خطب ومحاضرات
الأمثال في الكتاب والسنة[1]
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70]* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71] .
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فالمثل إذا ضُرِبَ فالمقصود به: تبين فكرةٍ مجملة قد تلتبس على الأذهان.
إذاً: المثل من باب المبيّنَ، فالذي يعجز عن فهم المثل ينبغي أن يبكي على نفسه؛ لأن المبيّنَ إذا لم يُفهم فلن يُتعقل شيء:
فليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
إنما يتلبس على المرء ما أُجمِل، فإقامة الصلاة المأمور بها في قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ [الأنعام:72] كلام مجمل، فلو سألت: كيف أقيم الصلاة؟ فأنا لا أدري كيفية إقامتها، كان معك الحق في هذا السؤال.
لكن لو قلت لامرئ: الصبح ركعتان، والظهر والعصر أربع ركعات، والمغرب ثلاث ركعات، والعشاء أربع ركعات، فإذا لم يفهم عدد الركعات؛ فإنه ينبغي له أن يبكي على نفسه -إذا سأل: كيف ذلك؟- بعد هذا البيان.
وقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] مجمل، فإذا سأل امرؤ: كيف نحج؟ قلتُ له: افعل كذا وكذا، وقف هنا، وادع هنا ولا تقف هنا؛ فإذا سأل: كيف ذلك؟ فينبغي له أن يبكي على نفسه.
فالأمثال إنما تُضرب لتقريب الفكرة، والله تبارك وتعالى قال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وقال تبارك وتعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21].
ونقل ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره عن بعض السلف أنه قال: إذا لم أفهم المثل في كتاب الله بكيت على نفسي. أما غلاظ الأكباد والعقول، فلا يفهمون المثل وإن كان واضحاً جلياً، كما قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26] يقولون: ماذا أراد بضرب هذا المثل؟ فالذين كفروا هم الذين لا يفهمون الأمثال وإن كانت واضحةً جلية.
وقد أكثر الله عز وجل في كتابه من ضرب المثل، وكان قصده تعالى من ذلك أن يفهم خلقه كلامه.
سوف نقف مع بعض الأمثال في القرآن:
ضرب المثل بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء
وانظر إلى ترفق الله عز وجل بالعبد، وصبره على ضرب المثل له، وبسطه للعبارة..! وهذا كله ينبئ بسعة حلمه على عبيده، قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ [النحل:75] أي: لا يستوون الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [النحل:75-76] أربع صفات: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:76].
تأمل هذا المثل ما أجمله وما أعجبه وأقواه في إقامة الحجة! مفتتح الآيات وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا [النحل:73] الشيء العجيب كلمة (شيئاً) هذه! ما موقعها؟ مع أنها لو حذفت استقام السياق: ( ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض ولا يستطيعون ) الكلام مستقيم، لكن جاءت كلمة: (شَيْئًا)، هكذا منصوبة كأنها بدل، قال بعض النحاة: إنها بدل من (رزقاً)؛ أي أنك تستطيع أن تضع البدل مكان المبدل منه وتصح العبارة، كأن تقول: ( ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم شيئاً) والرزق داخل في الكلام، لكن جاءت (رزقاً) ثم قال: (شيئًا).
الرزق شيء، فكأن تقديم الرزق على الشيء من باب تقديم الخاص على العام، وهو عند علماء الأصول يفيد الاهتمام؛ كما في قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] فالصلاة والنسك أخص، والمحيا أعم، لو قلت: (إن محياي لله) دخل فيه الصلاة والنسك وكل شيء، لكن تقديم الصلاة والنسك فيه دلالة على الاهتمام بالصلاة والنسك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) ، مع أن المرأة من الدنيا، فكان يمكن حذف المرأة ويقال: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) والمرأة من الدنيا، لكنه أفرد المرأة بالذكر بعد الدنيا إشعاراً بفتنتها وخطورتها.
فبدأ الله عز وجل بذكر أن الآلهة من دونه لا يملكون للعباد رزقاً، وهذه قضية خطيرة وحيوية في حياة الناس.
كم الذين داهنوا أعداء الله عز وجل، بل كانوا عوناً لهم بدعوى أكل العيش ..!
