شرح زاد المستقنع باب التأويل في الحلف


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ باب التأويل في الحلف ].

التأويل عند العلماء: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر، فاللفظ له معنى في ظاهره ومعنى في باطنه، ويحتج بالمعنيين، لكن المعنى القوي هو الظاهر، والمعنى الخفي هو المستتر، فالمتأول يصرف الكلام عن ظاهره إلى معنى مغاير مغيب في باطنه، وهذا التأويل يقع في النصوص وينقسم إلى قسمين:

تأويلٌ محمود، وتأويل مذموم.

التأويل المحمود

أما التأويل المحمود: فهو تأويل النص بنص يصرفه عن ظاهره إلى معنى آخر، فحينئذٍ نقول: إن هذا التأويل تأويل محمود، مثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) (لا وضوء) يحتمل: لا وضوء صحيح، ويحتمل: لا وضوء كامل، فلما وجدنا كتاب الله عز وجل لا يأمر بالتسمية مع أنه أمر بالتسمية عند الذبح والذكاة فقال: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ [الأنعام:118].. وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة:4] فلما وجدناه في الوضوء وهو من أجل العبادات وأعظمها -لأنه مفتاح الصلاة- لم يأمر بالتسمية فيه فهمنا أن معنى: لا وضوء أي لا وضوء كامل، فصرفنا (لا وضوء) من نفي الصحة إلى نفي الكمال، ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عثمان في الصحيح- يتوضأ وضوءاً تاماً كاملاً، ولم يذكر عثمان أنه تلفظ بالتسمية جهرة، أو اطلع على تسمية منه، فقال: إنه توضأ نحو وضوئي هذا، وهذا يدل على أن الأفعال كانت دون ذكر ودون أي قولٍ، فهذا يدل أيضاً على أن المراد بالحديث الأول: لا وضوء كامل، فيصرف النص من ظاهره الراجح إلى معناه المرجوح؛ لأن الأصل أن نحمله على أنه: لا وضوء صحيح.

مثال آخر: (لا إيمان لمن لا أمانة له) لا نقول لا إيمان يعني أنه -والعياذ بالله- كافر بالكلية، كما يقوله الخوارج، وإنما نقول: إنه إذا كان خائناً للأمانة فقد انتقص من دينه وإيمانه على قدر خيانته -نسأل الله السلامة والعافية- فيؤول ويصرف الحديث عن ظاهره لوجود نصوص أخرى تدل على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر، فهذا تأويل، لكنه تأويل محمود؛ لوجود نصوص يعرفها العلماء الراسخون والأئمة المهتدون المهديون، فهؤلاء إذا أولوا نصاً وصرفوه عن ظاهره فإننا نقبل هذا التأويل، ولا نلجأ للتأويل إلا عند وجود نصوص أخرى تصرف النص الأول عن ظاهره.

مثال آخر: (لا يدخل الجنة عاق) لو أخذ على ظاهره لكان معناه أن العاق في النار: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7] فإذا أخبر أن العاق لا يدخل الجنة فمعنى ذلك أنه في النار؛ لأنه لا يوجد منزلة بين المنزلتين. فهذا الحديث يؤول على وجوه:

الوجه الأول: لا يدخلها في الدخول الأول الذي يكون لأهل الجنة السابقين؛ لأنهم يخرجون من عرصات يوم القيامة فيدخلون الجنة، وأما أهل الكبائر فإنهم إذا شاء الله يدخلون النار تطهيراً ثم ينقلون إلى الجنة، فحينئذٍ يكون الدخول هو دخول التشريف والتكريم؛ ولا يمنع من دخولهم الجنة بعد أن يطهروا من كبائر الذنوب، فكأن العاق -والعياذ بالله- موعودٌ بالعذاب لا محالة.

الوجه الثاني: قال بعض العلماء: المعنى: أنه لا يوفق لحسن الخاتمة -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يختم له بخاتمة أهل الإيمان، فيكون المراد: أنه لا يوفق، فلا يدخلها حقيقة؛ لأنه يختم له -والعياذ بالله- بخاتمة الكفار، وهذا قد يقع استدراجاً، فحينئذٍ لا تتعارض النصوص؛ لأنه إذا ختم له بخاتمة السوء فلا إشكال.

الوجه الثالث: أنه محمول على الوعيد، كما اختاره سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وكان يقول: هذا محمول على الوعيد الشديد، وحينئذٍ لا يكون على ظاهره.

هذا كله تأويل؛ لوجود نصوص أخرى تدل على أن الكبائر لا تستوجب الخلود في النار أبداً، وإنما تستوجب دخولها تطهيراً إن لم يعف الله عن العبد؛ لأن مرتكب الكبائر عند أهل السنة والجماعة تحت مشيئة الله، إن عذبه الله فبعدله، وإن عفا عنه فبمحض إحسانه وكرمه وفضله لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].. وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد:41].

الشاهد أن هذا تأويل، لكنه تأويل بنصوص وأدلة، فهو تأويل محمود.

التأويل المذموم

أما التأويل المذموم فهو: العبث بنصوص الكتاب والسنة بالأهواء والآراء والاجتهادات التي لا تنبني على أصول صحيحة يقوى معها صرف اللفظ عن ظاهره، فهذا التأويل تلاعب بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وصاحبه مطموس البصيرة؛ لأنه يعطل نصوص الكتاب والسنة ويلعب بها، كما يفعل بعض المتعصبة الذين يتعصبون لأئمتهم ولمشايخهم، فيعتقد أحدهم أن شيخه لا يمكن أن يخطئ، وكأنه نبي معصوم، فكلما جاء نص مخالف لشيخه لم يقبله وقال: هذا النص فيه وفيه وفيه، فيأتي بتأويلات وتكلفات وتعسفات، تترك بها نصوص الكتاب والسنة، وترمى والعياذ بالله وراء الظهور، فهذا إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته فهو على خطر عظيم، ولذلك تجد أمثال هؤلاء محرومين من هدي الكتاب والسنة؛ لأنهم أعملوا فيها المعاول ففسدت أفهامهم وأعمالهم.

والواجب على المسلم أن يكون وقافاً عند الحق، وأن يكون الحق أحب إليه من كل أحد؛ لأن الله فرض علينا اتباع الحق ومحبته ولزومه، وبين أنه لا نجاة للعبد إلا بهذا الحق، وأن السماوات والأرض ما قامتا إلا من أجل الحق وللحق، فينبغي لكل مسلم أن يكون عنده تجرد.

إذاً: التأويل المذموم هو: صرف للنصوص والتلاعب بها بالأهواء والآراء، وهو مصادمة لحجج الله البينة الميسرة المنيرة، وإذهاب لنورها وبهائها، وإن كان نورها لا يذهب ولا ينطفئ أبداً، فالحق يعلو ولا يعلى عليه.

الإعجاز العلمي والتعسف في فهم القرآن

ومن التأويل المذموم: إسقاط آيات من كتاب الله عز وجل على النظريات التي لا أصل لها، والتلاعب بنصوص كتاب الله عز وجل، وتكلف الإعجاز فيها بشيء لا يمت إلى هدي الكتاب والسنة ولا إلى هدي السلف -في تفسير كتاب الله عز وجل- بصلة.

فمثل هذا لا يجوز، سواء كان في العلوم الطبيعية من طبٍ وهندسة أو في غيرها.

وقد سمعت بعض من ينتسب إلى الإعجاز يقول في قوله الله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19] يقول: إن هذا في صعود القمر، ولا يشك مسلم أن هذا تلاعب بكتاب الله؛ لأن الله أقسم فقال: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19-19] أي: (والله لتمرن) يقسم الله جل جلاله أنكم لتمرن يا معشر الكفار، ويا معشر المؤمنين، بأحوال الآخرة طبقاً عن طبق، وطبقاً بعد طبق، ستمرون بالقبور وعرصات القيامة، فهذا الأمر هو الذي وقعت فيه الخصومة، وهو الذي كذب به المشركون وردوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به آيات القرآن، فمن قال: (المراد بها صعود القمر لأننا ما نصعد القمر إلا إذا اتسق) فقد تلاعب بكتاب الله عز وجل وقال على الله بغير علم.

فالحذر الحذر من مزالق الشيطان فقد يوقعك في القول على الله بدون علمٍ وبدون حجة.

وينبغي لكل مسلم أن لا يقبل مثل هذه التفاسير، بل يعتمد على تفسير الأئمة والعلماء، وخاصة أئمة السلف؛ لأن كتاب الله فسر، ومرت هذه القرون كلها وكتاب الله يفسر بهذا التفسير البين الواضح النير، الذي لا إشكال فيه، فاتبع سلفك الصالح، ودع الأمور المحدثات.

ثم لو أننا رأينا نظرية من النظريات فجربنا كتاب الله عليها، ولوينا نصوص الكتاب لتوافق هذه النظرية، ثم تبين بعد عشرات السنين أنها خطأ!! ماذا يقول الناس؟ وماذا يقال عن كتاب الله عز وجل؟

نحن نعلم علم اليقين أن الله سيري عباده آياته، فلا نتأول كتاب الله بمثل هذه التأويلات، أما إن وجدت أدلة واضحة مثل علوم الأجنة وعلوم الطب التي وجد أنها تدل عليها نصوص الكتاب والسنة فنفرح بهذا؛ لأنه عزٌّ وحجة ودلالة على صحة هذا الدين وصدقه، ولكن لا نبالغ، فإن الغلو في الأشياء يوجب الشر؛ والله يقول: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171] فلا نبالغ في هذه الأمور، ولا نتكلف التأويل.

بعض هؤلاء يتبجح فيرد كلام العلماء الأوائل، ويقول: كانوا يفهمون كذا وكذا، كأنه يسخر بهم ويتهكم بهم، حتى أني سمعت من يشار إليه بالبنان في الإعجاز يتهكم على تفسير حبر الأمة وترجمانها عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه، فلا بارك الله في من تهجم عليه، فينبغي الحذر من مثل هذه الأمور.

وما كان محتملاً فعلينا أن نقول: إن هذا يحتمل كذا، فنورده بكل أدب؛ لأنه لا يوجد نص يدل عليه، والسلف لهم فهمهم وهذا الشيء الذي نورده إذا كان نص كتاب الله يحتمله فينبغي أن نتأدب مع السلف ونبين ما يحتمله التأويل والنظر، ولكن دون أن نغلو أو نبالغ، فإن الغلو لا خير فيه، وكل شيء جاوز حده انقلب إلى ضده، وأعداء الإسلام يريدون منا مثل هذا، يريدون أن نشكك في السلف الأوائل، ومعلوم أنه إذا تكلم أحد بمسألة في الإعجاز من أجل أن يقنع كافراً، فقد لا يقتنع الكافر حتى يلج الجمل في سم الخياط.

فلماذا يطعن في أئمة السلف؟! وما هي الفائدة؟!

بل إن الكافر الذي تجاوره قد يعجب بهذا الطعن فيحاول أن يخرج شيئاً جديداً ويدعي به خطأ الأوائل، فمن كان يظن أنه قد أحسن في هذا، فالواقع أنه قد أساء.

فالحذر كل الحذر من هذه التأويلات! والحذر الحذر من التهكم على سلف الأمة، فالسلف والعلماء رحمهم الله هم أعلم الناس بتفسير كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أعلم بمواطن التنزيل، وخاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بلسان العرب ومدلولات هذا اللسان.

فعلينا أن نأخذ الحيطة من هذه التأويلات والتفسيرات الجديدة، ونحن لا نقول بردها كلها ولا نقول بقبولها كلها، وإنما نعرضها على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل شيء أسفر كتابُ الله عليه دليلاً قبلناه.

ثم الله يقول: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ [فصلت:53] ما قال: في القرآن بل قال: (فِي الآفَاقِ)، وأراهم الله آياته، وانظر كيف ينظرون إلى الآيات من فوقهم ومن تحتهم، وعن يمينهم وعن شمالهم، ومن أمامهم ومن خلفهم، وفي أنفسهم، ومع ذلك لم تزدهم إلا إعراضاً وصدوداً، وهذه هي الحقيقة التي أثبتها كتاب الله عز وجل، فلماذا نلهث وراء هؤلاء، بل ونتكلف في ذلك حتى نرد على سلف الأمة وأئمة الإسلام على حساب أمثال هؤلاء الذين لا يدخلون الإسلام إلا بإعجاز، وقد يخرجون منه بأدنى شبهة؟! يقول الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج:11] بعض من يتأثر بهذه التأويلات ويبالغ فيها إذا أصابته أقل فتنة انقلب على وجهه: خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].

فالواجب الحذر من التأويلات في كتاب الله أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلينا أن نلتزم بمنهج السلف والصحابة، فإذا سألك الله يوم القيامة: لم فهمت هذه الآية على هذا الوجه؟ قلت: فهمت هذه الآية بآية أخرى -لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً- أو بقول رسولك عليه الصلاة والسلام، أو بقول حبر الأمة وترجمان القرآن الذي دعا له صلى الله عليه وسلم بفهم كتاب الله عز وجل، وفُتِح عليه بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثله ثقة يرضى ويؤتمن على دين الله عز وجل.

فالمقصود: أن التأويلات المذمومة ترد سواء كانت في العلوم الشرعية أو كانت في المعارف الطبيعية، والتأويل صرف النص عن ظاهره إلى معنى آخر، والمعنى الآخر معروف بالمعنى الباطن، وعند الكلام يقصدون الظاهر ولا يقصدون الباطن إلا بقرينة، يقول مثلاً: رأيت أسداً فوق جمل، هل الأسد يركب على الجمل؟ لا، فنفهم من هذا أنه رأى رجلاً شجاعاً وصفه بأنه أسد، أو يقول: أتيت المسجد فاغترفت من بحر، ويقصد عالماً على منهج الكتاب والسنة رآه بحراً، علمه غزير فاغترف منه، أو يقول: أتيت فلاناً وسألته حاجتي فوجدته بئراً لا تكدره الدلاء، والعرب عندهم أن البئر إذا كان ماؤها قليلاً ونُزِح منها تغيرت، لكن إذا كان ماؤها كثيراً لم تتغير، ولو اغترف منها ما اغترف يبقى الماء صافياً من كثرته، فالكريم الجواد الذي ماله لا يقطعه عن أحد، إذا جئته وسألته المرة الأولى، ثم المرة الثانية، ثم المرة الثالثة، ثم المرة الرابعة، يفرح بمجيئك؛ لأنه يحب الإحسان، ولا يعرف قبض يديه، لكن البخيل إذا جئته لا تنال المرة الأولى منه إلا بشق الأنفس، وأما المرة الثانية فيقفل بابه، فلذلك تعبر العرب عن هذا المعنى بالبئر الذي لا تكدره الدلاء، يعني: أنه رجلٌ يعطي ويعطي ولا تؤذيه كثرة المسألة، ولا كثرة الإلحاح، وذلك من كرمه، فلما تقول: أتيت فلاناً فوجدته بئراً! هل الرجل يصير بئراً؟! لا، فهذا صرف للفظ عن ظاهره، لأنك لا تريد بئراً حقيقياً ولا تريد دلواً حقيقياً وإنما تريد معنى باطناً.

المعاريض في الكلام للحاجة

وكما أن التأويل في النصوص محمود ومذموم، فكذلك التأويل في الكلام، فقد تكون محقاً في تأويلك، تستخدمه عند الحاجة، مثل أن تدفع عن نفسك ظلم ظالم، فتأتي بكلامٍ تقصد شيئاً ومن يسمعك يفهمه على المعنى الذي يريد، مثل قوله عليه الصلاة والسلام : (نحن من ماء) فكل إنسان مخلوق من الماء: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:6] فصار من سمعه يقول: أي ماء؟ ماء بني فلان؟ ماء بني فلان؟ وصدق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال له: (نخبرك ممن نحن إن أخبرتنا) لأنه كان يخاف العيون فلما أخبرهم الرجل بما يريدون سألهم: ممن أنتم؟ -لأنهم كانوا ثلاثة- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن من ماء) فأخبره أنه مخلوق من ماء، وهذا نوع من التورية، وفي الأثر: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب).

فقد تبتلى ببلاء فجعل الله لك فسحة في الخروج من هذا البلاء بالتورية، مثلاً: قرع على بابك رجل يعطلك عن عبادة، أو أنه يغتاب الناس، نمام، فيه شر، فتريد أن تبتعد عن شره، فيقول ابنك أو البواب الذي على الباب: خرج إلى الصلاة، لكن ما قال: لم يعد، وفعلاً أنت قد خرجت إلى الصلاة ورجعت.

