شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل: وعليه نفقة رقيقه طعاماً وكسوة وسكنى ].

شرع المصنف رحمه الله في بيان ما يجب على السيد تجاه عبيده ومواليه، وهذا الفصل في الحقيقة تابع للذي قبله من جهة كونه من فصول النفقات، وقد تقدم أن النفقات في الإسلام لها ثلاثة أسباب:

السبب الأول: النكاح والزوجية.

السبب الثاني: النسب والقرابة.

السبب الثالث: المِلك، ويشمل مِلك اليمين وملك الدواب والبهائم.

وبعد أن بيّن المصنف رحمه الله النفقات المتعلقة بالزوجية، وأحكامها ومسائلها، بيّن رحمه الله أحكام النفقات من جهة النسب، ثم بعد ذلك شرع في بيان أحكام النفقات المتعلقة بملك اليمين والنفقة على البهائم.

وفي الحقيقة أن النفقة على المملوك والرقيق أمر فرضه الله عز وجل على عباده، وهو يدل دلالة واضحة على سماحة الشريعة، ولقد كان في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من النصوص ما يدل دلالة واضحة على عظمة هذا الدين، وسموه وكماله، وأنه أبعد مما وصفه به أعداء الإسلام من المنقصة والمعايب التي ألصقوها به زوراً وبهتاناً، خاصةً في مسألة الأرقاء.

فمن هنا ومن هذا الدين ومن أنوار التنزيل، كانت الحقوق الواضحة البينة التي بيّنها رب العالمين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، هنا حقوق المخلوقين تامة كاملة، هنا يوصف الشخص فيبين ما الذي له وما الذي عليه، هنا النظرة الكاملة التامة؛ لأنه تشريع الحكيم العليم الذي تمت كلمته صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، وهنا المناداة بالحقوق دون أن يتقمصها المنادي لأغراضه الشخصية، وهنا النظر للحقوق دون أن تكون نظرة عمياء أو نظرة عوراء تنظر للحقوق التي لها دون الحقوق التي عليها.

فهذه عظمة الإسلام تتجلى وتظهر في أبهى صورها وأجمل حللها، دون كذب وافتراء ومبالغة وخداع للناس وتمويه عليهم، فهذه الأبواب التي انعقدت في الفقه الإسلامي في بيان الحقوق التي منها حقوق النفقة؛ انظر فيها كيف يكون الترابط، يقال للشخص: أنفق على زوجتك ولا تظلمها، وأعط المرأة حقها. ويقال للمرأة: أعطي حق الرجل، ويقال للسيد: أعط حق المملوك ومن جعله الله أمانة في عنقك ورقبتك، وأنت مسئول عنه أمام الله عز وجل، ويقال للملوك: أدّ حق سيدك.

هنا العدل والإنصاف التي قامت عليه السماوات والأرض، وهنا الحقوق واضحة جلية قائمةً على العدل الإنصاف الذي لا يمكن أن تستقيم أمور العباد إلا به، ولا يمكن أن تستقيم أحوال البلاد إلا بهذا الذي شرعه الله جل وعلا، وبيّنه سبحانه وتعالى.

الأرقـاء أمانة في أعناق من ولاهم الله عز وجل أمرهم

قبل أن ندخل في حقوق النفقة ننبه على أمرٍ مهم: وهو أن أعداء الإسلام شوهوا صورة الإسلام في الرق، ومن هنا وجب أن نبين أن دين الله وشرعه لم يخص الرق يوماً من الأيام بجنس من الأجناس، ولا بلونٍ من الألوان، ولا بطائفة ولا بأحد، إلا بمن كفر وسلب نفسه كرامة الآدمية، ولو كان أجمل الناس صورة، وأعز الناس مكانة، فعندها ينزل إلى مستوى البهيمية بل أضل: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44].

ضُرب الرق على الكافر ولا يضرب الرق على المسلم، فلا يسترق إلا الكافر، وإذا استرق الكافر فإنه إذا أسلم بعد ذلك استمر على الرق على تفصيل نبينه؛ لأن الشخص إذا كفر وأشرك نزل عن التكريم الذي كرمه الله به، وظلم ومنع حق الله الذي أوجب عليه ذلك، وقد وصف الله الكافر والمشرك بأنه ظالم: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فلما كفر لم يبق الكافر على كفره بل جاء ووقف في وجه الإسلام محارباً له، فإذا حاربه ووقف في وجهه كفر بالعبودية لله عز وجل، وكفر نعمة الله سبحانه وتعالى، ثم جاء وحارب الإسلام ووقف في وجه الإسلام.

فإذا تمكن الإسلام منه خُيّر الإمام بين ضرب رقبته واسترقاقه والمنِّ عليه؛ على تفصيل تقدم في كتاب الجهاد، فإذا أمر ولي الأمر برقه ثبت الرق، وليس كل أحد يأتي ويأخذ كل من أسر، ويقول: هذا مملوك لي، ولكن بضوابط وقيود محددة ومرتبة من لدن حكيم عليم: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4]، يضرب الرق على الرجال والنساء والذراري والأطفال كما جاء في حديث سعد حينما حكم في بني قريظة، قال: (أرى أن تسبى ذراريهم، وأن تقتل مقاتلتهم).

فإذا سبيت الذرية وضرب عليها الرق ربما تسلم بعد ضرب الرق ويبقى نسلهم مسلمين، لكن العبرة بالأصل، أنهم كانوا على الكفر، ومن هنا إذا أسلموا: رغب الإسلام في عتقهم، ولذلك لا يعتق الكافر، قال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)، أي: أمرتك بعتقها لما آمنت، وانظر كيف ضُرِب عليه الرق لما كان كافراً وحارب الإسلام، وفتح له باب الحرية ورُغّب في عتقه إذا أسلم وآمن ورجع إلى الأصل، لكن لو أن الإسلام جعل كل من يسترق إذا أسلم يفك عنه الرق ولو كذباً، لكذب الناس والأرقاء في إسلامهم.

على كل؛ فهذا نوع من الاسترقاق، والله يحكم ولا معقب لحكمه، فنحن نؤمن ونقتنع قناعة تامة بهذا الأمر الذي هو باقٍ ما بقي الملوان وتعاقب الزمان، لا يحرم تحليله أحد ولا يحل ما حرم الله فيه أحد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم؛ ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجلٌ أعطي بي ثم غدر، ورجلٌ استأجر أجيراً ولم يوفه أجره، ورجل باع حراً ثم أكل ثمنه)، وهذا يدل على أن الإسلام لا يسمح باسترقاق العباد وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، ولا يسمح بالاسترقاق للألوان أو الأجناس أو الطبائع أو الملل أبداً، إنما يُضرب الرق في حالة مخصوصة، ولا يدعو هذا إلى رد شبهات الأعداء بأن ننهزم ونحرم ما أحل الله وننطلق من منطلق الضعف، ونجعل الرق وكأنه أمر عند الضرورة.

لا. فهذا حكم الله يرضى به من يرضى، ولا علينا أن يسخط من سخط، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط، هذا حكم الله الذي يحكم ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى.

لما حكمت الشريعة بالرق لم تترك الأمر هملاً وسدى.. بل جاءت بالتشريعات التامة الكاملة في بيان حقوق الأرقاء، فلهم الحق في حدود ما جعل الله عز وجل لهم، فبين الله عز وجل حق السيد وحق المملوك، كما قال تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [الأحزاب:50]، وكان من آخر وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على آخر أعتاب هذه الدنيا وقد أوذن بالرحيل منها، واشتاق إلى الرفيق الأعلى، كان يقول: (الصلاة، وما ملكت أيمانكم).

فالإسلام ليس يتهم أحداً زوراً وبهتاناً، الإسلام أسمى وأعلى من كل هذه الترهات، ولكن الكافرين هم الظالمون والمعتدون، كما قال القائل: (رمتني بدائها وانسلت)، فهم أهل هذا العيب والنقص؛ الذين استرقوا الشعوب والأمم، وأكلوا خيراتهم وحرموهم حقوقهم، فهذا هو الذي يثلب ويعاب. أما الإسلام الذي عظم الحقوق وبين الواجبات، فهو أعلى مما يوصف به ظلماً وزوراً وبهتاناً.

حق المملوك في السكنى والطعام واللباس

قال المصنف رحمه الله: [وعليه]:

الضمير هنا عائدٌ على السيد، والتعبير بقوله: (وعليه) يدل على اللزوم، أي: يجب على السيد تجاه عبيده وإمائه النفقة، وقد تقدم تعريفها وبينا هذا الطعام والكسوة والسكنى، والأصل في ذلك: ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس، ولا يحمله ما لا يطيق؛ فإن حملتموهم ما لا يطيقون فأعينوهم).

في هذا الحديث الشريف دليل على وجوب إطعام السيد لعبده وأمته. ولذلك جاء في الحديث الآخر: (للملوك نفقته وكسوته بالمعروف)، فلما قال رحمه الله: (وعليه نفقته)، أي: على السيد نفقة عبده، ويشمل ذلك الطعام لقوله عليه الصلاة والسلام: (فليطعمه مما يطعم)، والكسوة لقوله: (وليلبسه مما يلبس)، وكذلك يجب عليه أن يسكنه. وهذا كله بإجماع العلماء رحمهم الله لثبوت النصوص فيها.

أما الطعام: فإن كان السيد غنياً فإنه لا يجب عليه أن يطعمه طعام الأغنياء، ومن هنا: اختلفت النفقة في الزوجية عن النفقة في ملك اليمين، إنما يطعمه الطعام الذي يقوم به عوده ويصلح به حاله، وأما إذا كان السيد معسراً فإنه يطعم طعام المعسرين.

وأما بالنسبة لنوعية الطعام، فلحديث الشافعي في مسنده: (بالمعروف)، يدل على أن هذا يرجع إلى العرف، فالعبيد والموالي لما كانوا في أيام المسلمين كانوا يطعموهم بالعرف، فموالي الغني يُطعمون طعام موالي الأغنياء، والفقراء كذلك يطعمون طعام الموالي الفقراء والضعفاء، على حسب العرف الذي فيه السيد والمولى.

وأما اللباس: فهو يختلف بحسب اختلاف المولى: فإذا كان العبد أو الأمة بحال فإنه يلبس ما يليق بحاله، فإذا كان عنده مهنة وعمل لبس لباس المهنة والعمل، ولذلك فرق العلماء والأئمة بين لباس الأمة التي يطؤها سيدها لأنه لباس زينة وجمال، وبين الأمة التي تخدم في البيت وتطبخ على أنه لباس بذلة تحتاج معه إلى شيء يساعدها على ما هي فيه من المهنة والعمل، فاللباس يختلف بحسب اختلاف الرقيق والمولى ذكراً كان أو أنثى.

ثم قوله: (عليه) عام يشمل إذا كان الرقيق يعمل أو لا يعمل، وذلك لأن النفقة على الرقيق لا يشترط فيها أنه يخدم سيده حتى ولو كان المولى عاجزاً صغيراً أو كبيراً، فإن الإسلام يلزم سيده بالنفقة عليه، وكذلك لو كان به عاهة أو مرض يمنعه من التكسب والقيام على نفسه، فإن سيده ملزم بأن يقوم عليه وينفق عليه بالمعروف، وفي هذا دليل على رحمةِ الله بعبيده وخلقه، حيث إنه سبحانه راعى أحوال هؤلاء وأمرهم أن يطيعوا لمواليهم ويحسنوا لهم؛ حتى وعد المولى الذي يقوم على خدمة سيده الجنة إذا مات وسيده عنه راضٍ، يعني: أدى حق سيده على أتم الوجوه وأكملها.

فبين المصنف رحمه الله: أنه يجب على السيد أن ينفق بالطعام والكسوة والسكنى على الرقيق.

قبل أن ندخل في حقوق النفقة ننبه على أمرٍ مهم: وهو أن أعداء الإسلام شوهوا صورة الإسلام في الرق، ومن هنا وجب أن نبين أن دين الله وشرعه لم يخص الرق يوماً من الأيام بجنس من الأجناس، ولا بلونٍ من الألوان، ولا بطائفة ولا بأحد، إلا بمن كفر وسلب نفسه كرامة الآدمية، ولو كان أجمل الناس صورة، وأعز الناس مكانة، فعندها ينزل إلى مستوى البهيمية بل أضل: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44].

ضُرب الرق على الكافر ولا يضرب الرق على المسلم، فلا يسترق إلا الكافر، وإذا استرق الكافر فإنه إذا أسلم بعد ذلك استمر على الرق على تفصيل نبينه؛ لأن الشخص إذا كفر وأشرك نزل عن التكريم الذي كرمه الله به، وظلم ومنع حق الله الذي أوجب عليه ذلك، وقد وصف الله الكافر والمشرك بأنه ظالم: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فلما كفر لم يبق الكافر على كفره بل جاء ووقف في وجه الإسلام محارباً له، فإذا حاربه ووقف في وجهه كفر بالعبودية لله عز وجل، وكفر نعمة الله سبحانه وتعالى، ثم جاء وحارب الإسلام ووقف في وجه الإسلام.

فإذا تمكن الإسلام منه خُيّر الإمام بين ضرب رقبته واسترقاقه والمنِّ عليه؛ على تفصيل تقدم في كتاب الجهاد، فإذا أمر ولي الأمر برقه ثبت الرق، وليس كل أحد يأتي ويأخذ كل من أسر، ويقول: هذا مملوك لي، ولكن بضوابط وقيود محددة ومرتبة من لدن حكيم عليم: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4]، يضرب الرق على الرجال والنساء والذراري والأطفال كما جاء في حديث سعد حينما حكم في بني قريظة، قال: (أرى أن تسبى ذراريهم، وأن تقتل مقاتلتهم).

فإذا سبيت الذرية وضرب عليها الرق ربما تسلم بعد ضرب الرق ويبقى نسلهم مسلمين، لكن العبرة بالأصل، أنهم كانوا على الكفر، ومن هنا إذا أسلموا: رغب الإسلام في عتقهم، ولذلك لا يعتق الكافر، قال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)، أي: أمرتك بعتقها لما آمنت، وانظر كيف ضُرِب عليه الرق لما كان كافراً وحارب الإسلام، وفتح له باب الحرية ورُغّب في عتقه إذا أسلم وآمن ورجع إلى الأصل، لكن لو أن الإسلام جعل كل من يسترق إذا أسلم يفك عنه الرق ولو كذباً، لكذب الناس والأرقاء في إسلامهم.

على كل؛ فهذا نوع من الاسترقاق، والله يحكم ولا معقب لحكمه، فنحن نؤمن ونقتنع قناعة تامة بهذا الأمر الذي هو باقٍ ما بقي الملوان وتعاقب الزمان، لا يحرم تحليله أحد ولا يحل ما حرم الله فيه أحد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم؛ ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجلٌ أعطي بي ثم غدر، ورجلٌ استأجر أجيراً ولم يوفه أجره، ورجل باع حراً ثم أكل ثمنه)، وهذا يدل على أن الإسلام لا يسمح باسترقاق العباد وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، ولا يسمح بالاسترقاق للألوان أو الأجناس أو الطبائع أو الملل أبداً، إنما يُضرب الرق في حالة مخصوصة، ولا يدعو هذا إلى رد شبهات الأعداء بأن ننهزم ونحرم ما أحل الله وننطلق من منطلق الضعف، ونجعل الرق وكأنه أمر عند الضرورة.

لا. فهذا حكم الله يرضى به من يرضى، ولا علينا أن يسخط من سخط، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط، هذا حكم الله الذي يحكم ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى.

لما حكمت الشريعة بالرق لم تترك الأمر هملاً وسدى.. بل جاءت بالتشريعات التامة الكاملة في بيان حقوق الأرقاء، فلهم الحق في حدود ما جعل الله عز وجل لهم، فبين الله عز وجل حق السيد وحق المملوك، كما قال تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [الأحزاب:50]، وكان من آخر وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على آخر أعتاب هذه الدنيا وقد أوذن بالرحيل منها، واشتاق إلى الرفيق الأعلى، كان يقول: (الصلاة، وما ملكت أيمانكم).

فالإسلام ليس يتهم أحداً زوراً وبهتاناً، الإسلام أسمى وأعلى من كل هذه الترهات، ولكن الكافرين هم الظالمون والمعتدون، كما قال القائل: (رمتني بدائها وانسلت)، فهم أهل هذا العيب والنقص؛ الذين استرقوا الشعوب والأمم، وأكلوا خيراتهم وحرموهم حقوقهم، فهذا هو الذي يثلب ويعاب. أما الإسلام الذي عظم الحقوق وبين الواجبات، فهو أعلى مما يوصف به ظلماً وزوراً وبهتاناً.

قال المصنف رحمه الله: [وعليه]:

الضمير هنا عائدٌ على السيد، والتعبير بقوله: (وعليه) يدل على اللزوم، أي: يجب على السيد تجاه عبيده وإمائه النفقة، وقد تقدم تعريفها وبينا هذا الطعام والكسوة والسكنى، والأصل في ذلك: ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس، ولا يحمله ما لا يطيق؛ فإن حملتموهم ما لا يطيقون فأعينوهم).

في هذا الحديث الشريف دليل على وجوب إطعام السيد لعبده وأمته. ولذلك جاء في الحديث الآخر: (للملوك نفقته وكسوته بالمعروف)، فلما قال رحمه الله: (وعليه نفقته)، أي: على السيد نفقة عبده، ويشمل ذلك الطعام لقوله عليه الصلاة والسلام: (فليطعمه مما يطعم)، والكسوة لقوله: (وليلبسه مما يلبس)، وكذلك يجب عليه أن يسكنه. وهذا كله بإجماع العلماء رحمهم الله لثبوت النصوص فيها.

أما الطعام: فإن كان السيد غنياً فإنه لا يجب عليه أن يطعمه طعام الأغنياء، ومن هنا: اختلفت النفقة في الزوجية عن النفقة في ملك اليمين، إنما يطعمه الطعام الذي يقوم به عوده ويصلح به حاله، وأما إذا كان السيد معسراً فإنه يطعم طعام المعسرين.

وأما بالنسبة لنوعية الطعام، فلحديث الشافعي في مسنده: (بالمعروف)، يدل على أن هذا يرجع إلى العرف، فالعبيد والموالي لما كانوا في أيام المسلمين كانوا يطعموهم بالعرف، فموالي الغني يُطعمون طعام موالي الأغنياء، والفقراء كذلك يطعمون طعام الموالي الفقراء والضعفاء، على حسب العرف الذي فيه السيد والمولى.

وأما اللباس: فهو يختلف بحسب اختلاف المولى: فإذا كان العبد أو الأمة بحال فإنه يلبس ما يليق بحاله، فإذا كان عنده مهنة وعمل لبس لباس المهنة والعمل، ولذلك فرق العلماء والأئمة بين لباس الأمة التي يطؤها سيدها لأنه لباس زينة وجمال، وبين الأمة التي تخدم في البيت وتطبخ على أنه لباس بذلة تحتاج معه إلى شيء يساعدها على ما هي فيه من المهنة والعمل، فاللباس يختلف بحسب اختلاف الرقيق والمولى ذكراً كان أو أنثى.

ثم قوله: (عليه) عام يشمل إذا كان الرقيق يعمل أو لا يعمل، وذلك لأن النفقة على الرقيق لا يشترط فيها أنه يخدم سيده حتى ولو كان المولى عاجزاً صغيراً أو كبيراً، فإن الإسلام يلزم سيده بالنفقة عليه، وكذلك لو كان به عاهة أو مرض يمنعه من التكسب والقيام على نفسه، فإن سيده ملزم بأن يقوم عليه وينفق عليه بالمعروف، وفي هذا دليل على رحمةِ الله بعبيده وخلقه، حيث إنه سبحانه راعى أحوال هؤلاء وأمرهم أن يطيعوا لمواليهم ويحسنوا لهم؛ حتى وعد المولى الذي يقوم على خدمة سيده الجنة إذا مات وسيده عنه راضٍ، يعني: أدى حق سيده على أتم الوجوه وأكملها.

فبين المصنف رحمه الله: أنه يجب على السيد أن ينفق بالطعام والكسوة والسكنى على الرقيق.

قال رحمه الله: [وأن لا يكلفه مشاق كثيراً].

الكلفة دائماً تكون في الشيء الذي يحتاج إلى عناء وتعب ونصب، فلا يجوز للسيد أن يحمل الرقيق ذكراً كان أو أنثى ما لا يتحمل، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تكلفوهم ما لا يطيقون)، فنهى عن تكليفهم بما لا يطيقون، لما فيه من الظلم والأذية لهم والإضرار بهم.

وبين بعض العلماء رحمهم الله: أنه يدخل في هذا أن يطالبه بعمل يرهق بدنه حتى يصاب بالمرض بعد فترة، أو يطالبه بعمل فيه إرهاق على مر الأيام، مثلاً: في اليوم الأول يطيقه المولى، ثم في اليوم الثاني يطيقه، ثم في اليوم الثالث يعجز عنه، فالعبرة بمشقة العمل وعنائه، كأن يقول له: احمل هذا الشيء الثقيل.

ومن تحميله ما لا يطيق: أن يطالبه بالعمل ويعطيه ساعات يسيرة للراحة، فهذا يشق على المولى ويضر به، والواجب عليه أن يتقي الله في مولاه، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحميلهم ما لا يطيقون.

المخارجة بين السيد وعبيده

قال رحمه الله: [ وإن اتفقا على المخارجة جاز ].

إن اتفق السيد مع مولاه على المخارجة، وهي: مفاعلة من الخرج والخراج، وهو النسبة التي يحددها السيد لمولاه أن يأتي بها في اليوم أو الشهر، يقول له: اذهب وتكسب، وكل يوم أحضر عشرة دراهم، أو في كل يوم ديناراً، أو يقول له: كل شهر تدفع ثلاثة دراهم. فهذا يسمى الخراج، إن اتفق السيد مع عبده على المخارجة، ويكون عند المولى مهنة كالنجارة والحدادة، فيقول له: اذهب وتكسب واشتغل ثم أعطني كل شهر ثلاثة دنانير، أو يقول: أعطني كل يوم درهماً. فهذا خراج.