كم الذين ارتكبوا المحرمات ولا يزالون يقول لك: أكل عيش..! ماذا أفعل؟! المرتب.. الأولاد.. الأكل.. الشرب…
فارتكبوا المحرمات بدعوى الأكل والشرب والرزق!
فالله عز وجل ذكر هذه القضية الخطيرة الحيوية في حياة الخلق، بدأ بها: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا [النحل:73].
حسناً: هذا لا يملك لك رزقاً لمـاذا تعبده؟
واقعك في الدنيا يكشف أنك اتبعت كل جبارٍ عنيد من أجل الرزق ولقمة العيش، فلماذا خالفت هنا..؟!
ثم ضرب الله عز وجل مثلاً فقال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا [النحل:75]، وهذا واقع في حياة العرب، كان عندهم عبيد، وكانوا يعلمون أن العبد المملوك لا يقدر على شيء أبداً، لذلك من العلماء من لم يجز شهادة العبيد.. لمـاذا؟ قال: لأن العبد في ملك سيده، فقد يُدعى العبد للشهادة، فيقول له سيده: لا تذهب، فهو مسلوب الإرادة، ولا بد له أن يطيع سيده؛ فتضيع الشهادات وتضيع الحقوق؛ لذلك قال: هذا عبدٌ مملوك لا تناط به الشهادة، ولا يملك حل شيءٍ ولا ربطه.
فيا أيها العرب: عندكم عبيد، وأنتم تعلمون أنهم لا يملكون شيئاً، فنضرب المثل لكم بما تعلمون.
وقال: (مملوكاً) حتى يظهر المعنى؛ لأنه لو قال: وضرب الله مثلاً عبداً فقد تتصور أن المراد مطلق العبودية، التي تشمل الحر والمملوك؛ لكنه أراد أن يخرج الحر من ضرب المثل، وأن المثل مضروبٌ للملوك.
كلمة (عبد مملوك) معناها: أنه لا يقدر على شيء، لكنه أبان عن عجزه الكامل ودفع كل تأويلٍ يتأول به فقال: لا يقدر على شيء من باب التأكيد والبيان، كما قال تعالى في مفتتح هذا الربع في سورة النحل: وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل:51]، مع أنه مستقرٌّ عند جميع الناس أن الإلهين لا يكونان ثلاثة ولا أربعة ولا خمسة، إلهان: مثنى، فهما اثنان، إنما جاء هذا للتأكيد، كما لو قلت: أنا رأيتك بعيني، مع أنك لا ترى إلا بعينيك، أو تقول: أنا سمعتك بأذني، مع أنك لا تسمع إلا بأذنيك.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:75] هذا هو الشطر الأول من المثل، ثم قال تعالى: وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا : أي وضرب الله بالرجل الحر المثل، وتأمل كلمة (مـنّا) هذه التي تفيد الإمـداد الشخصي، ملك من الملوك يمد رجلاً يقول: أنا الذي أعطيتك. إمداد شخصي.
فالله عز وجل يقول: أنا الذي أمـده، وأنا الذي أرزقـه، وفيه عناية بهذا العبد.
وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا : رجلٌ حر، ينفق ماله سراً وجهراً، يميناً وشمالاً، وعنده رافد ومعين لا ينضب، وهو: أن ملك الملوك -تبارك اسمه- هو الذي يمده، فهو رجل لا يخشى الفقر ولا الفاقة، فهو ينفق ببذخ وسخاء.. بالله عليكم هل يستوون؟!
انظر إلى وضوح المثل فهو واضح جداً جداً؛ ولذلك قال تعالى: هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل:75]، حمد الله عز وجل نفسه أنهم لا يستوون في عقل أي عاقل، وحمد الله عز وجل نفسه أن الذين كفروا لا يعلمون، إذ لو علموا لشغبوا على الذين آمنوا؛ فليظل هؤلاء في جهلهم يرتكسون.
وهكذا يحمد الله عز وجل نفسه أنه لا يوصل الخير إلى الذين ظلموا، قال تعالى: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45] فحمد نفسه بعد إهلاك الذين ظلموا؛ لأن في إهلاكهم نجاة للذين آمنوا.