كان إبراهيم النخعي سيداً من سادات التابعين، وإماماً من أئمة السلف رحمه الله برحمته الواسعة، وكان عنده جارية فإذا جاءه الثقيل الذي يشغله عن العلم، ويشغله بغيبة الناس يستئذن عليه خط دائرة على الأرض، وتضع أمته أصبعها في الدائرة وتقول: والله ما هو فيها -يعني: ليس في الدائرة- فيسمع الذي في الخارج: ما هو فيها؛ فيظن أنها تعني أنه ليس في البيت، وإنما مرادها ليس في الدائرة.

وكان مهنا من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله عنده توريات، فكان إذا استأذن أحد يريد الإمام أحمد أو يريد المروزي من خيار أصحاب الإمام أحمد وكان مهنا يحبه ولا يحب أن يشوش أحد عليه أو يشغل الإمام عنه فكان يقول: إن المروزي ليس هنا، ويضع إصبعه على كفه، يعني: ليس في كفه وهذه تورية.

كذلك أيضاً قالوا: من أمثلة ذلك: أن يكون مظلوماً يحلَّف بالطلاق، فيقول -مثلاً: نسائي طوالق، ويعني بنسائه: محارمه، أخته وأمه وبنته وعمته وخالته، وهن طوالق، ولا يقصد نساءه اللاتي في عصمته، ومن أمثلتها قول: جواريَّ معتقات، أو: أعتقت جواريّ، والمراد بالجواري: السفن التي يملكها؛ لأنها جوارٍ في البحر، أو يقول -مثلاً-: والله ما رأيت فلاناً كأن يكون هناك شخص يريد أن يقتل آخر ظلماً، فإذا قلت: إنك رأيته، تكون قد دللت عليه ويحصل الضرر، فتريد أن تنقذ نفساً محرمة -كما ذكر الإمام ابن قدامة وغيره من الأئمة- فتقول: والله ما رأيت فلاناً وتقصد برأيت: الضرب على الرئة، أي: ما ضربته على رئته وكذلك تقول: والله ما ذكرت فلاناً، أي: ما تكلمت بذكره، وما ذكرته في مجلس، فهذا كله يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب).

لكن على طالب العلم أن يحذر من هذا، وعلى العالم أن يحذر من التوريات خاصة مع العوام فمن يسيء الفهم سيقول: الشيخ يكذب، والإمام يكذب؛ لأنه قد يفهم خطأ، فلذلك ينبغي استعمالها بحذر، فهي سلاح ذو حدين؛ فالإنسان إذا لم يحتج إليها ولم يكن مظلوماً ولم تكن هناك ضرورة فعليه أن يبتعد عنها ما أمكن.

ولا شك أن الصدق كله خير وبركة، لكن الله وسع على العباد، فهذا من التوسعة والرحمة على العباد، وفيه حديثٌ صحيحٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب) وهي التي تسمى بالمعاريض، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل هذا حتى في المزاح، وقد أمسك صحابياً من وراء ظهره فقال: (من يشتري مني هذا العبد؟ فقال: إذاً تجدني كاسداً، قال: إنك عند الله لست بكاسد) وهذا من ملاطفته عليه الصلاة والسلام، وقال لامرأة لما شكت زوجها: (زوجك الذي في عينه بياض، فقالت: لا يا رسول الله! إنه مبصر)، ظنت أنه يقصد أنه أعمى، فقال: (يا أمة الله! كل عينٌ فيها بياض).

وقال ملاطفاً لعجوز: (لا تدخل الجنة عجوز، فبكت فقال لها: ألم تسمعي قول الله عز وجل: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً [الواقعة:35]) فهذا كله من الكلام الذي لا يراد ظاهره، وإنما يراد به معانٍ أخرى، اقتضت جلب المصلحة أو درأ المفسدة، فتجوز هذه التورية، وهذا في الحقيقة من عظمة هذا الدين؛ لأنه: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195] فاللسان العربي اختار الله له أشرف كتبه وأفضلها وهو القرآن، ومن عظمة هذه اللغة أنها تحتمل المعاني العديدة، ومن هنا أجمع العلماء على عدم جواز ترجمة القرآن حرفياً؛ لأنه ليس هناك لسان بهذه السعة، وبهذا الإعجاز العجيب البديع الغريب الذي يتضمن ما تتضمنه هذه اللغة، فلا يستطيع المترجم مثلاً أن يترجم: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187] لا يستطيع أن يترجمها بلسان آخر مع إبقاء المعاني الجميلة البديعة الموجودة فيها، وهكذا قوله تعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] لو ترجمت حرفياً إلى لسان آخر لكانت غير واضحة، فيحتاج في ترجمتها إلى جمل عديدة، حتى يبين هذا المدلول، ولا يمكن أن يوجد في لسان مثلما يوجد في اللسان العربي من المعاني العجيبة، والكلمة الواحدة ربما جاء فيها أكثر من عشرة معانٍ، وهذا من سعة اللغة، ومن هنا كانت المعاريض والمندوحات بشيء يحتمله اللفظ جائزة.

أما التأويل المحمود: فهو تأويل النص بنص يصرفه عن ظاهره إلى معنى آخر، فحينئذٍ نقول: إن هذا التأويل تأويل محمود، مثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) (لا وضوء) يحتمل: لا وضوء صحيح، ويحتمل: لا وضوء كامل، فلما وجدنا كتاب الله عز وجل لا يأمر بالتسمية مع أنه أمر بالتسمية عند الذبح والذكاة فقال: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ [الأنعام:118].. وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة:4] فلما وجدناه في الوضوء وهو من أجل العبادات وأعظمها -لأنه مفتاح الصلاة- لم يأمر بالتسمية فيه فهمنا أن معنى: لا وضوء أي لا وضوء كامل، فصرفنا (لا وضوء) من نفي الصحة إلى نفي الكمال، ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عثمان في الصحيح- يتوضأ وضوءاً تاماً كاملاً، ولم يذكر عثمان أنه تلفظ بالتسمية جهرة، أو اطلع على تسمية منه، فقال: إنه توضأ نحو وضوئي هذا، وهذا يدل على أن الأفعال كانت دون ذكر ودون أي قولٍ، فهذا يدل أيضاً على أن المراد بالحديث الأول: لا وضوء كامل، فيصرف النص من ظاهره الراجح إلى معناه المرجوح؛ لأن الأصل أن نحمله على أنه: لا وضوء صحيح.

مثال آخر: (لا إيمان لمن لا أمانة له) لا نقول لا إيمان يعني أنه -والعياذ بالله- كافر بالكلية، كما يقوله الخوارج، وإنما نقول: إنه إذا كان خائناً للأمانة فقد انتقص من دينه وإيمانه على قدر خيانته -نسأل الله السلامة والعافية- فيؤول ويصرف الحديث عن ظاهره لوجود نصوص أخرى تدل على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر، فهذا تأويل، لكنه تأويل محمود؛ لوجود نصوص يعرفها العلماء الراسخون والأئمة المهتدون المهديون، فهؤلاء إذا أولوا نصاً وصرفوه عن ظاهره فإننا نقبل هذا التأويل، ولا نلجأ للتأويل إلا عند وجود نصوص أخرى تصرف النص الأول عن ظاهره.

مثال آخر: (لا يدخل الجنة عاق) لو أخذ على ظاهره لكان معناه أن العاق في النار: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7] فإذا أخبر أن العاق لا يدخل الجنة فمعنى ذلك أنه في النار؛ لأنه لا يوجد منزلة بين المنزلتين. فهذا الحديث يؤول على وجوه:

الوجه الأول: لا يدخلها في الدخول الأول الذي يكون لأهل الجنة السابقين؛ لأنهم يخرجون من عرصات يوم القيامة فيدخلون الجنة، وأما أهل الكبائر فإنهم إذا شاء الله يدخلون النار تطهيراً ثم ينقلون إلى الجنة، فحينئذٍ يكون الدخول هو دخول التشريف والتكريم؛ ولا يمنع من دخولهم الجنة بعد أن يطهروا من كبائر الذنوب، فكأن العاق -والعياذ بالله- موعودٌ بالعذاب لا محالة.

الوجه الثاني: قال بعض العلماء: المعنى: أنه لا يوفق لحسن الخاتمة -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يختم له بخاتمة أهل الإيمان، فيكون المراد: أنه لا يوفق، فلا يدخلها حقيقة؛ لأنه يختم له -والعياذ بالله- بخاتمة الكفار، وهذا قد يقع استدراجاً، فحينئذٍ لا تتعارض النصوص؛ لأنه إذا ختم له بخاتمة السوء فلا إشكال.

الوجه الثالث: أنه محمول على الوعيد، كما اختاره سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وكان يقول: هذا محمول على الوعيد الشديد، وحينئذٍ لا يكون على ظاهره.

هذا كله تأويل؛ لوجود نصوص أخرى تدل على أن الكبائر لا تستوجب الخلود في النار أبداً، وإنما تستوجب دخولها تطهيراً إن لم يعف الله عن العبد؛ لأن مرتكب الكبائر عند أهل السنة والجماعة تحت مشيئة الله، إن عذبه الله فبعدله، وإن عفا عنه فبمحض إحسانه وكرمه وفضله لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].. وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد:41].

الشاهد أن هذا تأويل، لكنه تأويل بنصوص وأدلة، فهو تأويل محمود.

أما التأويل المذموم فهو: العبث بنصوص الكتاب والسنة بالأهواء والآراء والاجتهادات التي لا تنبني على أصول صحيحة يقوى معها صرف اللفظ عن ظاهره، فهذا التأويل تلاعب بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وصاحبه مطموس البصيرة؛ لأنه يعطل نصوص الكتاب والسنة ويلعب بها، كما يفعل بعض المتعصبة الذين يتعصبون لأئمتهم ولمشايخهم، فيعتقد أحدهم أن شيخه لا يمكن أن يخطئ، وكأنه نبي معصوم، فكلما جاء نص مخالف لشيخه لم يقبله وقال: هذا النص فيه وفيه وفيه، فيأتي بتأويلات وتكلفات وتعسفات، تترك بها نصوص الكتاب والسنة، وترمى والعياذ بالله وراء الظهور، فهذا إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته فهو على خطر عظيم، ولذلك تجد أمثال هؤلاء محرومين من هدي الكتاب والسنة؛ لأنهم أعملوا فيها المعاول ففسدت أفهامهم وأعمالهم.

والواجب على المسلم أن يكون وقافاً عند الحق، وأن يكون الحق أحب إليه من كل أحد؛ لأن الله فرض علينا اتباع الحق ومحبته ولزومه، وبين أنه لا نجاة للعبد إلا بهذا الحق، وأن السماوات والأرض ما قامتا إلا من أجل الحق وللحق، فينبغي لكل مسلم أن يكون عنده تجرد.

إذاً: التأويل المذموم هو: صرف للنصوص والتلاعب بها بالأهواء والآراء، وهو مصادمة لحجج الله البينة الميسرة المنيرة، وإذهاب لنورها وبهائها، وإن كان نورها لا يذهب ولا ينطفئ أبداً، فالحق يعلو ولا يعلى عليه.

ومن التأويل المذموم: إسقاط آيات من كتاب الله عز وجل على النظريات التي لا أصل لها، والتلاعب بنصوص كتاب الله عز وجل، وتكلف الإعجاز فيها بشيء لا يمت إلى هدي الكتاب والسنة ولا إلى هدي السلف -في تفسير كتاب الله عز وجل- بصلة.

فمثل هذا لا يجوز، سواء كان في العلوم الطبيعية من طبٍ وهندسة أو في غيرها.

وقد سمعت بعض من ينتسب إلى الإعجاز يقول في قوله الله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19] يقول: إن هذا في صعود القمر، ولا يشك مسلم أن هذا تلاعب بكتاب الله؛ لأن الله أقسم فقال: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19-19] أي: (والله لتمرن) يقسم الله جل جلاله أنكم لتمرن يا معشر الكفار، ويا معشر المؤمنين، بأحوال الآخرة طبقاً عن طبق، وطبقاً بعد طبق، ستمرون بالقبور وعرصات القيامة، فهذا الأمر هو الذي وقعت فيه الخصومة، وهو الذي كذب به المشركون وردوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به آيات القرآن، فمن قال: (المراد بها صعود القمر لأننا ما نصعد القمر إلا إذا اتسق) فقد تلاعب بكتاب الله عز وجل وقال على الله بغير علم.

فالحذر الحذر من مزالق الشيطان فقد يوقعك في القول على الله بدون علمٍ وبدون حجة.

وينبغي لكل مسلم أن لا يقبل مثل هذه التفاسير، بل يعتمد على تفسير الأئمة والعلماء، وخاصة أئمة السلف؛ لأن كتاب الله فسر، ومرت هذه القرون كلها وكتاب الله يفسر بهذا التفسير البين الواضح النير، الذي لا إشكال فيه، فاتبع سلفك الصالح، ودع الأمور المحدثات.

ثم لو أننا رأينا نظرية من النظريات فجربنا كتاب الله عليها، ولوينا نصوص الكتاب لتوافق هذه النظرية، ثم تبين بعد عشرات السنين أنها خطأ!! ماذا يقول الناس؟ وماذا يقال عن كتاب الله عز وجل؟

نحن نعلم علم اليقين أن الله سيري عباده آياته، فلا نتأول كتاب الله بمثل هذه التأويلات، أما إن وجدت أدلة واضحة مثل علوم الأجنة وعلوم الطب التي وجد أنها تدل عليها نصوص الكتاب والسنة فنفرح بهذا؛ لأنه عزٌّ وحجة ودلالة على صحة هذا الدين وصدقه، ولكن لا نبالغ، فإن الغلو في الأشياء يوجب الشر؛ والله يقول: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171] فلا نبالغ في هذه الأمور، ولا نتكلف التأويل.

بعض هؤلاء يتبجح فيرد كلام العلماء الأوائل، ويقول: كانوا يفهمون كذا وكذا، كأنه يسخر بهم ويتهكم بهم، حتى أني سمعت من يشار إليه بالبنان في الإعجاز يتهكم على تفسير حبر الأمة وترجمانها عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه، فلا بارك الله في من تهجم عليه، فينبغي الحذر من مثل هذه الأمور.

وما كان محتملاً فعلينا أن نقول: إن هذا يحتمل كذا، فنورده بكل أدب؛ لأنه لا يوجد نص يدل عليه، والسلف لهم فهمهم وهذا الشيء الذي نورده إذا كان نص كتاب الله يحتمله فينبغي أن نتأدب مع السلف ونبين ما يحتمله التأويل والنظر، ولكن دون أن نغلو أو نبالغ، فإن الغلو لا خير فيه، وكل شيء جاوز حده انقلب إلى ضده، وأعداء الإسلام يريدون منا مثل هذا، يريدون أن نشكك في السلف الأوائل، ومعلوم أنه إذا تكلم أحد بمسألة في الإعجاز من أجل أن يقنع كافراً، فقد لا يقتنع الكافر حتى يلج الجمل في سم الخياط.

فلماذا يطعن في أئمة السلف؟! وما هي الفائدة؟!

بل إن الكافر الذي تجاوره قد يعجب بهذا الطعن فيحاول أن يخرج شيئاً جديداً ويدعي به خطأ الأوائل، فمن كان يظن أنه قد أحسن في هذا، فالواقع أنه قد أساء.

فالحذر كل الحذر من هذه التأويلات! والحذر الحذر من التهكم على سلف الأمة، فالسلف والعلماء رحمهم الله هم أعلم الناس بتفسير كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أعلم بمواطن التنزيل، وخاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بلسان العرب ومدلولات هذا اللسان.

فعلينا أن نأخذ الحيطة من هذه التأويلات والتفسيرات الجديدة، ونحن لا نقول بردها كلها ولا نقول بقبولها كلها، وإنما نعرضها على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل شيء أسفر كتابُ الله عليه دليلاً قبلناه.

ثم الله يقول: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ [فصلت:53] ما قال: في القرآن بل قال: (فِي الآفَاقِ)، وأراهم الله آياته، وانظر كيف ينظرون إلى الآيات من فوقهم ومن تحتهم، وعن يمينهم وعن شمالهم، ومن أمامهم ومن خلفهم، وفي أنفسهم، ومع ذلك لم تزدهم إلا إعراضاً وصدوداً، وهذه هي الحقيقة التي أثبتها كتاب الله عز وجل، فلماذا نلهث وراء هؤلاء، بل ونتكلف في ذلك حتى نرد على سلف الأمة وأئمة الإسلام على حساب أمثال هؤلاء الذين لا يدخلون الإسلام إلا بإعجاز، وقد يخرجون منه بأدنى شبهة؟! يقول الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج:11] بعض من يتأثر بهذه التأويلات ويبالغ فيها إذا أصابته أقل فتنة انقلب على وجهه: خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].

فالواجب الحذر من التأويلات في كتاب الله أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلينا أن نلتزم بمنهج السلف والصحابة، فإذا سألك الله يوم القيامة: لم فهمت هذه الآية على هذا الوجه؟ قلت: فهمت هذه الآية بآية أخرى -لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً- أو بقول رسولك عليه الصلاة والسلام، أو بقول حبر الأمة وترجمان القرآن الذي دعا له صلى الله عليه وسلم بفهم كتاب الله عز وجل، وفُتِح عليه بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثله ثقة يرضى ويؤتمن على دين الله عز وجل.

فالمقصود: أن التأويلات المذمومة ترد سواء كانت في العلوم الشرعية أو كانت في المعارف الطبيعية، والتأويل صرف النص عن ظاهره إلى معنى آخر، والمعنى الآخر معروف بالمعنى الباطن، وعند الكلام يقصدون الظاهر ولا يقصدون الباطن إلا بقرينة، يقول مثلاً: رأيت أسداً فوق جمل، هل الأسد يركب على الجمل؟ لا، فنفهم من هذا أنه رأى رجلاً شجاعاً وصفه بأنه أسد، أو يقول: أتيت المسجد فاغترفت من بحر، ويقصد عالماً على منهج الكتاب والسنة رآه بحراً، علمه غزير فاغترف منه، أو يقول: أتيت فلاناً وسألته حاجتي فوجدته بئراً لا تكدره الدلاء، والعرب عندهم أن البئر إذا كان ماؤها قليلاً ونُزِح منها تغيرت، لكن إذا كان ماؤها كثيراً لم تتغير، ولو اغترف منها ما اغترف يبقى الماء صافياً من كثرته، فالكريم الجواد الذي ماله لا يقطعه عن أحد، إذا جئته وسألته المرة الأولى، ثم المرة الثانية، ثم المرة الثالثة، ثم المرة الرابعة، يفرح بمجيئك؛ لأنه يحب الإحسان، ولا يعرف قبض يديه، لكن البخيل إذا جئته لا تنال المرة الأولى منه إلا بشق الأنفس، وأما المرة الثانية فيقفل بابه، فلذلك تعبر العرب عن هذا المعنى بالبئر الذي لا تكدره الدلاء، يعني: أنه رجلٌ يعطي ويعطي ولا تؤذيه كثرة المسألة، ولا كثرة الإلحاح، وذلك من كرمه، فلما تقول: أتيت فلاناً فوجدته بئراً! هل الرجل يصير بئراً؟! لا، فهذا صرف للفظ عن ظاهره، لأنك لا تريد بئراً حقيقياً ولا تريد دلواً حقيقياً وإنما تريد معنى باطناً.

وكما أن التأويل في النصوص محمود ومذموم، فكذلك التأويل في الكلام، فقد تكون محقاً في تأويلك، تستخدمه عند الحاجة، مثل أن تدفع عن نفسك ظلم ظالم، فتأتي بكلامٍ تقصد شيئاً ومن يسمعك يفهمه على المعنى الذي يريد، مثل قوله عليه الصلاة والسلام : (نحن من ماء) فكل إنسان مخلوق من الماء: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:6] فصار من سمعه يقول: أي ماء؟ ماء بني فلان؟ ماء بني فلان؟ وصدق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال له: (نخبرك ممن نحن إن أخبرتنا) لأنه كان يخاف العيون فلما أخبرهم الرجل بما يريدون سألهم: ممن أنتم؟ -لأنهم كانوا ثلاثة- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن من ماء) فأخبره أنه مخلوق من ماء، وهذا نوع من التورية، وفي الأثر: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب).

فقد تبتلى ببلاء فجعل الله لك فسحة في الخروج من هذا البلاء بالتورية، مثلاً: قرع على بابك رجل يعطلك عن عبادة، أو أنه يغتاب الناس، نمام، فيه شر، فتريد أن تبتعد عن شره، فيقول ابنك أو البواب الذي على الباب: خرج إلى الصلاة، لكن ما قال: لم يعد، وفعلاً أنت قد خرجت إلى الصلاة ورجعت.

كان إبراهيم النخعي سيداً من سادات التابعين، وإماماً من أئمة السلف رحمه الله برحمته الواسعة، وكان عنده جارية فإذا جاءه الثقيل الذي يشغله عن العلم، ويشغله بغيبة الناس يستئذن عليه خط دائرة على الأرض، وتضع أمته أصبعها في الدائرة وتقول: والله ما هو فيها -يعني: ليس في الدائرة- فيسمع الذي في الخارج: ما هو فيها؛ فيظن أنها تعني أنه ليس في البيت، وإنما مرادها ليس في الدائرة.

وكان مهنا من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله عنده توريات، فكان إذا استأذن أحد يريد الإمام أحمد أو يريد المروزي من خيار أصحاب الإمام أحمد وكان مهنا يحبه ولا يحب أن يشوش أحد عليه أو يشغل الإمام عنه فكان يقول: إن المروزي ليس هنا، ويضع إصبعه على كفه، يعني: ليس في كفه وهذه تورية.

كذلك أيضاً قالوا: من أمثلة ذلك: أن يكون مظلوماً يحلَّف بالطلاق، فيقول -مثلاً: نسائي طوالق، ويعني بنسائه: محارمه، أخته وأمه وبنته وعمته وخالته، وهن طوالق، ولا يقصد نساءه اللاتي في عصمته، ومن أمثلتها قول: جواريَّ معتقات، أو: أعتقت جواريّ، والمراد بالجواري: السفن التي يملكها؛ لأنها جوارٍ في البحر، أو يقول -مثلاً-: والله ما رأيت فلاناً كأن يكون هناك شخص يريد أن يقتل آخر ظلماً، فإذا قلت: إنك رأيته، تكون قد دللت عليه ويحصل الضرر، فتريد أن تنقذ نفساً محرمة -كما ذكر الإمام ابن قدامة وغيره من الأئمة- فتقول: والله ما رأيت فلاناً وتقصد برأيت: الضرب على الرئة، أي: ما ضربته على رئته وكذلك تقول: والله ما ذكرت فلاناً، أي: ما تكلمت بذكره، وما ذكرته في مجلس، فهذا كله يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب).