والأصل في ذلك: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه حجمه أبو طيبة رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبو طيبة مولى من الموالي، فلما حجمه رضي الله عنه أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم أجرته وأمر مواليه أن يخففوا عنه في خراجه، فدل على أن الخراج بشروط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم أن يخففوا؛ فلم يحرم عليهم التكسب من طريق المولى والرقيق.

وكذلك إذا كانت أمةً تخدم في البيوت وتعطي خراجها، يقدر لها خراجاً، ويجب على السيد أن يتقي الله عز وجل في الرقيق، وأن لا يحمله خراجاً فوق طاقته، أو يحمله الخراج وهو صغير، انظروا كيف يصيحون في حقوق الأطفال من العمل، هذا هو ما نادى به الإسلام قبل ألف وأربعمائة سنة، وكان أئمة الإسلام يقولون: لا يحمل أطفال الموالي.. لا يطالب بالكسب حتى يبلغ أشده ويقوى على التكسب.

ومن هنا قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم، كما هو مأثور عن عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين والخليفة الراشد، قال: (لا تأمروا الصبي بالكسب فيسرق) لأنه إذا لم يجد الكسب يضطر إلى السرقة فعقله ناقص قاصر؛ إذ ليس عنده عقل يمنعه، فإذا حمله سيده وهو صغير ولم يجد الكسب اضطر إلى السرقة أعاذنا الله وإياكم.

ثم قال: (ولا تحملوا الأمة ما لا تطيق فتزني)، وفي رواية: (فتكسب بفرجها) والعياذ بالله، انظروا عظمة أئمة هذا الإسلام رحمهم الله برحمته الواسعة، كل هذا الخير مستقى من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.. هنا النزاهة في بيان الحقوق وتصوير الواجبات؛ فلا يطالب الصبي بالخراج، ولا تطالب به المرأة إذا لم يكن لها مكان تعمل فيه وخُشي عليها أن تعمل في الحرام.

والأصل في الخراج -كما ذكرنا- السنة، وكذلك إجماع الصحابة؛ فإن عمر رضي الله عنه في قصة أبي لؤلؤة المجوسي -لعنه الله- لما اشتكى إلى عمر اشتكى من مولاه المغيرة -كما في الأثر الصحيح- أنه يطالبه بخراج كثير، فلما عرض ذلك على عمر ، دل على أنه كان معروفاً بين الصحابة رضوان الله عليهم المخارجة، فبين المصنف رحمه الله: أن يجوز أن يضرب السيد على مولاه خراجاً ذكراً كان أو أنثى على أن يعطي أجرةً يومية أو شهرية.

إذا قال له: تكسب وأعطني ثلاثة دراهم؛ فما زاد ملكٌ للعبد ينتفع به ويرتفق، وهذا بين السيد وعبده، لا يدخل في هذا مثلاً العامل مع كفيله؛ لأنه ليس ملكاً له، فلينتبه لهذا؛ لأن السببية في الاستحقاق من الشرع، وأما ما عداه فإنه باق على أصل الحرية.. لا يملك عرض المسلم وتعبه وكده إلا باستحقاق شرعي.

إذا ثبت هذا؛ فإنه يضرب له الخراج إن اتفقا، ونفهم من هذا أنه ليس من حق السيد أن يجبر مولاه على التكسب، فلو قال له: يجب عليك أن تحضر كل يوم درهماً لا يكون إلا باتفاق الطرفين، وهذا اختيار بعض العلماء رحمهم الله.

حق العبد في الراحة والنوم والصلاة

قال رحمه الله: [ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة].

للرقيق حقوق ينبغي أن يتقي المولى الله فيها، فلا يجوز أن يضيق عليه في هذه الأمور التي جعلها الله من الفطرة، وسجية الإنسان أنه يحتاج إليها، فلا يضيق عليه في نومه وراحته، ولا يحمله ما لا يطيق، ولا يرهقه في وقت نومه وقيلولته، بل يمكنه من النوم في ساعات النوم، ومن القيلولة في ساعة القيلولة.

وهذا يدل على أنه لا يجوز للسيد أن يؤذي مولاه أو رقيقه في وقت راحته أو يزعجه ويحمله ما لا يطيق، فما بالك إذا كان عاملاً بأجرة متفق عليها أو أجرة على العمل في وقت معين؛ فيأتي ويرهقه ويستغل ضعفه ويطالبه بالعمل في وقت راحته، هذا من الظلم والأذية والإضرار، ولا يجوز للمسلم أن يؤذي أخاه المسلم.

وكما أنه لا يجوز له أن يضايقه بالحس، بأن يطالبه بالعمل أثناء نومه أو أثناء راحته، لا يجوز كذلك أن يؤذيه بالمعنى، والأذية بالمعنى هي السب والشتم، فلا يشمته ولا يسبه ولا يؤذيه بالإهانة؛ لأن للمسلم حقاً في عرضه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد)، فجعل خطبة حجة الوداع التي كان الناس أحوج ما يكونون فيها إلى تبيين الأمور العظيمة، جعل فيها بيان حق عرض المسلم، وقرن العرض بالدم، فكما أنه لا يجوز لك أن تقتل المسلم فكذلك لا يجوز لك أن تستبيح عرضه، ولا يظن أحد أن عرض المسلم رخيص، أو أن الكلام في الناس أمرٌ هيّن؛ ولذلك قال الله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].

ومن هنا: فإذا كان السيد مع عبده لا يستطيع أن يطيل لسانه عليه، فما بالك بالمسلم مع أخيه المسلم، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الترمذي : (أن رجلاً اشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إن لي موالي آمرهم فيعصونني؛ فأسبهم وأشتمهم وأضربهم، فما تأمرني يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إذا كان يوم القيامة نُظِر في أمرك وعصيانهم لك، وسبك وشتمك وضربك لهم ثم يقتص، فتولى الرجل يبكي، وقال: أشهدك أنهم أحرارٌ لله)؛ لأنه يخاف من الله عز وجل.

وفي حديث أبي مسعود أنه غضب على عبدٍ من عبيده، فأخذ السوط وضربه، قال: (فسمعت صوتاً من ورائي يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك عليه)، أي: لا تحسب أن كونه مولى وأنه ضعيف أن الله سبحانه وتعالى سيفلتك من عقوبته إن اعتديت عليه وأضررت به، قال: (فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أشهدك أنه حرٌ لوجه الله)، فأمر الرقيق ليس هملاً في الإسلام، لا يستبيح الناس الأرقاء بما شاءوا أبداً، إنما بقيود.

فإذا كان هذا حال السيد مع رقيقه فكيف بالعامل الذي يكون غريباً عن أهله ووطنه وولده وهو يتكسب الرزق الحلال؟ وهذا من أشرف وأعظم ما يكون للعبد، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام: (إن نبي الله موسى آجر نفسه لطعمة بطنه وعفة فرجه)، فجعل هذا شرفاً لنبي من أنبياء الله أن جعل نفسه أجيراً من أجل طعمة البطن وعفة الفرج.

فالعامل إذا تغرب عن أهله وولده هو أحوج ما يكون إلى من يرحمه ويحسن إليه، ويتصور الإنسان حينما يسافر عن أولاده اليوم واليومين في نفس بلده ومكانه، كيف يجد من الألم والشجى والحزن، فما بالك بأخيك المسلم إذا كان غريباً عن أهله وماله وولده ويعاني الأمرين من تشوش فكري من أمور قد تكون نازلة به؛ فهو أحوج ما يكون إلى الرفق والرحمة.

الرقيق ملك للإنسان ملكه الله إياه، ولكن عند خطئه إذا ضربه وآذاه وأهانه اقتص منه، فما بالك بالمسلم إذا كان غريباً لأمرٍ يريد به عفة نفسه وأهله وولده وطُعمة بطنه؟ فالأمر آكد والحق ألزم؛ ولذلك كتب على المسلمين أن يتقوا الله، وأن يتقي الله بعضهم في بعض، وأن يخافوا الله عز وجل من حقوق إخوانهم؛ لأن أعظم ما يضر بالإنسان يوم القيامة بعد الكفر بالله عز وجل الحقوق والمظالم، وأخبر صلى الله عليه وسلم: أن عقول الناس تطيش وتصاب بالرعب الشديد مما ترى في صفحات الأعمال من الحقوق التي بين الناس.

فالواجب على السيد أن يتقي الله في المولى، وأن يشعر أن كونه رقيقاً ليس معناه أنه يسبه ويشتمه دون أن يحاسبه الله عز وجل على سبه وشتمه ومخاصمتهما.

قال رحمه الله: [ ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة ].

القائلة تكون قبل الظهر، وهي القائلة المحمودة، وغالباً ما تعين على قيام الليل، وقد تستمر بعد الظهر فيستجم بها الجسم، فكانوا يريحون أنفسهم غالباً بعد الظهر إذا كانوا من أصحاب الأعمال؛ لأن وقت الظهر يشتد فيه وهج الشمس فيخلد الناس إلى الراحة، ولا يستطيع العامل أن يعمل في هذا الوقت، إذاً: يريحه وقت القائلة، ويمكنه من وقت القيلولة التي تكون في النهار ووقت النوم الذي يكون في الليل، وهكذا لو أنه سافر معه، فاحتاج أن ينام نهاراً كأن يكون سرى بالليل، فعليه أن يمكنه من النوم نهاراً.

وكذلك أيضاً يريحه وقت الصلاة، وهذا يدل على أن للعامل حقاً في أن يُمكن من الراحة وقت الصلاة؛ لأنه حقٌ لله عز وجل، وحق الله مقدمٌ على حق خلقه، فهو مالك المملوك وما ملك، فهو سبحانه المالك لخلقه، وملكية السيد لعبده نسبية، ولكن ملكية الله سبحانه وتعالى للخلق ملكية مطلقة، وبناءً على ذلك: لا يجوز أن يضيق عليه في وقت صلاته أو يطالبه بالعمل في وقت الصلاة، بل يعطى وقتاً للوضوء ووقتاً للصلاة، وإذا أعطي وقت الصلاة فعلى المملوك أن لا يشتغل عن ذلك، وكذلك العامل في عمله والموظف في وظيفته إذا جاء يصلي، فعليه أن يحدد قدر وقت الحاجة ويذهب ويتوضأ مباشرة، ثم يؤدي صلاته ويرجع إلى عمله مباشرة.

وأما أن يستغل وقت الصلاة من أجل أن يجلس ويعقد ندوة أو كلمة من أجل مصالح للمسلمين، فلا يمكن للإنسان أن يشتغل بالنوافل على حساب الحقوق الواجبة، وأما جلوسه مع إخوانه وزملائه في العمل، فهذا له وقت آخر غير أوقات الوظيفة وأوقات الحقوق الواجبة التي ترتبط بها مصالح المسلمين، والله عز وجل لا يطاع من حيث يعصى.

