شرح زاد المستقنع كتاب الرضاع [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيلهم ونهجهم إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فيقول المصنف-رحمه الله تعالى-: [ فمتى أرضعت امرأة طفلاً صار ولدها في النكاح، والنظر، والخلوة، والمحرمية]

شرع المصنف-رحمه الله- بهذه الجملة في بيان الأحكام المترتبة على الرضاع، وهذا ما يسميه العلماء بآثار الرضاع، فبعد أن بين-رحمه الله- حقيقة الرضاع، ومتى يكون رضاعاً مؤثراً، وماذا ينبغي حتى يحكم بتأثيره، شرع في بيان الآثار المترتبة على الرضاع، وهذا من ترتيب الأفكار، وتسلسلها، لأن الآثار يتكلم عليها بعد إثبات الشيء.

فبين-رحمه الله- أنه متى أرضعت امرأة طفلاً، أي: وقعت الرضاعة الشرعية على الصفة المعتبرة، فكانت في الحولين، وكانت خمس رضعات معلومات مشبعات، فإنه يصير ولداً لها في النكاح.

تحريم النكاح

وهناك أحكام تتعلق بالرضاع؛ منها ما يتعلق بالنكاح، ومنها ما يتعلق بالمحرمية، ففي النكاح لا يجوز له أن ينكحها؛ لأنها أمه من الرضاع، والله تعالى ذكر في المحرمات الأم من الرضاع فقال سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23].

فإذا أرضعت امرأة طفلاً صار ولداً لها، وحينئذ لا يجوز للولد أن ينكح والدته، والله تعالى جعل الرضيع فرعا عمن أرضعه فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23] فمعنى ذلك أن الرضيع ولد للمرضعة.

جواز النظر

قال رحمه الله: (صار ولدها في النكاح والنظر)

أي: فيجوز له أن ينظر إليها كما ينظر المحرم لمحرمه، فليست بأجنبية عنه، وهذا الفرع الثاني، فالأول يتعلق بالنكاح، والثاني يتعلق بالنظر، فيجوز له أن ينظر إليها.

جواز الخلوة

قوله: (والخلوة)

فيجوز له أن يختلي بها لأنها من محارمه، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما).

فبين عليه الصلاة والسلام أنه لا يجوز لأي رجل أن يخلو بامرأة أجنبية لا تحل له، وأنه إذا فعل ذلك كان الشيطان ثالثهما،وهذا يدل على أنها الفتنة والبلاء العظيم والشر المستطير، فإنه إذا كان الشيطان ثالثاً لهما؛ سول لكل منهما، وأدخل عليهما البلاء ولكن إذا حكم بالرضاع حل له أن يختلي بها، فهي أمه من الرضاع، أو أخته من الرضاع، أو عمته من الرضاع، أو خالته من الرضاع، كما يختلي بأمه من النسب، وأخته من النسب، وعمته من النسب، وخالته من النسب.

ثبوت المحرمية

قوله: (والمحرمية)

فيجوز له أن يلمسها، ويجوز له أن يصافحها، فإذا مد يده إليها ردت عليه وصافحته، لأنه لا يجوز له أن يصافح امرأة ليست من محارمه، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لا أصافح النساء)، لما قالت له هند : امدد يدك نبايعك يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام: (إني لا أصافح النساء -يعني: الأجنبيات- إنما قولي لواحدة منكن كقولي لسائركن). وقالت عائشة رضي الله عنها -كما في الحديث الصحيح-: (إن النبي صلى الله عليه وسلم ما مست يده يد امرأة قط) أي: أجنبية، فما مس امرأة أجنبية صلوات الله وسلامه عليه.

وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (لأن يطعن أحدكم في رأسه بمخيط خير له من أن يمس امرأة لا تحل له). كأن يصافحها، أو يلمسها ولو بدون شهوة، إلا إذا كان لضرورة؛ كالطبيب، أو إنسان يريد أن ينقذ امرأة من مهلكة، أو غريقة أو نحو ذلك، فاضطر إلى لمسها لأمور مستثناة بقدر الضرورة والحاجة، كما تقدم معنا في بعض المسائل المتعلقة بالرخص.

ثبوت التحريم في الرضاع كما هو في النسب

قال رحمه الله: [وولد من نسب لبنها إليه بحمل أو وطء]

من نسب لبنها إليه هو زوجها، وعليه: فإنه يصبح والداً من الرضاعة، للراضع لبن امرأته الناتج عن الوطء والحمل منه، وبنوه يكونون إخوة للمرتضع.

فلو فرضنا أنه ارتضع من خديجة، وخديجة زوج لعبد الله، وحملت منه، فأنجبت محمداً، ثم بعد إنجابه ثاب اللبن، فجاء طفل رضيع وشرب من هذا اللبن، فهو ابن لهذا الرجل، ولو أن الرضيع كان أنثى-بنتاً- فإنها تصبح محرماً لهذا الرجل، لأنه أبٌ لها من الرضاع، وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، أن أفلح أخي أبي القعيس رضي الله عنه وأرضاه، استأذن عليها، وكانت عائشة رضي الله عنها قد رضعت من امرأة أبي القعيس ، فاستأذن أخوه أفلح ، فلم تأذن له عائشة ، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إنما أرضعتني امرأته -ما أرضعني أبو القعيس - فقال عليه الصلاة والسلام: (ائذني له تربت يداك! إنه عمك من الرضاعة). وهذا ما يسميه العلماء بلبن الفحل، أي: أن الرجل له تأثير في الرضاع، كما أن للمرأة تأثيراً، وهذا راجع إلى أن أصل المسألة هو: أن اللبن يثوب من ماء الرجل، ومن ماء المرأة. فكما أنه في النسب يكون هناك اشتراك بين الرجل وبين المرأة، فكذلك أيضاً في الرضاع، يكون هناك اشتراك بين الرجل وبين المرأة. فالرجل أب، والمرأة أم من الرضاعة. ويسري ذلك إلى الأقرباء، ولذلك قال خطيب بني هوازن للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن اللاتي في الحضار ما هن إلا عماتك وخالاتك من الرضاعة، فأثبت لبن الفحل، وأسراه كسريان النسب، وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، ولأنه لو أخذ بالنسب لكان الرجل الذي وطئ أباً، والابن ابنه، والفروع التي شاركت هذا الأب في أصليه -كالأعمام والعمات- محارم، كذلك أيضاً في الرضاع محارم، فجميع من ينجبه هذا الرجل الذي ارتضع الرضيع لبنه يعتبر أخاً لهذا الرضيع.

ثم ننظر؛ إن كان هذا الذي أنجبه أنجبه من نفس المرأة التي ارتضع منها الرضيع؛ فهو أخ شقيق، وإن كان هذا الرجل له زوجة ثانية، فأنجبت أولاداً فهم أخوة من الرضاع لأب، ولو أن هذه المرأة تزوجت رجلاً قبل أو بعد الرضاعة،وأنجبت قبل أو بعد الرضاعة، فهم إخوة من الرضاع لأم.

فجرى في الرضاع ما يجري في النسب؛ فهناك أخ من الرضاع شقيق، وهناك أخ من الرضاع لأب، وهناك أخ من الرضاع لأم، والحكم كما هو سارٍ في حق المرأة، فهو سارٍ في حق الرجل، لأن تأثير اللبن مشترك بين الرجل وبين المرأة.

من يستثنى من ثبوت أحكام الرضاع من الأقارب

قال رحمه الله: [ومحارمه محارمها، ومحارمها محارمه، دون أبويه وأصولهما، وفروعهما]:

(ومحارمه محارمها) يعني: محارم المرأة، فهذا الرضيع إذا ارتضع من المرأة، صار جميع ما تنجبه المرأة، وجميع المحارم المتعلقين بالمرأة في الأصل، يعتبرون قرابة له كالنسب.

مثلاً: إذا كان لها بنات فهن أخوات للمرتضع، وإذا كان لها ذكور فهم إخوة له. والعكس؛ لو كان الرضيع أنثى، فإنه في هذه الحالة يعتبر الذكور إخوة ويكونون محارم لها، وكذلك أيضاً بالنسبة للإناث في حق الذكور، فالحكم جارٍ في الرضاع كما هو جارٍ في النسب، وبنى العلماء ذلك على قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).

(ومحارمها محارمه): أي: أن المرأة أصولها أصول لهذا الرضيع، لأن أصول الأمهات أصول للفروع، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وبيناها في موانع النكاح، وبينا أن الأصول إذا تعلق بها محارم، مثلما ذكرنا وقلنا: إن الرجل تحرم عليه أصول والديه مباشرة، وعمة أبيه وعمة أمه، فعمة الأب عمة لأولاده، وعمة الأم عمة لأولادها، وخالة الأب خالة لأولاده، وخالة الأم خالة لأولادها.

فلا يختص الحكم بنفس الأم، ولا يختص بنفس الأب، فالأصول يجري عليها التحريم كما يجري على الفروع، والفروع يجري عليها التحريم كما يجري على أصولها، ومثل ما ذكرنا في النسب نذكر أيضاً هنا في الرضاع. لماذا؟ لأنه لما ارتضع صار فرعاً لهذه المرأة، وسرت عليه أحكامها، وكذلك الأب -لو كان الذي ارتضع ذكراً- جميع محارمه يعتبرون محارم لابنه من الرضاع كما أنهم محارم لابنه من النسب، فالأب بناته محارم، وأخواته محارم، لهذا الرضيع من حيث الأصل.

لكن هذه القاعدة -كما مر في الأصول- قد يستثنى منها، مثلاً: الربيبة محرم للأب، لكنها ليست محرماً للابن، وكذلك هي في الرضاع.

وبنت أخت الشخص أو بنت أخيه محرم له، وليست محرماً لابنه، وبناءً على ذلك -من حيث الأصل- فإنه يحكم بأن الرضاع يأخذ حكم النسب، وقصد المصنف من هذا أن يبين أن التحريم في الرضاع يجري فيه ما يجري من التحريم في النسب.

قوله: (دون أبويه):

يعني بالنسبة لهذا الرضيع، فأبواه أجنبيان عن مرضعة ولدهما، وكذا أصول المرضع وزوجها وفروعهما، ولذلك الرضاع يختص بالرضيع نفسه، فإخوانه،وأخواته، وأبوه، وأمه -أصوله-؛ هؤلاء كلهم لا يجري عليهم الحكم، أما فروعه فإنهم يأخذون حكم أصلهم نسباً ورضاعاً، لأنه اغتذى بهذا اللبن، ويسري الحكم إلى فرعه كما سرى إليه هو، لكن بالنسبة لأصليه: الأب، والأم، فإنه لا يجري عليهما الحكم، فهم أجانب كما قدمنا.

فلو فرضنا أن محمداً ارتضع من خديجة فهو ولد لها، لكن أباه ليس بمحرم لها، وأبوه من الرضاعة ليس بمحرم لأمه من النسب، فهذا يختص به الرضيع دون أصليه.

قوله: (وأصولهما، وفروعهما)

أي: أصول وفروع أبويه كالجدة، والجد، فهم أجانب بالنسبة للمرضعة وذويها.

فلو أن شخصاً جاء يريد أن يرتضع، فهو في الأصل أجنبي، وحينما جاء إلى الرضاع فهو أجنبي، ثم جاء وارتضع، فتعلق التحريم به، وبما يتفرع من هذا الجسم الذي اغتذى باللبن، وأصوله وحواشيه أجانب، فالأصل فيهم أنهم أجانب لا تتعلق بهم محرمية، فلذلك اختص التحريم به وفروعه هو فلا يُنظر إلى أصله، ولا إلى فروع أصله وحواشي الأصل، مثل:أخواته، وإخوانه،وأعمامه، وعماته، فيجوز لأخيه من الرضاع أن ينكح أخته من النسب، لأنه ليست هناك محرمية بينه وبينها، وليس هناك أمر يوجب تحريم نكاحها عليه.

قال رحمه الله: [فتباح المرضعة لأبي المرتضع]:

لو أن أباه من الرضاعة توفي عن هذه الزوجة، وأراد أبوه من النسب أن يتزوجها فإنه يحل له أن يتزوجها، ولا بأس بذلك لأنها أجنبية عنه، فالتحريم اختص بالذي ارتضع، أما أبوه فلم يرتضع، والمرأة المرضعة ليس بينها وبين أبي المرتضع أية علاقة محرمية، ويحل أيضاً حتى لأخي المرتضع أن يتزوج أمه من الرضاعة، لأنه أجنبي عنها، وهي أجنبية عنه، ومراد المصنف: أن يبين بهذا أن التحريم يختص بالمرتضع دون أصوله وحواشيه.

وتستطيع أن تفهم مسائل التحريم إذا نظرت إلى أن الأصل أن هؤلاء أجانب، وأن الرضيع أدخل على نفسه سبباً موجباً للتحريم، فإذا أدخل على نفسه سبباً موجباً للتحريم بقي ما عداه على الأصل، ثم تنظر إلى ما تفرع من هذا الرجل، لأن الذي تفرع منه آخذ حكم الأصل -حكمه هو- ولذلك اختص التحريم بالمرتضع -ذكراً كان أو أنثى- ولا يسري لأصله، لا للوالد، ولا للوالدة، ولا لأصول الأصول، ولا لفروع الأصول، لأنهم كلهم أجانب لا يتعلق بهم تحريم.

قال رحمه الله: [وأخيه من النسب]

كذلك أخوه من النسب، لو أراد أن يتزوج أخت المرتضع من الرضاعة حل له ذلك؛ لأنه ليس بينهما علاقة محرمية.

مثلاً: محمد ارتضع، وأخوه خالد يريد أن يتزوج أخت المرتضع من الرضاعة، قلنا: يحل له ذلك، لأنه أجنبي، وليس بينه وبينها أي موجب للتحريم.

قال رحمه الله: [وأمه، وأخته من النسب لأبيه وأخيه]:

أي: من الرضاع، فهذا جائز، والعكس كذلك، فأبوه من النسب يحل له أن ينكح أمه من الرضاع، والعكس جائز؛ فلأبيه من الرضاعة أن ينكح أمه من النسب؛ لأنها من حيث الأصل أجنبية، كذلك لو أراد أبوه من الرضاعة أن ينكح أخت المرتضع من النسب، فلا بأس، لأنها أجنبية، وليس هناك موجب للتحريم.

حكم نكاح من أرضعتها من تحرم ابنتها

قال رحمه الله: [ومن حرمت عليه بنتها، فأرضعت طفلة، حرمتها عليه، وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجة]

(ومن حرمت عليه بنتها) كالزوجة، إذا تزوج الإنسان امرأة حرمت عليه ابنتها، فلو أن هذه الزوجة أرضعت طفلة، عقد عليها هذا الرجل.

مثلاً: محمد عقد على طفلة، وأراد أن ينكحها، وعنده زوجة، فغارت الزوجة من هذه الطفلة، فأرضعتها فصارت ابنته من الرضاع، لأنها بنت لهذه الزوجة، فإذا أرضعتها؛ نقلتها من الحل إلى الحرمة، وأصبحت حراماً بالرضاع، وهي ابنته، ولا يحل له أن ينكح ابنته من الرضاع.

إذن: معنى ذلك أن الزوجة أفسدت النكاح، وإذا أفسدت النكاح تتحمل الآثار والمسئولية عن هذا الإفساد، وعلى ذلك ينفسخ عقد النكاح بهذه الطفلة.

وإذا انفسخ النكاح، يبقى السؤال عن المهر؛ -إذا كان قد عقد عليها وتم العقد صحيحاً- فإذا حصل الفسخ استحقت الطفلة نصف المهر، وإذا حصل الفسخ -على اعتبار أن رضاع الكبير يحرم- بعد الدخول، فهذه مسألة ثانية، لكن نحن نتكلم الآن عن مسألة الإرضاع قبل الدخول، فإذا أرضعت الطفلة، في هذه الحالة استحقت الطفلة نصف المهر؛ لأنه فسخ قبل الدخول، فمن الذي يكون مسئولاً عن هذا؟ المرضعة التي تسببت.

متى؟ حينما تأتي وترضع الطفلة، أو تغري الطفلة، أو ترغم الطفلة بالقوة، هذه كلها أحوال. فالمؤلف ذكر الزوجة لأنها تحرم، فيكون قد ذكر موجب التحريم!

لكن لو أن امرأة أخذت هذا الحليب محلوباً في كأس، وأخذته وأرضعته الصبية بالقوة، أو أن شخصاً هدد هذه الزوجة، وأكرهها بالقوة حتى أرضعت الطفلة، فهذه مسألة ثانية، لكن نحن نتكلم عما إذا جاء الإخلال من الزوجة -المرضعة- نفسها، فحينئذ تتحمل نصف المهر، لأنه مستحق إذا حصل الفسخ قبل الدخول.

(ومن حرمت عليه بنتها، فأرضعت طفلة، حرمتها عليه)

(حرمتها عليه) إذا لم يكن عقد عليها، ولا يحل له الزواج بها، وهذا بالإجماع، لأنها ابنته من الرضاع، وبالإجماع لا يجوز أن ينكح ابنته من الرضاع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).

يفسخ عقد النكاح إذا ثبت الرضاع المحرِّم

(وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجة)

أي: إن كان قد عقد على طفلة -وهذا يجوز- مثال ذلك: لو قال شخص لآخر: زوجتك ابنتي، وهي طفلة، فقال الآخر: قبلت، وتم ذلك العقد بحضور شاهدين عدلين، كما ذكرنا في شروط صحة النكاح، صح النكاح وثبت، فتصبح زوجة له.

حكم المهر في حال فسخ النكاح بإرضاع الزوجة لضرتها

قال رحمه الله: [وكل امرأة أفسدت نكاح نفسها برضاع قبل الدخول فلا مهر لها وكذا إن كانت طفلة فدبت فرضعت من نائمة]

وهذا طبعاً يقع في صور منها:

عقد رجل على طفلة، ثم إن الطفلة مشت بنفسها، فجاءت إلى ضرتها وهي نائمة، ورضعت منها خمس رضعات مشبعات، ما الحكم؟ صارت بنتاً لها، وهذا التحريم وقع بفعل الرضيع، والرضيعة قاصرة دون البلوغ، أما من حيث الإثم وعدمه فنشترط البلوغ، لكن في الأحكام الوضعية التي هي: الأسباب، الشروط،الموانع، هذه لا يلتفت فيها إلى التكليف، بل يلتفت فيها إلى وجود الشيء بغض النظر عن كون الإنسان بالغاً أو غير بالغ.

فهذه الطفلة إذا دبت، ورضعت هذا الحليب، فقد فعلت ذلك بنفسها، وأدخلت الفساد على نفسها، لذلك لو أن هذه الطفلة حصل منها أنها جاءت- كما سيأتينا في الجنايات- وبركت على أمها وقتلتها، فهذا القتل خطأ، لكنه يعتبر قتلاً، ولا نقول: إنها قاصرة، بل تأخذ حكم قتل الخطأ، لها وعليها.

والشاهد: أن هذه الطفلة إذا دبت، وشربت اللبن، ولا يوجد إغراء من الضرة ولا أعانت على ذلك، وإنما كانت نائمة، أو تظنها بنتاً لأختها -مثلاً- فما شعرت إلا وقد التقمت ثديها، فسكتت عنها، ثم تبين أنها ضرتها الصغيرة، فما الحكم؟ يفسخ النكاح، لكن الفساد لم يأت بفعل الزوجة الكبيرة، وإنما جاء بفعل الصبية، وحينئذ لا تلزم الزوجة بدفع نصف المهر الذي يكون للصبية في حال فسخ عقدها؛ لأن الصبية هي التي تسببت في فسخ النكاح وزواله، وحينئذ لا شيء لها، لأنها أفسدت على نفسها.

وهكذا لو أن امرأة قامت بإرضاع زوجته، فإنها في هذه الحالة تصبح أماً للزوجة، وأم الزوجة محرمة بالعقد على بنتها. فالمرضعة أفسدت نكاح نفسها وفي هذه الحالة تتحمل مسئولية نفسها، ولا يكون لها استحقاق.

قال رحمه الله: [وبعد الدخول مهرها بحاله]

بالنسبة للأصل، هذه المسألة فيها خلاف، هل يسقط المهر إذا تسببت المرأة في المحرمية بالرضاع أو لا يسقط؟ بعض العلماء يقولون: إذا تسببت يسقط مهرها، إذا كان قد دخل بها، وهذا يقع في حال اعتبار رضاع الكبير، ويقع أيضاً في إرضاع الصغير، لأنها إذا أرضعت الزوجة؛ صارت أماً للزوجة من الرضاعة، وأم الزوجة من الرضاعة حرام كما بينا أن المصاهرة يسري فيها ما يسري في النسب، وأن الرضاع يسري التحريم به في النسب، وفي المصاهرة، أي: في المحرمات من النسب، والمحرمات من المصاهرة، فأم الزوجة من الرضاع محرمة، وبنت الزوجة من الرضاع محرمة، وزوجة الابن من الرضاع محرمة، وزوجة الأب من الرضاع محرمة، مثل ما يقع في النسب، وبينا هذا، وبينا أنه محل إجماع بين العلماء رحمهم الله.

وفي هذه الحالة إذا وقع التحريم على هذا الوجه، فإنه في هذه الحالة؛ اختلف العلماء؛ إذا كان قد دخل بهذه الزوجة التي تسببت في إفساد عقدها، هل المهر يسقط بناءً على أنها أفسدت العقد، وليس لها مهر؟ أم أننا نقول: إن المهر مستحق بالدخول، وقد دخل بها، واستمتع، ثم يفسخ النكاح بينهما، فهذا الإفساد وقع على النكاح، لكنه لا يوجب سقوط المهر؟ وجهان عند العلماء رحمهم الله، عند الإمام أحمد روايتان، والجماهير على أنه لا يسقط، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (ولها المهر بما استحل من فرجها). وعنه: أنه يسقط؛ لأنها تسببت في ضياع حقها، وحينئذ لا يكون لها استحقاق المطالبة، وهو في الحقيقة من القوة بمكان، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- والإمام ابن القيم هذه الرواية عن الإمام أحمد ، ويقويها سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم العلامة الإمام -رحمه الله برحمته الواسعة- ويميل إلى هذا القول ويقويه أن سقوطه أوجه من حيث القوة، ومن حيث المذهب.

قال رحمه الله: [وإن أفسده غيرها، فلها على الزوج نصف المسمى قبله]

مثل ما ذكرنا، لو أن الغير تسبب في إفساد نكاح هذه الطفلة، كما لو أنه هددها فأرضعتها بالقوة، فقد أفسد عليها النكاح، في هذه الحالة نقول: هذا الذي تسبب، وكانت السببية قوية التأثير، ومفضية إلى الرضاع، مثلما هو مقرر في السببية والمباشرة -ومسألة السببية والمباشرة ستأتينا إن شاء الله في الجنايات، لكن يهمنا هنا في مسألة الرضاع- كما لو أنه هدد الزوجة، وقال لها: أرضعي -بالقوة- هذه الصبية، فأرضعتها، فالمباشر للرضاع هي المرأة -الزوجة- والذي تسبب المهدِّد -المُكْرِه- فهل الضمان في هذه الأحوال يكون على المهدد المُكْرِه أو على المُكْرَه؟ فيقولون: هل يكون الحكم للسببية، أو يكون للمباشرة، أو يجمع الاثنان؟

في بعض الأحيان يكون الحكم مؤاخذة الطرفين؛ مثل: القتل، فلو أن شخصاً وضع السلاح على شخص، وقال: إذا لم تقتل فلاناً أقتلك. فقتل؛ يقتل الاثنان، يقتل الذي هدد؛ لأنها سببية قوية مفضية للقتل، ويقتل الذي باشر القتل، لأنه ليس بالمكره، فالمكره شرطه أن يهدد بشيء أعظم، ونفس أخيه كنفسه، فهل ينقذ نفسه من القتل بقتل أخيه؟! لا يكون ذلك إكراهاً في حقه، لكن لو هدد بالقتل على أنه يطلق، فيجوز له أن يطلق، ويسقط الطلاق؛ لأن الطلاق أخف من القتل، لكن لو خُيّر بين أمرين: بين أن يُقتل، وبين أن يقتل أخاه، ولو صبر ربما ما قُتل، ولا نُفذ التهديد، لكنه أفضى إلى القتل بمباشرة قوية.

ولذلك في بعض الأحيان تكون سببية، لكن تكون سببية قوية في التأثير، بحيث يكون الحكم للسببية وتسقط المباشرة.

مثلاً: لو أنه أخذ حية وأنهشها بشخص؛ فقتلته -أي: الحية فلدغت شخصاً فقتلته- من الذي قتل؟ الحية. لكن من الذي جاء برأس الحية؟ ومن الذي قربها؟ فالمباشر: الحية، والسبب: المكلف، فحينئذ تسقط المباشرة، ويكون الحكم بالسببية.

وفي بعض الأحيان تقوم المباشرة، وتسقط السببية؛ كما لو حفر رجل بئراً، أو بنى جداراً، فلما بنى الجدار جاء شخص ورماه على شخص فقتله، فهذا الذي دفع الجدار باشر، والذي بنى الجدار تسبب، أي: أن الجدار لو لم يكن موجوداً لما حصل القتل.

ومسألة تقديم السببية على المباشرة والعكس لها أحوال ثلاثة: تارة نغلب السببية، وتارة نغلب المباشرة، وتارة نعطي الحكم لمجموع الأمرين.

فهنا عندنا سببية، ومباشرة؛ وذلك إن هدد أحد امرأة وأجبرها أن ترضع ضرتها الصغيرة فأفسدت عقد زوجها بهذا الرضاع، فهل ننظر للذي باشر الرضاع -الزوجة التي هي المرضعة- أو ننظر للذي تسبب بالإفساد والذي هو المُكرِه؟ في مسألتنا هذه ننظر للذي هدد، والذي ضغط على المرأة، لأن الإكراه يرفع التكليف، وقد بينا هذا في مسائل؛ كطلاق المكره، وغيرها من المسائل التي بينا فيها حكم الإكراه.

فهنا تقوى السببية، ومن هنا بين-رحمه الله- أن من تسبب في إفساد النكاح فإنه يضمن، فيكون عليه ضمان نصف المهر قبل الدخول، وذلك بأن يطالب الزوج بدفع نصف المهر، ثم يرجع هذا الزوج على من تسبب في إفساده، وقد بينا هذا في مسائل متقدمة معنا في الضمان.

قال رحمه الله: [وجميعه بعده]

يعني: بعد الدخول، وهذا على القول بأن المهر لا يسقط، وقد بينا هذا.

قال رحمه الله: [ويرجع الزوج به على المكره]

يطالب الزوج بجميع الصداق إن كان قد دخل على هذه التي فسد نكاحها، أو يطالب بنصفه إذا لم يدخل، فيدفع هذا، ثم بعد أن يدفع، نقول له: أقم دعوى، وطالب من تسبب بهذا الإفساد، إن كان الإفساد ناشئاً منه، وطالبه بالمهر كله إن كان بعد الدخول، وطالبه بنصفه إن كان قبل الدخول.

وهناك أحكام تتعلق بالرضاع؛ منها ما يتعلق بالنكاح، ومنها ما يتعلق بالمحرمية، ففي النكاح لا يجوز له أن ينكحها؛ لأنها أمه من الرضاع، والله تعالى ذكر في المحرمات الأم من الرضاع فقال سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23].

فإذا أرضعت امرأة طفلاً صار ولداً لها، وحينئذ لا يجوز للولد أن ينكح والدته، والله تعالى جعل الرضيع فرعا عمن أرضعه فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23] فمعنى ذلك أن الرضيع ولد للمرضعة.

قال رحمه الله: (صار ولدها في النكاح والنظر)

أي: فيجوز له أن ينظر إليها كما ينظر المحرم لمحرمه، فليست بأجنبية عنه، وهذا الفرع الثاني، فالأول يتعلق بالنكاح، والثاني يتعلق بالنظر، فيجوز له أن ينظر إليها.

قوله: (والخلوة)

فيجوز له أن يختلي بها لأنها من محارمه، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما).

فبين عليه الصلاة والسلام أنه لا يجوز لأي رجل أن يخلو بامرأة أجنبية لا تحل له، وأنه إذا فعل ذلك كان الشيطان ثالثهما،وهذا يدل على أنها الفتنة والبلاء العظيم والشر المستطير، فإنه إذا كان الشيطان ثالثاً لهما؛ سول لكل منهما، وأدخل عليهما البلاء ولكن إذا حكم بالرضاع حل له أن يختلي بها، فهي أمه من الرضاع، أو أخته من الرضاع، أو عمته من الرضاع، أو خالته من الرضاع، كما يختلي بأمه من النسب، وأخته من النسب، وعمته من النسب، وخالته من النسب.