أرشيف المقالات

يتلذذ بمشقة الطاعة لما ألفها قلبه، ولانت بها جوارحه

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
يتلذذ بمشقة الطاعة لَمَّا ألفها قلبه، ولانت بها جوارحه
 
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[1].
 
تأملْ قَولَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾، وتأمل تعلق قلوبهم بذكر الله تعالى، وملازمتهم له في كل حال، مع تفكرهم في آيات الله المبثوثة في الكون، وأن ذلك الذكر وذلك التفكر هو سببُ ثناء الله تعالى عليهم بإنهم هم أولوا الألباب، لا أولئك الذين لا يذكرون الله، ولا يعتبرون بآياته الكونية، ولا يتدبرون آياته الشرعية!
 
ثم تأمل تلك اللذة التي تحصل لمن أدمن ذكر الله تعالى، حتى لو أعطي أحدهم الدنيا وما فيها على أن يترك ذكر الله تعالى لأبى ذلك أشد الإباء، وكذلك كل طاعة داوم عليها صاحبها، يألفها مع الوقت ويتعلق بها قلبه وتتلذذ بها روحه، فيعود التكليفُ بها راحةً، والمشقةُ فيها متعةً، والتعبُ المصاحب لها لذةً؛ ولا يحصل ذلك إلا بالمداومة عليها، والإكثار منها؛ وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بِلَالُ أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا»[2].
 
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»[3].
 
قال ابن القيم: حضرت شيخ الاسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إلي وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي[4].
 
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: رَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللَّهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ بِقَرَابَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَمَنَعُوهُ فَتَخَلَّفَهُمْ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ فَأَعْطَاهُ سِرًّا لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالَّذِي أَعْطَاهُ، وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ نَزَلُوا فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ فَقَامَ يَتَمَلَّقُنِي وَيَتْلُو آيَاتِي، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقُوا الْعَدُوَّ فَانْهَزَمُوا فَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُفْتَحَ لَهُ»[5].
 
والشاهد قوله: «حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ نَزَلُوا فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ فَقَامَ يَتَمَلَّقُنِي وَيَتْلُو آيَاتِي»، يستعذب التعب، ويتلذذ بمشقة الطاعة لَمَّا ألفها قلبه، ولانت بها جوارحه.
 
وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول: كابدنا قيام الليل عشرين سنة وتلذذنا به عشرين سنة.
 
فإذا أردت أن تكون من هؤلاء ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾، فاجعل لسانك دائمًا رطبًا بذكر الله تعالى.



[1] سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَة/ 191.


[2] رواه أبو داود- كِتَاب الْأَدَبِ، بَابٌ فِي صَلَاةِ الْعَتَمَةِ، حديث رقم: 4985، والطبراني في الكبير- حديث رقم: 6214، بسند صحيح.


[3] رواه أحمد- حديث رقم: 12293، والنسائي- كِتَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ، بَابُ حُبِّ النِّسَاءِ، حديث رقم: 3939، والحاكم- كِتَابُ النِّكَاحِ، حديث رقم: 2676، بسند صحيح.


[4] الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 42).


[5] رواه أحمد- حديث رقم: 21340، والترمذي- أَبْوَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَابٌ، حديث رقم: 2568، وصححه، والنسائي- كِتَابُ قِيَامِ اللَّيْلِ وَتَطَوُّعِ النَّهَارِ، فَضْلُ صَلَاةِ اللَّيْلِ فِي السَّفَرِ، حديث رقم: 1615، وابن خزيمة- كِتَابُ الزَّكَاةِ الْمُخْتَصَرُ مِنَ الْمُخْتَصَرِ مِنَ الْمُسْنَدِ عَلَى الشَّرِيطَةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، بَابُ ذِكْرِ حُبِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمُخْفِي بِالصَّدَقَةِ، حديث رقم: 2456، والبزار- حديث رقم: 4027، والحاكم- كِتَابُ الزَّكَاةِ، حديث رقم: 1520، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن