أرشيف المقالات

الشباب الصاعد إلى الهاوية

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
من خلال إلقاء نظرة فاحصة على محيط بيئتك، أو بالقيام بعملية مسح عشوائية لعينات من الشباب  ممن حولك، وباستقراء متجرد لأحوالهم وميولهم وتوجهاتهم في الحياة، وانطباعاتهم عن الأفراد والجهات المكرسة جهودها لإرشادهم وخلق قناعاتهم، وصناعة توجهاتهم، وصياغة شخصياتهم "لاسيما المؤسسات التربوية والإرشادية منها، أو الأفراد ممن يهمهم أمر هذه الفئة ويسعون للتأثير فيها سواء أكانوا منتسبين لهذه المؤسسات أم غير ذلك.." سوف تلمس وبقوة الفجوة العميقة، والهوة الشاسعة، والتنافر الشديد بين هذه الفئة من شبابنا الناشئ وفئات الوعاظ والمرشدين والدعاة وخطباء المساجد وفئة الشباب المتدين، وحتى علماء الدين! وستكتشف بأن عرى المودة قد انفصمت بين هؤلاء وشبابنا الفتي الناشئ، وأن ماء الوفاق قد انقطع بينهما، وعجز الجميع عن إيجاد لغة مشتركة توجد نسبة من الفهم بين هذه الأطراف المتنافرة، وتخلق قدرا من الاحترام المتبادل بينها.
مما حدا ببعض هؤلاء الشباب الصاعد إلى اعتزال مجالس هذه الفئات أو الأخذ عنهم أو سماعهم...
واشتط البعض منهم في نفوره إلى حد الاستهزاء والسخرية "خاصة الفتية الأحداث منهم".
صورة مؤسفة ليس لها سابقة في تاريخ الأمة.
فلطالما صنع شباب الأمة بالتفافهم حول الرموز الدينية من العلماء الربانيين الصادقين المتجردين في مجتمعاتنا بطولات خالدة، وسطروا صفحات مجد ناصعة مشرقة في سائر مراحل تاريخنا الإسلامي، وحتى في عصرنا الحديث مع إشراقة الصحوة المباركة وعهد المجددين الأواخر.
 
فما الذي يحدث الآن، ومن يا ترى المسؤول عن هذا الانقسام الفئوي في مجتمعنا المسلم؟
وما هي الأسباب التي أفرزت هذه الحالة المزرية من الانسلاخ القيمي والانفصام الروحي بين شبابنا ورموز الدين؟!
من السهل على كل فئة التنصل من مسؤولية ما يحدث وإلقاء التبعة بأكملها على الطرف الآخر.
 
لذا لابد أن نؤكد بادئ ذي بدئ أنا لسنا بصدد إلقاء التهم، أو التشنيع على أحد بعينه، أو تحميل طرف كامل المسؤولية وتبرئة الأخر..
بل لابد أن كلا الطرفين مسؤول بنسبة عن إحداث هذه الجفوة والتي لا ينكر وجودها وتفاقمها أحد ممن له أدنى بصيرة وإنصاف.
وهاهي ذي المجتمعات المسلمة قد بدأت تغص بالثمار المرة لهذه الأزمة، والتي من أبرز نتاجها المر:
 
1- جيل بلا قدوات:
قال جل وعلا: {أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام من الآية:90].
ونحن نرى أجيال نشأت وترعرت دون قدوة..
والعلوم الإدارية الحديثة تؤكد أن "الشخصية المؤثرة تعد من المبرمجات الأساسية للعقل الباطن..
والذي يعد طاقة محايدة، يمكن أن تغير حياة الإنسان نحو الأفضل، أو الأسوأ ويمكن للعقل الباطن أن يقود صاحبه للخير أو الشر.
كل ذلك يعتمد على ما يستقر فيه" (آفاق بلا حدود، محمد التكريتي بتصرف يسير).
فللقدوة دور أساسي في تكوين الشخصية وخلق القناعات وترسيخها في الذات.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الوعظ لأنه كان بسلوكه قرآنًا يمشي على الأرض.
فإن وجدت قدوات في المجتمع إلا أنها غير مؤثرة، غير متواصلة مع جمهورها المستهدف فهي في واقع الحياة كالعدم!
2- ضعف أو انعدام النضج الوجداني لدى الشباب:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّـهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة من الآية:54]، وقال جل وعلا: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ} [آل عمران من الآية:31]، وقال عز وجل في وصفه للمؤمنين: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر من الآية:9].
فالملاحظ هو افتقاد الشباب للمعاني التي تمنحهم القدرة على الحب الأسمى المتمثل في حب الله ورسوله والمؤمنين.
مما يؤدي لحبسهم في دائرة الأنا الضيقة، ويغمسهم في أتون علاقات دنيوية لا تمنحهم الإشباع الروحي اللازم للشعور بلحمة الأمة الواحدة، ووحدة الانتساب إليها، فيحيون  في حالة من التمزق النفسي، والاغتراب الداخلي، وتعتصرهم آلام نفسية قد لا يدركون كنهها! وكيف ترتجي الأمة الخير من شباب ممزق الوجدان من أثر اغترابه الداخلي وحيرته؟
3- غياب القيم:
أضحت القيم العليا نسبية لدى الكثيرين.
بعدما طغت قيمة المادة على النفوس، وانزوت المروءة في ركن قصي تبكي نفسها، وتفشت شعارات مسمومة كالغاية تبرر الوسيلة و"مشي حالك!" و"خليك مودرن"...
وانتشرت آفات سلوكية كالكذب والذي استفحل أمره حتى ظننا لوهلة أنه قد نزل وحي بحله! وكذا أكل أموال الناس بالباطل والخوض في الأعراض، والتساهل في مقدمات وبريد الزنا ، والترخص فيها! كيف لا وقد جاء من يقول: "لا بأس افعلها واستغفر..
فالحسنات يذهبن السيئات!" والناصحون بين الشباب وسط هذا كله مغيبون لا أثر لهم ولا تأثير إلا ما رحم ربي.
4- غياب الهدف الواحد:
وذلك سببه غياب القادة..
فالشباب غوغاء في تيه وعماء، لا يجدون من يقودهم نحو هدف واحد منظم، لا يجدون من يثير فيهم الحماس لأي شيء هام، ذو قيمة، لا يجدون من يوضح لهم الرؤية وكذلك لا يجدون إجابات لأسئلتهم الخالدة..
وليس هناك من يستمع لهم، أو يحتويهم، فنرى البعض منهم قد رمى بنفسه في أحضان جهات متطرفة فقط ليشعر بالأهمية!
إن أبسط تعريفات القيادة الراشدة: قيادة الناس وتحريكهم نحو هدف صحيح.
وعندما غاب القادة وتلاشت الأهداف النبيلة أسلم الشباب قيادهم للأهواء فصاروا وقودًا رخيصًا لمحركي الشرور في الأرض.
وحتى في عمق الجماعات الإسلامية نجد الثمار المرة لهذه الأزمة، ومنها:
** تفسخ هذه الجماعات وانقسامها على ذواتها.
** صراع الأجيال وذلك بسبب عدم احتواء فئة الشباب داخل هذه الجماعات، وتفهم اختلاف العصر الذي نشؤوا فيه عن سابقه، وتنوع البيئات التي جاؤوا منها.
** تدخل جهات أخرى ومشاركتها في برمجة عقول الشباب بوضع أطروحات أكثر جاذبية وعصرية.
 
فلابد إذا من وقفة جادة وطويلة وحاسمة أمام ما يحدث.
فهذه الأزمة تكاد تأتي على الأمة وتقوض أهم دعائمها وأقوى عامل من عوامل تجددها واستمراريتها وخلودها.
فالتكوين النفسي والعقلي لشبابنا تتجاذبه جهات شتى..
ولا غرو أن كل من هذه الجهات تسعى وباستماتة لوضع بصمة واضحة على هذه الفئة، بل هناك مؤامرات تحاك من قوى خارجية لتمييع هذه الفئة وسلخها من هويتها الإسلامية ومسخها لتلحق بركب الغثاء.
والعجب كل العجب من جلد هؤلاء وتقاعس أهل الحق منا عن النزول بثقلهم في حمأة هذه المعركة المحتدمة لغرض حرمان الأمة من صلاح حاضرها ومستقبلها المرتبط بصلاح شبابها وفتيانها.

إن شباب الأمة أمانة في أعناق رموزها من العلماء والدعاة والمرشدين..
فلابد من بذل مزيد من الجهود في سبيل احتوائهم، ومد جسور المحبة لبلوغ قلوبهم والتأثير على نمط تفكيرهم، وفهم لغة العصر لمخاطبة عقولهم المنبهرة بتقنيات العالم المادي.
 
لا أحد يطالب بتقديم أي تنازلات في جانب المنهج، بل المطلوب شيء من المرونة في استغلال الوسائل المتاحة، ومزيًدا من الذكاء العاطفي والاجتماعي في التعامل معهم، إذ لابد من استمالتهم والاقتراب منهم والتوغل في مجتمعاتهم وأماكن اجتماعهم في الطرقات والأندية، وعلى ساحة الشبكات والمنتديات الإلكترونية، وفي المدارس والمعاهد والجامعات، وذلك لاكتشاف أنماطهم وأساليب تفكيرهم لإحداث الأثر اللازم فيهم وخلق التغيير المنشود بين أوساطهم، وهناك العديد من العوائق التي تحول دون ذلك ومن أبرزها:
1- وجود أحكام وتصورات مسبقة في ذهن الشاب عن فئة المتدينين إما بسبب التربية الخاطئة في بيئة غير متدينة أو معادية للتدين، أو بسبب الإعلام الهابط الذي ما فتئ يسيء للدين والمتدينين أو بسبب تجربة سيئة مع أحدهم.
2- انتشار مفهوم خاطئ عن الدين لدى الشباب وأنه كله قيود وفيه الكثير من العنت والتزمت.
3- ترفع الدعاة عن مجالسة الفتيان وعدم احتمالهم الأذى في سبيل القيام بمهمة إرشادهم.
4- استعمال أسلوب الوعظ المباشر مع الشباب والذي غالبًا لا يؤتي أكله.
5- نفور الدعاة والوعاظ من الشاب المتميع في هيئته مما يولد بالمقابل لدى الشاب نفورًا منهم، فلا يعود يقبل منهم شيئًا.
6- عدم التزام أكثر أهل العلم جانب التيسير، واتباع أسلوب الرفق مع الشباب والإصرار علىىإلزامهم بالعزائم منذ الوهلة الأولى مع أن الدين يسر وقائم على رفع الحرج.
7- تسامع الناس بفضائح شذوذية لدى بعض المنتسبين للدين..
لذا لابد من التدقيق حول أخلاقيات هؤلاء قبل تسليمهم مهمة تعليم الصغار والنساء.
8- ضعف فقه الواقع لدى بعض المفتين، وإطلاق الفتيا دونما بصيرة وفي هذا بلبلة للعقول وتنفير شديد من الدين وذلك عندما يحيله المفتى الجاهل إلى قوالب جامدة معطلة للحياة.
9- التعصب الشديد للمذهب والذي يولد الشحناء والبغضاء بين المتدينين مما يحدو بغيرهم لازدرائهم ويترك الشاب محتارًا لا يعرف أين الحق؟!
10- إقصاء العقول وغلق أبواب الحوار مع الشباب ومصادرة حقهم في التعبير عن ذواتهم بحرية والقيام على معالجة شبهاتهم بحكمة.
11- التسرع بالتكفير وإلصاق التهم ورمي المعارض بالزندقة والفسوق أو بمسميات أخرى ومصطلحات جديدة كالعلمانية والليبرالية وما شابه دون تبصر أو روية.
12- اختفاء منهج المجادلة بالتي هي أحسن بين بعض المتدينين من الدعاة والعلماء، واستبداله بالسباب المخجل والتراشق بالألفاظ الجارحة مما سلبهم صفة التأثير والجاذبية.
13- الجفاء وسوء الخلق وشدة الطباع لدى بعض العلماء والدعاة مما يدعو الشاب للنفور منهم.
14- الجهل بالدين بسبب قلة الدورات الشرعية الموجهة للشباب، وحتى البرامج التلفزيونية في هذا الشأن ينصرف عنها الشاب لعدم إخراجها في قوالب إبداعية جذابة.
 
أخيرًا:
لا أحد ينكر أن ثمّ جهود تبذل في هذا المضمار، ونشكر أصحابها ونشد على أيديهم مع تباين أساليبهم، فالكل مجتهد ولكل مجتهد نصيب، وأطالب الجميع بالمزيد، وأحث كل من يشحذ قلمًا أو يرفع عقيرته لنقد هذا أو ذاك من المجتهدين في صياغة برامج لإصلاح أحوال شبابنا أن يفرغ ذهنه ويوفر طاقته للإبداع في رفد هذه الجهود.
دعونا من بنيات الطريق ولنكف عن التنازع حول الفروع والوسائل وشبابنا ضائع في تيه وفراغ ولنتفق على قاعدة "من ينتقد وسيلة فليأت بخير منها أو ليصمت" ثم أتوجه بكلامي مباشرة لورثة الأنبياء من علماء الأمة ودعاتها الأفاضل:
احملوا الأمانة بحقها.
لا ترتقوا منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تدّعوا وراثة علمه، ولا  تتسنموا مقام التبليغ إلا بعدما تتمثلوا سماحة نبيكم وخلقه الكريم. 
الله.
الله في شباب الأمة الثغرة التي ثلمت فهل من مشمر لسدها؟
 
نبيلة الوليدي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