شرح زاد المستقنع كتاب الظهار [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

وقوع الظهار من كل زوجة

فيقول المصنف رحمه الله: [ويصح من كل زوجة]

أي: يصح الظِهار إذا كان متعلقاً بالزوجة.

وقوله: [من كل زوجة] (كل) من ألفاظ العموم، فيشمل الزوجة الصغيرة والكبيرة، ويشمل الزوجة التي قد دُخل بها، أو عقد عليها ولم يدخل بها.

كذلك أيضاً يشمل الزوجة الطاهرة والحائض، فيشمل كل من يصدق عليها وصف الزوجة؛ لدليل العموم في قوله تعالى: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:2]، فأثبت أن الظِهار متعلق بالنساء.

والذي يفهم من هذه العبارة أنه لا يصح الظِهار من أجنبية، فلو قال لامرأة أجنبية ليست بزوجة: أنتِ عليّ كأمي، أو: أنتِ عليّ كظهر أمي فإنه ليس بظهار، لكن كونه يخاطب امرأة أجنبية بهذا الخطاب فإنها لو اشتكت إلى القاضي فإنه من حق القاضي أن يُعزِره ويؤدبه لهذا الخطاب.

كذلك أيضاً في قوله: [من كل زوجة] نفهم منه أنه لا يصح الظِهار إذا كانت أمة مملوكة، فلو قال لأمة من إمائه: أنتِ عليّ كظهر أمي لا يقع الظهار، ولا تحرم بهذا القول؛ لأن الله عز وجل خص الظِهار بالنساء بقوله: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:2]، والمرأة المملوكة ليست من النساء، وإنما هي من ملك اليمين، ولذلك فرق الله عز وجل بين النساء وبين ملك اليمين كما في آية النور في قوله تعالى: أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ... [النور:31]، وآية الأحزاب في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ... [الأحزاب:50]، ففرق بين النساء وملك اليمين، فلما قال تعالى: (أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) دل على أن ملك اليمين غير النساء.

والأصل يقتضي أن مملوكة اليمين -وهي الأمة- لا تأخذ حكم الزوجة من كل وجه، ولذلك لا يتعلق بها الظهار، فإذا لم يتعلق بها الظِهار لا يتعلق بها الطلاق.

فصح دليل النظر والأثر على أن الظِهار لا يتعلق بالإماء، ويستوي في الإماء أن تكون أم ولد أو غيرها؛ فإن المرأة إذا كانت موطوءة بملك اليمين فلا توصف بالزوجية، ولا تأخذ حكم الزوجية.

وبناءً على ذلك يختص الظِهار بالمرأة التي عقد عليها عقداً شرعياً، سواءٌ أو قع الدخول أم لم يقع.

وما سبق تقريره قد ظهر من أقوال بعض العلماء خلافه، فهناك من العلماء من أثبت الظِهار من الأجنبية، وهذا مروي عن بعض السلف وبعض الأئمة، وحفظ ذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

وكلك أيضاً للأمة، فبعض العلماء يفرق فيقول: إذا كان عنده إماء وقال: أنتن عليّ كظهر أمي لننظر في من كانت منهن يطؤها فإنه يلحق بها الظِهار، والتي لا يطؤها لا يلحق بها الظهار.

ومنهم من فرق في الإماء بين أم الولد وغيرها، وهذا كله مرجوح؛ لأن الآية نصت على أن الظِهار متعلق بالزوجات، وبناءً على ذلك لا يتعلق بغير الزوجات.

ويبقى السؤال لو قال لها: أمركِ بيدك. ففي الطلاق قلنا لو قال لها: أمركِ بيدكِ فقالت: طلقت نفسي فحينئذٍ يقع الطلاق، لكن لو قال لها: أمركِ بيدك فقالت: أنتَ عليّ كظهر أبي فهل يقع الظهار؟ نقول: لا؛ لأن الآية نصت على أن هذا الحكم خاص بالرجال، ولا يدخله الاستنابة والتفويض كالحال في الطلاق.

ما يصح من أنواع الظهار

قال رحمه الله تعالى: [فصل: ويصح الظِهار معجلاً ومعلقاً بشرط].

شرع رحمه الله في صيغة الظهار، فإذا قال الرجل لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي فإما أن يعجل وينجز، وإما أن يعلق.

فالحالة الأولى: أن يكون الظهار منجزاً، فإذا أنجز يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي، فقد أنجز ولم يعلق ظِهاره على شيء، فيقع الظهار.

والدليل ظاهر الكتاب وظاهر السنة، فالأصل في الظِهار أنه يقع منجزاً، والإجماع منعقد على أن صيغة الظِهار المنجزة والمعجلة واقعة إذا صدرت مستوفية للشروط المعتبرة.

والحالة الثانية: أن يكون الظِهار معلقاً، والتعليق بشرط كأن يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي إن خرجت من البيت.

أو: أنتِ عليّ كظهر أمي إن كلمت فلانة أو ذهبت إلى كذا، فهذا كله معلق بشرط، فإذا وقع الشرط وقع الظهار، فلو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي إن خرجت من البيت فخرجتْ وقع الظهار، فكما أن الطلاق يقع معلقاً كذلك يقع الظِهار معلقاً، فإذا وقع الشرط حكم بثبوت الظِهار، وجرت الأحكام المعتبرة عليه.

قال رحمه الله: [فإذا وجد صار مظاهراً].

قوله: [ فإذا وجد ] يعني الشرط، وقوله: [صار] أي: الزوج، وقوله: [مظاهراً] لأنه فيما بينه وبين الله علق ظهاره على وجود شيء، ووجد ذلك الشيء، فلزمه ما التزمه فيما بينه وبين الله، وقد تقدم معنا بيان الأدلة على ثبوت الطلاق معلقاً، فكما أن الطلاق يقع معلقاً كذلك الظِهار يقع معلقاً.

قال رحمه الله: [ومطلقاً ومؤقتاً].

أي: ويصح الظِهار مطلقاً ومؤقتاً، يعني التقسيم في قوله: [معجلاً ومعلقاً بشرط] فالمطلق أن يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي، فهذا مطلق، فلم يقل: في الليل، ولا: في النهار، ولا: في اليوم، ولا: غداً، فما علق ولا قيد.

وقوله: [ويصح مقيداً ومعلقاً] كأن يقول: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا الشهر. أو: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا الأسبوع، أو: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا اليوم. فإذا جاء مقيداً -وهو المعلق بوقت معين- نقول له: إن امتنعت من قربانها وإتيانها طيلة هذا الوقت فلا شيء عليك، فكما أنه لم يقع وطء، ولا عزم على الوطء، فحينئذٍ إذا مضى الشهر حلت له وارتفع الظهار؛ لأنه جعل كونها محرمة عليه كحرمة الأم مؤقتاً بوقت معين، وهذا الوقت المعين المحدد يتقيد به الحكم الشرعي بالظِهار، فبيّن رحمه الله أن الظِهار المقيد بوقت أو بزمان يتقيد بذلك الزمان، فإن مضى هذا الزمان كاملاً وانتهى فإنه ينتهي الظِهار بانتهائه.

لكن لو أنه قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي شهر جمادى الأولى، أو: أنتِ عليّ كظهر أمي شهر رمضان، وأراد في رمضان أن يجامعها، وأن يعود إليها أو يمسها فإنه حينئذٍ تلزمه الكفارة، ما دام أنه قيّد الظِهار بشهر رمضان وأراد أن يعود وحصل منه العود في رمضان، لكن لو أنه سكن وصبر حتى انتهى رمضان يرتفع الحكم وتعود حلالاً له؛ لأنه جعل ظهاره مقيداً بزمان فيفوت بفواته.

قال رحمه الله: [فإن وطأ فيه كفّر].

قوله: [فإن وطأ فيه] يعني في الزمان الذي علق به أو قيد.

