شرح زاد المستقنع باب الرجعة [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد تقدم أن رجعة الزوجة تكون بالقول والفعل، وبيّنا أن اللفظ الذي يتلفظ به الزوج لكي يرتجع زوجته إما أن يكون صريحاً كقوله: راجعت زوجتي، أو يكون مختلفاً في كونه صريحاً ملحقاً بالصريح عند بعض العلماء كقوله: رددت زوجتي، أو أمسكت زوجتي.

فاللفظ الصريح المتفق عليه: راجعت، وارتجعت، وأما بالنسبة لـ(رددت وأمسكت) ففيهما الوجهان عن العلماء رحمهم الله.

وبيّن المصنف رحمه الله أن الرجعة تكون بما دل عليها في القول سواء كان صريحاً أو كناية، إلا أن الكناية كقول الرجل: أنت مني كحالك من قبل، يحتمل الأمرين: يحتمل: كحالك من قبل الطلاق فأنت زوجة لي الآن، وأرجعتك من طلاقي.

ويحتمل أن يكون مراده أن الحال باق كما هو، أي: لا زلت أكرهك ولا زلت مطلقة مني، فأصبح متردداً بين الأمرين فلا بد من نية تميز.

وقد تقدم معنا قول العلماء: إن الأمور بمقاصدها، والنيات تميز الأشياء المحتملة، فلما كان اللفظ محتملاً ميزته النية في الكنايات.

وقوله رحمه الله: [لا نكحتها] فالنكاح لا علاقة له بالرجعة، ومن هنا لا يدل على الارتجاع لا صراحة ولا كناية، فلو قال: نكحتك. فإن هذا لا يدل على الرجعة؛ لأن إنشاء العقود ليس كاستدامتها، فالرجعة استدامة للنكاح، والنكاح ابتداء للعقد من جديد، وحينئذٍ فرق بين الاستدامة وبين الابتداء، فلا يعتبر قوله: (نكحتك) ارتجاعاً لزوجته.

فقوله: [ بلفظ: راجعت امرأتي ونحوه، لا نكحتها ونحوه ].

قد تقدم أن لفظ النكاح لا يدل على الرجعة صراحة ولا ضمناً.

ثم قال رحمه الله: [ ويسن الإشهاد ].

تقدم أن الإشهاد على الرجعة فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله:

فمنهم من قال: الإشهاد على الرجعة سنة، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.

ومنهم من قال: الإشهاد على الرجعة واجب، وانقسم أصحاب هذا القول إلى طائفتين:

منهم من قال: الإشهاد على الرجعة واجب لا تصح الرجعة إلا به، فجعله شرطاً في صحة الرجعة، فلو أنه ارتجع زوجته ولم يشهد لم تصح رجعته. مثال ذلك: لو أن رجلاً قال: راجعت زوجتي، ثم توفي، ولم يكن هناك من شهد أو لم يكن هناك شهود ولم يستشهد على رجعته، فعلى القول باشتراط الإشهاد فإن الرجعة لا تثبت، وتصبح لو خرجت من عدتها أجنبية إذا لم يقع الإشهاد قبل خروجها من العدة، فلو كان خروجها من العدة بمغيب شمس يوم الأحد وقال: راجعت زوجتي قبل أن تغيب الشمس بلحظة، ثم توفي بعد مغيب الشمس قبل أن يشهد، فإنها تكون قد خرجت من عدتها قبل وفاته، فتصبح أجنبية لا ترثه في هذه الحالة، ولا يرثها أيضاً لو توفيت هي؛ لأنه لم يقع إشهاد على الرجعة قبل الخروج من العدة.

إذاً لا بد من الإشهاد على الرجعة عند الظاهرية، ويرون أنه شرط في صحة الرجعة.

ومن أهل العلم من قال: الإشهاد على الرجعة واجب ولكنه ليس شرطاً في صحتها، فإنه لو أشهد صحت رجعته، وإذا لم يشهد فإننا نحكم بأنه آثم ورجعته صحيحة، ولكن يعتبر آثماً إذا تيسر له الإشهاد ولم يشهد.

واستدلوا بقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق:2] ووجه الدلالة: أن الله أمر بالإشهاد على الرجعة، والأمر للوجوب، ولا دليل يدل على صرف هذا الأمر عن ظاهره.

ودليل جمهور العلماء على أن الإشهاد على الرجعة ليس بواجب: أن الله سبحانه وتعالى قال: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2] فجاء بالأوامر في سياق واحد، ومن المعلوم أن الإمساك في قوله: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:2] لي واجباً بالإجماع، ليس واجباً، فليس بواجب أن تمسك الزوجة إذا طلقتها، وليس بواجب على من طلق زوجه رجعية أن يمسك؛ لأن له أن يتركها حتى تخرج من عدتها وتصبح أجنبية. وقوله: أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:2] ليس بواجب أن يتركها حتى تخرج من عدتها، وإنما الأمر للتخيير، أي: إن شئت فأمسك، فإن أمسكت فبمعروف، وإن شئت ففارق فإن فارقت فبمعروف، ثم أشهد على ذلك، فكما أن الأوامر الأولى للاستحباب، فكذلك أمره بالإشهاد يكون للندب والاستحباب، وليس للحتم والإيجاب.

ثم الدليل الثاني على عدم وجوب الرجعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعمر حينما أخبره أن ابنه عبد الله رضي الله عنه طلق امرأته في الحيض : (مره فليراجعها) ولم يأمره بإشهاد على الرجعة، فدل على أن الإشهاد على الرجعة ليس بواجب.

ثم إن الأصل عدم الوجوب حتى يدل الدليل على الوجوب صراحة، والدليل هنا محتمل.

ولأن المقصود عودة المرأة إلى عصمة الزوج، وهذا لا يفتقر إلى الإشهاد لأنه ليس بمؤثر في هذه العودة، فأصبح ليس بواجب وإنما هو مستحب.

وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الإشهاد مستحب، لكن الخلاف في أنه لازم أو ليس بلازم، والصحيح أنه ليس بواجب؛ لأن الأحاديث التي ذكرت تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب، خاصة وأن الصحابة نصوا على أن الإشهاد ليس بواجب، ولذلك لما سئل عمران بن حصين رضي الله عنهما: عن رجل طلق امرأته ثم راجعها ولم يشهد؟ فقال رضي الله عنه: (راجعتها بغير السنة). يعني: أنه كان ينبغي عليك أن تتحرى السنة، ولم يقل له: عليك إثم أو عليك حرج، فدل على أن الأمر ليس للوجوب، ثم حكم بصحة النكاح والرجعة، فلو كان الإشهاد شرطاً في صحة الرجعة لقال له: إنها ليست بزوجة، ويجب عليك أن تعيد الرجعة مرة ثانية وتشهد، ولكنه صحح رجعته، فدل على أن الإشهاد ليس بشرط في صحة الرجعة، وليس بلازم.

[ وهي زوجة لها وعليها حكم الزوجات، لكن لا قسم لها ].

من طلق زوجته طلقة واحدة أو طلقها الطلقة الثانية، وكان طلاقه بالطلقة الأولى والثانية بعد دخوله بها كما تقدم فإن هذه المرأة تعتد، وخلال العدة تصبح امرأة رجعية من حقه أن يراجعها في أي وقت ما دام أنها لم تخرج من عدتها كما قدمنا، لكن السؤال:

هل هذه المرأة الرجعية أجنبية، أو ما زالت في حكم الزوجة؟

وجهان للعلماء رحمهم الله:

منهم من قال: إنها أجنبية، كما اختاره بعض العلماء، ومنهم الشافعية.

ومنهم من قال: إنها في حكم الزوجة، كما اختاره المصنف رحمه الله وهو مذهب الحنابلة، أي: أنها زوجة لها ما للزوجات وعليها ما على الزوجات إلا ما استثني، وبناءً على ذلك: يجوز له أن يختلي بها، وأن يلمسها، ويجوز أن يسافر بها وهو محرم لها؛ لأنها في حكم زوجاته.

كذلك يتفرع على هذه المسألة أنه لو قال لها وهي في أثناء عدتها من الطلقة الأولى: طلقتك، أو أنت طالق، فأردف الطلقة الثانية على الأولى وقع الطلاق؛ لأنها زوجته، وليست بأجنبية.

وعلى كل حال يعتبر الحكم أنها زوجة من هذا الوجه.

ويترتب على هذا أيضاً حقوق، فلو أنه توفي عنها وهي في أثناء العدة ووقعت الوفاة قبل خروجها من العدة ولو بلحظة، ولو بثانية واحدة، أو هي توفيت؛ فإنها ترثه ويرثها إجماعاً.

فلو طلقها طلقة واحدة أو طلقها الطلقة الثانية بعد الدخول، ثم اعتدت، وقبل خروجها من عدتها بلحظة توفيت ورثها، وإن توفي هو ورثته، فإذاً معنى ذلك: أنه لا زالت هناك علاقة الزوجية، فقال رحمه الله: [وهي زوجة] والدليل على ذلك، عدة أدلة:

أولاً: من أقوى الأدلة أن الله عز وجل قال: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:228] هذا الحكم، وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228] يعني: أزواجهن الذين طلقوهن ووقع الطلاق منهم، أحق بارتجاع هؤلاء الزوجات المطلقات، وقوله: فِي ذَلِكَ [البقرة:228] يعني: أثناء الثلاثة قروء، لأن صدر الآية يقول: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] فقال الله: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228] يعني في مدة العدة.

ثم قال: (بُعُولَتُهُنَّ) يعني: أزواجهن، فوصف المطلق بكونه زوجاً للمطلقة، فدل على أنها ليست بأجنبية، ولو كانت أجنبية لما صح أن يقال إنه بعل لها؛ لأن البعل هو الزوج.

كذلك قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة على أن المطلقة طلاقاً رجعياً تعتبر في حكم الزوجة: أن الله قال: (فَإمْسَاكٌ)، فلو كانت المطلقة طلاقاً رجعياً أجنبية لم يقل: (فإمساك)؛ لأن الإمساك استدامة لما قبل، فمعناه: أن النكاح لا زال باقياً، فدل على أنه يريد رد الأمر على ما كان عليه بإثبات الرجعة، فلو كانت أجنبية لما عبر بالإمساك ولعبر بلفظ ثان يقتضي الابتداء.

ولأن الإمساك يدل على الاستدامة لا على الإنشاء؛ فتقول: أمسك؛ لأن الشيء في يدك، ولا تقول: أمسك لشيء ليس بيدك، فدل على أن قوله: (فإمساك بمعروف) أي: أنه لا زال بيده شيء، والله عز وجل يكني، فكنى عن كون النكاح لعصمة النساء وفي يد الرجل فقال: فَإمْسَاكٌ [البقرة:229] فدل على أن المطلقة لا زالت تحت سلطان زوجها، وأنها في عصمته.

وبمعنى آية البقرة: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:229] آية سورة الطلاق في قوله: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:2] فدل على أن النكاح لا زال مستمراً، وأن المطلقة طلاقاً رجعياً لا تزال في حكم الزوجة، وبناءً على ذلك ترثه ويرثها.

ومما يدل على أنها في حكم الزوجة أمر الله بالنفقة على المطلقات: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:6] فألزم المطلق فقال: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق:1] فأمر أن تبقى المطلقة طلاقاً رجعياً في بيت الزوجية، وهذا يدل على أنها لا زالت زوجته؛ ولأن هذا حق من حقوق النفقة، والنفقة لا تكون إلا استتباعاً لعقد النكاح، فدلت هذه الأمور كلها على أن المطلقة طلاقاً رجعياً في حكم الزوجة وليست بأجنبية.

وقوله: [ لها وعليها حكم الزوجات ].

أي: فيجوز له أن ينظر إليها وأن تنظر إليه ولو بشهوة، ويجوز له أن يلمسها وأن تلمسه، ويجوز أن يختلي بها وتختلي به، ويسافر معها وهو محرمها، كما ذكرنا.

المعتدة لا قسم لها في المبيت

وقوله: [ لكن لا قسم لها ].

أي: لو كان عنده أربع نسوة فطلق واحدة منهن طلاقاً رجعياً فبقيت في عدتها، فإنه يجعل قسمه بين زوجاته على ثلاث ليال، فتسقط ليلة الرابعة مع أنها في العدة، فهي زوجة من وجه وليست بزوجة من وجه آخر، لكنها ليست بأجنبية.

وقوله: [ لكن لا قسم لها ].

أي: لو كان عنده أربع نسوة فطلق واحدة منهن طلاقاً رجعياً فبقيت في عدتها، فإنه يجعل قسمه بين زوجاته على ثلاث ليال، فتسقط ليلة الرابعة مع أنها في العدة، فهي زوجة من وجه وليست بزوجة من وجه آخر، لكنها ليست بأجنبية.

قال رحمه الله: [ وتحصل الرجعة أيضاً بوطئها ].

أي: لو أنه وطئ الزوجة الرجعية فإن هذا الوطء يعتبر مراجعة، وقلنا: قد تكون الرجعة بالقول وتكون بالفعل، فالرجعة بالفعل كالجماع، فلو أن رجلاً طلق امرأته الطلقة الأولى أو الطلقة الثانية بعد الدخول، ثم بعد ذلك مكثت الحيضة الأولى وطهرت، والحيضة الثانية وطهرت، ثم أراد أن يجامعها فجامعها، فالجماع من أقوى الأدلة على الرغبة في الإنسان، والله يقول: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231] ، فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] والفعل يدل على الإمساك كما يدل عليه القول؛ لأنه ليس معقولاً أن يطأ امرأة أجنبية، فلما حصل الوطء دل على رغبته فيها، وحبه لها ولعودها زوجة له كما كانت؛ لأن الرجل لا يحل له أن يطأ الأجنبية، وبناءً على ذلك يكون وطؤه لها رجعة، فتقع الرجعة بالفعل وهو الوطء كما تقع بالقول.

واختلف العلماء في ذلك:

فمن أهل العلم من قال: الوطء دليل على الارتجاع، سواء نوى أو لم ينو، فلو أنه جامع زوجته وهي في عدتها حكمنا برجوعها له على ما اختاره المصنف وهو مذهب الحنابلة؛ سواء نوى أو لم ينو.

ومن أهل العلم من قال: إذا جامعها وهو لا ينوي ارتجاعها فإنه في هذه الحالة لا يعتبر مراجعاً لزوجته؛ لأنه يشترط أن ينوي.

وبالمناسبة: أن المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً تبقى في بيت الزوجية كما ذكرنا، وهذا البقاء يحرك الزوج إلى إعادتها، ولذلك قال الله عز وجل يشير إلى هذه الحكمة العظيمة: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1] ولا يريد الله بعباده إلا كل خير، ولا يريد إلا ما يعود عليهم بالخير في دينهم ودنياهم وآخرتهم، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].

فإذا كان أهل الزوجة وأم الزوجة وأبو الزوجة كل منهم يتمنى، وأبناء الزوجين يتمنون أن تعود هذه الزوجة ويحبون عودتها، فإن الله أرحم بخلقه من هؤلاء بأنفسهم؛ لأنه يحب سبحانه لهم الخير، لأنه يعلم أن الشيطان دخل بين هذه الزوجة وزوجها حتى طلقها كما في الحديث الصحيح: أن الشيطان من الشياطين لا يدنو ولا تعلو منزلته عند الشيطان الأكبر إلا إذا فرق بين الزوج وزوجته؛ لأنه من أعظم ما يكون، فمن حكمة الله عز وجل أن جعل المرأة تعتد في بيت الزوجية، فإذا اعتدت هناك فإنها تتحرك النفوس بالذكريات، ويحس بقيمتها وتحس هي بقيمته فيتحرك كل منهما للآخر، فإذا كان الخطأ شنيعاً وقف صاحب الحق لكي يؤدب الطرف الثاني، وذل المخطئ لمن أخطأ عليه، حتى التحاكم فيما بينهما يكون في مكان واحد ولا يدخل بينهما أجنبي؛ لكن إذا رجعت إلى بيت أبيها أفسدت على زوجها، وأفسد الزوج على زوجته، ودخل الأجنبي فساءت الأمور أكثر كما ذكرنا.

لكن عندما تكون المرأة في بيته فإنه إذا كان يراها معتدة في بيته ولا يمكن أن يخرجها، وليس من حقه أن يخرجها، وفي المساء والصباح يصبح ويمسي ويراها أمامه، فهذا يحركه: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1] فيحرّكه إلى أن يرتجعها، فلا يملك بحكم المحبة إلا أن يشتاق إليها ويجامعها.

فإذا كان شوقه إليها بقصد الرجعة فلا إشكال، وأما إذا جامعها دون أن يقصد ارتجاعها فحينئذٍ عند من يرى أن المطلقة طلاقاً رجعياً أجنبية يرد السؤال: هل يعتبر زانياً؟ وهل يقام عليه الحد؟ لأنه ما قصد بها الوطء الشرعي.

قال جماهير العلماء: إنه لا يوجب الحد، لكن من أهل العلم من قال: إذا لم يقصد رجعتها -على القول بأنه وطئ بدون نية- فإنه لا يوجب الرجوع، وعلى هذا القول يقولون: يجب تعزيره، وحينئذٍ يعزره القاضي ويؤدبه إذا أقر على نفسه أنه جامعها ولكنه لم ينو بجماعها الرجعة.

فبيّن رحمه الله أن الرجعة تكون بالقول والفعل، فإذا جامعها ناوياً ارتجاعها وقعت الرجعة.

وأكمل ما تكون الرجعة أن يقول: ارتجعت زوجتي، ويشهد شاهدين على ارتجاعه، ثم يجامعها بنية الارتجاع، فحينئذٍ اجتمعت النية واجتمع القول والفعل، وأما القول مع النية فلا إشكال، كأن يقول: راجعت زوجتي ناوياً عودتها إلى عصمتي.

وأما نية وفعل فأن يجامع زوجته قاصداً ارتجاعها؛ فهذه كلها من صور ارتجاع الزوج لزوجته.

قال رحمه الله: [ ولا تصح معلقة بشرط ].

أي: ولا تصح الرجعة معلقة بشرط، كأن يقول: راجعتك إذا طلعت الشمس، أو إذا جاء غداً، أو إذا انتهى الشهر فقد راجعتك، أو إذا طهرت من الحيضة الأولى فقد راجعتك، فهذا تعليق لا يصح.

ومن التعليق أن يقول لها: راجعتك إن شئت، يعني: إن كنت تريدين الرجوع إليّ فقد راجعتك، فقالت: قد شئت، فليست رجعة؛ لأن الرجعة لا تصح بالتعليق، بل لا بد وأن يبتها وينجزها ويقول: راجعتك.

فإذا قال لها: راجعتك أن شئت، صحت الرجعة، لأنها هنا بمثابة التعليل، أي: لأنك شئت فقد راجعتك، لكن لو قال لها: راجعتك إن شئت، لم يصح، فهناك فرق بين الكسر والفتح، فإن قال: راجعتك إن شِئت، فهذا تعليق لرجعتها على وجود المشيئة، أو قال لها: راجعتك إن شاء أبوك، أو راجعتك إن رضي أبوك، أو رضيت أمك، فهذا لا يصح، فينبغي أن يجدد الرجعة ويقول: راجعتك، أو يفعل فعلاً دالاً على ارتجاعه لها على التفصيل الذي تقدم.

قال رحمه الله: [ فإذا طهرت من الحيضة الثالثة ولم تغتسل فله رجعتها ].

أي: لأن العدة ثلاثة أطهار، فإذا طهرت في الحيضة الثالثة فبعض العلماء يقول: لا بد أن تغتسل، حتى يحكم بانتهاء عدتها.

وبعض أهل العلم يقول: إن مجرد طهرها يوجب انتهاء عدتها وإن لم تغتسل.

فمنهم: من اشترط الاغتسال، ومنهم: من قال بعدم اشتراطه، وفائدة الخلاف:

أولاً: عندنا امرأة طلقها زوجها الطلقة الأولى فاعتدت، فلما كانت في الحيضة الأخيرة قبل غروب الشمس بنصف ساعة رأت علامة الطهر، لكنها أخرت الغسل من الحيض إلى ما بعد غروب الشمس، فإذا قلت: المرأة تخرج من عدتها بمجرد انقطاع الدم ورؤية علامة الطهر، فإنها تكون قد حلّت للأزواج قبل غروب الشمس بنصف ساعة، فلو نكحت وعقد عليها بعد ذلك مباشرة صح العقد، وصارت أجنبية من الأول وزوجة للثاني؛ لأنه قد حصل تمام العدة وخرجت منها وأصبحت أجنبية على هذا القول، ولو أنه حصلت الوفاة من زوجها بعد طهرها مباشرة ورؤيتها للدم وقبل أن تغتسل، فحينئذٍ تكون قد خرجت من عدتها فلا ترثه ولا يرثها، وهي أجنبية وهو أجنبي.

فحكم بخروجها من العدة وانتهاء الرجعة بمجرد رؤية الطهر.

وعلى هذا: لا يشترط الغسل عند أصحاب هذا القول، كما اختاره جمع من العلماء رحمهم الله.

ومن أهل العلم من قال: إنها إذا طهرت من حيضتها ورأت علامة الطهر من حيضتها الأخيرة ولم تغتسل، فلا تزال في العدة حتى تغتسل، ولو أخرّت الغسل سنوات فإنها لا تزال في عدتها من زوجها الأول.

وبناءً على هذا القول: لا تزال رجعية، فلو وقع مراجعة من زوجها الأول قبل أن تغتسل حلّت له، ولو توفي ورثته، ولو توفيت ورثها، وهذا القول مأثور عن أبي بكر وعمر وعلي، وطائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـمعاذ وأبي هريرة رضي الله عن الجميع، فهم يقولون: إنها لا تخرج من العدة إلا بالاغتسال، ورأوا أن طهارتها تابعة لدمها.

والأول أقوى من حيث الأصول، والثاني أشبه بالقوة على مذهب من يرى أن قول الصحابي حجة؛ ولكن الأول أقوى من حيث الأصول، فإن مجرد طهرها يدل على خروجها من عدتها؛ لأن الله يقول: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] وقد طهرت حقيقة فيحكم بطهرها؛ لأن الشرع علق على الطهر وقد حصلت هذه الصفة، فلا داعي لاشتراط الغسل إلا للعبادات التي تشترط لها الطهارة، أما هذا فهو خارج عن العبادة، فالرجعة ليس لها علاقة بالعبادة، فهي ليست مصلية، ولا طائفة بالبيت، ولا داخلة للمسجد، ولا تالية للقرآن حتى نشترط طهارتها.

الطهارة والغسل يشترط فيها شيء نص الشرع على اشتراطه، وأما ما رتب الشرع وقوع الرجعة عليه، فحده ما لم تطهر، وقد طهرت، فتكون قد خرجت من عدتها بذلك الطهر.

قال رحمه الله: [ وإن فرغت عدتها قبل رجعته بانت وحرمت قبل عقد جديد ].

البينونة تنقسم إلى قسمين، وهي مأخوذة من: بان الشيء، إذا وضح وظهر. ويقال: بان فلان من فلان، إذا فارقه، والبين هو الفراق.

آذنتنا ببينها أسماء رب ثاوٍ ملَّه الثواء

أي: آذنتنا بفراقها، فالبين هو الفراق، ولذلك يقال: غراب البين، أي الفراق، فالبين في لغة العرب يطلق بمعنى الفراق.

بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التنادي

فهذا قول أبي الدحداح الصحابي رضي الله عنه يخاطب زوجته لما تصدق بحائطه فقال لها: (بيني)، أي: اخرجي من الحائط وفارقيه، والحائط: البستان، يعني: اخرجي وفارقي البستان، ويقال: بان إذا فارق.

فالبينونة هي: أن يبين الرجل من امرأته وتبين امرأته منه:

فإما أن تبين بينونة كبرى كأن يطلقها ثلاث تطليقات، وحينئذٍ لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، على نص آية البقرة.

وإما أن تبين منه بينونة صغرى، والبينونة الصغرى هي التي لا تحل بها المرأة إلا بعقد جديد، إذا عقد عليها عقداً جديداً حلت له، وأما قبل العقد فلا تحل له، وهذا النوع من البينونة يقع إذا طلقها طلقة واحدة قبل أن يدخل بها، فإذا طلقها طلقة واحدة قبل الدخول فإنها بائنة منه، ولو طلقها طلقتين قبل الدخول بانت منه، بمعنى: أنها بمجرد طلاقه لها تحل لغيره، ويجوز لغيره أن ينكحها.

وأما البينونة الصغرى بعد الدخول فتقع بالخروج من العدة، وتقع أيضاً بطلاق الصلح، وطلاق القاضي، والتفريق للعيوب.. إلى غير ذلك مما فيه تفصيل سبق بيان بعض مسائله.

فلو طلق زوجته طلقة واحدة أو طلقها الطلقة الثانية وتركها حتى خرجت من عدتها، فإنها بمجرد خروجها من العدة لا تحل له إلا بعقد جديد، فلما كانت لا تحل له إلا بشرط أن يوجد عقد جديد علمنا أنها بائنة، ففيها شبه من المطلقة ثلاثاً، وفيها شبه من الرجعية؛ لأنه يحق له أن يتزوجها، ولكن يشترط في زواجه بها عقد جديد لأنها أصبحت كالمرأة الأجنبية.

فأشبهت المطلقة ثلاثاً في أنها لا تحل إلا بعقد جديد، فحينئذٍ قالوا: بينونة صغرى.

وأصل البين الفراق، فكل امرأة لا يحل لزوجها أن يرتجعها تعتبر بائناً، ثم تنقسم إلى بائن بينونة صغرى، وهي المرأة التي لا تحل لزوجها إلا بعقد ومهر جديد، وبائن بينونة كبرى، وهي التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجاً غيره ويدخل بها ويحصل الوطء.

هذا بالنسبة لقوله: (بانت منه)، والبائن بينونة صغرى إذا كانت أثناء العدة فإن من حقه أن يردها ولو لم ترض ولو لم يأذن وليها، فلو قالت: لا أريد أن أرجع، فإنها تجبر ولو كرهت كما ذكر المصنف؛ لأن الله يقول: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة:228] فأعطى الحق للزوج أن يرتجع الزوجة ما دامت في عصمته وفي مدة العدة، فإذا خرجت من العدة صارت أجنبية فلا تحل له إلا بعقد ومهر جديدين كأنها أجنبية.

قال رحمه الله: [ ومن طلق دون ما يملك ].

أي: الذي يملك ثلاث تطليقات إذا طلق الطلقة الأولى أو الطلقة الأولى والثانية فبقيت الثالثة، وإن شئت قلت: من طلق فبقي له طلاق، فهذا (دون ما يملك) أو بقي له طلاق واحد.

فمن طلق دون ما يملك وخرجت المرأة من عدتها، ثم تزوجها زوج غيره وطلقها وأرادت أن ترجع للأول، فهل ترجع بثلاث تطليقات جديدة، أو يبني على ما سبق؟

وهذه مسألة: هل النكاح الثاني يهدم النكاح الأول أو لا يهدم؟

فمن أهل العلم من قال: لو تزوجت المرأة مائة زوج وعادت لزوجها الأول رجعت بالعدد الأول، فلو طلقها قبله طلقة واحدة ورجعت إليه بقيت له طلقتان، سواء دخلوا بها أو لم يدخلوا بها، وسواء حملت أو لم تحمل وأنجبت أو لم تنجب، المهم أنه لا زالت هناك علاقة في الطلاق الأول؛ لأن الله يقول: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] إلى أن قال: فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230] وهذا لم يطلقها الطلقة الثانية، فبقي على الترتيب الأول بنص الآية الكريمة، وهذا مذهب جمهور العلماء وأئمة السلف رحمهم الله.

وهو قول أئمة الصحابة كـأبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، فكلهم يقولون: إن النكاح لا يهدم، بل يبقى على الطلاق الأول.

وقال بعض السلف كـابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما: إنه إذا نكحها زوج ثان رجعت بثلاث تطليقات من زوجها الأول إن طلقها الثانية، ويرون أن النكاح الثاني يهدم النكاح الأول.

والصحيح: مذهب الجمهور، لظاهر القرآن.

والمخالفون لهم قاسوه وألحقوه بمن طلق ثلاثاً فنكحت زوجاً غيره، فإنه بالإجماع لو طلقها ثلاثاً وتزوجها زوج غيره ودخل بها فإنه يعود لها بثلاث تطليقات، فهم يقيسون من طلق الطلقة الأولى وتزوجت من بعده ثم طلقها الثاني وتزوجها الأول؛ يقيسون على من طلق ثلاثاً ونكحها زوج غيره.

والصحيح: أنه يعود بالعدد الأول قلّ الأزواج أو كثروا، دخلوا أو لم يدخلوا، فالنكاح الثاني لا يهدم النكاح الأول.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع