شرح زاد المستقنع كتاب اللعان [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [يشترط في صحته أن يكون بين زوجين].

شرع المصنف رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توافرها للحكم بصحة اللعان، وأصل اللعان أن الزوج يتهم الزوجة بالزنا -والعياذ بالله- أو ينفي الولد أو الحمل عنه، ففي كلتا الحالتين يكون هناك لعان، سواءً اتهمها بالزنا أو نفى الحمل أو نفى الولد، على تفصيل سنبينه إن شاء الله تعالى.

والأصل الشرعي يقتضي أنه إذا قذف امرأته بالزنا. فإنه يخيّر بين أمرين:

إما أن يقيم البينة على أنه صادق، وأن زوجته زانية، وحينئذ لا إشكال، فلا يقام عليه حد ولا لعان.

وإما أن يتعذر عليه إقامة البينة، فالأصل الشرعي حينئذٍ يقتضي أن يُقام عليه حد القذف؛ لأنه لما قذف هلال بن أمية رضي الله عنه امرأته بـشريك بن سحماء رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم لـهلال : (البينة أو حد في ظهرك)، فخيّره بين الأمرين: البينة التي تثبت أنه صادق في اتهام زوجته بالزنا، أو الحد الذي أوجبه الله على كل مفترٍ وقاذف، فجاء اللعان ليخرج الزوج من هذا الحد إذا تعذر عليه إيجاد البينة.

فيختص اللعان بالزوج لأمور وأسباب خاصة، والأصل أن كل من قذف نطالبه بالبينة على صحة قذفه أو يقام عليه الحد، لكن مسألة اللعان تختص بالزوج والزوجة، ولذلك لو قذف الوالد ولده، أو قذف الأخ أخاه، أو قذف الصديق صديقه، فهذه الأمور لها أحكام خارجة عن اللعان.

واللعان -كما ذكر العلماء- مستثنى من الأصول، والمستثنى من الأصول هو: الذي خرج بنص عن أصل عام، فالأصل العام هنا وجوب الحد إلا أن يُثبت الزوج بالبينة صحة القذف بالزنا، فلما استثني اللعان وجاء على هذه الصورة الخاصة فينبغي علينا أن ننظر إلى الشروط الشرعية التي يثبت بها اللعان فنقول:

إنه لا يثبت اللعان إلا إذا توافرت فيه الشروط تامة كاملة، وهذه الشروط هي التي يعبر عنها بالعلامات والأمارات التي ينبغي توافرها واجتماعها للحكم باللعان الشرعي، وهي الشروط التي يذكرها العلماء.

فاللعان لا يمكن أن يكون لعاناً شرعياً إلا بين الزوجين، فلو أن صديقاً قذف صديقه أو أخاً قذف أخاه، فجاء شخص وقال: يثبت اللعان بين الأخ وأخيه إذا حصل القذف قياساً على الزوج مع زوجته، فنقول: هذا قياس باطل؛ لأن القاعدة الأصولية تقول: ما خرج عن القياس فغيره لا يقاس عليه، وقول القياس، إذا قال العلماء القياس يريدون به الأصل العام، وهذا ينبغي أن ينتبه له طالب العلم فالقياس هو: الشيء الأقيس الذي جرى على النصوص المحفوظة في الباب، فالأصل هنا أن من قذف فعليه أن يقيم البينة أو يقام عليه حد القذف، فخرج اللعان عن الأصل العام وهو القياس، فغيره لا يقاس عليه مع أن صلة الأخ مع أخيه صلة قرابة ولحمة، وربما تكون أعظم من صلة الزوج مع زوجه، لكن الشريعة نظرت إلى أن الزوج يُقدم على إفساد فراشه، واتهامه لزوجه بالزنا إضاعة لمهره، وإضاعة لولده وليس هناك عاقل يتهم زوجته بالزنا كذباً، وينفي ولده منها، فالشريعة أعطت هذه الحالة المستثناة أحكاماً خاصة، ولابد من توافر الشروط الشرعية، وهي:

الشرط الأول: أن يكون اللعان بين الزوجين، فليس هناك لعان شرعي بين سيد وأمة وبين أخ وأخيه، ونحو ذلك، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ [النور:6] فخص هذا الحكم بين الزوج وزوجته، وهذا هو الشرط الأول.