وقوله: [كفّر] أي: لزمته كفارة الظهار؛ لأنه سيأتي أن كفارة الظِهار لا تلزم إلا بالعود؛ لأن الله تعالى جعل العود شرطاً في وجوب الكفارة، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3]، فجعل لزوم الرقبة ووجوبها على الزوج مقيداً بالعود، وهذا هو شرط الكفارة، وسيأتي إن شاء الله بيانه.

وإذا ثبت هذا أنه شرط الكفارة فحينئذٍ لو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا الشهر، أو أنتِ عليّ كظهر أمي هذه الساعة، أو هذا اليوم، ومضى اليوم كاملاً دون عود فلا كفارة.

قال رحمه الله: [وإن فرغ الوقت زال الظهار].

قوله: [وإن فرغ الوقت] أي: الذي علق وقيد به، وقوله: [زال الظِهار] أي: رجعت حلالاً له، ولا تلزمه كفارة.

ما يحرم على المظاهر من زوجته قبل التكفير

قال رحمه الله: [ويحرم قبل أن يكفّر وطء ودواعيه ممن ظاهر منها].

يحرم على الزوج إذا ظاهر من زوجته أن يطأها قبل أن يكفر بنص القرآن: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3]، فألزم الله الكفارة قبل حصول المسيس، وهو كناية عن الجماع.

وقال بعض العلماء: يدخل في حكم الوطء مقدمات الوطء، ومن أهل العلم من خص الحكم بالوطء نفسه، والخلاف في قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3] هل المراد بقوله تعالى: أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3] الجماع أم لا؟ لأن الله عبر بالمس عن الجماع فقال تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:237]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49] فيعبر بالمسيس عن الجماع.

ولذلك قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسيره للقرآن: (إن الله يكني).

وإذا ثبت هذا فمذهب طائفة من العلماء أن قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3] المراد به: من قبل أن يقع الجماع. وحينئذٍ لم يحرموا مقدمات الجماع، فيحلون للرجل المظاهر من زوجته أن يستمتع بالتقبيل والمباشرة فيما دون الفرج، وقالوا: لا حرج عليه ولا بأس. والذين منعوا قالوا: إن قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3] يراد به الوطء وفي حكم الوطء مقدماته؛ لأن ما منع من الوطء، يمنع من مقدماته كالإحرام؛ فإن الإحرام كما يمنع الوطء يمنع من مقدماته من المباشرة ونحوها، وكذلك الاعتكاف يمنع من الوطء ويمنع من مقدمات الوطء بالنسبة للصائم.

فإذا ثبت هذا قالوا: إن الحكم يبقى على الجماع ومقدمات الجماع، فلا يجوز له أن يستمتع بالمرأة بما يدعوه إلى وطئها، والآية محتملة.

إلا أن بعض العلماء رجح القول الذي اختاره المصنف من جهة قوله: أنتِ عليّ كظهر أمي، فقال: إنه قصد التحريم، بدليل أنه لو قال لها: أنتِ عليّ كأمي كان ظهاراً، والأم لا يجوز تقبيلها، ولا يجوز الاستمتاع بها مما دون الفرج، وقد وصفها بهذا الوصف، فحرمها تحريماً يشمل الجماع ويشمل مقدماته، فرد الأولون وقالوا: هذا حجة لنا لا حجة علينا؛ لأنه ما سمي ظهاراً إلا لقـوله: أنتِ عليّ كظهـر، والظهر كني به عن الركوب والجماع، فبناءً على ذلك يختص بالجماع.

وكلا القولين له وجهه، ومن قال بالدواعي يستدل بأن الشرع يحرم الوطء -كما ذكرنا- ويقصد من تحريمه تحريم كل ما يدعو إليه، ولأن ما يدعو إلى الشيء يغري بالشيء، وما يدعو سيوقع في الشيء.

وبناءً على ذلك قالوا: نحرم عليه الوطء ودواعيه، كما اختاره المصنف رحمه الله.

وقت ثبوت الكفارة في ذمة المظاهر

قال رحمه الله: [ولا تثبت الكفارة في الذمة إلا بالوطء وهو العود].

هذه الجملة من فوائدها أن الرجل لو ظاهر من امرأته ثم توفي قبل أن يجامعها فلا كفارة عليه، ولا يلزم إخراج الكفارة من تركته والتكفير عنه، لكن لو أنه ظاهر منها ثم جامعها ثم توفي بعد جماعها لزمته الكفارة ووجبت عليه، وهذا معنى قوله: [في الذمة]، فتلزمه في ذمته أثناء حياته وبعد مماته، وهذا مخرج على القاعدة المعروفة: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود وتنزيل الموجود منزلة المعدوم)، وقد ذكرها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام، ومنها هذه المسألة، فالشخص لو فعل وارتكب ما يوجب التكفير ثم توفي مباشرة ثبتت في ذمته، ونُزِّلت ذمة الميت منـزلة ذمة الحي، ووجب إخراج الكفارة من ماله وتركته.

فلا تلزم بالذمة إلا بالجماع، فلو أنه لم يجامع لم يتحقق العود.

قال رحمه الله: [ويلزمه إخراجها قبله عند العزم عليه].

إذا أراد الرجل أن يعود في ظهاره، وأراد أن يطأ المرأة فلا يجوز له أن يطأها حتى يقع منه التكفير، وبناءً على ذلك قالوا: إذا وجد العزم -أي: عزم على جماعها وإتيانها- يكفر وهذا مبني على حديث الترمذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للمظاهر: (ولا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به)، فأمره عليه الصلاة والسلام أن يكفر قبل أن يجامع، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه يجب عليه أن يخرج الكفارة قبل أن يقع الجماع.

حكم تكرار لفظ الظهار لأكثر من امرأة أو أكثر من مرة

قال رحمه الله: [وتلزمه كفارة واحدة بتكريره].

بعد أن بين رحمه الله حقيقة الظِهار وجملة من المسائل المتعلقة بأركانه بين أن الأصل أن يكون الظِهار مرة واحدة، فالله عز وجل أوجب الكفارة على من ظاهر إذا تلفظ بالظِهار مرة واحدة، ولا يشترط أن يكرر لفظ الظِهار، خلافاً لبعض أئمة السلف وبعض الظاهرية، ويحكى عن داود، ويحكى مذهباً للظاهرية، وهو أنهم يشترطون في وجود الكفارة العود في التلفظ بالظهار مرة ثانية.

والصحيح ما ذهب إليه الجماهير أنه لو تلفظ به مرة واحدة فإنه مظاهر وحكمه حكم المظاهر، وهذا هو الأصل.

فبعد أن فرغ رحمه الله من بيان الأصل شرع في مسألة تكرار الظهار، وهذا من التسلسل المنطقي وترتيب الأفكار، وهو أنك إذا بينت المسائل والأحكام تبدأ بالأشياء التي هي الأصل، فالأصل ألا يكرر، ثم بعد أن تبين حكم الأصل تشرع في حكم الخارج عن الأصل، مثل تكرار اللفظ على امرأة واحدة، أو تكراره لأكثر من امرأة.

فلو أنه قال لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أمي ثم رجع مرة ثانية وقال: أنتِ عليّ كظهر أمي. أنتِ عليّ كظهر أمي. فكرر ثلاثاً في مجلس واحد، أو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي. ثم خرج من المنزل فلقي أخاها فقال: أختك عليّ كظهر أمي. ثم خرج إلى أصحابه أو إلى قرابته فقال: زوجتي عليّ كظهر أمي. فهذا ظهار مكرر في محل واحد وهو الزوجة، فلا تلزم فيه إلا كفارة واحدة، ويستوي في ذلك أن يكون مؤكداً أو مخبراً أو مؤسساً، كأن يقول: أنتِ عليّ كظهر أمي. أنتِ عليّ كظهر أمي، فأراد أن يؤكد أنه قد قال الظِهار فكرره ثلاثاً أو كرره مرتين في مجلس واحد، أو كرره أكثر من مرة تأكيداً في مجلس مختلف، كأن قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي. فلما نقلها عند أهلها قالت له: هل أنت ظاهرت مني؟ فقال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي تأكيداً لما قاله لها في الخلوة.

