شرح الفتوى الحموية [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فهذا هو الدرس الأول من دروس شرح (الفتوى الحموية الكبرى) لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى.

[ سئل شيخ الإسلام العالم الرباني تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله تعالى: ما قول السادة العلماء أئمة الدين في آيات الصفات كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [فصلت:11] إلى غير ذلك من آيات الصفات وأحاديث الصفات كقوله: صلى الله عليه وسلم (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن)، وقوله: (يضع الجبار قدمه في النار) إلى غير ذلك، وما قالت العلماء فيه؟ وابسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى.

فأجاب رضي الله عنه ورحمه:

الحمد لله رب العالمين؛ قولنا فيها: ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، وأمره أن يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] ].

تبين مما تقدم أن هذه الرسالة جواب عن سؤال ورد إلى شيخ الإسلام رحمه الله، عن صفات الله جل وعلا، وما الواجب فيها؟ وهذه الرسالة تدور على الجواب عن إشكالات أوردها السائل، وفصل في جوابها شيخ الإسلام رحمه الله، وابتدأ جوابه بقاعدة مهمة أساسية هي بمثابة التوطئة لجميع الإشكالات التي ترد في هذا الباب، وهو ما بينه رحمه الله في قوله: (قولنا فيها ما قال الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والسابقون الأولـون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء). فبين رحمه الله أن القول في باب الصفات موقوف على ما جاء عن الله جل وعلا وعن نبيه صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلف الأمة من القرون المفضلة ومن سار على طريقهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

فهذه القاعدة هي قاعدة أساسية كلية في باب ما يُعتقد في الله جل وعلا؛ لأن الإخبار عن الله جل وعلا إخبار عن أمر غيبي، والخبر الغيبي لا تدركه العقول ولا تستقل بمعرفته، فلابد في هذا الباب من الرجوع إلى ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه، وأخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم، وما قاله السلف الذين أخذوا من هذين -من الكتاب والسنة- وهم أعلم الناس بمراد الله وبمراد رسوله صلى الله عليه وسلم.

وبدأ الشيخ -رحمه الله- في جوابه بهذه المقدمة الأساسية، فذكر في هذه المقدمة ما يجب اعتقاده، ثم استدل له، وذلك ببيان أن طريقة السلف هي أحسن الطرق، وأنها الطريق الذي توصل إلى معرفة الله جل وعلا، وأنها الطريق التي جاءت بها الرسل، وأن كل طريق يسلكه العبد ليتعرف به على الله جل وعلا غير طريق هؤلاء، فإنه لا يصل إلا إلى ضلال ولا يحصل إلا خبالاً.

وقال في الاستدلال لهذه الطريقة، وهي وجوب الوقوف على ما جاء عن الله، وعلى ما جاء عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وما جاء عن سلف الأمة من القرون المفضلة ومن بعدهم؛ قال رحمه الله: (وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم)، وهذا استدلال لصحة هذه الطريقة بإجماع الأمة على صحة طريق هؤلاء. فإن الأمة أجمعت -على اختلاف مشاربها- على أن طريق هؤلاء هو أحسن السبل وهو أحسن الطرق.

قوله: (وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره) يعني: في باب الأسماء والصفات وفي باب الغيبيات الذي جاءت الرسل بالإخبار عنه، كالإخبار عما يكون في يوم القيامة وما يتعلق باليوم الآخر وما إلى ذلك من الأمور المغيبة.

قوله: (فإن الله سبحانه وتعالى): هذا هو التعليل، فبعد أن ذكر الإجماع أتى بالتعليل لصحة هذه الطريقة، وأنها هي الطريقة التي يجب سلوكها قال:

قوله: (فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد)، فإذا كان بعثه بذلك فإن أعظم ما يحتاج إليه الخلق -كما سيذكره الشيخ- هو ما يتعلق بمعرفة الله جل وعلا، إذ إن العباد خلقوا على الفطرة، والفطرة تقتضي أن يتوجه الخلق إلى رب يعبدونه ويحبونه ويلجئون إليه، فإذا كان كذلك فإن من مقتضيات إخراجهم من الظلمات إلى النور أن يخرجهم من الجهل الذي يتعلق بالله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله إلى العلم به سبحانه وتعالى الذي هو النور اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35]، فهو نور والعلم به من أكمل النور الذي يجب على العبد أن يهتم به ويعتنى به، ولذلك لما كان هذا هو أهم المعلومات، كان أول ما يُسأل عنه العبد في قبره: من ربك؟ لأن بمعرفة الرب تستقيم الأمور كلها.

قال رحمه الله: [ فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، وأمره أن يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]:

فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء سراجاً منيراً، داعياً إلى الله جل وعلا بإذنه، ثم وصف طريقته: بأنه صلى الله عليه وسلم على بصيرة فيما يتعلق بما يخبر به عن الله جل وعلا، وفيما يتعلق بما يخبر به من أحكامه وشرعه جل وعلا، فهو على بصيرة في الأمر كله، ولذلك إذا كنا نعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم على بصيرة، فالواجب الوقوف على ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم دون زيادة ولا نقصان؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد بعث محمداً؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فبعثه داعيا إليه سبحانه وتعالى بإذنه، وبعثه سراجاً منيراً، وأمره أن يخبر الناس بأنه على بصيرة.

الوجه الأول من الأدلة العقلية على صحة ما ذهب إليه السلف

قال رحمه الله تعالى: [فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق؛ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته - محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً، ولم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه.

فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟!]:

هذا هو الوجه الأول من الأدلة العقلية على صحة ما ذهب إليه السلف الصالح فيما يتعلق بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، إذ إن من المحال كما قال المؤلف رحمه الله: (فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي بعثه الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور) أن يترك إخبار الناس وتعليمهم ما يتعلق بالله عز وجل فقال: (محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً).

وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى معلما، وكما أشار الشيخ رحمه الله إلى أن أولى ما يتعلمه الناس وآكد ما يحتاجون إلى معرفته هو ما يتعلق بالله عز وجل وأسمائه وصفاته؛ لأنهم يعبدونه، والخلق لا يعبدون شيئاً مجهولاً، فقد فُطرت قلوبهم ونفوسهم على أن يعبدوا ما يعلمون، فكلما ازداد العبد لله معرفة كلما ازداد له عبودية، ولذلك إذا أردت أن تعرف درجة العبد من العبودية فانظر إلى درجته من المعرفة بالله عز وجل، فإن كان عالماً بالله عالماً بأمره، فإنه في أكمل درجات العبودية؛ ولذلك قال النبي صلي الله عليه وسلم: (والله إني لأعلمكم بالله وأخشاكم له) فجعل العلم سبباً للخشية، والخشية إنما تكون بعد العلم بالله وصفاته وأفعاله جل وعلا.

فكون الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الحال، وكون الله شهد له بأنه أكمل الدين وأتم عليه النعمة، يوجب الوقوف على ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم دون زيادة ولا نقصان، وإن أي زيادة أو أي نقصان أو أي اختيار غير ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم هو محض ضلال، فإن الله قد سد الطرق الموصلة إليه إلا طريق النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما ينتهي أهل الجنة من العبور على الصراط المضروب على متن جهنم، ويريدون دخول الجنة، فإنه لا يفتح لهم إلا عن طريقه، فيطرق صلى الله عليه وسلم الباب فيقول خازنها: من؟ فيقول: محمد، فيقول الخازن: بك أمرت لا أفتح لأحد من قبلك، وهذا يدل دلالة واضحة على أن كل طريق يسلكه العبد غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم للوصول إلى مرضاة الله ونعيمه في الدنيا والآخرة، لا يحصل بذلك إلا ضلالاً، وأنه لن يصل إلا عن طريق صراط الله المستقيم الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثاني من الأدلة العقلية على صحة مذهب السلف

قال رحمه الله تعالى: [ومن المحال أيضا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة! وقال: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)، وقال فيما صح عنه أيضا: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم)، وقال أبو ذر : لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً. وقال عمر بن الخطاب: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه). رواه البخاري].

هذا هو الوجه الثاني في بيان صحة طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح، ووجوب اتباع هذا السبيل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته دقيق الأمور وجليلها، فمحال على من علم أمته كل شيء حتى آداب التخلي أن يتركهم في جهل والتباس واشتباه، فيما يتعلق بمن يعبدونه ويتوجهون إليه ويسألونه ويرغبونه، فمقتضى تعليم النبي صلي الله عليه وسلم أمته دقيق الأمور وجليلها، أن يكون قد بصرهم وعلمهم بما يجب لله عز وجل وما يتعلق به، سواء في أفعاله أو في أسمائه وصفاته، أو فيما يجب له من الألوهية والربوبية.

الوجه الثالث من الأدلة العقلية على صحة مذهب السلف

قال رحمه الله: [ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين وإن دقت؛ أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة، ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام! ثم إذا كان قد وقع ذلك منه: فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب، زائدين فيه أو ناقصين عنه].

وهذا الوجه مبني على ما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم يستحيل عليه أن يترك الأمة في جهل وضلال فيما يتعلق بالله سبحانه وتعالى، مع أن المعرفة بالله عز وجل هي زبدة الرسالة وهي غاية البعثة، وانظر إلى قوله: (الذي معرفته غاية المعـارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب)، فهذا الترتيب ترتيب بديع، فبدأ أولاً بالمعرفة؛ لأنه لا تتم العبادة إلا بعد معرفته، فمن أراد أن يعبد الله حق عبادته فليتعرف عليه حق معرفته، فكلما ازدادت معرفة العبد بربه ازدادت عبادته له سبحانه وتعالى، وتعلقه به وحبه له سبحانه وتعالى، ثم إذا حصلت له المعرفة حصلت له العبادة، وإذا حصلت له العبادة المبنية على المعرفة به سبحانه وتعالى حصل له الوصول إليه الذي هو غاية المطالب، ويتم الوصول إليه جل وعلا بدخول جنته التي من أعظم نعيمها أن يتجلى جل وعلا لعباده فيكشف لهم الحجاب فيرونه.

قوله: (بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية) يعني: معرفة الله جل وعلا، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله كلاماً بديعاً جيداً، في أن الرسل إنما جاءوا ليعرفوا الخلق بربهم وليدلوهم عليه، فقال رحمه الله: إن الرسل قد بينوا كل ما يحتاجه الخلق فيما يتعلق بالله عز وجل فبينوا لهم صفاته وبينوا لهم أفعاله سبحانه وتعالى. قال رحمه الله: حتى غدا من طالع كلام الرسل كأنما يرى الله جل وعلا بعينه يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء ويرفع ويخفض... وذكر كلاماً بديعاً جيداً في أن الرسل أوفوا هذا الجانب حقه وبينوه غاية البيان، وأن هذا الذي جاءوا به واتفقوا عليه، هو بيان ما يجب لله عز وجل في صفاته وأفعاله، ما يجب له في الألوهية والربوبية فصدق ابن تيمية رحمه الله في قوله: (بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية).

الوجه الرابع من الأدلة العقلية على صحة مذهب السلف

قوله: (فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة) أي: بقية (من إيمان وحكمة، ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام. ثم إذا كان قد وقع ذلك منه -أي: البيان- فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين).

لأن المجادل قد يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين ما يجب لله عز وجل وما يتعلق بأسمائه وصفاته غاية البيان، إلا أن الصحابة الذين تلقوا عنه لم يوفوا هذا المقام حقه ولم يقدروه قدره! فيقال له: إن الصحابة رضي الله عنهم أنصح الأمة للأمة، وهم أعبد الخلق لله عز وجل، بل ذكر الشيخ رحمه الله أنهم أفضل خلق الله بعد النبيين، وإذا كانوا كذلك، فمحال على هؤلاء مع شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالخيرية أن يكونوا قد قصروا في باب الأسماء والصفات، فهذا أيضاً وجه من الوجوه التي تبين صحة طريق السلف، وتبين وجوب سلوك سبيلهم للوصول إلى معرفة الله جل وعلا.

قال رحمه الله تعالى: [فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق؛ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته - محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً، ولم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه.

فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟!]:

هذا هو الوجه الأول من الأدلة العقلية على صحة ما ذهب إليه السلف الصالح فيما يتعلق بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، إذ إن من المحال كما قال المؤلف رحمه الله: (فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي بعثه الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور) أن يترك إخبار الناس وتعليمهم ما يتعلق بالله عز وجل فقال: (محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً).

وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى معلما، وكما أشار الشيخ رحمه الله إلى أن أولى ما يتعلمه الناس وآكد ما يحتاجون إلى معرفته هو ما يتعلق بالله عز وجل وأسمائه وصفاته؛ لأنهم يعبدونه، والخلق لا يعبدون شيئاً مجهولاً، فقد فُطرت قلوبهم ونفوسهم على أن يعبدوا ما يعلمون، فكلما ازداد العبد لله معرفة كلما ازداد له عبودية، ولذلك إذا أردت أن تعرف درجة العبد من العبودية فانظر إلى درجته من المعرفة بالله عز وجل، فإن كان عالماً بالله عالماً بأمره، فإنه في أكمل درجات العبودية؛ ولذلك قال النبي صلي الله عليه وسلم: (والله إني لأعلمكم بالله وأخشاكم له) فجعل العلم سبباً للخشية، والخشية إنما تكون بعد العلم بالله وصفاته وأفعاله جل وعلا.

فكون الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الحال، وكون الله شهد له بأنه أكمل الدين وأتم عليه النعمة، يوجب الوقوف على ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم دون زيادة ولا نقصان، وإن أي زيادة أو أي نقصان أو أي اختيار غير ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم هو محض ضلال، فإن الله قد سد الطرق الموصلة إليه إلا طريق النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما ينتهي أهل الجنة من العبور على الصراط المضروب على متن جهنم، ويريدون دخول الجنة، فإنه لا يفتح لهم إلا عن طريقه، فيطرق صلى الله عليه وسلم الباب فيقول خازنها: من؟ فيقول: محمد، فيقول الخازن: بك أمرت لا أفتح لأحد من قبلك، وهذا يدل دلالة واضحة على أن كل طريق يسلكه العبد غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم للوصول إلى مرضاة الله ونعيمه في الدنيا والآخرة، لا يحصل بذلك إلا ضلالاً، وأنه لن يصل إلا عن طريق صراط الله المستقيم الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم.

قال رحمه الله تعالى: [ومن المحال أيضا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة! وقال: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)، وقال فيما صح عنه أيضا: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم)، وقال أبو ذر : لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً. وقال عمر بن الخطاب: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه). رواه البخاري].

هذا هو الوجه الثاني في بيان صحة طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح، ووجوب اتباع هذا السبيل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته دقيق الأمور وجليلها، فمحال على من علم أمته كل شيء حتى آداب التخلي أن يتركهم في جهل والتباس واشتباه، فيما يتعلق بمن يعبدونه ويتوجهون إليه ويسألونه ويرغبونه، فمقتضى تعليم النبي صلي الله عليه وسلم أمته دقيق الأمور وجليلها، أن يكون قد بصرهم وعلمهم بما يجب لله عز وجل وما يتعلق به، سواء في أفعاله أو في أسمائه وصفاته، أو فيما يجب له من الألوهية والربوبية.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الفتوى الحموية [23] 2833 استماع
شرح الفتوى الحموية [8] 2289 استماع
شرح الفتوى الحموية [17] 2161 استماع
شرح الفتوى الحموية [27] 2159 استماع
شرح الفتوى الحموية [15] 1965 استماع
شرح الفتوى الحموية [10] 1869 استماع
شرح الفتوى الحموية [2] 1853 استماع
شرح الفتوى الحموية [3] 1843 استماع
شرح الفتوى الحموية [6] 1838 استماع
شرح الفتوى الحموية [20] 1791 استماع