وينبغي للمسلم أن يعلم أن وقت الوظيفة أمانة في عنقه، خاصة إذا كان هناك ارتباط بمصالح المسلمين العامة، وليعلم أن الثانية في مصالح المسلمين أجرها عظيم؛ فضلاً عن الدقيقة فضلاً عن الساعة، فكما أنه يحب الله ويطيع الله في سجوده وركوعه فليعلم أنه متقربٌ لله سبحانه وتعالى في كل مصلحة من مصالح المسلمين، ولربما تكون الدقيقة اليسيرة وهو في مصلحة الطب والعلاج أو قضاء حوائج المسلمين العامة تعدل ساعات من العبادة؛ لأن ساعات العبادة نفعها قاصر، وأما ساعات الوظيفة فقد يكون نفعها متعدياً، وقد يأتي الشخص الغريب المسافر والمكروب فيوسع عليه ويفرج كربته، فالمولى والرقيق لا يشتغل وقت الصلاة من أجل أن يتوسع في النوافل إنما يقيد وقت الصلاة، وينظر إلى قدر الحاجة والزائد على ذلك المستحق للعمل؛ لأن ساعات الوظيفة وساعات العمل إجارة بالزمان.

والقاعدة في إجارات الزمان: أن وقتها يستغل بكامله في العمل؛ لأنه اتفاق بين الطرفين على استنفاذه في العمل إلا إذا استثني شيء شرعاً. فيخرج إلى الصلاة ويؤدي حق الله عز وجل ثم يرجع مباشرة، وإذا أمكنه أن يصلي في مكان قريب وبعيد فإنه يقدم المكان القريب على البعيد، ولو كان هناك فضائل في البعيد كالصلاة في داخل الحرم بمائة ألف صلاة وفي مكان آخر الصلاة فيه لا تضاعف فإنه ينظر إلى أقرب مكان؛ لأن ما أبيح للضرورة والحاجة يقدر بقدرها، ويكتب له أجر الصلاة في المكان المضاعف بالنية؛ لأنه حبسه العذر، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن المعذور يكتب له أجره كاملاً تاماً.

فيريح السيد مولاه ساعة صلاته وساعة نومه وقيلولته، ومن باب أولى إذا كان المولى مريضاً، فلما قال: يريحه وقت القيلولة ولصلاته ونومه؛ فكذلك يريحه عند مرضه وسقمه، فإذا مرض العبد فإنه يعطى الراحة، وهكذا العامل، والعامل إذا كان مريضاً ومرضه لا يمكنه من العمل فله أن يترخص، وأما إذا أمكنه أن يقوم بالعمل مع المرض دون حرج، فإن الله يأجره على ذلك، فالأصل يقتضي أنه لا يحمله ما لا يطيق، فإن المريض لا يطيق أن يعمل أثناء مرضه.

حمل الرقيق على الدابة في السفر

قال رحمه الله: [ويركبه في السفر عقبة ].

بمعنى أنه إذا سافر فقد جرت العادة أن الرقيق يقوم على دابة السيد، فقد يقود به البعير، فإذا قاد به البعير فعلى السيد أن ينزل من أجل أن يركب الرقيق، فمن يقول هذا؟! من الذي يحفظ الحقوق على أجمل صورة وأكملها؟

حتى إن عمر رضي الله عنه وأرضاه نزل لمولاه، كما في السير حينما سافر إلى الشام، فإنه أركب مولاه عقبه، وأخذ بخطام البعير رضي الله عنه وأرضاه وهو ثالث رجل في الإسلام، وما منعه علو مكانه وشرفه، بل ازداد والله شرفاً وكمالاً رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه تربى في مدرسة النبوة التي هي أنوار التنزيل من الله سبحانه وتعالى الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين.

فالمولى يعطى حقه حتى في الطعام، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما في الحديث الصحيح: (إذا كفى أحدكم خادمه طعامه حره ودخانه) يعني: إذا كفاك العبد مئونة تهيئة الطعام فجلس ينفخ على الحطب والنار ويؤذى بدخانه حتى أنضج لك الطعام (فليجلسه معه وليطعمه مما يطعم، فإن لم يفعل فليروغ له لقيمات وليعطها له)، أين يكون هذا؟!

من الذي يتكلم بالحقوق بكل نزاهة ونقاء وصفاء ووضوح وجلاء غير هذا النبي الكريم الذي علمه ربه وأدبه صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين؟

فالمقصود أن الرقيق إذا قام بالعمل أعطي شيئاً من الراحة، فيجلسه يأكل معه، وإذا كان الأمر فيه صعوبة أو أن الطعام لا يسع اثنين، فليروغ له لقيمات، يعني: يأخذ الخبز ويضعه في الإدام ثم يعطيها لذلك الرقيق شكراً للمعروف وذكراً للإحسان، وهل قامت أمور المسلمين إلا على حفظ حق أهل الحقوق؟

حتى الرقيق حفظ حقه مع أنه مملوك ويخدم فيشعره أن له فضلاً، وأن له حسنة ومعروفاً؛ لأن هذا تشريع العليم الحكيم سبحانه وتعالى؛ الذي يعدل بين خلقه ويفصل بين عباده، فلا أتم منه حكماً جل جلاله وتقدست أسماؤه، فإذا قام على الطعام أطعمه من الطعام وواساه وأحسن إليه، وإذا كان معه في السفر وقام على دابته وتعب وهو يقود به دابته أركبه مكانه.

وهذا أيضاً يشعر السيد بما قام به العبد؛ ولذلك لا تستقيم أمور الإسلام، ولا يستقيم أمر مسلم إلا إذا عرف لكل ذي فضلٍ فضله، ولا تجد أحداً ينال السؤدد والعظمة والكمال والشرف إلا إذا كان يحفظ حق الصغير قبل الكبير، وتجده يتلمس مواضع إحسان الغير إليه، فإذا جلس مع الناس ولو كان هو المحسن، ولو كان هو الذي يكرمهم ويعطيهم فأول ما يفكر أن يفكر في الذي قدمه له الناس قبل أن يفكر ما الذي قدمه للناس، وهذا شأن أهل الكمالات والعلو، الرجل يدخل إلى بيته فإذا جاءت زوجته ووضعت الطعام بين يديه شكر لها صنعها، وولده يأتي ويقدم له حذاءه فيدعو له دعوةً صالحة، ويقول له: بارك الله فيك.

وإذا كان مُعلِّماً وأحسن إليه تلميذهُ أو قام على شأنه، أو إمام مسجد أو رجلاً مسناً وجد من يخدمه؛ رمى له بالكلمة الطيبة وجعله بخير، وشعر بفضل أهل الفضل.

والعكس أيضاً: فإنه إذا قابل المعروف بالإحسان قابله محسن بإحسان أعظم مما أحسن إليه، فألفت الناس على الخير والإحسان.

وأما إذا كان الشخص لا يعرف فضل أهل الفضل -والعياذ بالله- لا في الدين ولا في الدنيا، يتعلم من أئمة وعلماء السلف، ثم لا يلبث أن يؤلف الكتب في نقدهم وتتبع عثراتهم وكشف عوارهم، أو يتعلم عند المعلم فيجلس ليجمع سقطاته، أو ينتفع بمحاضرة الداعية في صلاحه واستقامته ثم لا يلبث أن يكشف عوار محاضرته، وهكذا حتى يظلم قلبه ويطمس عليه؛ لأن الله لا يرضى بكفران النعم، والكفر أساس الشر، وكُفر النعم يكون برد المعروف بالإساءة؛ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60].

فالإسلام لا تقوم أموره إلا على حفظ المعروف، فانظر إلى الرقيق عندما يحفظ سيده له هذا المعروف؛ ولذلك قال الإمام الشافعي : (إن الحر من حفظ وداد لحظة وتعليم لفظة)، فلا يمكن أن تستقيم أمور الإسلام والمسلمين إلا بهذا؛ أن تكون عالي النفس عالي الهمة، تشعر أن للناس عليك فضلاً قبل أن تشعر بفضلك على الناس، فإذا نظر الإنسان بهذه النظرة بارك الله أمره ووضع بين الناس محبته والقبول.

ولذلك تجد الإنسان الذي يعيش بين الضعفاء يتلمس إحسانهم إليه ويقابله بالإحسان؛ تجده في أحسن المراتب وأفضلها وأكرمها وأعزها؛ فالناس تلهج بذكره الجميل، وتعطر له الثناء الطيب، وإذا مات صار حياً بين الناس بذكره الطيب وبحسناته ومآثره، كما كان ذلك لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان لهم فيه قصب السبق، فكان أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه إذا مشى معه عبيده لا تستطيع أن تفرق بين ثوبه وثيابهم، حتى إنه قد لا يعرف من بينهم مما كان منه رضي الله عنه، حفظاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وصى بها في الرقيق.

والعكس: فإذا وجدت الشخص لا يحفظ هذا المعروف، فتجد الزوج لا يتلمس حسنات زوجه التي كفته ولده، ويقابل ذلك بالنقد والتنقد للأمور والكشف للعوار والعيب.. وجدت القلوب تظلم عنه، والمرأة تنفر منه، ومن هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله)، وهذا مفهومه أن شر الناس شرهم على أهله، وكذلك أيضاً العامل إذا كان عند من يكفله يتفقد حسناته ويقول له: جزاك الله خيراً، ويرد له بالكلمة الحسنة، وإذا جاء يعطيه أجرته قال له: جزاك الله خيراً، قمت بخير كثير، فشكر له معروفه وإحسانه، فيخرج من عنده وهو يذكره بكل خير، وكم تجد الآن من الناس ممن يجلس معك يقول: كنت أعمل مع فلان جزاه الله كل خير، وعملت مع فلان فصنع لي وفعل، وهكذا إذا فعل الإنسان الإحسان حفظ الله له إحسانه.

فالمطلوب من السيد أو الولي أن يحسن إلى مولاه، وأن يتفقد حاجته؛ وكما أنه يحسن إليه يحسن إليه فيتفقد حوائجه ويركبه في السفر عقبة.

وقد اختلف في مقدار العقبة: أثر رواية عن الإمام أحمد أنه يركبه في اليوم ستة أميال في مسير الإبل، وهذا قد يقارب سبع إلى ثمن المسافة في السفر في الوقت المعتدل ليس بشديد الحر ولا شديد البرد؛ لأن الإبل تسير ما بين (70-80) كيلو في اليوم الكامل من أول النهار إلى آخره، والعقبة إذا كانت ستة أميال فإنها تقارب الثمن؛ لأن مسيرة اليوم ثمانية وأربعين ميلاً هاشمياً وهي تقارب الستة الأميال فيما أثر عن الإمام أحمد رحمه الله وبعض العلماء يقول: لا يقدر، وهذا في الحقيقة فيه مناسبة.

والفرق بين القولين: أنك إذا قلت: ستة أميال قد تكون الستة الأميال في آخر السفر، لكن هناك قول ثان يقول: لا يقدر. بمعنى أنه يركب ثم إذا قطع مسافة نزل وأركب المولى بقدر ما يستريح، وهذا القول ربما يكون أعدل.

وكان بعض مشايخنا رحمه الله يقول هذه المسألة: الأوْلى فيها أن يترك السيد لحاله مع رقيقه ينظر إلى حاجته، والأوضاع والأسفار تختلف، والمواضع تختلف، فلا يقدر بقدر؛ لأنه ليس هناك نص بالتحديد، فيبقى الأمر على ما فيه رفق وعلى ما فيه معروف وإحسان. وهذا هو الأشبه في هذه المسألة.

قوله: (في السفر) مفهومه أنه في الحضر لا يلزمه ذلك؛ لأن المسافات فيه لا تصل إلى قدر الإحراج، ولكن في السفر المشقة عظيمة.