وفي غيابهم أيضاً نجاةٌ لحجج الذين آمنوا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم منافقٌ عليم اللسان يجادل بالقرآن)؛ لأنه يضل الناس، منافق له لسانٌ عذب يستطيع أن يقيم الحجج ويزين الكلام، فمع نفاقه لا يخلو كلامه من آيةٍ وحديث.
فمع حسن العرض وتزيين الكلام بالآية والحديث يظن الناس أنه من الحق؛ فيفتتنوا، فهذا أخوف ما يخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمة: (منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن).
فإضلال الذين كفروا عن موضع الحجة نعمة؛ لذلك حمد الله نفسه عليها: (هل يستوون)؟ أي إنسان عنده مسكة من عقل يقول: لا يستوون، فقال الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ .
ضرب المثل بالرجل الأبكم الذي هو كَلّ على مولاه
صفة الكلام صفة كمال، وعدمها صفة نقص عند المخلوقين، فكيفَ بالخالق عز وجل؟! فقال أهل السنة: هو متكلمٌ كان ولم يزل متكلماً؛ لأن عدم الكلام نقص.
فهذا رجلٌ أبكم، عاجز لا يقدر على شيءٍ، ومن تمام عجزه أنه كلٌّ على مولاه.
نحن نعبد الله لأسباب كثيرة: منها أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، ومنها: أن يوصل النفع إلي، ويدفع الضر عني، فأنا إذا احتجت أقول: يا رب.
إذاً: أنا الذي أحتـاج، وإلهي هو الذي يمدني.
تصور العكس: أن إلهك الذي تعبده يحتاج إليك!
هذا الرجل كلٌٌّ على مولاه، المفروض أن مولاه اشتراه لينتفع به، لكن مولاه هو الذي يخدمه، وهو الذي يشتغل له، فهذا العبد كلٌّ على مولاه.
ولو قال له مولاه: مللت منك وليس منك أي فائدة: اذهب إلى الجهة الفلانية، ائتني بفلان، أو احضر لي كذا وكذا: (أينما يوجهه لا يأت بخير) إذا بعثه في معروف يأتي بمصيبة، لا ينطق، ولا يقدر على شيء، وأنا الذي أنفق عليه، فإذا أردت أن أستخدمه مرة جاءني بمصيبة..! الطرف الأول من المثل.
هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:76]، أجيبوني أيها العقلاء! هل يستوون؟ مثل في غاية الوضوح.
وهذان المثلان ضربهما الله عز وجل لنفسه مع الآلهة من دونه.
هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل؟
لا يأمرُ إلا إذا كان قادراً على إمضاء أمره، ولا يأمرُ إلا إذا كان متكلماً، إذاً يأمر هي ضد (أبكم لا يقدر على شيء) أبكم: يعني لا يتكلم، في مقابله يأمر، لأنه لا يأمر إلا إذا كان متكلماً، ثم لن يأمر إلا إذا كان قادراً على إمضاء أمره، فهذا في مقابل: لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ لأن ذاك العبد الأبكم جاهل لا يعرف الخير من الضر.
هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ولا يأمر بالعدل إلا إذا كان عالماً بالفرق بين العدل والجور، فهذا في مقابل: أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ .
لكن هذه الكلمة المجملة هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:76] كانت كلها صفات في مقابل صفات النقص الأولى.
ضرب المثل بخلق الذباب
فانظر إلى هذا التعقيب! (قويٌ عزيز) بعد إثبات عجزهم أن يخلقوا أخس حشرة موجودة، سمي الذباب ذباباً؛ لأنه كلما ذبّ آب، كلما دفعته رجع إليك، فضرب الله عز وجل المثل بهذا الذباب الخسيس.
ولذلك استنكف المشركون من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت، فقالوا: أما يستحيي رب محمدٍ أن يضرب لنا المثل بالذباب والعنكبوت؟! فأنزل الله عز وجل قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26] (فما فوقها): كالذباب والعنكبوت.. فهذا مثل يفهمه العقلاء.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ : وأداة النداء من معانيها أو من فوائدها: التنبيه والإيقاظ، (يا) فأنت تعطي أذنك كل النداء، يَا أَيُّهَا النَّاسُ لما سمعوا النداء أصاخوا بآذانههم، ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الحج:73] ودائماً تضرب الأمثال في التوحيد، وليس في الأحكام الشرعية.
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج:73] وأصل الخلق الإيجاد من العدم؛ لكن إذا بنيت على موجود لا يقال: خلقت؛ لأن هناك مغالطة حصلت في هذا العصر في مسألة الاستنساخ.
أول ما استنسخوا النعجة (دوللي) قالوا: لقد استطاعوا أن يخلقوا نعجة! وكذبوا؛ لأنهم أتوا بخلية من كائنٍ حي، والخلية هي من خلق الله عز وجل، فبنوا عليها.. فأين الخلق؟ لكنهم لبسوا على ضعاف العقول، وما أكثرهم! حتى قال قائلهم -وكفر بهذه المقالة-: إن ميلاد النعجة (دوللي) أعظم من ميلاد المسيح! فزعموا أن العباد فعلوا ما لم يفعله ربهم..!
ومع ذلك أفتى علماؤهم وأذكياؤهم: أن الاستنساخ تدمير للبشرية؛ لأن المستنسخ له نفس مواصفات الخلية، فلو أخذوا -مثلاً- خليةً من إنسان عمره -مثلاً- أربعون سنة، عنده مرض السكر والضغط والسل -أو أي مرض من هذه الأمراض- واستطاعوا أن ينموا إنساناً من هذه الخلية، فسوف يكون عمر هذا الولد الرضيع أربعين سنة، وسوف يكون وهو رضيع مريض بالسل والضغط وبكل الأمراض التي في الخلية، فتصور أن طفلاً رضيعاً به كل هذه الأمراض، وحين يصل إلى عمر عشر سنين سوف يمشي على عكاز!
إذاً فنيت البشرية، أين طاقات الشباب وأين السواعد التي تبني الحضارات لما يكون ابن عشر سنين عنده كل هذه الأمراض؟!
فالاستنساخ تهديد للبشرية كلها، فهل يستطيعون أن يخلقوا الخلية..؟!
هذا هو المذكور في هذا المثل.. لن يخلقوا ذباباً لا خلية الذباب ولا الذباب، ولو اجتمعوا له ، لا يوصف أحدٌ بأنه إله إلا إذا كان قادراً على إمضاء أمره على غيره ولا يغلب، فإذا غُلِب لم يكن إلهاً، وإذا أمر فلم يمض أمره لم يكن إلهاً.
فلو سلمنا جدلاً أن آلهتكم -أيها المشركين- كلها اجتمعت بطاقاتها ومواهبها وقدراتها جميعاً لا يستطيعون أن يخلقوا ذباباً، وليس هذا فقط، بل هناك مسألة أحط من ذلك لا يستطيعونها أيضاً وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ وكأنه سبحانه وتعالى قال: لا يستطيعون، وأنا سأدلل لكم على أنهم أحقر من أن يخلقوا بأن أذكر شيئاً تافهاً لا يستطيعونه أيضاً.
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ لا نكلفكم أكثر من طاقاتكم، ولن نقول: اخلقوا، عرفنا أنكم عجزة؛ لكن هذا ذبابٌ مخلوقٌ لله، وقع في إناء أحدكم وأخذ رشفةً من الشراب الذي يشربه، هل يستطيع أن يرجع هذا الشراب الذي أخذه الذباب من إنائه؟!
هذه مرحلة أحط وأدنى من الأولى، ومع ذلك لا يستطيعونها ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73] المطلوب: هو الذباب الضعيف، والطالب: هو هذا الكافر الذي ملأ الأرض فساداً، وقال بعضهم: ( أنا ربكم الأعلى)؛ لكنه عاجز عن استنقاذ شيء من الذباب: (ضعف الطالب والمطلوب).
فإذا كان هؤلاء الذين تعبدونهم لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك، فهم لا يستوون مع الله، فلماذا فعلتم هذا، وساويتم بين الله وبين الآلهة التي لا تستطيع أن تخلق ذباباً؟ يا حسرتاه ... مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:74] إذ سووا بينه وبين الذي لا يخلق ذباباً! إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:74].
ضرب المثل ببيت العنكبوت
المثل هنا: مضروب ببيت العنكبوت، وأوهن البيوت هو بيت العنكبوت، وآية ذلك لو أن ابنك الرضيع الذي يحبو على الأرض صادف بيت عنكبوت، وجمعه بيده لكان قادراً على ذلك! طفل رضيع يجمع بيوت العناكب في يده، فالذي يحتمي بإلهٍ دون الله كالذي يحتمي ببيت العنكبوت.
قال ابن نوح عليه السلام له لما قال له: يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ [هود:42-43].. جبل عالٍ سامق شامخ، أين الموج الذي يصل إلى الجبل؟! قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود:43] الجبل مخلوق.. وانظر! فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا [القمر:12]، انظر إلى الإحاطة والقدرة: فتحنا أبواب السماء بماءٍ منهمر ولم يقل: (وفجرنا عيون الأرض).. إنما قال: وفجرنا الأرض صارت كلها عيوناً؛ لأن جملة (وفجرنا عيون الأرض) فيها إشعار أن هناك بعض مناطق الأرض لم يخرج منها ماء، إنما وفجرنا الأرض أي: صارت الأرض كلها عيوناً تخرج الماء.
ماءٌ من فوق، وماء من تحت، فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:12]، لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود:43].
فهذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله إذا جاء ضرٌّ لا يدفعون عنكم شيئاً، فلماذا عبدتموهم مع وهاء بنيانهم؟!
وقال بعض علماء العصر: إن بيت العنكبوت بيتٌ واه ضعيف؛ لأن أنثى العنكبوت تقتل الذكر بعد التلقيح، قالوا: فكأن البيت الذي لا يحكمه رجلٌ وتحكمه امرأة من أوهى البيوت.. هذه محنة جسيمة عظيمة كبيرة! أوهى البيوت بيتٌ تحكمه امرأة، ويمشي بتدبير امرأة..! لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41].
ثم قال عز وجل: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
ضرب المثل بالرجل الذي فيه شركاء متشاكسون
ثم نختتم الأمثال من القرآن بذكر رجلٍ هو أشقى رجل على وجه الأرض.
قال تعالى في سورة الزمر: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ هذا الطرف الأول للمثل.
الطرف الثاني: وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29].
رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ أشقى رجل على وجه الأرض هو هذا الإنسان، عبدٌ فيه شركاء متشاكسون، أي أن كل واحد منهم يعاند الآخر، ينتظر أن يأمر الآخر بأمرٍ حتى يأمر بضده، وهؤلاء المتشاكسون لهم عبدٌ واحد، إذا صادف العبد رجلاً منهم جره واستخدمه.
فلنفترض مثلاً عشرة من المتشاكسين يكره بعضهم بعضاً، وكلما أمرَ أحدهم بأمر، أمر الآخر بضده، كنوع من العناد والمشاكسة، عناد، فقال الأول -مثلاً- لهذا العبد: اذهب إلى الجهة الفلانية وائتني بكذا، واعلم أنك إذا لم تطع أمري عاقبتك. فبينما هذا العبد الشقي ذاهبٌ إلى الجهة التي أمره أن يذهب إليها السيد الأول إذ قابله في الطريق المالك الثاني:
- إلى أين يا غلام؟
- أمرني فلانٌ أن أذهب إلى جهة المشرق لآتي بكذا.
- لا، اذهب إلى المغرب وائتني بكذا.
ذهب إلى المغرب ... طبعاً لم يقض حاجة الأول.
- يا غلام! لم لم تطع أمري؟!
- والله يا لقد أمرني فلان.
-أنا ما لي وماله! تعال هنا.
ويوقع به العقوبة، فبينما هو متوجه إلى المغرب قابله المالك الثالث:
- إلى أين؟
- إلى كذا.
- لا، تعال.. اذهب إلى الجهة الفلانية.
- فيسأله الثاني: لم لم تفعل؟
- جرني الثالث.
- وأنا ما لي! تعال ..!
فيعاقبه، فلا هو محمودٌ عندهم جميعاً ولا يقضي لهم شيئاً جميعاً، وإذا استجار بواحدٍ منهم قال له: وهل فعلت لي شيئاً حتى تستجير بي؟! أمرتك فلم تمتثل، فمهما يقدم من عذرٍ لا يقبل منه!
تعلمون على وجه الأرض أشقى من هذا العبد!
فالذين يعبدون آلهةً متكاثرة أمثال هذا الإنسان.
وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ [الزمر:29] ليس له إلا مالك واحدٌ وآمر واحد، إذا أمره ابتدر أمره، ونفذ ما يريد، فيعرف له ذلك ويكافئه، وإذا اعتذر عذره.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بن العلاء : ورجلاً سالماً لرجل فمن المستريح؟ أنه هذا الرجل السالم.
حسناً: يا جماعة! يا معاشر العقلاء! هذان الاثنان هل يستويان مثلاً؟
فلما كان المثل واضحاً غاية الوضوح ومع ذلك ضل عنه الذين كفروا؛ قال الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29].
في سورة النحل قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:73-74]، ثم ضرب سبحانه وتعالى مثلين؛ ليبين أنهم لا يعلمون؛ وأن واقعهم ينادي أنهم لا يعلمون حتى وإن ادعوا أنهم يعلمون، واقعهم ينادي بجهلهم، فهذا الجاهل الغبي كيف يضرب المثل لربه..؟!
وانظر إلى ترفق الله عز وجل بالعبد، وصبره على ضرب المثل له، وبسطه للعبارة..! وهذا كله ينبئ بسعة حلمه على عبيده، قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ [النحل:75] أي: لا يستوون الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [النحل:75-76] أربع صفات: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:76].
تأمل هذا المثل ما أجمله وما أعجبه وأقواه في إقامة الحجة! مفتتح الآيات وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا [النحل:73] الشيء العجيب كلمة (شيئاً) هذه! ما موقعها؟ مع أنها لو حذفت استقام السياق: ( ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض ولا يستطيعون ) الكلام مستقيم، لكن جاءت كلمة: (شَيْئًا)، هكذا منصوبة كأنها بدل، قال بعض النحاة: إنها بدل من (رزقاً)؛ أي أنك تستطيع أن تضع البدل مكان المبدل منه وتصح العبارة، كأن تقول: ( ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم شيئاً) والرزق داخل في الكلام، لكن جاءت (رزقاً) ثم قال: (شيئًا).
الرزق شيء، فكأن تقديم الرزق على الشيء من باب تقديم الخاص على العام، وهو عند علماء الأصول يفيد الاهتمام؛ كما في قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] فالصلاة والنسك أخص، والمحيا أعم، لو قلت: (إن محياي لله) دخل فيه الصلاة والنسك وكل شيء، لكن تقديم الصلاة والنسك فيه دلالة على الاهتمام بالصلاة والنسك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) ، مع أن المرأة من الدنيا، فكان يمكن حذف المرأة ويقال: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) والمرأة من الدنيا، لكنه أفرد المرأة بالذكر بعد الدنيا إشعاراً بفتنتها وخطورتها.
فبدأ الله عز وجل بذكر أن الآلهة من دونه لا يملكون للعباد رزقاً، وهذه قضية خطيرة وحيوية في حياة الناس.
كم الذين داهنوا أعداء الله عز وجل، بل كانوا عوناً لهم بدعوى أكل العيش ..!
كم الذين ارتكبوا المحرمات ولا يزالون يقول لك: أكل عيش..! ماذا أفعل؟! المرتب.. الأولاد.. الأكل.. الشرب…
فارتكبوا المحرمات بدعوى الأكل والشرب والرزق!
فالله عز وجل ذكر هذه القضية الخطيرة الحيوية في حياة الخلق، بدأ بها: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا [النحل:73].
حسناً: هذا لا يملك لك رزقاً لمـاذا تعبده؟
واقعك في الدنيا يكشف أنك اتبعت كل جبارٍ عنيد من أجل الرزق ولقمة العيش، فلماذا خالفت هنا..؟!
ثم ضرب الله عز وجل مثلاً فقال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا [النحل:75]، وهذا واقع في حياة العرب، كان عندهم عبيد، وكانوا يعلمون أن العبد المملوك لا يقدر على شيء أبداً، لذلك من العلماء من لم يجز شهادة العبيد.. لمـاذا؟ قال: لأن العبد في ملك سيده، فقد يُدعى العبد للشهادة، فيقول له سيده: لا تذهب، فهو مسلوب الإرادة، ولا بد له أن يطيع سيده؛ فتضيع الشهادات وتضيع الحقوق؛ لذلك قال: هذا عبدٌ مملوك لا تناط به الشهادة، ولا يملك حل شيءٍ ولا ربطه.
فيا أيها العرب: عندكم عبيد، وأنتم تعلمون أنهم لا يملكون شيئاً، فنضرب المثل لكم بما تعلمون.
وقال: (مملوكاً) حتى يظهر المعنى؛ لأنه لو قال: وضرب الله مثلاً عبداً فقد تتصور أن المراد مطلق العبودية، التي تشمل الحر والمملوك؛ لكنه أراد أن يخرج الحر من ضرب المثل، وأن المثل مضروبٌ للملوك.
كلمة (عبد مملوك) معناها: أنه لا يقدر على شيء، لكنه أبان عن عجزه الكامل ودفع كل تأويلٍ يتأول به فقال: لا يقدر على شيء من باب التأكيد والبيان، كما قال تعالى في مفتتح هذا الربع في سورة النحل: وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل:51]، مع أنه مستقرٌّ عند جميع الناس أن الإلهين لا يكونان ثلاثة ولا أربعة ولا خمسة، إلهان: مثنى، فهما اثنان، إنما جاء هذا للتأكيد، كما لو قلت: أنا رأيتك بعيني، مع أنك لا ترى إلا بعينيك، أو تقول: أنا سمعتك بأذني، مع أنك لا تسمع إلا بأذنيك.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:75] هذا هو الشطر الأول من المثل، ثم قال تعالى: وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا : أي وضرب الله بالرجل الحر المثل، وتأمل كلمة (مـنّا) هذه التي تفيد الإمـداد الشخصي، ملك من الملوك يمد رجلاً يقول: أنا الذي أعطيتك. إمداد شخصي.
فالله عز وجل يقول: أنا الذي أمـده، وأنا الذي أرزقـه، وفيه عناية بهذا العبد.
وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا : رجلٌ حر، ينفق ماله سراً وجهراً، يميناً وشمالاً، وعنده رافد ومعين لا ينضب، وهو: أن ملك الملوك -تبارك اسمه- هو الذي يمده، فهو رجل لا يخشى الفقر ولا الفاقة، فهو ينفق ببذخ وسخاء.. بالله عليكم هل يستوون؟!
انظر إلى وضوح المثل فهو واضح جداً جداً؛ ولذلك قال تعالى: هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل:75]، حمد الله عز وجل نفسه أنهم لا يستوون في عقل أي عاقل، وحمد الله عز وجل نفسه أن الذين كفروا لا يعلمون، إذ لو علموا لشغبوا على الذين آمنوا؛ فليظل هؤلاء في جهلهم يرتكسون.
وهكذا يحمد الله عز وجل نفسه أنه لا يوصل الخير إلى الذين ظلموا، قال تعالى: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45] فحمد نفسه بعد إهلاك الذين ظلموا؛ لأن في إهلاكهم نجاة للذين آمنوا.
وفي غيابهم أيضاً نجاةٌ لحجج الذين آمنوا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم منافقٌ عليم اللسان يجادل بالقرآن)؛ لأنه يضل الناس، منافق له لسانٌ عذب يستطيع أن يقيم الحجج ويزين الكلام، فمع نفاقه لا يخلو كلامه من آيةٍ وحديث.
فمع حسن العرض وتزيين الكلام بالآية والحديث يظن الناس أنه من الحق؛ فيفتتنوا، فهذا أخوف ما يخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمة: (منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن).
فإضلال الذين كفروا عن موضع الحجة نعمة؛ لذلك حمد الله نفسه عليها: (هل يستوون)؟ أي إنسان عنده مسكة من عقل يقول: لا يستوون، فقال الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ .
استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أسئلة وأجوبة[1] | 2881 استماع |
التقرب بالنوافل | 2828 استماع |
حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده | 2770 استماع |
لماذا نتزوج | 2707 استماع |
انتبه أيها السالك | 2698 استماع |
سلي صيامك | 2671 استماع |
منزلة المحاسبه الدرس الاول | 2657 استماع |
إياكم والغلو | 2634 استماع |
تأملات فى سورة الدخان | 2620 استماع |
أمريكا التي رأيت | 2604 استماع |