شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الجنايات [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ أو يحبسه ويمنعه الطعام أو الشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالباً ].

شروط الحكم بأن القتل بالحبس قتل عمد

ما زال المصنف رحمه الله يذكر الصور التي تتعلق بالقتل بالسببية، ومنها هذه الصورة، وهي: أن يحبس القاتل المقتول، ويمنعه من الطعام والشراب، وتمضي مدة يموت الإنسان فيها غالباً، وهذه الصورة لا شك أنها تفضي إلى القتل في غالب الأحوال، والذي عليه المحققون من أهل العلم رحمهم الله أنه لا يحكم بمدة معينة تحدد، بحيث يقال: إذا حبس فوق ثلاثة أيام أو أربعة أيام فيحكم بكونه قتل عمد، إنما ينظر إلى حال الشخص، والمدة التي حبس فيها، وطبيعة الحبس.

والأصل في هذا أن الطعام والشراب يرتفق بهما البدن، ولا يمكن للإنسان أن يعيش من دون طعامٍ وشراب، ولكن إذا وقع المنع للمقتول من الطعام والشراب فيفصل فيه العلماء من جهة كونه مدة لا يموت فيها الإنسان غالباً، فلو حبس عنه الطعام والشراب يوماً واحداً ثم مات، فإنه يغلب على ظننا أن موته ليس بسبب حبس الطعام والشراب، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى فرض الصيام، والصيام لا يقتل الإنسان، ولو كان يقتل الإنسان لما شرعه الله عز وجل، ولذلك قرر العلماء رحمهم الله أنه لو حبسه يوماً ومنع منه الطعام والشراب فمات، فالغالب أنه مات بسببٍ آخر لا بسبب حبس الطعام والشراب.

ومن هنا اشترط أهل العلم رحمهم الله أن يكون منع الطعام والشراب مدة مؤثرة، ويرجع في ذلك للأطباء والحكماء؛ لأنهم هم أهل النظر وأهل الخبرة في أحوال الأشخاص.

إذاً: هذه الصورة يشترط فيها أولاً: أن يكون هناك حبس، فلما قال المصنف: (أن يحبس) دل على أنه لو كان بيد المقتول أن يأكل ويشرب، وامتنع المقتول من الأكل والشرب؛ كان قاتلاً لنفسه، وعلى هذا فلو أضرب عن الطعام فإن إضراب المسجون عن الطعام حتى يموت يعتبر من الانتحار، وهو قاتلٌ لنفسه، فإذا كان بإمكانه أن يأكل وبإمكانه أن يشرب وامتنع من الأكل وامتنع من الشرب، فإنه يكون قاتلاً لنفسه والعياذ بالله!

كذلك يشترط في هذا الحبس والمنع أن يكون مؤثراً، وقد ذكر العلماء من صوره في القديم: تطيين البيت، فقد كان البعض إذا أراد أن يقتل الشخص يدخله في بيت ويطين عليه البيت، فيسد عليه منافذه بحيث يتعذر على من بداخله الخروج، فهذا التطيين يحقق شرطاً اعتبره العلماء في الحبس عن الطعام والشراب، وهو: ألا يتمكن المحبوس من الاستغاثة، وألا يتمكن من طلب النجدة بالغير، فإذا أمكنه أن يستنجد وأن يستغيث -بعد الله عز وجل- بالغير ولم يفعل، وقصر في هذا حتى مات؛ فإنه لا يعتبر قتل عمدٍ من كل وجه، ولا يجب القصاص، وهذا مبني على ما تقدم معنا أنه متى ما أمكن للمقتول أن يدفع الضرر عن نفسه وقصر في ذلك فإنه لا يحكم بقتل العمد، ولا يحكم بالقصاص؛ لأنه هو الذي قصر في حفظ نفسه والدفاع عنها.

ومثل ذلك ما هو موجود الآن في زماننا، كأن يدخله في غرفة ويغلق عليه ثم يكمم فمه أو يربطه ويربط يديه، حتى لو كان أمامه طعام وشراب فلا يستطيع أن يأكل، بحيث يتعذر عليه أن يدنو من الطعام ليأكل منه، المهم أن يتحقق مانع وحائل من الوصول إلى الطعام والشراب.

إذاً: لابد أن يكون الحبس لا يتأتى معه استغاثة.

الشرط الثاني: أن تمضي مدة مؤثرة، فإذا مضت المدة المؤثرة التي يموت فيها الإنسان إذا حبس عن الطعام والشراب حكم بالقصاص، ووجوب القود.

أما لو لم تمض المدة -كما ذكرنا- كأن يكون يوماً، فشبه اتفاق على أنه لو مضى يوم فليس بقتل؛ لأن الله شرع الصوم -كما ذكرنا- وهذا لا يموت الإنسان فيه.

وانظر إلى دقة المصنف حينما قال: (غالباً)، وهذا مبني على القاعدة المعروفة: أن الحكم للغالب والنادر لا حكم له، فنحن نربط الأحكام الشرعية بالغالب، فغالب الحال أنه لو مضت ثلاثة أيام أو أكثر من ذلك فإنه يموت الإنسان في الغالب، لكن بعض العلماء يشكك في هذا، ويقول: إنه لا يحد في هذا بحد، وإنما ينظر في كل قضية بعينها وبحسبها، وهذا لا شك أنه أدق وأولى، ويكون للقاضي وأهل النظر والخبرة القول في هذا.

ويبقى السؤال: لو منع عنه الشراب ولم يمنع عنه الطعام، أو منع عنه الطعام ولم يمنع عنه الشراب، فهل هو قتل؟

هناك خلاف بين العلماء رحمهم الله، فبعض أهل العلم يقول: إذا منع عنه الشراب لمدة مؤثرة فإنه يعتبر قتل عمد، وهذا هو الصحيح؛ فإن الله تعالى يقول: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]، فدل على أن حبس الماء عن المسجون أو الممنوع مؤثر، وأنه لو مات من هذا المنع والحبس فإنه يعتبر قتل عمدٍ على أصح قولي العلماء.

ولو منع عنه الطعام ولم يمنع عنه الشراب فقال بعض العلماء: إنه ليس بقتل؛ لأن الماء قد ينتفع به البدن، واستدلوا على ذلك بقصة أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، فإنه مكث أربعين يوماً يغتذي بماء زمزم، وهو مستتر تحت ستار الكعبة، ويشرب من زمزم، ومع ذلك لم يهلك ولم يمت، فقالوا: إذا منع عنه الطعام ولم يمنع الشراب فليس بقتل عمد، والدليل أن أبا ذر عاش، وهذا محل نظر؛ وذلك لأن أبا ذر رضي الله عنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أنه طعام طعمٍ وشفاء سقم؟) فهذا خاص بماء زمزم، والخاص لا يثبت حكمه على سبيل العموم، فهذه خاصية في زمزم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها طعام طعم وشفاء سقم)، فإذا منع من الطعام وسقي زمزم وبقي يغتذي بزمزم، فهذا خاص وليس بعام؛ ولذلك ضعف بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من هذا الوجه.

وعلى كل حال فالمنع من الطعام، والمنع من الشراب، متى ما كان على صورة مؤثرة فإنه يوجب القصاص والقود إذا أزهق النفس.

ومن أهل العلم من قيد طبيعة المنع بأنه لا يشترط فيه الرباط، فلو منع في داخل البيت، وفي زماننا داخل الشقة أو داخل غرفة من الغرف، وأغلقت عليه؛ فإن هذا يعتبر كافياً في الحكم، وهكذا لو رماه في بئرٍ فإن هذا يعتبر قتلاً، والأصل في هذه المسألة -أن حبس الآدميين عن الطعام والشراب يعتبر قتل عمدٍ موجبٍ للقصاص- ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها؛ لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، فدل على أن هذا يعتبر قتلاً، وأنه إذا منعت النفس من طعامها ومن شرابها حتى مضت المدة المؤثرة فإن هذا يعتبر إزهاقاً للروح، وقتل عمدٍ موجبٍ لثبوت القود والقصاص.

القتل بالسحر وشروط الحكم بأنه قتل عمد

قال رحمه الله: [أو يقتله بسحرٍ].

سيأتينا إن شاء الله الكلام على السحر وأحكامه في كتاب الردة بإذن الله عز وجل، وهو من أخبث أنواع الضرر وأسوئها وأعظمها شراً في العباد والبلاد، ولكن الله لحكمته ابتلى عباده بهذا البلاء، وجعل السلوان لمن ابتلي به في رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سحر حتى خيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله. ليكون في ذلك سلواناً لمن يبتلى بهذا البلاء، وهو تسلط من الأرواح الخبيثة الشريرة على النفس فتضرها.

ومذهب أهل السنة والجماعة أن السحر يؤثر ويضر في البدن، وأنه يقتل، وأنه يحدث للإنسان النسيان والبغض والكراهية، ويحدث فيه المحبة والتعلق والعشق، ويحدث منه تصرفات غير منضبطة، وكل هذا من الشر والبلاء الذي جعله الله عز وجل اختباراً وامتحاناً لعباده، ومن ابتلي بهذا البلاء فصبر ووثق بالله عز وجل، وسلم قلبه لليقين بالله سبحانه وتعالى، فإن الله لا يخذله، بل يجعل له من حسن الجزاء في الدنيا والآخرة ما لم يخطر له على بال.

والسحر أمره صعب، والقتل به ليس كالقتل بغيره، ولذلك يختلف القتل بهذه الأساليب الخفية عن القتل بالأساليب المعروفة، كالقتل بالسيف -كما تقدم- وبالمثقل، والقتل بالأسباب التي تقدمت، فإنها واضحة جلية، ولكن القتل بالسحر قتلٌ بأسبابٍ خفية، ولذلك من الصعوبة بمكان دخول هذه المسألة على القضاء؛ لأن القاضي لا يستطيع أن يثبت عنده هذا إلا إذا أقر الساحر، فإذا جاء وأقر وقال: نعم، أنا قتلته، فهذا فصل فيه العلماء رحمهم الله، وبينوا أن السحر ينقسم إلى أقسام: قسمٌ يقتل، وقسم لا يقتل، فإذا جاء الساحر وأقر واعترف عند القاضي وقال: لقد سحرته، ثم قال: إن سحري الذي سحرته به يقتل، فحينئذٍ يحكم به.

وتأتي المسألة التي معنا أولاً: أن يقر الساحر أنه سحره، ويعترف بهذا، وثانياً: أن يقول: إن هذا السحر الذي استخدمه قاتل، ويعرف أنه قاتل من خلال التجربة -والعياذ بالله- أو من الممارسة مع غيره، أو من نفس طبيعة السحر ومن أثره حينما سحر الشخص وحدث منه ما حدث، فهذا كله يدل على أن سحره قاتل -والعياذ بالله-، فإذا اعترف وثبت عند القاضي أن سحره قاتل، فحينئذٍ القتل هنا بالسحر موجب للقصاص، وموجب للقود، كما صرح به الأئمة رحمهم الله، لكن المشكلة الآن أن الناس توسعوا في الحكم بالسحر، وقد تتسلط الأرواح الشريرة على الناس بالكذب وادعاء أشياء لا حقيقة لها، فبعض القراء -أصلحهم الله- إذا قرأ على الشخص وجاءه القرين وقال له: سحره آل فلان، صدق القرين، ثم قال للمسحور أو قرابة المسحور: إن امرأتكم أو ابنكم سحره فلان أو فلانة، وهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقك وهو كذوب).

والأرواح الشريرة التي هي الشياطين دائماً تريد الشر لبني آدم إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6] أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف:50]، فأخبر الله أنهم أعداء، فمثله لا يصدق؛ لأنه عدو، والعدو يكذب على عدوه، والمعاداة تستلزم الخديعة، ولذلك فلا يجوز للقراء أن يقطعوا ويجزموا بأن فلاناً سحره فلان، فيتهم شخص بأنه سحر آخر ما لم يقر ذلك الشخص أنه سحر، وأنه فعلاً سحره أو أمر من يسحره؛ لأن الأصل البراءة، ولا يجوز اتهام الناس إلا ببينة ودليل، والذي شهد أن فلاناً سحر فلاناً لا نعرف من هو أصلاً، فقد يكون في بعض الأحيان يتكلم الشخص الممسوس وهو في غير شعوره، أو عنده وسوسة أن فلاناً يؤذيه، فإذا ضغط عليه أو كان في حالة فسيتكلم بما في مكنون في نفسه ويقول: فلانٌ سحرني وفلان أضرني، ولذلك -من باب التنبيه- فلا ينبغي للقراء أن يتعاطوا القراءة على الماس ما لم تكن عندهم تجربة على أيدي أهل الخبرة والنظر؛ لأن هذا أمر صعب جداً، وفيه أمور حساسة جداً تتعلق بأرواح الناس وأسرارهم.

فينبغي أن يكون القارئ محافظاً على أرواح الناس وأسرارهم وعوراتهم مثلما يقع للأطباء، فالقراءة نوع من الطب، ومثلما يقع للعلماء والمفتيين، فقد تجد بعض طلاب العلم إذا لم يتمرن على أيدي العلماء كيف يتعامل مع فتاوى الناس وأسئلتهم، فقد يوقع الناس في كثير من الحرج، وربما تعجل في الفتوى في أمور لا ينبغي أن يفتي فيها، وربما تعاطى أموراً تضر ولا تنفع، وتفسد ولا تصلح، والسبب في هذا أنه لم يأخذ هذا العلم عن بينة وبصيرة، وإن كانوا لا شك يريدون مصلحة الناس -نحسبهم كذلك- ويريدون الخير للناس، لكن لا بد أن يكون عندهم خبرة ومعرفة.

فانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم حينما جاءه أبو هريرة ، وأخبره خبر الشيطان معه في الثلاثة الأيام حينما كان يأخذ من تمر الصدقة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجع إليه أبو هريرة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ما فعل صاحبك البارحة؟ حتى تتبين لـأبي هريرة رضي الله عنه حقيقة الأمر، فما ترك الكتاب والسنة شيئاً إلا وبينه، وهذه من نعم الله عز وجل على هذه الأمة، كما قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا طائر في السماء يقلب جناحيه إلا وعندنا منه خبر)، فمن عظمة الله عز وجل وجلاله سبحانه ما وضع في هذا الدين من الكمال، فانظر إلى هذه القصة العجيبة الطريفة كيف جاءت بكلمتين: (صدقك وهو كذوب) ، ولو جئت لتستخرج من هاتين الكلمتين مسائل وأحكام لاستخرجت ما لا يقل عن عشرين مسألة.

فقوله: (صدقك) إثبات ما قاله، وتتفرع عليها المسائل المنبنية على شرعية قراءة آية الكرسي وفوائدها، وآثارها، لكن بعدها (وهو كذوب) أي: الحال أنه في الأصل كذوب، والأصل أنه لا يصدق، فيأتي تفريع مسألة القرين والشياطين، وما هو الأصل في أقوالهم وأخبارهم، فلما قال: (وهو كذوب) لم يقل: وهو كاذب، بل كذوب: فعول وهي صيغة مبالغة، ولو قال: كاذب لكان الأمر شر، فلما قال: كذوب، كان الأمر أشر، ومعناه: أنه كثير الكذب حريصٌ عليه، وأن من شأنه الكذب، فكيف يصدق من عادته الكذب؟ فلا يعتمد على قوله: إن فلاناً قد سحر فلاناً، ولابد أن يحتاط في هذا الأمر، فلا يجوز للقاضي أن يحكم بأن فلاناً سحر فلاناً بناء على أخبار القرناء والشياطين، بل لا بد من إقرار الساحر أنه سحر، أو ثبوت ذلك عليه بالبينة أنه اعترف في مجلس وقال أنه سحر فلاناً، وأن سحره الذي سحر به قاتل.