وقوله: (ويشترط في صحته) أي: من أجل الحكم بصحته وتنفيذه، والضمير في قوله: (صحته) عائد إلى اللعان، فلا ينفذ لعان إلا إذا كان بين زوجين، سواءً كان قد عقد على المرأة ودخل بها أو لم يدخل بها، سواءً كانت في عصمته أو طلقها طلاقاً رجعياً؛ لأن المطلقة رجعياً في حكم الزوجة، وهذا اختيار طائفة من العلماء أن المطلقة رجعياً يحق لمطلقها أن يلاعنها؛ لأنه سيتضرر بنسبة الولد إليه، وسيتضرر بنسبة ما يكون من حملها إليه.

قال المصنف رحمه الله: [ومن عرف العربية لم يصح لعانه بغيرها].

الشرط الثاني: أن يجري اللعان باللسان العربي، وذلك أن اللعان ثبت بنص شرعي أشبه التعبد، ولذلك اشترط: عدداً معيناً، ولفظاً معيناً، وترتيباً معيناً، فلابد أن يقع على هذه الصفة الشرعية الواردة، وهذا أصل عند العلماء، ومن باب الفائدة: دائماً في الفقه ما استثني من الأصل، وجاء على صورة خاصة فينبغي عليك أن تتقيد بهذه الصورة الخاصة، فلا تزد عليها ولا تنقص؛ لأنه استثناء شرعي على صفة مخصوصة، لذلك لابد أن يكون بالصفة الواردة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه بالنص أنه لاعن بهذا اللسان، فالأصل أن يقع اللعان بلغة العرب لمن استطاع أن ينطق بها وعرف معناها.

اللعان بغير العربية لمن جهلها

قال المصنف رحمه الله: [وإن جهلها فبلُغته].

إن جهل الزوج الملاعن أو جهلت الزوجة الملاعنة اللغة العربية؛ فبلغة الزوج وبلغة الزوجة، لكن هنا تفصيل: إذا كان كلا الزوجين لا يعرفان العربية أو أحدهما لا يعرفُ العربية فللقاضي حالتان:

الحالة الأولى: أن يكون عالماً بلسانهما، بحيث يستطيع أن يفهم كلامهما دون وجود مترجم، فحينئذ لا إشكال، ويجري اللعان باللسان غير العربي، ويجري عليه القاضي الأحكام كما لو سمعه بالعربي.

الحالة الثانية: إذا كان القاضي لا يعرف هذا اللسان المغاير للسان العرب، فحينئذ يحتاج إلى المترجم، وهل المترجم مخبر أو شاهد؟ إن قلنا: إنه ناقل للخبر فلا يشترط فيه التعدد، ويكون المترجم الواحد كافياً، وإن قُلنا: إنه شاهد فحينئذ لابد من مترجمَينِ، وهذه المسألة ستأتينا إن شاء الله في باب أدب القاضي.

قال المصنف رحمه الله: [وإن جهلها فبلُغته].

إن جهل الزوج الملاعن أو جهلت الزوجة الملاعنة اللغة العربية؛ فبلغة الزوج وبلغة الزوجة، لكن هنا تفصيل: إذا كان كلا الزوجين لا يعرفان العربية أو أحدهما لا يعرفُ العربية فللقاضي حالتان:

الحالة الأولى: أن يكون عالماً بلسانهما، بحيث يستطيع أن يفهم كلامهما دون وجود مترجم، فحينئذ لا إشكال، ويجري اللعان باللسان غير العربي، ويجري عليه القاضي الأحكام كما لو سمعه بالعربي.

الحالة الثانية: إذا كان القاضي لا يعرف هذا اللسان المغاير للسان العرب، فحينئذ يحتاج إلى المترجم، وهل المترجم مخبر أو شاهد؟ إن قلنا: إنه ناقل للخبر فلا يشترط فيه التعدد، ويكون المترجم الواحد كافياً، وإن قُلنا: إنه شاهد فحينئذ لابد من مترجمَينِ، وهذه المسألة ستأتينا إن شاء الله في باب أدب القاضي.

قال المصنف رحمه الله: [فإذا قذف امرأته بالزنا فله إسقاط الحد باللعان].

الشرط الثالث: أن يقذف الرجل زوجته بالزنا، فلا يجري اللعان إذا لم يقذفها بالزنا، والقاعدة عندهم: أن كل ما يثبت به القذف يثبت به اللعان، وما لا يثبت به القذف لا يثبت به اللعان؛ لأن اللعان في الأصل شُرع لدفع الحد عن الزوج، وهذا يقتضي أن يكون هناك موجب للحد وهو القذف، والدليل على صحة اشتراط وجود القذف قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [النور:6]، فاشترط سبحانه وتعالى وجود الرمي بالزنا؛ لأن الرمي في لغة العرب يطلق بمعنى التهمة.

رماني بأمر كنت منه ووالدي برياً ومن أجل الطوي رماني

فالرمي هو: القذف والتهمة بالسوء، فالرمي في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [النور:6] يشمل جريمة الزنا، ورميه لها بالزنا إما أن يكون صريحاً أو تعريضاً، فالصريح لا إشكال فيه عند العلماء، وسيأتينا إن شاء الله صريح لفظ الزنا كأن يقول لها: يا زانية، أو يقول: أنت زنيتِ بفلان، سواءً ذكر من زنت معه أو وصفها بالزنا، والرمي المحتمل للزنا كأن يقول: يا خبيثة، أو الرمي بالوصف المتضمن للزنا كأن يقول: يا فاسدة، فهذا يحتمل أنه قصد بالخبث جريمة الزنا، ولذلك فسر قوله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور:26] أي: الزانيات للزناة، وقيل: الخبث يطلق بمعنى الفساد الذي يشمل الزنا وغيره، ولذلك قال تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، فإذا قذفها صريحاً فلا إشكال، وإذا قذفها تعريضاً فهذا فيه تفصيل، وسيأتي عند ذكر الألفاظ التي يثبت بها القذف تعريضاً أنه يسأل، القاذف عن نيته وقصده، فإذا فسر اللفظ المحتمل بالزنا فهو قذف، كأن يقول: إنه قصد بقوله: يا خبيثة، إنها زانية، فحينئذ لا إشكال، فهو كما لو قال لها مباشرة: أنت زانية، والعياذ بالله!

فيشترط -كما ذكر المصنف- أن يكون هناك لفظ دال على التهمة بالزنا، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، منهم من يقول: يثبت القذف بالزنا وحده ولا يشمل ما يلحق بالزنا، فلو رماها بغير الزنا مما يأخذ حكم الزنا فلا يثبت اللعان، مثل أن يرميها بالوطء في الدبر، وبعض العلماء يرى أنه يلحق بحكم الزنا، الوطء بالدبر، فيأخذ حكم الزنا في مذهب طائفة من العلماء، وبناءً على ذلك قالوا: إذا رماها بتهمة في القبل أو الدبر مما يوجب الحد فإنه يحكم باللعان، وقال بعض العلماء: يختص الحكم بالزنا فقط، لكن ظاهر الآية: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ [النور:6] أن الرمي يقع بالقبل ويقع بالدبر، وستأتينا هذه المسألة إن شاء الله في باب الزنا بتفصيل، وتبين الحكم الشرعي في الوطء بالدبر.

ومفهوم قوله: بالزنا، أنه لو رماها بما لا يوجب الحد كأن يرميها بالسحاق -وهو إتيان المرأة للمرأة-؛ فلا يوجب اللعان.

وقوله رحمه الله: (فإذا قذف امرأته بالزنا) خرج بذلك قذف الأجنبية، فلو كانت امرأة أجنبية عنه وقال لها: يا زانية، فنقول له: إما البينة وإما حد في ظهرك، فإذا قذف زوجته -سواء زوجته التي دخل بها أو التي لم يدخل بها، والتي طلقها أو التي لم يطلقها- فله إسقاط الحد باللعان، ولا يكون هذا إلا بالشكوى والمطالبة بذلك، أو يكون القذف في مجلس القاضي، وسيأتينا إن شاء الله أن اللعان لا يكون إلا في مجلس القاضي، والدليل على ذلك أن القذف حق خاص، ومن الحدود ما هو حق خاص، ومنها ما هو حق عام، ومنها ما الحق فيه مشترك لله وللمخلوق، فالحق الخاص لا يمكن للقاضي أن يقضي فيه حتى يطالب صاحبه، فمثلاً لو أن شخصاً أخذ مال شخص فعلى القاضي أن يجعل القضاء الشرعي حيادياً، وألا ينحاز إلى إحدى الطائفتين إذا اختصموا، فليس له أن يتدخل ويقول: يا فلان! رد المال إلى فلان، حتى يشتكي صاحب الحق ويقول: إن فلاناً ظلمني في كذا، فلابد أن يثبت أنه ظلمه، وينتظر منه أيضاً المطالبة من صاحب الحق، فهذه الحالة الأولى.

الحالة الثانية: أن يقذف في مجلس القضاء، مثلاً امرأة آذاها زوجها وقذفها بالزنا في بيتها بينه وبينها، أو قذفها بالزنا أمام أمها أو أمام أبيها فرفعته إلى القاضي، فإذا رفعته إلى القاضي وأقر أنه قذفها بالزنا جرى اللعان؛ إذاً: لابد أن يكون في مجلس القضاء أو بمطالبة الزوجة التي هي صاحبة الحق، فإذا قذفها بالزنا ورفعته إلى القاضي، فحينئذٍ يقال له: إما أن تثبته بالبينة، وإما أن يجري اللعان بينك وبينها.

وقوله: (فإذا قذف امرأته بالزنا فله إسقاط الحد باللعان) (فله) أي: للزوج، (إسقاط الحد) أي: حد القذف الذي هو ثمانون جلدة، (باللعان) لأن حكم القاذف ثمانون جلدة وترد شهادته، وانظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى في حكمه وتشريعه، فالذي يتسلط على أعراض المسلمين ويقذفهم ويتهمهم بالباطل جعل جزاءه قطع لسانه، كما قال تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4]، فمنع من قبول شهادته، ووصفه بالفسق، وهو: الخروج عن طاعة الله عز وجل، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يكون على حذر من الوقوع في أعراض المسلمين، وأن يزين لسانه بتقوى الله عز وجل، وأن يحذر كل الحذر من أن يُطلق لهذا اللسان عنانه في الوقيعة في مسلم أو مسلمة.

فلذلك إذا قذف الرجل امرأته بالزنا فعليه البينة أو حد في ظهره.

وقوله: (فله) أي: للزوج أن يدفع هذا الحد عنه باللعان؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل للأزواج فرجاً ومخرجاً، ثم انظر إلى حكمة التشريع حيث يبدأ باللعان الزوج أولاً ثم بعد ذلك الزوجة، فجعل الرهبة والتخويف أولاً للمتهم للغير، الواقع في عرض الغير زجراً وتخويفاً له، ولذلك يوقف عند الرابعة ويُذكر بالله عز وجل.

قال المصنف رحمه الله: [فيقول قبلها أربع مرات: أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه، ويشير إليها].

يبدأ الزوج باللعان قبل امرأته، فلو أن المرأة بدأت قبل زوجها لم يصح؛ لأن الله سبحانه وتعالى بدأ بالزوج وثنى بالزوجة؛ لأن الزوج يثبت والزوجة تنفي، والزوج يبني والزوجة تنقض، والنقض يكون بعد البناء، والهدم بعد الوجود، فأولاً يثبت الزوج ويشهد، وكأن كل يمين منه بمثابة شاهد، ولذلك إذا امتنعت الزوجة عن أيمان اللعان أقيم عليها حد الزنا.

إذاً: لابد أن يبدأ الزوج قبل الزوجة؛ لأن هذا اللعان ثبت بصفة شرعية، اقتضت تقديم الزوج على الزوجة، فيبدأ الزوج باللعان ويقول: أشهد بالله لقد زنت زوجتي، وهي لا تخلو من حالتين:

إما أن تكون جالسة في مجلس القضاء، فيقول: زوجتي هذه ويشير إليها.

وإما أن تكون غائبة عن مجلس القضاء لعذر فيقول: زوجتي فلانة بنت فلان، فيصفها وصفاً يميزها عن غيرها، ويوجب ثبوت التهمة عليها.

ويقول: (أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه)، فلابد أن يأتي بلفظ: أشهد؛ لقوله تعالى: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ [النور:6]، فلا يُغير في هذا اللفظ، ولا يزيد ولا ينقص، فلا يغير لفظ أشهد إلى أحلف؛ لأن الحلف يمين يمكن أن يكفر عنها، ولكن قوله: أشهد بالله، أمر عظيم جداً؛ لأنه يشهد الله جل جلاله، وكفى بالله شهيداً، ولذلك نسبة العلم إلى الله في شيء ليس بالأمر الهين، حتى أن بعض العلماء يقول: من قال: يعلم الله أنه حدث كذا وكذا، كاذباً فقد كفر؛ لأنه نسب إلى الله العلم بشيء لم يقع، حيث ينسب إلى الله صفات ليست موجودة، وهذا الذي جعل بعض العلماء يشددون ويمنعون من هذه الكلمة، فإشهاد الله ونسبة العلم إلى الله في أمر ليس من السهولة بمكان.

فذكر المصنف أنه لابد أن يتقيد بهذا اللفظ فلا يبدله ولا يغيره؛ لأنه أشبه بالتعبد، مثل ألفاظ التشهد، فيقول: أشهد بالله لقد زنت، فيثبت التهمة بالصريح من القول، ولا يقول: لقد أخطأت زوجتي، أو لقد زلّت زوجتي، بل لابد أن يقول: لقد زنت، ويُصرح ويقول: زوجتي؛ لأنه لو قال: قد زنت فلانة، فيحتمل أنه يقصد امرأة ثانية يشبه اسمها اسم زوجته، ويقول: زوجتي هذه؛ لأنه قد تكون عنده أكثر من زوجة، ويريد الإضرار بزوجة على حساب زوجة أخرى فاسدة، فيشهد بزنا زوجته قاصداً التي في ذهنه، فيقول: زوجتي هذه.

ويشترط تتابع الشهادات، فإذا أتم الزوج الشهادة الأولى يُتبعها بالشهادة الثانية في مجلس واحد، فلو أنه شهد اليوم في الساعة الواحدة شهادة واحدة، ثم فارق مجلس القضاء ولو خمس دقائق، ثم رجع؛ أعاد الشهادة الأولى، وشهد أربعاً متتالية في مجلس القضاء، وليس خارج مجلس القضاء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم -يثبت هذا الأصل-: (لقد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فائت بها)، فجعل اللعان في مجلس القضاء، ووقعت الشهادات في مجلسه عليه الصلاة والسلام، وهذا المجلس يسمونه مجلس القضاء، والنبي صلى الله عليه وسلم له أحوال متعددة، وهذا يسميه علماء الأصول رحمهم الله شخصيات النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله، والمراد أنه تارة يكون في حكم القاضي، وتارة يكون في حكم المفتي، وتارة يكون في حكم الإخبار والبلاغ بالرسالة، وتارة يكون في حكم الشارع، وفي حكم البشرية العامة، فهي أحوال مختلفة.

فلما جاء هلال بن أمية وكذلك عويمر وقذفا أمام النبي صلى الله عليه وسلم فهو كان بصفة القضاء لا بصفة الاستفتاء؛ لأنه لو كان بصفة الاستفتاء لكان حكماً آخر، لكن جاءا متظلمين يريدان الحكم الشرعي في قضيتهما، فلو حصلت الشهادات هذه في غير مجلس القضاء لم يبن عليها الأحكام الشرعية، فلابد أن تكون الشهادات في مجلس القاضي، وأن تكون أربع شهادات من الرجل متتابعة لا فاصل بينها مؤثر.

وقبل الشهادة الخامسة يوقفه القاضي، ويذكره بالله عز وجل ويخوفه، فيقول له: إنها موجبة، اتق الله عز وجل؛ لأنه يشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وانظر سبب اختيار الشرع للعنة؛ لأنه الذي جرى منه القول بتهمة المرأة بالزنا فناسب أن يعاقب باللعن من الله عز وجل.

والمراد باللعنة في مثل هذا -سواءً كان بالقذف في مجلس القضاء أو خارج مجلس القضاء -لعنة الدنيا والآخرة، فالذي يرمي المحصنة الغافلة المؤمنة، أو الرجل المؤمن المسلم الغافل يلعنه الله في الدنيا والآخرة، وإذا اجتمعت لعنة الدنيا والآخرة فهي عظيمة البلاء على الإنسان؛ لأن لعنة الدنيا قد تغفر، لكن أن يجمع له بين لعنة الدنيا والآخرة فالأمر عظيم، فقبل اللعنة يوقفه القاضي ويخوفه بالله، لكن المرأة لما فعلت لاعنت كأنها هدمت أيمان الزوج، وكأنها فعلت فعلاً مغايراً لفعل الزوج، وذلك بالقول، فجُعل لها الغضب، نسأل الله السلامة والعافية!

فاللعنة على الرجل، والغضب على المرأة، فيوقفه القاضي قبلها ويقول له: اتق الله، عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فضيحة الدنيا أهون من فضيحة الآخرة، يعني: لو تعترف أنك كاذب وأن الزوجة لم تزن، ويقام عليك حد القذف ثمانون جلدة أهون من أن تقف بين يدي الله عز وجل فيفضحك، ويلعنك في الدنيا والآخرة، فعذاب الدنيا -وهو عذاب القضاء الشرعي في الدنيا- أهون وأخف من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، واختار بعض العلماء أنه يمسك على فيه خشية أن يتسرع، وكل هذا من باب النصيحة له والشفقة عليه حتى لا يتهور.

فإذا شهد الشهادة الأولى فمن الناس من ينزجر عند ابتداء اللعان إذا كان كاذباً، ومنهم من يرجف قلبه عند الثانية، ومنهم من يرجف عند الثالثة، ومنهم من يرجف قلبه عند الرابعة، فجاءت الشريعة فالإيقاف قبل الخامسة؛ لأنه ربما تردد أثناء الأربع، فإذا جاءت الخامسة فإنه يُعطى المهلة ويذكر وينصح، فلا يجرؤ على الخامسة التي هي الموجبة وهو كاذب إلا من طُبع على قلبه وزاغ قلبه، وانطمست بصيرته، واستخف بعظيم ما عند الله سبحانه وتعالى، فلا تسأل عن حاله إذا شهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وإذا شهد الخامسة وأتمها ففي هذه الحالة كأن كل يمين قامت مقام شاهد، وتوجهت التهمة على المرأة، فلابد أن تأتي بمثل ما أتى به دفعاً للضرر عن نفسها، فربما كانت صادقة وكان ظالماً لها، فتشهد بالله أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فتقول: أشهد بالله لقد كذب عليّ فيما رماني به من الزنا، فنقول: أشهد بالله، فلو قالت: أحلف أو يميني بالله، فلا يقبل منها -كما تقدم-، فلا تغير ولا تبدل ولا تنقص ولا تزيد.

فإذا شهدت أربع شهادات بالله عز وجل توقف عند الخامسة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوقف المرأة عند الخامسة، وقال: (اتقي الله! عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة)، فرجفت وتلكأت وكادت أن تعترف، حتى قال أنس وابن عباس رضي الله عنهما: (فتلكأت حتى ظننا أنها سترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، وحلفت الخامسة فكانت الموجبة.

فيوقف الرجل وتوقف المرأة ويقال لهما: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، إنها الموجبة، ترهيباً وزجراً، فهذه ثلاث كلمات: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، إنها الموجبة، والموجبة من وجب الشيء إذا ثبت، فقوله: الموجبة، يعني: إذا حلفت باللعنة وكنت كاذباً فإنها ستصيبك لا محالة، ولو كنت أتقى العباد، وإذا حلفت أن غضب الله عليها وهي كاذبة، فلن يرد غضب الله عليها شيء، وسيصيبها غضب الله، ومن أصابه غضب الله فقد هوى وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:81]، فإذا أقدمت على الخامسة فإنها تدفع عن نفسها الحد، وهذا ثبت بقوله تعالى: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ [النور:8] يعني: ويدفع عَنْهَا الْعَذَابَ الذي هو حد الرجم إذا كانت قد وطئت ودخل بها، وإن كان عقد عليها وهي بكر لم يدخل بها، فحدها جلد مائة وتغريب عام.

وقوله تعالى: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ [النور:8] يدل على أن الزوج إذا حلف الأيمان ثبت الحد، وأنها مُنزلة منزلة البينة، وهذا اختيار طائفة من الأئمة من جماهير السلف والخلف رحمهم الله، فأيمان المرأة تنقض أيمان الرجل.

قال رحمه الله: [ومع غيبتها يسميها وينسبها] :

(ومع غيبتها يسميها وينسبها) على وجه تتميز به عن غيرها.

قال المصنف رحمه الله: [وفي الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تقول هي أربع مرات: أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا، ثم تقول في الخامسة: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين؛ فإن بدأت باللعان قبله أو نقص أحدهما شيئاً من الألفاظ الخمسة، أو لم يحضرهما حاكم أو نائبه، أو أبدل لفظة (أشهد) بأقسم أو أحلف، أو لفظة (اللعنة) بالإبعاد، أو (الغضب) بالسخط؛ لم يصح].

بدء الزوجة بالملاعنة قبل الزوج

قال رحمه الله تعالى: [فإن بدأت باللعان قبله].

أي: لو بدأت الزوجة قبل الزوج بالملاعنة، وشهدت أربع شهادات بالله أنه كاذب فيما رماها به من الزنا وشهدت الخامسة، لم يصح ذلك لما ذكرناه، ونص القرآن في هذا واضح، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا واضح، وهذا هو الأصل عند العلماء رحمهم الله، قال الله تعالى: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ [النور:8]، فجعل أيمانها بعد أيمانه، وبناءً على ذلك لا يصح أن تكون أيمانها سابقة لأيمانه.

إنقاص أحد المتلاعنين لشيء من ألفاظ اللعان الخمسة

قال المصنف رحمه الله: [أو أنقص أحدهما شيئاً من الألفاظ الخمسة]

(أو أنقص أحدهما) سواءً الزوج أو الزوجة شيئاً من الألفاظ الخمسة فلا يصح اللعان، وكذلك الإبدال، فإذا قالت: بالله إنه لمن الكاذبين، ولم تقل: أشهد، فأنقصت الشهادة، أو قالت بدل أشهد: يميني أو أحلف، أو قال هو: أحلف بالله أو يميني بالله، فكل ذلك لا يقبل ولا يعتد به.

غياب الحاكم أو نائبه عن مجلس اللعان

قال المصنف رحمه الله: [أو لم يحضرهما حاكم أو نائبه]

(أو لم يحضرهما) يعني: في اللعان (حاكم) وهو: القاضي أو الوالي العام، فالنبي صلى الله عليه وسلم كانت له الولاية العامة وكان له القضاء، وكانت له الفتوى، وقد بينا أنه لابد في اللعان أن يجري في مجلس القضاء.

وقوله: (أو نائبه) أي: نائب القاضي وهو: الشخص الذي ينيبه القاضي مقامه، أو نائب الحاكم وهو القاضي نفسه، فالقاضي ينوب مناب الحاكم، والحاكم يطلق بمعنى القاضي، ويطلق بمعنى ولي الأمر، فيشترط لصحة اللعان وجود ولي أمر أو نائبه أو القاضي أو نائبه.

إبدال ألفاظ اللعان بغيرها

قال المصنف رحمه الله: [أو أبدل لفظة (أشهد) بأقسم أو أحلف]

(أو أبدل لفظة أشهد بأقسم أو أحلف) لأن القسم يُكفر، على القول بأن اليمين الغموس الفاجرة يُكفر عنها، واللعان فيه أيمان، وهذا لا إشكال فيه، ولذلك ترجم أئمة الحديث رحمهم الله في كتبهم باب: اللعان أيمان، وبعضهم يقول: باب: شهادات اللعان أيمان، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في حديث ابن عباس في الصحيح- (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن)؛ لأن المرأة تبين كذبها، وقد قال عليه الصلاة والسلام لما حلفت الأيمان: (حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب؟)، فلم يتب أحد منهما، فقال: (حسابكما على الله)، ونقل خصومة الخصمين من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة، فكأنه قال: هذا الشيء لا أملك منه شيئاً، فما على النبي صلى الله عليه وسلم إلا إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة والنصيحة، فحينئذ ينتقل الأمر من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة، فرغبهما عليه الصلاة والسلام في التوبة، ولذلك يقول العلماء: يسن أن يرغبهما القاضي في التوبة.

قال رحمه الله تعالى: [فإن بدأت باللعان قبله].

أي: لو بدأت الزوجة قبل الزوج بالملاعنة، وشهدت أربع شهادات بالله أنه كاذب فيما رماها به من الزنا وشهدت الخامسة، لم يصح ذلك لما ذكرناه، ونص القرآن في هذا واضح، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا واضح، وهذا هو الأصل عند العلماء رحمهم الله، قال الله تعالى: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ [النور:8]، فجعل أيمانها بعد أيمانه، وبناءً على ذلك لا يصح أن تكون أيمانها سابقة لأيمانه.