وهذا كله حكمه واحد، وليس في ذلك إلا كفارة واحدة، سواءٌ أكان مؤكداً أم كان مؤسساً أم كان مخبراً، وهذه صورة.

والصورة الثانية: أن يقع التكرار لأكثر من زوجة، أو يكون العكس، فيتعدد المحل (الزوجات)، ويتحد لفظ الظهار، وهذا ما أشار إليه بقوله رحمه الله: [وتلزمه كفارة واحدة بتكريره قبل التكفير] إذا كرر اللفظ لامرأة.

وهذا كله شرطه قبل أن يكفر، أما لو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي ثم كفر، ثم رجع مرة ثانية فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي فإنه تلزمه كفارة ثانية.

وكذلك في اليمين لو قال: والله لا أشرب هذا الماء. فحنث وكفر، ثم رجع مرة ثانية وحلف فكفارة ثانية، فالشرط المعتبر لكفارة واحدة أن يقع منه التكرار قبل التكفير.

قوله: [ من واحدة ] أي: تلزمه كفارة واحدة إذا كرره أكثر من مرة لامرأة واحدة.

وقوله: [لظهاره من نسائه بكلمة واحدة].

لو أنه ظاهر من نسائه فقال لهن: أنتن عليّ كظهر أمي. فقاله لمجموعة من النساء وهن زوجات له فإن العلماء والأئمة والسلف اختلفوا في هذه المسألة، فقال بعض السلف: إذا خاطب نساءه فإنه لا تلزمه إلا كفارة واحدة، فإذا كن أربع نسوة فقال لهن: أنتن عليّ كظهر أمي فلا تلزمه إلا كفارة واحدة بظهاره منهن.

وهذا القول مروي عن عمر بن الخطاب، رواه عنه حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقد روى أن عمر رضي الله عنه سئل، عن رجل قال لنسائه: أنتن عليّ كظهر أمي. وأراد أن يعود؟ قال: عليه كفارة واحدة. فجعله ظهاراً واحداً.

وممن قال بهذا القول من الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحكي عن الحسن البصري وسعيد بن المسيب، واختاره بعض الأئمة الأربعة كما ذكر المصنف رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول الإمام الشافعي في القديم، وكذلك المالكية رحمة الله على الجميع.

وقال بعض أئمة السلف: إذا قال لأكثر من واحدة: أنتن عليّ كظهر أمي فإنه يتعدد الظِهار بتعدد المحل. وهذا القول هو مذهب الحنفية ورواية عن الإمام أحمد، ومروي عن بعض أئمة السلف كـالأوزاعي وسفيان الثوري وغيرهم رحمة الله على الجميع.

والقول الثاني في الحقيقة أقوى من حيث الأصل، وأقوى من حيث الدليل؛ لأنه حينما خاطب نساءه تعلق الظِهار بكل امرأة على حده، كما لو قال: نسائي طوالق، وكانت واحدة منهن مطلقة مرتين، فمعناه أنها الطلقة الثالثة المحرمة أو كانت إحداهن غير مدخولٍ بها كانت طلقة بائنة، أو كانت إحداهن مدخولاً بها وقد طلقها من قبل طلقة واحدة فصارت طلقة رجعية.

فيختلف الطلاق ويتعدد، ويصبح لكل زوجة طلاقها الخاص بها.

وبناءً على ذلك فإن القول بوجوب الكفارة بعدد النساء اللاتي ظاهر منهن قول أقوى، وهو أشبه بالأصول.

وإنما عدل من عدل من السلف والأئمة رحمهم الله إلى ذلك القول لمسألة الاحتجاج بقول الصاحب، وقد سبق الكلام عنها.

قال رحمه الله: [وإن ظاهر منهن بكلمات فكفارات]

هذا مفهوم من قوله قبل [بظهاره من نسائه بكلمة واحدة] فلو ظاهر منهن بكلمات قالوا: إن هذا يتعدد بتعددهن، ولكل واحدة منهن ظهارها.

فالشرط عند أصحاب هذا القول أن تكون كلمة واحدة، فيقول لهن جميعاً: أنتن عليّ كظهر أمي، ويخاطبهن جميعاً بكلمة واحدة ولا يكرر، فإن كرر فإنه يتكرر بتكرار الظهار، ولكل امرأة ظهارها.

فيقول المصنف رحمه الله: [ويصح من كل زوجة]

أي: يصح الظِهار إذا كان متعلقاً بالزوجة.

وقوله: [من كل زوجة] (كل) من ألفاظ العموم، فيشمل الزوجة الصغيرة والكبيرة، ويشمل الزوجة التي قد دُخل بها، أو عقد عليها ولم يدخل بها.

كذلك أيضاً يشمل الزوجة الطاهرة والحائض، فيشمل كل من يصدق عليها وصف الزوجة؛ لدليل العموم في قوله تعالى: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:2]، فأثبت أن الظِهار متعلق بالنساء.

والذي يفهم من هذه العبارة أنه لا يصح الظِهار من أجنبية، فلو قال لامرأة أجنبية ليست بزوجة: أنتِ عليّ كأمي، أو: أنتِ عليّ كظهر أمي فإنه ليس بظهار، لكن كونه يخاطب امرأة أجنبية بهذا الخطاب فإنها لو اشتكت إلى القاضي فإنه من حق القاضي أن يُعزِره ويؤدبه لهذا الخطاب.

كذلك أيضاً في قوله: [من كل زوجة] نفهم منه أنه لا يصح الظِهار إذا كانت أمة مملوكة، فلو قال لأمة من إمائه: أنتِ عليّ كظهر أمي لا يقع الظهار، ولا تحرم بهذا القول؛ لأن الله عز وجل خص الظِهار بالنساء بقوله: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:2]، والمرأة المملوكة ليست من النساء، وإنما هي من ملك اليمين، ولذلك فرق الله عز وجل بين النساء وبين ملك اليمين كما في آية النور في قوله تعالى: أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ... [النور:31]، وآية الأحزاب في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ... [الأحزاب:50]، ففرق بين النساء وملك اليمين، فلما قال تعالى: (أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) دل على أن ملك اليمين غير النساء.

والأصل يقتضي أن مملوكة اليمين -وهي الأمة- لا تأخذ حكم الزوجة من كل وجه، ولذلك لا يتعلق بها الظهار، فإذا لم يتعلق بها الظِهار لا يتعلق بها الطلاق.

فصح دليل النظر والأثر على أن الظِهار لا يتعلق بالإماء، ويستوي في الإماء أن تكون أم ولد أو غيرها؛ فإن المرأة إذا كانت موطوءة بملك اليمين فلا توصف بالزوجية، ولا تأخذ حكم الزوجية.

وبناءً على ذلك يختص الظِهار بالمرأة التي عقد عليها عقداً شرعياً، سواءٌ أو قع الدخول أم لم يقع.

وما سبق تقريره قد ظهر من أقوال بعض العلماء خلافه، فهناك من العلماء من أثبت الظِهار من الأجنبية، وهذا مروي عن بعض السلف وبعض الأئمة، وحفظ ذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

وكلك أيضاً للأمة، فبعض العلماء يفرق فيقول: إذا كان عنده إماء وقال: أنتن عليّ كظهر أمي لننظر في من كانت منهن يطؤها فإنه يلحق بها الظِهار، والتي لا يطؤها لا يلحق بها الظهار.

ومنهم من فرق في الإماء بين أم الولد وغيرها، وهذا كله مرجوح؛ لأن الآية نصت على أن الظِهار متعلق بالزوجات، وبناءً على ذلك لا يتعلق بغير الزوجات.

ويبقى السؤال لو قال لها: أمركِ بيدك. ففي الطلاق قلنا لو قال لها: أمركِ بيدكِ فقالت: طلقت نفسي فحينئذٍ يقع الطلاق، لكن لو قال لها: أمركِ بيدك فقالت: أنتَ عليّ كظهر أبي فهل يقع الظهار؟ نقول: لا؛ لأن الآية نصت على أن هذا الحكم خاص بالرجال، ولا يدخله الاستنابة والتفويض كالحال في الطلاق.