقتلك.

ثالثاً: أن يغلب على ظن المكرَه أن الشخص الذي هدده صادقٌ في قوله، وعازمٌ على ما وعده من تنفيذ وعده ووعيده، فإذا كان الشخص يعرف فيه اللعب وعدم الصدق، ويعرف فيه المبالغة في الأشياء؛ فهذا مثله لا يعتد بقوله؛ لأنه يغلب على ظنه أنه لا ينفذ، فلا يكون مكرهاً إلا إذا غلب على ظنه أنه ينفذ.

رابعاً: أن يكون الشخص الذي هدد وأُكرِه -المأمور- لا مندوحة عنده، وليس عنده طريقة يستنجد بها، أو ليس عنده طريقة أن يفر أو يستغيث بالغير.

والحقيقة أنه في زماننا قد يُكْرَه الشخص وقد يهدد دون أن يكون بالصور القديمة، بحيث يقال له: لم تقتل فلاناً في حدود الساعة العاشرة -مثلاً- نقتلك، فهذا له حكم الإكراه، لكن نفس المسألة نحن نقول: عند من يقول: إن الإكراه يسقط القصاص لا إشكال، فيصير إذا هدد بهذه الحالة والطريقة فهو مكره ويسقط القصاص، لكن نحن نقول: إن الإكراه لا يسقط القصاص؛ لعصمة النفس المقتولة، والشخص الذي نفذ ما هدد به ليس بمكره حقيقة؛ لأنه لم يطلب منه ما هو أقل مما هدد به، ولذلك يقتص منهما معاً.

حالات وجوب القصاص أو الدية على الآمر والمأمور

وقوله: (فقتله فالقتل أو الدية عليهما).

قوله: (فالقتل) أي: إن طلب أولياء المقتول القصاص عليهما، على المكرِه والمكرَه، سواءً قتلا معاً أو قتل أحدهما، كأن يمسك أحدهما ويفر الآخر، ففي هذه الحالة يقتص من الممسك به، ثم بعد ذلك إذا عثر على الآخر يُقتص منه. فقوله: (أو الدية عليهما) إذا قال أولياء المقتول: نحن لا نريد القصاص، ولا نريد أن يقتل، بل نريد الدية، فالدية عليهما، يدفع المكرِه نصف الدية، والمكرَه النصف الثاني.

وهناك أقوال أخرى في المسألة: فمنهم من يقول: القتل على الآمر دون المأمور، وهناك من يقول: القتل على المأمور دون الآمر، فهي أربعة أقوال في المسألة: يقتص منهما، لا يقتص منهما، يقتص من الآمر دون المأمور، يقتص من المأمور دون الآمر، فهذه أربعة أقوال في المسألة، وكل منها -كما ذكرنا- له وجهه.

فالذي يقول: يقتص منهما، دليله ما ذكرنا، والذي يقول: لا يقتص منهما، دليله الشبهة، والذي يقول: يقتص من الآمر دون المأمور يقول: لأن المأمور مكره ومعذور، والآمر هو الذي حركه، فأشبه ما لو أمسك حية وقتل بها، والذي يقول: يقتص من المأمور دون الآمر قال: لأن المأمور هو الذي باشر، وكان المفروض ألا يستجيب له، وليس بمكره، والآمر فيه شبهة؛ لأنه لم يقتل حقيقة.

والصحيح ما ذكرناه: أنه يقتص من الجميع، وإذا ثبت أنه يقتص من الجميع فالدية على الجميع، أي: على الاثنين، ويستوي في هذا أن يهدد شخصاً، أو يهدد أكثر من شخص، ما دام أنهما باشرا القتل، فلو أن جماعة هددت شخصاً واحداً، وكلهم قالوا له: إن لم تقتل نقتلك، فصار كالاشتراك في القتل، ومن هنا نفهم لماذا صدر المصنف الفصل بقتل الجماعة بالواحد، ثم جاء بمسألة قتل المكرَه والمكرِه، وهذا من باب القتل بالسببية.

فالأول: اشتراك في الفعل وهو القتل، أن تشترك جماعة في الإزهاق، والثاني: أن تشترك جماعة في القتل بسببية ومباشرة.

ذهب جمهور العلماء رحمهم الله -وهو مذهب المالكية والحنابلة في المشهور، والشافعية على الصحيح- إلى أنه إذا أكرِه شخصٌ على قتل معصومٍ فإنه لا يستجيب للإكراه، ولا يحق له شرعاً أن يقتل ذلك المعصوم، والسبب في ذلك: أن دم المعصوم محرمٌ كدمه هو، فإذا قال له: إن لم تقتل فلاناً أقتلك؛ فإنه في هذه الحالة ينجي نفسه بقتل أخيه، ومن شرط الإكراه حتى يكون مؤثراً -كما تقدم معنا في كتاب الطلاق-: أن يكون الذي يطلب من الشخص أهون من الذي يهدد به، فحينما يقول له: طلق زوجتك وإلا قتلتك. فالطلاق أخف من القتل، فحينئذٍ يكون مكرهاً، لكن لو قال له: طلق زوجتك وإلا أخذت منك عشرة ريالات. فتكون العشرة رخيصة، فالعشرة ليست في الضرر والمفسدة كالطلاق، فهذا بلاء يصبر عليه.

فإذا قيل له: إن لم تقتل زيداً نقتلك، وإن لم تقتل فلاناً -وهو معصوم الدم- نقتلك. فالواجب عليه أن يمتنع؛ لأنها نفسٌ محرمة، معصومة في الشرع، لا يجوز أن يستبيح حرمتها ولا أن يسفك دمها فيزهقها بدون حق، ومن هنا لا يعتبر الإكراه موجباً للرخصة، وهذا أصح قولي العلماء.

وخالف في هذه المسألة الحنفية رحمهم الله فقالوا: إنه لا قصاص لا على الذي أكرَه ولا على المُكرَه؛ لأن الذي أكره وهدد لم يباشر القتل وإنما قتل غيره، والقصاص للقاتل، وهذا لم يقتل، وليس هناك قصاصٌ على الذي هُدِّد -المكرَه- لأنه خرج عن اختياره، وإذا خرج عن اختياره لم يحاسب، وليس هو بقاتلٍ حقيقة؛ لأن الغير ألجأه، ومن هنا قالوا: كما لو دفع فسقط على الغير فقتله؛ فإنه لا يقتص منه.

والصحيح هو ما ذهب إليه الجمهور، والدليل على ذلك:

أولاً: ما ذكرناه من أنه ليس بمكره حقيقة؛ لاستواء ما طلب منه وما هدد به، فلم يتحقق به الشرط المعتبر شرعاً للإكراه.

ثانياً: أن المكرَه الذي أمر بالقتل يُقتص منه؛ لأنه كالشخص الذي أمسك حية فأنهشها للغير فقتلته، فإن الذي قتل في الحقيقة هو الحية، لكن الذي قربها منه وأوصلها إليه وكانت سببية للقتل مؤثرة هو الممسك، ومن هنا يكون الذي أكره وحرك على القتل دافعاً للشخص لسببية لم يشك في تأثيرها في إزهاق الروح؛ لأنه لولا الله ثم هذا الإكراه والضغط لما حصل الإزهاق ولما حصل القتل، ومن هنا يكون الذي أَكرَه قاتلاً من هذا الوجه.

ثالثاً: أننا لو قلنا: إنه لا يُقتص من المكره؛ لعاث الناس في الأرض فساداً، فكل شخصٍ يريد أن يقتل شخصاً ما عليه إلا أن يضع سلاحه على شخصٍ آخر ويقول له: اقتل فلاناً وإلا قتلتك، وحينئذٍ ينجو القتلة من القتل، ويذهب معنى القصاص الذي أمر الله عز وجل به وشرعه لعباده.

وأيضاً: أهل الفساد يتذرعون بالإكراه لخروجهم من تبعة القصاص، ومن تبعة القتل وما ترتب عليه من القصاص والقضاء، ومن هنا فقول من قال: (إنه يقتص من الآمر والمأمور) قولٌ صحيح؛ لأن الذي أمر وهدد فعل فعلاً أفضى إلى القتل وأثر فيه تأثيراً قوياً، بحيث لو انعدم هذا التأثير لما حصل الإزهاق والقتل، والذي قتل باشر، فحينئذٍ لا يسقط القصاص عن الذي باشر؛ لأنه لا رخصة له؛ لأنه فدى نفسه بأخيه، فكانت أنانية لا يقرها الشرع، وليس مثله مرخصاً له أن يقتل، وعلى هذا يقتص من الاثنين الآمر والمأمور على أصح قولي العلماء، وقد اختار المصنف هذا ودرج عليه.

وقوله (ومن أكره مكلفاً) فخرج من أكره غير المكلف، ومن هنا لو أكره مجنوناً أو صبياً وقال له: اذهب واقتل فلاناً وإلا قتلتك، وهدده بما يخاف، فإنه في هذه الحالة يُقتص من الذي أمر ولا يُقتص من الذي باشر؛ لأن غير المكلف يسقط القصاص عنه، ومن شروط القصاص: أن يكون القاتل مكلفاً، فلو أنه هدد صبياً وقال له: اقتل فلاناً، فإن الصبي لا يعقل الأمور ولا يميزها، وقد رفع الله عنه القلم، فأسقط عنه المؤاخذة، فلذلك جماهير السلف والخلف -إلا قولاً ضعيفاً- أن الصبي ولو كان مميزاً غير مكلف؛ لظاهر النصوص الصحيحة الصريحة التي تدل على عدم تكليفه، فإذا ثبت هذا؛ فإننا نقول: يشترط في القصاص من الاثنين (الآمر والمأمور) أن يكونا مكلفين.

والعكس: فلو أن مجنوناً وضع السلاح على عاقل ومكلفٍ وقال له: إن لم تقتل قتلتك، فإن الحكم لا يختلف، لكن إذا قتل هذا المأمور؛ فإنه يقتص منه ولا يُقتص من الآمر؛ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه، وهذا لا يباح في الشريعة.

وقوله: (على قتل مكافئه) من شرط القصاص -كما سيأتي- وجود المكافأة، أي: أن يقتل مكافئاً، فلو كان الذي قتله أعلى منه ففي هذه الحالة ننظر: فتارة يكره حر على قتل عبدٍ؛ فإنه لا يقتل الحر بالعبد، أو مسلمٌ يُكره مسلماً على قتل كافر، فإذا كان هذا الكافر مباح الدم فلا تأثير؛ لأنه لا قصاص مثل الحرب، أو غير معصوم الدم كالزاني المحصن، أو أكرهه على قتل كافرٍ أو على قتل عبدٍ، وهما حران؛ فإنه لا يُقتص منهما.

لكن لو أن مسلماً أكره ذمياً على قتل ذمي، فإن الذمي والذمي مرتبتهما واحدة، فيُقتص منهما، وفي هذه الحالة يُقتل الذمي بالذمي، لكن لا يُقتل المسلم بالذمي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ في حديث عليٍ الصحيح: (لا يُقتل مسلم بكافر)، فبين المصنف رحمه الله أن شرط القصاص من الاثنين: أن يكون المقتول مكافئاً لهما، فإذا كان مكافئاً لأحدهما؛ اقتص من ذلك الذي يكافئ، وسقط القصاص عن غير المكافئ، كما لو اشترك مكلف وغير مكلف.

وبناءً على ذلك لو أن المسلم أكره الذمي على قتل ذمي؛ اقتص من الذمي القاتل، ولم يُقتص من المسلم المكرِه، وإنما يعزر، على تفصيل عند العلماء في مسألة الإكراه إذا سقطت عن الطرف الثاني، والعكس: فلو أن ذمياً أكره مسلماً على قتل ذمي؛ وجب القصاص على المُكْرِه الذمي دون المُكْرَه المسلم؛ لأنه غير مكافئ له؛ لأن الكافر ليس بكفء للمسلم فيقتص منه، وهذا على مذهب الجمهور، خلافاً للحنفية رحمهم الله الذين يرون أن المسلم يقتل بالذمي، لكن الأحناف رحمة الله عليهم لا يرون في الإكراه قصاصاً، وعندهم قاعدة في هذه المسألة وهي حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، قالوا: إن الذي قتل عنده شبهة، وهي الإكراه، والذي هدد لم يقتل حقيقة، فلا قصاص على الذي هدد؛ لأنه لم يقتل حقيقة، وقد أمر الله بالقصاص من القاتل حقيقة، ولا قصاص على المكرَه؛ لأن فيه شبهة، وقد أمرنا بدرء الحدود بالشبهات.

وهذا قول ضعيف بل باطل لما ذكرناه؛ فكلٌ منهما قاتلٌ من وجه، فإنك لو نظرت إلى الجماعة يشتركون في قتل واحد، لوجدت الإكراه أشبه باشتراك الجماعة في قتل الواحد، كما لو أن أحدهما أمسكه على وجهٍ يحصل به الزهوق، وأزهق الآخر روحه؛ فإنه في هذه الحالة يُقتص من الاثنين: من الذي تعاطى السبب المؤثر في الإزهاق، والذي قتل حقيقة، فكل منهما قاتل.

ويجاب كذلك بأن حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات) الشبهة فيه مؤثرة، وهنا الشبهة غير مؤثرة؛ لأن الإكراه لم يثبت حقيقة، وكذلك نقول لهم: الشبهة تكون مؤثرة وموجبة للإسقاط في الحدود والقصاص إذا كانت قوية، وهنا لم تقو على إسقاط حكمٍ شرعي، فكل من الآمر والمأمور قاتل من وجه؛ إذ لولا الله ثم هذا الإكراه لما حصل هذا القتل، فهو قاتل وهو يريد القتل، وهو الذي حرك المأمور والمُكرَه على القتل.

والذي قتل وهو المأمور -المكرَه- لا إشكال فيه؛ لأن الإزهاق حصل بفعله، وحينئذٍ يُقتص من الاثنين، فأما الشبهة التي ذكروها فإن الإكراه شرطه: أن يكون ما هدد به أعظم ضرراً مما طُلب منه، وهذا لم يتحقق، فإن المطلوب مساوٍ لما هدد به، وحينئذٍ لم يكن مكرهاً حقيقة.

ثم أيضاً: العجب أن الحنفية رحمة الله عليهم من أضيق المذاهب في تحقيق الإكراه، والحكم بالإكراه، فعندهم الإكراه التام، والإكراه الناقص، والإكراه الملجئ وغير الملجئ، وهذا لأنهم لا يرون الإكراه إلا في حدود ضيقة جداً، ويرون أن الإنسان ينعدم به التصرف كلية كما لو رمي شخص فسقط على الغير وهو مكره؛ لأنه لا يستطيع أن يميل يمنة أو يسرة، فالإكراه عندهم مضيق، وهنا اعتبروه شبهة، مع أنه إكراه غير مؤثر، حتى في الطلاق ومسائل الطلاق، ومثل هذا الإكراه الناقص لا يرونه إكراهاً مؤثراً، ولذلك نقول: الصحيح هو مذهب الجمهور، خاصة وأننا إذا نظرنا إلى حكمة الشرع ومقصوده من القصاص كما قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، فإن هذا ينعدم؛ إذ لا ضير على أحد بل حتى على المجرمين، لا بأس ولا خوف عليهم، وكلما أراد مجرم أن يقتل شخصاً آخر ما عليه إلا أن يهدد شخصاً جريئاً على أن يقتل، أو شخصاً كثير الخوف على القتل فيقول له: اذهب واقتل فلاناً وإلا قتلتك.. وهكذا.

وقوله: (ومن أكرَه) لا بد من تحقق شروط الإكراه وهي:

أولاً: أن يكون الشخص الذي يهدد قادراً على تنفيذ ما هدد به.

ثانياً: أن يكون الذي هدد به فيه ضرر كالقتل هنا، فيقول له: إن لم تقتل أقتلك.

ثالثاً: أن يغلب على ظن المكرَه أن الشخص الذي هدده صادقٌ في قوله، وعازمٌ على ما وعده من تنفيذ وعده ووعيده، فإذا كان الشخص يعرف فيه اللعب وعدم الصدق، ويعرف فيه المبالغة في الأشياء؛ فهذا مثله لا يعتد بقوله؛ لأنه يغلب على ظنه أنه لا ينفذ، فلا يكون مكرهاً إلا إذا غلب على ظنه أنه ينفذ.

رابعاً: أن يكون الشخص الذي هدد وأُكرِه -المأمور- لا مندوحة عنده، وليس عنده طريقة يستنجد بها، أو ليس عنده طريقة أن يفر أو يستغيث بالغير.

والحقيقة أنه في زماننا قد يُكْرَه الشخص وقد يهدد دون أن يكون بالصور القديمة، بحيث يقال له: لم تقتل فلاناً في حدود الساعة العاشرة -مثلاً- نقتلك، فهذا له حكم الإكراه، لكن نفس المسألة نحن نقول: عند من يقول: إن الإكراه يسقط القصاص لا إشكال، فيصير إذا هدد بهذه الحالة والطريقة فهو مكره ويسقط القصاص، لكن نحن نقول: إن الإكراه لا يسقط القصاص؛ لعصمة النفس المقتولة، والشخص الذي نفذ ما هدد به ليس بمكره حقيقة؛ لأنه لم يطلب منه ما هو أقل مما هدد به، ولذلك يقتص منهما معاً.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع