شرح زاد المستقنع كتاب اللعان [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

قال المصنف رحمه الله: [ كتاب اللعان ].

اللعان: مأخوذٌ من اللعن، وأصل اللعن الطرد والإبعاد، ويطلق اللعن بمعنى الشتم في لغة العرب، ولكن يراد به في شرع الله: الطرد والإبعاد من رحمة الله -والعياذ بالله- فمن لعنه الله فإنه مطرود من رحمته، ولن يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من لعنته وغضبه وشر عقابه!

أما في الاصطلاح فالمراد باللعان: شهادات مؤكدات بأيمان مقرونة باللعنة والغضب، وهذه الشهادات مخصوصة تصدر من شخص مخصوص، وهو إما الزوج وإما الزوجة، فليس هناك لعانٌ في الإسلام يقع بين غير الزوجين، فهو مختص بحالة معينة حددها الشرع، لأمور وأسباب سننبه عليها إن شاء الله تعالى.

وهذه الشهادات يشهد فيها الرجل الذي هو الزوج أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما يدعيه من زنا زوجته أو من نفي ولدها منه، فهو إما أن يقذفها بأنها زنت، وإما أن ينفي الولد، فيقول: هذا الولد ليس بولدي، فاللعان من الزوج على أحد هذين الأمرين، وقد يجتمع الأمران بأنها زنت، وأن الولد ليس بولده؛ لأنه إذا كان اللعان بأحدهما، فمن باب أولى إذا اجتمعا، وهذا بالنسبة لشهادات الزوج.

وأما شهادات الزوجة فإنها تشهد بالله أربع شهادات مقرونة باليمين أن زوجها كاذبٌ فيما ادعاه من زناها، أي: فيما قذفها به من الزنا، وتشهد إذا كان الزوج قد نفى ولدها منه أن الولد ولده.

إذاً: إما أن يشهد الزوج على أنها زنت، وإما أن يشهد على أن هذا الولد ليس بولده، والمرأة حينما تشهد الأربع الشهادات تضاد بها وتقابل بها شهادات الزوج، فتشهد أربع شهادات مؤكدة بالأيمان أنه كذب عليها فيما ادعاه من زناها، وكذلك أيضاً أنه كاذب في نفي الولد، وأن الولد ولده.

وهذه الشهادات الأربع المؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن والغضب، أما كونها مقرونة باللعن فمن جهة الزوج، وأما كونها مقرونة بالغضب فمن جهة الزوجة، والمراد باللعن والغضب: لعن الله عز وجل وغضب الله، فالزوج يحلف اليمين الخامسة وهي -والعياذ بالله- الموجبة، ووصفت بكونها موجبة؛ لأنه إذ حلفها أوجبت عليه لعنة الله -والعياذ بالله-، وأوجبت عليه عقوبة الآخرة إذا كان كاذباً فاجراً في يمينه، وفيما ادعاه من زنا زوجته أو نفي ولده منها، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الزوج لما حلف الزوج الأربعة الأيمان والشهادات الأربع الأولى أوقفه بعدها، وجاء في بعض الروايات: أنه أُخذ على فمه، وكل هذا خوفاً عليه من لعنة الله، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله! فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ويحك إنها الموجبة) ، أي: اتق الله في نفسك، ولا تحمل ما لا تطيق، فإن كنت كاذباً فارجع عما قلته، فحلف الرجل.

وأما بالنسبة للمرأة فالغضب في حقها، فتحلف اليمين الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين -أي زوجها-، وهذه الخامسة -والعياذ بالله- موجبة لغضب الله عز وجل، وإذا حل غضب الله على العبد فقد هوى، يعني: هلك هلاكاً عظيماً؛ ولذلك جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أوقف المرأة عند الخامسة وقال لها: (اتقي الله! عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، إنها الموجبة )، فلما قال لها: إنها الموجبة، أي: أنك لو حلفت هذه الخامسة بأن غضب الله عليكِ، فإنه سيحل عليك غضب الله، والله تعالى يقول في كتابه: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:81]، وهذا إشارة إلى عظيم ما يصيبه من البلاء، حتى هوى وسقط سقوطاً قد لا يسلم معه أبداً، وهذا أمر عظيم جداً، ولذلك إذا حدث اللعان على هذه الصورة تنتقل الخصومة من خصومة الدنيا إلى خصومة الآخرة، ويكون أمر الزوجين إلى الله عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل من تائب؟)، أي: منكما، وقد جاء في رواية أنس رضي الله عنه: أن المرأة لما أوقفت، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها الموجبة)؛ تلكأت وكادت أن تعترف ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فحلفتها!

هذا اللعان وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء رحمهم الله في قصتين صحيحتين ثابتتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

القصة الأولى: وقعت لصحابي يدعى: عويمر العجلاني من بني عجلان، والثانية: لـهلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا وتاب الله عز وجل عليهم كما في قصة غزوة تبوك، فاختلف العلماء رحمهم الله: هل نزلت آيات اللعان بسبب قصة عويمر أو بسبب قصة هلال؟ والذي عليه أكثر الأئمة رحمهم الله واختاره بعض أئمة التفسير أنها نزلت في هلال بن أمية لما قذف امرأته بـشريك بن سحماء رضي الله عن الجميع، واختار الإمام النووي رحمه الله أنها نزلت في عويمر العجلاني، وقصته أنه أتى إلى عاصم العجلاني، وهو ابن عمه فقال: يا عاصم ! الرجل يجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي -يا عاصم- عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله، فكره النبي صلى الله عليه وسلم سؤاله؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام لا يحب المسائل التي لم تقع خشية أن تحدث تشريعات وأحكام تضيق على الأمة؛ ولذلك كان يقول كما في مسند أحمد : (أعظم المسلمين جرماً رجلٌ سأل عن شيء لم يحرم، فحرّم من أجل مسألته)، وقال: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها)، فكان يكره المسائل، فلما جاء عاصم وسأل هذا السؤال ولم يبين أنه وقع لم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع عاصم إلى قومه فجاءه عويمر ، وقال: يا عاصم ! هل سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له عاصم : قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة، فقال عويمر: والله! لا أنتهي حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، وكانت زوجته ابنة عمه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ يعني: لو أنه قتله، ليس عنده شهود يثبتون أنه زانٍ؛ ولذلك سيقتل به؛ لأنه لو فتح هذا الباب لأمكن كل شخص يكره شخصاً أن يدعوه إلى بيته ثم يقتله، وقد يكون كارهاً لزوجته، فيدعي زناها بالرجل، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنه قد نزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فأت بها، فذهب وجاء بامرأته، وتلاعنا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وأما قصة هلال بن أمية رضي الله عنه -وكان أخاً للبراء بن مالك لأمه- فإنه أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ بين أصحابه فقذف امرأته بـشريك بن سحماء، أما عويمر ففي قصته أنه قال: يا رسول الله! الرجل يجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه؟ أما هلال بن أمية فإنه تلفظ باللفظ الصريح أن امرأته زنت بـشريك بن سحماء ، قال عبد الله بن عباس كما في صحيح البخاري وغيره: إن هلال بن أمية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقذف امرأته بـشريك بن سحماء، يعني: سمى الرجل الذي وجده، وقال: يا رسول الله! لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني، والله! يعلم إني صادقٌ فيما أقول، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، فقال هلال : (والله! ما كذبت يا رسول الله! والله! يعلم إني صادق وسينزل الله فيّ قرآناً يصدقني)، فقال عليه الصلاة والسلام: البينة أو حدٌ في ظهرك؛ لأن الله عز وجل أثبت الحد في أول الإسلام على كل من قذف زوجته أو غيرها، فإما أن يثبت زناها بالبينة أو يقام عليه الحد، وهو ثمانون جلدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -على الأصل-: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، يعني إما أن تحضر البينة أو أقمت عليك الحد، وسياق الحديث في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما يؤكد أن القصة أول ما حدثت مع هلال بن أمية ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه بالأصل الذي سبق نزول آيات اللعان، فقال له: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، وهذا يرجع ويقوي أنها نزلت أول ما نزلت في هلال، وهو مذهب الأكثرين، فلما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، اعتذر الرجل بما اعتذر، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي، فلما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي أمره أن يحضر المرأة ثم أمرهما أن يتلاعنا، فبدأ بـهلال فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، وإنها زنت، وإن الحمل الذي في بطنها ليس منه، ثم خمّس بشهادة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم بعد ذلك شهدت المرأة أيمانها، فقال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إليه فإن جاءت به أُصيهباً أحمش الساقين فهو لـهلال -يعني: قد كذب والولد ولده-، وإن جاءت به أورق خدلج الساقين فهو للذي ذكر)، فجاءت به على صفة الرجل الزاني والعياذ بالله!

اللعان تشريع حكيم شرعه الله من فوق سبع سماوات، وبيّن شأن هذا الأمر العظيم، وجعل له أحكاماً خاصة، والسبب أن القضايا التي تقع فيها الخيانة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: يتيسر فيه الدليل وتقوم فيه الحجة من إقرار أو شهودٍ عدول يشهدون بأن المرأة أو الرجل قد وقعا في زنا، وحينئذٍ لا إشكال.

القسم الثاني: لا يتيسر فيه وجود الدليل؛ ولذلك قال سعد رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح: يا رسول لله! أرأيت لكعاً لو أنه تفخذها رجل أيقتله فيقتل أو يذهب فيحضر الشهود فيفرغ الرجل من حاجته؟ لأنه يصعب إحضار أربعة شهود، وهذا الباب شددت فيه الشريعة كما سيأتي -إن شاء الله في باب حد الزنا- بيان حكمة التشريع في وجوب أن يبلغ النصاب أربعة شهود، وقد خصّ أمر الزنا بذلك، لعظيم البلاء فيه، فالضرر لا يقتصر على المرأة ولا على الزوج، بل ينتشر إلى أهل المرأة وإلى أهل الزوج، ومثل هذا الأمر تسفك به الدماء، ويحصل فيه من الشر ما الله به عليم، إضافةً إلى أن الناس عندهم نوع من التساهل في القذف بسبب شدة الغيرة، فقد يكون الرجل شديد الغيرة فيتهم امرأته ويبادر باتهامها، والعكس أيضاً. وعلى كل حال، لما كان أمراً زوجياً له أحكام خاصة وضعت الشريعة له هذا التشريع، إذ غالب الظن أن الرجل لا يقدم على اتهام امرأته ولا يقدم على نفي ولده منها والأمر بخلاف ما يقول؛ فالغالب أن الرجل لا يقدم على اللعان إلا إذا كان صادقاً، أما الشذوذ وكون الرجل -والعياذ بالله- جريئاً على محارم الله وجريئاً على الكذب على الله عز وجل بشهادة الأيمان؛ فهذه أحوال نادرة، لكن الغالب أن الزوج لا يمكن أن يأتي إلى فراش الزوجية فيتهم زوجته وينفي ولده منها إلا وهو صادقٌ فيما يقول أو عنده ما يدل على ما يثبت صدق دعواه، فنظراً إلى أن الرجل يحتك بزوجته ويطلع على أمور زوجته ويدخل على زوجته في أحوال مختلفة؛ ففي ذلك مظنة أن يقع على شيء، ثم هذا الشيء قد يقع فجأة فلا يتيسر له وجود الدليل، وهذا الذي جعل بعض الصحابة يشتكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت الشريعة حلاً خاصاً بهذه الأيمان التي يُدفع بها الضرر عن الزوج فلا يلحق به ما دنس فراشه من ولد الحرام، وأيضاً يدفع به الضرر عن المرأة إذا اتهمت بالباطل، فعدل الله عز وجل بين الاثنين، وجعل هذه الحالة الخاصة والأمر الخاص مرده إلى الآخرة إذا أصر الزوج على أمره وكذبه أو أصرت الزوجة على كذبها؛ لأنه لابد أن يكون أحدهما كاذباً، فجعل لها هذا التشريع الخاص الذي يخوف به الزوج وتخوّف به الزوجة، فإما أن يقدما وإما أن يحجما، وأمر اللعان فيه تفصيل، فتارةً يجب على الرجل أن يلاعن زوجته، وتارةً يحرم على الرجل أن يلاعن زوجته، وتارةً يباح له فإن شاء لاعن وإن شاء ترك ويكون الأفضل له الستر.

أما في الحالة الأولى وهي التي يجب على الرجل أن يلاعن زوجته فهي أن يتحقق من زناها أو يتحقق أن الولد ليس بولده، مثل أن يدخل فيراها على الزنا، فيرى بعينيه ويسمع بأذنيه ويتحقق أنه قد وقعت الفاحشة بالصفة المعتبرة في إثبات جريمة الزنا، فيرى فرجه في فرجها على الصفة التي لا لبس فيها ولا غموض، فلو أنه رآه مختلياً بالمرأة فلا يكفي هذا لإثبات الزنا، فإنه ربما كان الرجل لم يجامعها بعد، وقد يكون ما بينهما علاقة غرام ومحبة، وتمنعه المرأة من نفسها كما يحدث من بعض النساء فتتمنع، فليس وجود الرجل مع المرأة كافياً لإثبات الزنا، وهذا أمر عام لا يختص بالزوجين، فعلى كل مسلم أن يعلم أن الله سائله ومحاسبه عن اتهامه إخوانه المسلمين، فلا يجوز له أن يثبت الزنا على رجل أو على امرأة حتى يرى بعينه أو تقر المرأة للزوج أو يقر الرجل على نفسه.

فالزوج يحكم بأنه متأكد وعلى يقين من زناها بدليلين أحدهما: أن يرى بعينيه الفاحشة، نسأل الله السلامة والعافية! ثانيهما: أن تقر له زوجته وتخبره أنها فعلت هذا الشيء، وأنه وقع منها.

وفي حكم اليقين غلبة الظن أن يأتي شهود يثق فيهم وفي أمانتهم وصدقهم وعدالتهم فيشهدون عنده أنهم رءوا زوجته على الزنا ويشهدون بالصفة المعتبرة في إثبات حد الزنا.

إذاً: هناك حالتان يتحقق فيها الزوج من زنا الزوجة:

الأولى: أن يرى بعينيه ويشهد ذلك بنفسه.

الثانية: أن يشهد عنده العدول، فالأولى تندرج تحت اليقين والثانية هي غالب الظن، ويندرج في حكم اليقين أن تخبره الزوجة كما ذكرنا.

الحالة التي يجب فيها اللعان

الحالة الأولى: إذا تحقق الرجل من زنا زوجته فيجب عليه أن يلاعن إذا ترتب على هذا الزنا حمل وولد، وقطع بأن هذا الولد ليس بولده، مثلاً لأنه لم يجامعها، أو مثلاً حدث الحمل من هذا الزنا فتركها بعد زناها وتحقق أن هذا الحمل من حمل الزنا وأنه ليس بولده، فحينئذٍ إذا لم يستطع أن يتخلى عن هذا الحمل إلا باللعان بحيث يتأكد أنه لو سكت عن هذه الجريمة سيبقى الولد ينسب له، وسيكون هذا الولد شريكاً لأولاده في الميراث ويستحل النظر إلى من لا يجوز النظر إليهن، وكذلك أولاد أولاده، وما يتبع ذلك من تبعات، قال العلماء: يجب عليه أن يلاعن، لكن لو أمكنه أن يتخلص من هذا الولد مثل أن تعترف له بالزنا بعد وضعها الولد، فأمكنه أن يأخذ الولد ويجعله لقيطاً فيخرجه إلى سابلة أو إلى طريق ويضع معه مالاً ليأخذه أحد الناس، ولم يحصل ضرر على فراشه، ولم ينسب الولد إليه، فإذا انعدم عنه الضرر فحينئذٍ إن شاء سترها وهذا أفضل وأعظم أجراً عند الله عز وجل؛ لأن الستر في الزنا مندوبٌ إليه شرعاً، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الشهود -ولو كانوا أربعة- إذا رءوا الرجل يزني فالأفضل لهم أن يستروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في صحيح مسلم من حديث بريدة بن حصيب رضي الله عنه أنه جاءه ماعز بن مالك رضي الله عنه وهو جالسٌ في المسجد، وقال: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم أتاه وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال: ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، فكرر عليه أربع مرات. وجه الدلالة: أن ماعزاً اعترف وأقر ومع ذلك صرفه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يستر نفسه، وأن يراجع نفسه في هذا، وأمره أن يتوب لعل الله أن يتوب عليه، ولذلك لما أقيم عليه الحد وفرّ، قال عليه الصلاة والسلام: (هلا تركتموه ليتوب فيتوب الله عليه)، فهذا يدل على رحمة الله عز وجل بعباده، وهذا أمر أجمع عليه العلماء أن الأفضل أن يستر على الزاني زناه، حتى الشخص لو وقع -والعياذ بالله- في الجريمة، وأراد أن يعترف؛ فبالإجماع أنه يرغب في ستر نفسه، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قضية ماعز والمرأة التي اعترفت بالزنا قام على المنبر وقال: (أيها الناس! من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله). فهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله أن الأفضل والأكمل أن يستر نفسه، لكن إذا كان هناك ضرر مثلما ذكرنا: أنه لو سكت وستر عليه فمعنى ذلك أن فراشه يلوث، وأنه يحصل عليه الضرر، فلا إشكال حينئذٍ في كونه يجب عليه أن يدفع عن نفسه الضرر حتى لا ينسب الولد إليه.

ولوجوب الملاعنة جانبان:

الأول: أن يتحقق من زناها.

الثاني: ألا يمكنه دفع الضرر المترتب على زناها، وهو الولد، فحينئذٍ يجب عليه أن يلاعن، وإذا أمكنه دفع ضرر الولد بإخراجه عنه وعن فراشه ودفع بلائه عنه. فالأفضل أن يستر المرأة، لكن هل يبقي المرأة عنده أم يسرحها؟

هذا فيه تفصيل: فالمرأة التي وقعت في الحرام ثم تابت توبةً نصوحاً، وظهرت الدلائل والقرائن على أنها تائبة إلى الله عز وجل، وأنها كارهة لهذا الأمر، فمذهب طائفة من العلماء أنه يشرع له أن يسترها وأن يضمها إليه، خاصةً إذا غلب على ظنه أنه لو طلقها قد تقع في الزنا، ويفسد حالها أكثر، فيضمها إليه وخاصةً إذا كانت قريبة أو نحو ذلك.

وأما إذا خشي أنها تكذب في توبتها أو لم يظهر له الدليل على صدق توبتها فلا يجوز له أن يبقيها؛ لأن هذا يعرض فراشه ونسبه للحرام، ويؤثر عليه وعلى ذريته ونسبه، فلا يجوز أن يبقي مثل هذه، ويجوز له شرعاً إذا ثبت أنها زانية أن يضيق عليها حتى تدفع له المهر ويخالعها خلعاً شرعياً؛ لأنه إذا أتت بفاحشة مبينة فمن حق الزوج أن يضيق عليها حتى ترد له مهره؛ لأنها خانت عشرته، وأفسدت عليه فراشه، ويكفيه ما بلي به من العذاب، وحينئذٍ يأخذ حقه من المهر لعل الله أن يعوضه خيراً منها، ولا يجوز له إذا علم أنها زانية أنه يبقيها. ويشكل على هذا حديث: (إن امرأتي لا ترد يد لامس فقال عليه الصلاة والسلام: طلقها، قال: يا رسول الله! إني أخشى أن تتبعها نفسي، فأمره أن يمسكها)، هذا الحديث -أولاً- ضعيف الإسناد، ضعفه العلماء رحمهم الله، وممن أشار إلى ضعفه الإمام ابن الجوزي رحمه الله في كتاب: العلل المتناهية في بيان الأحاديث الواهية، وبيّن أنه حديث موضوع، ومن أهل العلم من حسن هذا الحديث، وعلى فرض تحسينه يجاب عنه بأجوبة، منها: إن قوله: (إن امرأتي لا ترد يد لامس)، ليس المراد به الزنا، وإنما المراد ما كان في أعراف الجاهلية بما يسمى: بالأخدان، فكانت المرأة لها عشيق وعشير يقبلها ويلمسها ولكن دون أن يزني بها، كما يقع الآن في أعراف الجاهلية المعاصرة عند الكفار أن المرأة المتزوجة يكون لها صديق أو لها خدن، وهذا الذي عناه الله بقوله: وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25]، فهذا الخدن قد يستمتع من المرأة بما دون الفرج، فقوله: ترد يد لامس، أي: أنها يستمع بها بما دون الفرج، وهذا الجواب اختاره غير واحدٍ ومنهم الإمام ابن القيم رحمه الله، وعلى كل حال، فقد دلت النصوص على أنه لا يجوز أن يمسك بعصمة المرأة الزانية خاصةً إذا لم تتب من زناها؛ لأن الله يقول: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، فلا يجوز للرجل أن يتساهل في هذا الأمر؛ لأنه ينشر الفساد، ويعين على الفساد، والشريعة ما جاءت بالمعونة على الفساد، ولا شك أن الرجل إذا ضعف في مثل هذه الأمور كان ديّوثاً -والعياذ بالله- يقر الحرام في أهله، فعليه لعنة الله عز وجل، فلا يجوز التساهل في مثل هذه الأمور، إنما يشرع الستر إذا كانت المرأة معروفة بالمحافظة وحصل الزلل منها، فكل حالة تدرس على حدة، ويرجع فيها إلى أهل العلم، ففي بعض الأحوال يكون الرجل متساهلاً في فراش المرأة ويغيب عنها الشهور فتقع في الحرام بسبب الزوج، وقد تكون هناك أمور مهيأة مثل تساهله في اختلاط أقاربه بها واحتكاكهم بها ونحو ذلك، وعلى كل حال فالأصل الشرعي يقتضي أنه يجب أن نحافظ على الفراش، وهذه هي الحالة الأولى التي يجب فيها اللعان.

الحالة التي يحرم فيها اللعان

الحالة الثانية: يحرم اللعان إذا كان الرجل كاذباً على زوجته فيتهمها بالباطل ويتهمها بالزور، وهذا الأمر من السبع الموبقات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في الصحيح، وحذّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منها، ومنها قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وتوعد الله عز وجل من فعل ذلك باللعنة في الدنيا واللعنة في الآخرة، والعذاب العظيم في الدنيا والآخرة، ويفضحه الله على رءوس الأشهاد؛ فتشهد عليه يده وتشهد عليه رجله ويشهد عليه لسانه بما افتراه على المرأة البريئة من الزور والبهتان، والتساهل في التهم والقذف أمر عظيم، ومن تأمل نصوص الشريعة في الكتاب والسنة وجدها تعظم حرمة المسلم، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن العرض بالدم، ولربما كان قتل الإنسان أهون عنده من أن يُطعن في عرضه، ولكن لا شك أن الله سبحانه وتعالى يعين البريء ويحفظه ويثبته؛ لأن من يصبر يصبره الله، وهذا البلاء يرفع الله به درجته؛ ولذلك قدر الله عز وجل هذا البلاء لخير الأمة صلوات الله وسلامه عليه؛ حتى يُعلّم أمته الصبر على التهم، ويعلم كل مؤمن وكل مؤمنة أن يتجلدا في مثل هذا البلاء الذي يصدر من هذه النوعية من الناس التي لا تبالي بما تقول، وتلصق التهم بأتفه الأشياء، فتجد الرجل بمجرد أن يرى غريباً دخل بيتاً اتهمه بالزنا! وبمجرد أن يرى امرأةً في مكان اتهمها بالزنا! فهذا أمر ينبغي للمسلم أن يتقي الله عز وجل فيه، وأن يخاف الله سبحانه وتعالى، وأن يلتمس لإخوانه وأخواته المؤمنات الأعذار، وأن ينزل نفسه منزلتهم، وإذا فعل ذلك حفظ الله له دينه، وحفظ له عرضه، ومن صان أعراض الناس صان الله عرضه، ومن عف عن الناس عفت الناس عنه، قال الإمام مالك رحمه الله: ( أعرف أناساً لهم عيوب سكتوا عن عيوب الناس فسكت الناس عن عيوبهم، وأعرف أناساً لا عيوب لهم تكلموا في عيوب الناس فأحدث الناس لهم عيوباً).

فتهمة الزوج لزوجته بالحرام أمر عظيم، وأجمع العلماء على أن اللعان في هذه الحالة محرمٌ على الزوج، ولا يجوز له أن يلاعن، فإذا بلغت به الجرأة أن ادعى ذلك في مجلس القضاء، وطلب أن يلاعن زوجته فالأمر أشد والمصيبة عليه أعظم؛ لأنه سيحلف الأيمان الفاجرة الكاذبة -والعياذ بالله- ثم يقول في الموجبة الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وإذا قالها حلّت عليه لعنة الله عز وجل والعياذ بالله!

الحالة التي يجوز فيها اللعان وعدمه

ذكرنا الحالة الأولى وهي: الوجوب، والحالة الثانية وهي: التحريم، وهما شبه مجمع عليها بين العلماء رحمهم الله. والحالة الثالثة هي: الجواز، إذا اطلع الرجل على زنا زوجته ولم يحدث من هذا الزنا حمل، ففي هذه الحالة من حقه أن يضيق عليها فيما بينه وبينها حتى تفتدي، ومن حقه أن يلاعنها، فإذا شاء أن يلاعنها لاعنها، وإذا شاء أن يضيق عليها حتى تفتدي ويسرحها فعل ذلك، والأفضل والأكمل -كما ذكرنا- أن يسترها ألا يلاعنها، وإذا أراد أن يأخذ حقه بأن تفتدي أخذه، وإذا أراد أن يطلقها ولا يأخذ شيئاً فإن الله عز وجل سيعوضه.

الحالة الأولى: إذا تحقق الرجل من زنا زوجته فيجب عليه أن يلاعن إذا ترتب على هذا الزنا حمل وولد، وقطع بأن هذا الولد ليس بولده، مثلاً لأنه لم يجامعها، أو مثلاً حدث الحمل من هذا الزنا فتركها بعد زناها وتحقق أن هذا الحمل من حمل الزنا وأنه ليس بولده، فحينئذٍ إذا لم يستطع أن يتخلى عن هذا الحمل إلا باللعان بحيث يتأكد أنه لو سكت عن هذه الجريمة سيبقى الولد ينسب له، وسيكون هذا الولد شريكاً لأولاده في الميراث ويستحل النظر إلى من لا يجوز النظر إليهن، وكذلك أولاد أولاده، وما يتبع ذلك من تبعات، قال العلماء: يجب عليه أن يلاعن، لكن لو أمكنه أن يتخلص من هذا الولد مثل أن تعترف له بالزنا بعد وضعها الولد، فأمكنه أن يأخذ الولد ويجعله لقيطاً فيخرجه إلى سابلة أو إلى طريق ويضع معه مالاً ليأخذه أحد الناس، ولم يحصل ضرر على فراشه، ولم ينسب الولد إليه، فإذا انعدم عنه الضرر فحينئذٍ إن شاء سترها وهذا أفضل وأعظم أجراً عند الله عز وجل؛ لأن الستر في الزنا مندوبٌ إليه شرعاً، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الشهود -ولو كانوا أربعة- إذا رءوا الرجل يزني فالأفضل لهم أن يستروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في صحيح مسلم من حديث بريدة بن حصيب رضي الله عنه أنه جاءه ماعز بن مالك رضي الله عنه وهو جالسٌ في المسجد، وقال: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم أتاه وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال: ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، فكرر عليه أربع مرات. وجه الدلالة: أن ماعزاً اعترف وأقر ومع ذلك صرفه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يستر نفسه، وأن يراجع نفسه في هذا، وأمره أن يتوب لعل الله أن يتوب عليه، ولذلك لما أقيم عليه الحد وفرّ، قال عليه الصلاة والسلام: (هلا تركتموه ليتوب فيتوب الله عليه)، فهذا يدل على رحمة الله عز وجل بعباده، وهذا أمر أجمع عليه العلماء أن الأفضل أن يستر على الزاني زناه، حتى الشخص لو وقع -والعياذ بالله- في الجريمة، وأراد أن يعترف؛ فبالإجماع أنه يرغب في ستر نفسه، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قضية ماعز والمرأة التي اعترفت بالزنا قام على المنبر وقال: (أيها الناس! من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله). فهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله أن الأفضل والأكمل أن يستر نفسه، لكن إذا كان هناك ضرر مثلما ذكرنا: أنه لو سكت وستر عليه فمعنى ذلك أن فراشه يلوث، وأنه يحصل عليه الضرر، فلا إشكال حينئذٍ في كونه يجب عليه أن يدفع عن نفسه الضرر حتى لا ينسب الولد إليه.

ولوجوب الملاعنة جانبان:

الأول: أن يتحقق من زناها.

الثاني: ألا يمكنه دفع الضرر المترتب على زناها، وهو الولد، فحينئذٍ يجب عليه أن يلاعن، وإذا أمكنه دفع ضرر الولد بإخراجه عنه وعن فراشه ودفع بلائه عنه. فالأفضل أن يستر المرأة، لكن هل يبقي المرأة عنده أم يسرحها؟

هذا فيه تفصيل: فالمرأة التي وقعت في الحرام ثم تابت توبةً نصوحاً، وظهرت الدلائل والقرائن على أنها تائبة إلى الله عز وجل، وأنها كارهة لهذا الأمر، فمذهب طائفة من العلماء أنه يشرع له أن يسترها وأن يضمها إليه، خاصةً إذا غلب على ظنه أنه لو طلقها قد تقع في الزنا، ويفسد حالها أكثر، فيضمها إليه وخاصةً إذا كانت قريبة أو نحو ذلك.

وأما إذا خشي أنها تكذب في توبتها أو لم يظهر له الدليل على صدق توبتها فلا يجوز له أن يبقيها؛ لأن هذا يعرض فراشه ونسبه للحرام، ويؤثر عليه وعلى ذريته ونسبه، فلا يجوز أن يبقي مثل هذه، ويجوز له شرعاً إذا ثبت أنها زانية أن يضيق عليها حتى تدفع له المهر ويخالعها خلعاً شرعياً؛ لأنه إذا أتت بفاحشة مبينة فمن حق الزوج أن يضيق عليها حتى ترد له مهره؛ لأنها خانت عشرته، وأفسدت عليه فراشه، ويكفيه ما بلي به من العذاب، وحينئذٍ يأخذ حقه من المهر لعل الله أن يعوضه خيراً منها، ولا يجوز له إذا علم أنها زانية أنه يبقيها. ويشكل على هذا حديث: (إن امرأتي لا ترد يد لامس فقال عليه الصلاة والسلام: طلقها، قال: يا رسول الله! إني أخشى أن تتبعها نفسي، فأمره أن يمسكها)، هذا الحديث -أولاً- ضعيف الإسناد، ضعفه العلماء رحمهم الله، وممن أشار إلى ضعفه الإمام ابن الجوزي رحمه الله في كتاب: العلل المتناهية في بيان الأحاديث الواهية، وبيّن أنه حديث موضوع، ومن أهل العلم من حسن هذا الحديث، وعلى فرض تحسينه يجاب عنه بأجوبة، منها: إن قوله: (إن امرأتي لا ترد يد لامس)، ليس المراد به الزنا، وإنما المراد ما كان في أعراف الجاهلية بما يسمى: بالأخدان، فكانت المرأة لها عشيق وعشير يقبلها ويلمسها ولكن دون أن يزني بها، كما يقع الآن في أعراف الجاهلية المعاصرة عند الكفار أن المرأة المتزوجة يكون لها صديق أو لها خدن، وهذا الذي عناه الله بقوله: وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25]، فهذا الخدن قد يستمتع من المرأة بما دون الفرج، فقوله: ترد يد لامس، أي: أنها يستمع بها بما دون الفرج، وهذا الجواب اختاره غير واحدٍ ومنهم الإمام ابن القيم رحمه الله، وعلى كل حال، فقد دلت النصوص على أنه لا يجوز أن يمسك بعصمة المرأة الزانية خاصةً إذا لم تتب من زناها؛ لأن الله يقول: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، فلا يجوز للرجل أن يتساهل في هذا الأمر؛ لأنه ينشر الفساد، ويعين على الفساد، والشريعة ما جاءت بالمعونة على الفساد، ولا شك أن الرجل إذا ضعف في مثل هذه الأمور كان ديّوثاً -والعياذ بالله- يقر الحرام في أهله، فعليه لعنة الله عز وجل، فلا يجوز التساهل في مثل هذه الأمور، إنما يشرع الستر إذا كانت المرأة معروفة بالمحافظة وحصل الزلل منها، فكل حالة تدرس على حدة، ويرجع فيها إلى أهل العلم، ففي بعض الأحوال يكون الرجل متساهلاً في فراش المرأة ويغيب عنها الشهور فتقع في الحرام بسبب الزوج، وقد تكون هناك أمور مهيأة مثل تساهله في اختلاط أقاربه بها واحتكاكهم بها ونحو ذلك، وعلى كل حال فالأصل الشرعي يقتضي أنه يجب أن نحافظ على الفراش، وهذه هي الحالة الأولى التي يجب فيها اللعان.

الحالة الثانية: يحرم اللعان إذا كان الرجل كاذباً على زوجته فيتهمها بالباطل ويتهمها بالزور، وهذا الأمر من السبع الموبقات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في الصحيح، وحذّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منها، ومنها قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وتوعد الله عز وجل من فعل ذلك باللعنة في الدنيا واللعنة في الآخرة، والعذاب العظيم في الدنيا والآخرة، ويفضحه الله على رءوس الأشهاد؛ فتشهد عليه يده وتشهد عليه رجله ويشهد عليه لسانه بما افتراه على المرأة البريئة من الزور والبهتان، والتساهل في التهم والقذف أمر عظيم، ومن تأمل نصوص الشريعة في الكتاب والسنة وجدها تعظم حرمة المسلم، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن العرض بالدم، ولربما كان قتل الإنسان أهون عنده من أن يُطعن في عرضه، ولكن لا شك أن الله سبحانه وتعالى يعين البريء ويحفظه ويثبته؛ لأن من يصبر يصبره الله، وهذا البلاء يرفع الله به درجته؛ ولذلك قدر الله عز وجل هذا البلاء لخير الأمة صلوات الله وسلامه عليه؛ حتى يُعلّم أمته الصبر على التهم، ويعلم كل مؤمن وكل مؤمنة أن يتجلدا في مثل هذا البلاء الذي يصدر من هذه النوعية من الناس التي لا تبالي بما تقول، وتلصق التهم بأتفه الأشياء، فتجد الرجل بمجرد أن يرى غريباً دخل بيتاً اتهمه بالزنا! وبمجرد أن يرى امرأةً في مكان اتهمها بالزنا! فهذا أمر ينبغي للمسلم أن يتقي الله عز وجل فيه، وأن يخاف الله سبحانه وتعالى، وأن يلتمس لإخوانه وأخواته المؤمنات الأعذار، وأن ينزل نفسه منزلتهم، وإذا فعل ذلك حفظ الله له دينه، وحفظ له عرضه، ومن صان أعراض الناس صان الله عرضه، ومن عف عن الناس عفت الناس عنه، قال الإمام مالك رحمه الله: ( أعرف أناساً لهم عيوب سكتوا عن عيوب الناس فسكت الناس عن عيوبهم، وأعرف أناساً لا عيوب لهم تكلموا في عيوب الناس فأحدث الناس لهم عيوباً).

فتهمة الزوج لزوجته بالحرام أمر عظيم، وأجمع العلماء على أن اللعان في هذه الحالة محرمٌ على الزوج، ولا يجوز له أن يلاعن، فإذا بلغت به الجرأة أن ادعى ذلك في مجلس القضاء، وطلب أن يلاعن زوجته فالأمر أشد والمصيبة عليه أعظم؛ لأنه سيحلف الأيمان الفاجرة الكاذبة -والعياذ بالله- ثم يقول في الموجبة الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وإذا قالها حلّت عليه لعنة الله عز وجل والعياذ بالله!

ذكرنا الحالة الأولى وهي: الوجوب، والحالة الثانية وهي: التحريم، وهما شبه مجمع عليها بين العلماء رحمهم الله. والحالة الثالثة هي: الجواز، إذا اطلع الرجل على زنا زوجته ولم يحدث من هذا الزنا حمل، ففي هذه الحالة من حقه أن يضيق عليها فيما بينه وبينها حتى تفتدي، ومن حقه أن يلاعنها، فإذا شاء أن يلاعنها لاعنها، وإذا شاء أن يضيق عليها حتى تفتدي ويسرحها فعل ذلك، والأفضل والأكمل -كما ذكرنا- أن يسترها ألا يلاعنها، وإذا أراد أن يأخذ حقه بأن تفتدي أخذه، وإذا أراد أن يطلقها ولا يأخذ شيئاً فإن الله عز وجل سيعوضه.