وقد بين المصنف رحمه الله أن مما يوجب القصاص: القتل بالسحر، وبناءً على ذلك ذكروا الطلاسم -نسأل الله السلامة والعافية- وهي تتنوع، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم ما استفيد بالمذاكرة والمدارسة يقولون: كأن يسحره سحراً يمنعه من الأكل والشرب حتى يموت -والعياذ بالله- أو يسحره سحراً يمنعه من النوم بتاتاً حتى يموت -والعياذ بالله- فيقض مضجعه ويصبح يفقد السيطرة على نفسه ثم يهلك، أو يسحره بسحر يجعله يعتدي على نفسه فيقتلها، وغير ذلك من الأنواع، فإذا قال الساحر: سحري قاتل، أو سحري يقتل، أو سحرته سحراً يقتل مثله، فهذا اعتراف، يقول الشافعي وغيره من أئمة السلف أنه بهذا الكلام يثبت عليه القود والقصاص.

القتل بالسم وشروط الحكم بأنه قتل عمد

قال رحمه الله: [أو بسمٍ]

أي: أو يقتله بالسم، والسم مادة مزهقة للروح، سواء كانت مطعومة، أو كانت مشروبة، أو كانت مشمومة، وسواء كان تعاطيه للسم عن طريق السقي، أو دسه في طعامه، أو وضعه في قطيفة وكممه بها، فاستنشقها حتى مات، أو وضعها في حقنه فحقنه بها، فكل هذا يعتبر من القتل بالسم.

والقتل بالسم في زماننا مثل المواد المخدرة، والمواد السامة، وهذا معروف فيما يعرف بعلم الطب الشرعي، وفيه مباحث خاصة تسمى بمباحث علوم السموم، يبحث فيه المواد التي ثبت طبياً أنها قاتلة.

وللعلم فإنها تنقسم إلى أقسام: فقد تكون مواداً نباتية، أو مواداً كيميائية، أو نباتية مركبة، أو مفردة، أو من الاثنين أي: مركبة من النبات ومن المركبات الكيميائية، المهم أن يثبت عند أهل الطب والخبرة أن هذه المادة التي حقن بها المريض، أو وضعت في طعامه أو في شرابه، أنها قاتلة، وأنها من السمومات، أو أن هذه المادة التي رش بها، أو التي كمم بها فاستنشقها، أو التي حقن بها، أنها قاتلة.

وهذا الأمر يحتاج إلى تفصيل فصل فيه العلماء فقالوا: أولاً: إذا سقاه السم أو وضع له السم، فإما أن يكرهه عليه، ويفرض عليه تعاطي السم أكلاً، فإذا وضع له السم وعرف المقتول أنه سم، فهدده وضغط عليه حتى أكل منه، أو ربط يديه فأدخله في فمه، أو جعله سعوطاً، أو كممه به فشمه بغلبة وقهر؛ فلا إشكال أنه قتل عمد موجب للقصاص والقود.

لكن يشترط عند العلماء رحمهم الله أن تكون المادة والجرعة الموضوعة هي التي تسببت في زهوق الروح، وإذا كانت مادة مشمومة فنرجع إلى الأطباء، وهذا معروف عادة في الجنايات والجرائم، فتحال مثل هذه المسائل إلى الأطباء المختصين فينظرون فيها، فإذا وجدوا أن المادة والجرعة التي وضعت كافية لقتله فحينئذٍ لا إشكال أنه قتل عمد، وإن كانت المادة والجرعة لا تقتل إلا نوعاً خاصاً، فصل في القتل بحسب نوعية المقتول، فلو قالوا: تقتل الصغير ولا تقتل الكبير، وهم عصابة أو شخص اعتدى على طفل رضيع فوضع هذه المادة وكمم بها أنف الرضيع حتى لا يصيح فمات، فهذا قتل عمد؛ لأن مثله يقتل بهذه الجرعة، والجرعة كافية لقتله، وهكذا لو حقنوه حقنة وكانت كمية حكم الأطباء أنها كافية للقتل؛ فقتل عمد، وإن قالوا: لا تكفي للقتل، فهذا فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله:

فمن حيث الأصل لا يحكم بكونه قتل عمد موجب للقصاص والقود، إلا إذا كانت الجرعة والمادة التي يفرض عليه تعاطيها كافية لزهوق الروح، فعندنا شرطان: الأول: أن يفرض عليه تعاطيها، والثاني: أن تكون كافية لزهوق الروح.

فإن لم يفرض عليه ذلك فإنه يأتي على صور:

الصورة الأولى: أن يقدمه له في طعام أو شراب، فيضع السم في طعامه، أو يضع السم في شرابه، ويقدمه له، فإن قدم له السم في الطعام والشراب فإما أن يكون ظاهراً أو خفياً، فإن كان ظاهراً وعلم المقتول أنه سم وأكله، فقد باشر قتل نفسه، وحينئذٍ إذا علم المقتول أن المادة سامة وجاء وتعاطاها فشرب، أو استعط بها وهو يعلم أنها سامة وكافية لقتله، أو ما يحصل -نسأل الله العافية- عند بعض أهل المخدرات، فيأتي بإبرة فيها مخدرات والكمية كافية لقتله، فيأخذها ويباشر حقن نفسه بها دون أن يكرهها، ودون أن يلزمها، فحينئذٍ قد قتل نفسه، فهذا إذا علم المقتول أنها مادة سامة.

الصورة الثانية: أنه لم يكره على تعاطيها، فحينئذٍ قتل نفسه، لكن يبقى السؤال إذا عاونه غيره، ففيها تفصيل قد يأتينا في قتل الجماعة ومسائل المعونة على القتل.

الصورة الثالثة: أن يقدمه له وتكون علامة السم واضحة معلومة، ولكن الشخص الذي قدم له السم لا يميز، أو لا يعقل، مثل الصبي والمجنون، ومثل الأبله والمغفل -المعروف بالغفلة- فقدم له هذه المادة، فهذا الصبي لا يعرفها فظنها حلوى، أو ظنه شيئاً يؤكل فأكله، فحينئذٍ هذا قتل عمدٍ يوجب القصاص؛ لأن مباشرة الصبي ساقطة، والسببية مفضية للهلاك، ولو كان عند الصبي تمييز لامتنع، لكن ليس عنده تمييز ومعرفة.

الصور التي تكون عليها المادة السامة

وقد ذكر العلماء أن المادة السامة لها صور:

الصورة الأولى: أن تكون قاتلة لوحدها، ولا تقتل إذا خلطت بغيرها.

الصورة الثانية: أن تكون قاتلة إذا خلطت بغيرها، ولا تقتل إذا كانت مفردة.

الصورة الثالثة: أن تكون قاتلة سواء أفردت أو خلطت.

فإن كانت المواد السامة يقتل مثلها إذا أفردت، ولا يقتل إذا خلطت، نظر في السم: فإن عرض على المقتول مخلوطاً بغيره فليس بقتل عمدٍ، ولا يوجب القصاص؛ لأن مثلها لا يقتل غالباً، والعكس فإن أعطاه المادة مفردة، فإنه يعتبر قتل عمدٍ.

وكذلك الصور العكسية: إذا كانت تقتل مخلوطة بغيرها، ولا تقتل مفردة، فإن أعطاه إياها مفردة فلا يحكم بالقصاص، وإن أعطاه إياها مخلوطة حكم بالقصاص، وإن قتلت في الحالين حكم بالقصاص في الحالين، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله.

ومن هنا ندرك دقة الشريعة الإسلامية وفقه الفقهاء رحمهم الله، وكيف أن الأحكام الشرعية كان يرجع فيها إلى أهل الخبرة، فمثلاً: مسائل القتل تجدهم يرجعون -إن كانت في علم الطب- إلى الأطباء، حتى بالنسبة للقتل بالمثقل، يرجع فيه إلى أهل الخبرة، ليعلم هل مثله يقتل أو لا يقتل؟ وهذا يدل على أنه يُجعل لكل شيء أمارته وعلامته التي يمكن من خلالها معرفة الحق والحكم به، فلا نستطيع أن نحمل الأشياء ما لا تحتمل، فإنه ربما وضع الشيء الذي لا يقتل ويظن أنه قاتل، ويكون القتل بسبب آخر.

وعلى كل حال: لابد من وجود هذه الشروط التي ذكرها العلماء في سقي السموم، ولا يختص الحكم بالشراب؛ بل يشمل الشراب والطعام والمشموم، وسواء كان ذلك عن طريق الفم أو كان ذلك عن طريق الحقن.

وفي زماننا يوجد ما يسمى بالحبوب، ولو أعطي جرعة من الحبوب قد تكون قاتلة، كممرضة -مثلاً- فعلت ذلك بقصد إزهاق روح المريض، وهذا -إن شاء الله- أمر نادر أو بعيد جداً، لكن لو فرض أنه حدث، كأن تكون كرهت الممرضة مريضها أو مريضتها فأرادت قتلها، فأعطتها جرعة زائدة على الجرعة، فحينئذٍ يكون قتل عمدٍ.

فالقتل بالسموم قتل سببية، يصفه العلماء بالسببية العرفية، وهناك سببية شرعية، وسببية عرفية:

فالسببية الشرعية ستأتي، وهي القتل في شهادة الزور، والسببية العرفية مثل القتل بالسم، والقتل بالسم ألحقوه بالسببية العرفية؛ لأن الغالب في العرف أن الضيف إذا قُدم له الطعام والشراب، أنه يأكل ويشرب، فأسقطوا مباشرة المقتول للأكل والشرب، وقالوا: لا تأثير لها؛ لأن هناك شيئاً يفرض عليه وهو الحكم العرفي، والمعتاد بين الناس أنه إذا قدم له الطعام والشراب أنه يأكل ويشرب، وأن الضيف لا يخونه مضيفه، وبناءً على ذلك قالوا: إن هذا من القتل بالسببية العرفية.

الدليل من السنة على قتل من قتل غيره بالسم

والأصل في القتل بالسموم: ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة اليهودية التي سمته عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قصة الشاة المسمومة، وكان صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، وكان يجيب الدعوة، فدعته هذه اليهودية، وقيل: إنها صنعت الشاة وبعثت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألت ما الذي يحبه عليه الصلاة والسلام؟ وكان عليه الصلاة والسلام يحب الكتف، وقد ذكر العلماء في الطب النبوي فوائد عجيبة من كونه عليه الصلاة والسلام كان يحب الكتف، حتى أُخذ منها أن أجود وأفضل وأحسن اللحم في الأنعام ما كان قريباً من العظم، والأطباء يثبتون هذا، ولذلك فإن لحم الكتف قريب من العظم، وأيضاً: الكتف بعيدٌ عن البطن والجوف، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع، وكان شيخ الإسلام عنده معرفة قوية بعلم الطب، فذكر أن أفضل اللحم هو هذا النوع، فكان صلى الله عليه وسلم يحبه، فوضعت السم في هذا الموضع -كتف الشاة- فرفع عليه الصلاة والسلام الكتف فنهشه ثم قال: (إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة)، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وكان قد أكل بعض أصحابه، فأكل أبو بكر رضي الله عنه، وأكل بشر بن البراء بن معرور رضي الله عنه وعن أبيه، فأما بشر فمات من ساعته بعد أن أكل السم، فرواية أبي داود بقتلها كانت بسبب موت بشر رضي الله عنه وأرضاه، فقتلها النبي صلى الله عليه وسلم قصاصاً بـبشر، وبناءً على ذلك صار أصلاً، حتى جاء في الرواية أنه قال أنس رضي الله عنه كما في الرواية عنه: (ما زلت أرى أثر السم في لهاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله)، حتى اشتد ذلك التغير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسب ذلك السم حتى فارق الحياة، ولذلك قالوا في قوله تعالى: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]، يخبر عن حال اليهود مع الأنبياء، فقال: وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]، وما قال: قتلتم، فعبر بصيغة المضارع التي تدل على أن من شأنهم قتل الأنبياء فيما مضى وفيما حضر وفيما سيأتي، فسم عليه الصلاة والسلام ومات من أثر السم، فكان هذا من إعجاز القرآن وحسن بيانه.

فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَتَل بالسم، وصار أصلاً عند أهل العلم رحمهم الله في القتل بالسم، والإشكال في القتل بالسم: أن الذي باشر الأكل هو المقتول، ولم يفرض عليه أحد أن يأكل أو يشرب، ومن هنا يكون الجواب: أن العرف يصعب معه أن يمتنع الضيف من أكل الطعام من مضيفه، وإذا لم يأكل طعام مضيفه فلابد أن هذا يعني أمراً، ولذلك كان من عادات العرب أنهم كانوا إذا جاءهم الضيف يمتنع من الأكل حتى تقضى حاجته، وهذا معروف، فلا يأكل أحد طعام أحد إلا وصار شيء من العلقة والحق بينهما، فبعيد جداً، ومن أخبث وأسوأ وأنقص ما يكون للمرء أن يؤذي ضيفه، ولذلك جعل الله عز وجل في شرعه أن الإحسان إلى الضيف إيمانٌ به سبحانه وتعالى: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، فكونه يضع السم للضيف -والعياذ بالله- هذا من أسوأ ما يكون خيانة، وأسوأ ما يكون نقيصة لمن يفعله -نسأل الله السلامة والعافية-، ولذلك تخلَّق به هؤلاء الذين لا ذمة عندهم ولا عهد وهم اليهود. فالأصل في العرف أن الضيف يأكل من طعام مضيفه، فإذا كان هذا قالوا: فتسقط المباشرة؛ لأنه أكل بنفسه، ويتحمل الساقي والمضيف المسئولية عن طعامه.

ويبقى السؤال في مسألة ما إذا كان في غير ضيافة، كما إذا كان في مطعمٍ أو نحوه، وهو يأخذ نفس الحكم؛ لأنه جرت العادة على أنه مأمون، وأنه ملزمٌ بحفظ طعامه وصيانته عما يضر، فإذا وضع له ذلك الشيء فإنه يكون قاتلاً، ويجب القصاص والقود على التفصيل الذي ذكرناه.

القتل بشهادة الزور وما يجب فيه

قال رحمه الله: [أو شهدت عليه بينة بما يوجب قتله ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله، ونحو ذلك]

قوله: [أو شهدت عليه بينة ] البينة: من البيان، يقال: بان الشيء إذا اتضح، بان الصبح إذا اتضح ضوءه ونوره، والبيان: الدليل، وقد سمي الدليل دليلاً لأنه يبين ويظهر ويكشف، ومنه قول زهير بن أبي سلمى

أضاعت فلم تغفر لهـا خَلـواتها فلاقت بياناً عند آخر معهدِ

دماً عند شلوٍ تحجل الـطير حولهُ وبضع لحامٍ في إهابٍ مقددِ

يصف غزالاً ريماً فقدت ولدها في الصحراء، فقوله: (أضاعت فلم تغفر لها خلواتها) أي: فقدت هذا الصغير فلم تستر لها الخلوات؛ لأن الغفر الستر، (فلاقت بياناً) هنا موضع الشاهد، فلاقت أي: وجدت علامة وأمارة، (فلاقت بياناً عند آخر معهدِ)، أي: وجدت علامة ودليلاً عند آخر مكان عهدت فيه صغيرها، (دماً عند شلوٍ): الأشلاء التي هي القطع من الصغير وهو ولدها، بمعنى: أنه دليل على أنه قد مزقه السبع وافترسه.

فقوله: (فلاقت بياناً) البيان: هو الدليل والحجة، والشيء البين: هو الواضح، فلما كان الدليل والحجة يظهران ويكشفان وجه الحق، وصف الدليل بكونه بينة؛ لأنه يتبين به الحق.

وإذا أطلق جمهور العلماء كلمة البينة فمرادهم بها الشهود، وإذا قالوا: البينة، فالمراد بها الشهود غالباً، لكن في الأصل الشرعي البينة عامة، ولذلك تُعرَّف بتعريفين: خاص بمعنى الشهود، وعام، وسيأتي بيان هذا في باب القضاء، فيقال: البينة بالتعريف العام: هي ما يكشف الحق ويظهر وجه الصواب. وهنا المراد بها الشهود، وهو المعنى الخاص، وليس المراد بها المعنى العام.

فإذا شهد شهودٌ على شخص وكانوا شهود زورٍ -والعياذ بالله- فشهدوا عليه أنه زنى وهو محصن، فأخذ المشهود عليه ورجم حتى مات، ثم جاء هؤلاء الشهود إلى القاضي وقالوا: لقد شهدنا عليه بالزور وهم لم يفعل، فإذا قالوا: شهدنا عليه بالزور، فمعنى ذلك أنهم يريدون قتله، وإذا قالوا: لقد تعمدنا قتله، نحن لا نحبه بل نكرهه، وقد تمالأنا وتواطأنا على أن نتعاطى سبباً لقتله، فشهدنا عليه هذه الشهادة، ففي هذه الحالة يكون قتلاً موجباً للقصاص والقود.

أما لو قالوا: نحن أخطأنا، فالشهادة التي شهدنا فيها خطأ، فهذا فيه الدية، فيحكم القاضي بالدية عليهم، ويجب عليهم العتق، وإن لم يستطيعوا فصيام شهرين متتابعين على التفصيل المعروف؛ لأنه قتل خطأ حينما قالوا: أخطأنا، فقد كنا نظنه فلاناً وتبين أنه فلان، فهذا أمر آخر؛ وقد شهد شهودٌ عند علي رضي الله عنه على رجلٍ أنه سرق فقطعت يده، ثم جاءوا إلى علي وقالوا: أخطأنا، فالرجل لم يسرق، وقد شهدنا خطأً، فقال: لو تعمدتما ذلك لقطعت أيديكما كما قطعت يده، ثم أمرهما بضمان نصف الدية؛ لأن هذا من الخطأ الموجب للضمان.

وبالنسبة لمسألتنا: إذا شهد الشهود بالزور بما يوجب القتل، وقتل المشهود عليه ظلماً، فإنه في هذه الحالة يجب القصاص على الشهود، وهذا ما يسميه العلماء: السببية الشرعية؛ لأن في الشرع إذا تم نصاب الشهادة واكتمل فيما يوجب القتل حكم بالقتل.

والسؤال الآن: إذا شهد الشهود على شخص بما يوجب قتله فقتل، فإن الواقع أن الذي باشر القتل هو المنفذ لحكم القاضي، وهو السياف مثلاً، أو الناس الذين رجموه إن مات رجماً في حد الزنا، والشهود سببٌ في القتل؟ والجواب: أنه تسقط المباشرة بوجود الخديعة من الشهود، وهذه من الصور التي تقدم فيها السببية على المباشرة، وقد ذكرنا أن السببية تقدم على المباشرة في مسائل، وتارة تقدم المباشرة على السببية، وتارة تقدم المباشرة وتفقد حكم السببية في صور، وتارة يحكم بالسبب والمباشرة، أي: على المتسبب والمباشر، على التفصيل الذي ذكرناه فيما تقدم.

ولاشك أن شهادة الزور من أعظم الفساد، وسيأتي -إن شاء الله- حكم شاهد الزور، وماذا يفعل به القاضي إذا شهد شهادة زورٍ واعترف أنه تعمد ذلك وقصده في باب القضاء إن شاء الله تعالى.

ما زال المصنف رحمه الله يذكر الصور التي تتعلق بالقتل بالسببية، ومنها هذه الصورة، وهي: أن يحبس القاتل المقتول، ويمنعه من الطعام والشراب، وتمضي مدة يموت الإنسان فيها غالباً، وهذه الصورة لا شك أنها تفضي إلى القتل في غالب الأحوال، والذي عليه المحققون من أهل العلم رحمهم الله أنه لا يحكم بمدة معينة تحدد، بحيث يقال: إذا حبس فوق ثلاثة أيام أو أربعة أيام فيحكم بكونه قتل عمد، إنما ينظر إلى حال الشخص، والمدة التي حبس فيها، وطبيعة الحبس.

والأصل في هذا أن الطعام والشراب يرتفق بهما البدن، ولا يمكن للإنسان أن يعيش من دون طعامٍ وشراب، ولكن إذا وقع المنع للمقتول من الطعام والشراب فيفصل فيه العلماء من جهة كونه مدة لا يموت فيها الإنسان غالباً، فلو حبس عنه الطعام والشراب يوماً واحداً ثم مات، فإنه يغلب على ظننا أن موته ليس بسبب حبس الطعام والشراب، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى فرض الصيام، والصيام لا يقتل الإنسان، ولو كان يقتل الإنسان لما شرعه الله عز وجل، ولذلك قرر العلماء رحمهم الله أنه لو حبسه يوماً ومنع منه الطعام والشراب فمات، فالغالب أنه مات بسببٍ آخر لا بسبب حبس الطعام والشراب.

ومن هنا اشترط أهل العلم رحمهم الله أن يكون منع الطعام والشراب مدة مؤثرة، ويرجع في ذلك للأطباء والحكماء؛ لأنهم هم أهل النظر وأهل الخبرة في أحوال الأشخاص.

إذاً: هذه الصورة يشترط فيها أولاً: أن يكون هناك حبس، فلما قال المصنف: (أن يحبس) دل على أنه لو كان بيد المقتول أن يأكل ويشرب، وامتنع المقتول من الأكل والشرب؛ كان قاتلاً لنفسه، وعلى هذا فلو أضرب عن الطعام فإن إضراب المسجون عن الطعام حتى يموت يعتبر من الانتحار، وهو قاتلٌ لنفسه، فإذا كان بإمكانه أن يأكل وبإمكانه أن يشرب وامتنع من الأكل وامتنع من الشرب، فإنه يكون قاتلاً لنفسه والعياذ بالله!

كذلك يشترط في هذا الحبس والمنع أن يكون مؤثراً، وقد ذكر العلماء من صوره في القديم: تطيين البيت، فقد كان البعض إذا أراد أن يقتل الشخص يدخله في بيت ويطين عليه البيت، فيسد عليه منافذه بحيث يتعذر على من بداخله الخروج، فهذا التطيين يحقق شرطاً اعتبره العلماء في الحبس عن الطعام والشراب، وهو: ألا يتمكن المحبوس من الاستغاثة، وألا يتمكن من طلب النجدة بالغير، فإذا أمكنه أن يستنجد وأن يستغيث -بعد الله عز وجل- بالغير ولم يفعل، وقصر في هذا حتى مات؛ فإنه لا يعتبر قتل عمدٍ من كل وجه، ولا يجب القصاص، وهذا مبني على ما تقدم معنا أنه متى ما أمكن للمقتول أن يدفع الضرر عن نفسه وقصر في ذلك فإنه لا يحكم بقتل العمد، ولا يحكم بالقصاص؛ لأنه هو الذي قصر في حفظ نفسه والدفاع عنها.

ومثل ذلك ما هو موجود الآن في زماننا، كأن يدخله في غرفة ويغلق عليه ثم يكمم فمه أو يربطه ويربط يديه، حتى لو كان أمامه طعام وشراب فلا يستطيع أن يأكل، بحيث يتعذر عليه أن يدنو من الطعام ليأكل منه، المهم أن يتحقق مانع وحائل من الوصول إلى الطعام والشراب.

إذاً: لابد أن يكون الحبس لا يتأتى معه استغاثة.

الشرط الثاني: أن تمضي مدة مؤثرة، فإذا مضت المدة المؤثرة التي يموت فيها الإنسان إذا حبس عن الطعام والشراب حكم بالقصاص، ووجوب القود.

أما لو لم تمض المدة -كما ذكرنا- كأن يكون يوماً، فشبه اتفاق على أنه لو مضى يوم فليس بقتل؛ لأن الله شرع الصوم -كما ذكرنا- وهذا لا يموت الإنسان فيه.

وانظر إلى دقة المصنف حينما قال: (غالباً)، وهذا مبني على القاعدة المعروفة: أن الحكم للغالب والنادر لا حكم له، فنحن نربط الأحكام الشرعية بالغالب، فغالب الحال أنه لو مضت ثلاثة أيام أو أكثر من ذلك فإنه يموت الإنسان في الغالب، لكن بعض العلماء يشكك في هذا، ويقول: إنه لا يحد في هذا بحد، وإنما ينظر في كل قضية بعينها وبحسبها، وهذا لا شك أنه أدق وأولى، ويكون للقاضي وأهل النظر والخبرة القول في هذا.

ويبقى السؤال: لو منع عنه الشراب ولم يمنع عنه الطعام، أو منع عنه الطعام ولم يمنع عنه الشراب، فهل هو قتل؟

هناك خلاف بين العلماء رحمهم الله، فبعض أهل العلم يقول: إذا منع عنه الشراب لمدة مؤثرة فإنه يعتبر قتل عمد، وهذا هو الصحيح؛ فإن الله تعالى يقول: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]، فدل على أن حبس الماء عن المسجون أو الممنوع مؤثر، وأنه لو مات من هذا المنع والحبس فإنه يعتبر قتل عمدٍ على أصح قولي العلماء.

ولو منع عنه الطعام ولم يمنع عنه الشراب فقال بعض العلماء: إنه ليس بقتل؛ لأن الماء قد ينتفع به البدن، واستدلوا على ذلك بقصة أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، فإنه مكث أربعين يوماً يغتذي بماء زمزم، وهو مستتر تحت ستار الكعبة، ويشرب من زمزم، ومع ذلك لم يهلك ولم يمت، فقالوا: إذا منع عنه الطعام ولم يمنع الشراب فليس بقتل عمد، والدليل أن أبا ذر عاش، وهذا محل نظر؛ وذلك لأن أبا ذر رضي الله عنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أنه طعام طعمٍ وشفاء سقم؟) فهذا خاص بماء زمزم، والخاص لا يثبت حكمه على سبيل العموم، فهذه خاصية في زمزم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها طعام طعم وشفاء سقم)، فإذا منع من الطعام وسقي زمزم وبقي يغتذي بزمزم، فهذا خاص وليس بعام؛ ولذلك ضعف بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من هذا الوجه.

وعلى كل حال فالمنع من الطعام، والمنع من الشراب، متى ما كان على صورة مؤثرة فإنه يوجب القصاص والقود إذا أزهق النفس.

ومن أهل العلم من قيد طبيعة المنع بأنه لا يشترط فيه الرباط، فلو منع في داخل البيت، وفي زماننا داخل الشقة أو داخل غرفة من الغرف، وأغلقت عليه؛ فإن هذا يعتبر كافياً في الحكم، وهكذا لو رماه في بئرٍ فإن هذا يعتبر قتلاً، والأصل في هذه المسألة -أن حبس الآدميين عن الطعام والشراب يعتبر قتل عمدٍ موجبٍ للقصاص- ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها؛ لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، فدل على أن هذا يعتبر قتلاً، وأنه إذا منعت النفس من طعامها ومن شرابها حتى مضت المدة المؤثرة فإن هذا يعتبر إزهاقاً للروح، وقتل عمدٍ موجبٍ لثبوت القود والقصاص.