لكن على طالب العلم أن يحذر من هذا، وعلى العالم أن يحذر من التوريات خاصة مع العوام فمن يسيء الفهم سيقول: الشيخ يكذب، والإمام يكذب؛ لأنه قد يفهم خطأ، فلذلك ينبغي استعمالها بحذر، فهي سلاح ذو حدين؛ فالإنسان إذا لم يحتج إليها ولم يكن مظلوماً ولم تكن هناك ضرورة فعليه أن يبتعد عنها ما أمكن.

ولا شك أن الصدق كله خير وبركة، لكن الله وسع على العباد، فهذا من التوسعة والرحمة على العباد، وفيه حديثٌ صحيحٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب) وهي التي تسمى بالمعاريض، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل هذا حتى في المزاح، وقد أمسك صحابياً من وراء ظهره فقال: (من يشتري مني هذا العبد؟ فقال: إذاً تجدني كاسداً، قال: إنك عند الله لست بكاسد) وهذا من ملاطفته عليه الصلاة والسلام، وقال لامرأة لما شكت زوجها: (زوجك الذي في عينه بياض، فقالت: لا يا رسول الله! إنه مبصر)، ظنت أنه يقصد أنه أعمى، فقال: (يا أمة الله! كل عينٌ فيها بياض).

وقال ملاطفاً لعجوز: (لا تدخل الجنة عجوز، فبكت فقال لها: ألم تسمعي قول الله عز وجل: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً [الواقعة:35]) فهذا كله من الكلام الذي لا يراد ظاهره، وإنما يراد به معانٍ أخرى، اقتضت جلب المصلحة أو درأ المفسدة، فتجوز هذه التورية، وهذا في الحقيقة من عظمة هذا الدين؛ لأنه: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195] فاللسان العربي اختار الله له أشرف كتبه وأفضلها وهو القرآن، ومن عظمة هذه اللغة أنها تحتمل المعاني العديدة، ومن هنا أجمع العلماء على عدم جواز ترجمة القرآن حرفياً؛ لأنه ليس هناك لسان بهذه السعة، وبهذا الإعجاز العجيب البديع الغريب الذي يتضمن ما تتضمنه هذه اللغة، فلا يستطيع المترجم مثلاً أن يترجم: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187] لا يستطيع أن يترجمها بلسان آخر مع إبقاء المعاني الجميلة البديعة الموجودة فيها، وهكذا قوله تعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] لو ترجمت حرفياً إلى لسان آخر لكانت غير واضحة، فيحتاج في ترجمتها إلى جمل عديدة، حتى يبين هذا المدلول، ولا يمكن أن يوجد في لسان مثلما يوجد في اللسان العربي من المعاني العجيبة، والكلمة الواحدة ربما جاء فيها أكثر من عشرة معانٍ، وهذا من سعة اللغة، ومن هنا كانت المعاريض والمندوحات بشيء يحتمله اللفظ جائزة.

يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ باب التأويل في الحلف.ومعناه: أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره ]:

أي: في هذا الموضع أبين لك جملة من المسائل في الحلف بالطلاق، أو ذكر الطلاق المعلق على شيء يقصد منه الحالف شيئاً غير اللفظ المذكور، وهذا الباب بابٌ مهم من أبواب الطلاق، اعتنى به الأئمة رحمهم الله على اختلاف المذاهب: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة رحمهم الله، حتى إن الظاهرية أشاروا إلى جملة من مسائله لأهميته وورود السنة بالإذن به.

وهو سعة ورحمة من الله عز وجل بعباده، فإن الإنسان قد يُظلم ويُطلب منه أن يطلق زوجته ويعلق طلاقها على أمرٍ ما، وهو مظلومٌ فيه، وربما أكره على أن يتكلم بالطلاق، أو يعلق طلاق زوجته على فعل شيء أو ترك شيء، فمن رحمة الله عز وجل أن جعل للعباد فرجاً ومخرجاً فيقول كلاماً وينوي شيئاً آخر، وحينئذٍ يكون للمطلِّق ظاهرٌ وباطن، فظاهره يدل على وقوع الطلاق إن اختل أمره، وباطنه أنه لا يقصد ذلك الظاهر الذي تلفظ به.

وقد تقدم بيان التأويل، وما هو مراد العلماء رحمهم الله به، وأن المقصود به: أن ينوي الإنسان شيئاً في قرارة قلبه ويتلفظ بكلامٍ يحتمل الذي نواه، وحينئذٍ يكون السامع قد فهم شيئاً والمتكلم يريد شيئاً آخر، وإذا كان التأويل في الطلاق، فمعنى ذلك أن السامع يظن أنه مطلق، والواقع أنه لا يقصد إيقاع الطلاق، بما قصده من ذلك التأويل.

وبينا أمثلة التأويل وصوره التي ذكرها العلماء رحمهم الله، وهذا من سعة اللغة العربية، فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذا اللسان واسعاً، ومن هنا ساغ للمكلف أن يتلفظ بألفاظٍ يسمعها السامع ويظنها شيئاً ويريد المتكلم بها شيئاً آخر.

وبينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل هذه الرخصة ونبه الأمة عليها فقال في الحديث الصحيح: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب) فبين عليه الصلاة والسلام أن المؤمن يستطيع أن يتخلص من الكذب -الذي هو من أقبح الأمور وأشنعها- بالتورية.

والتورية: أن يورِّي فيأتي بكلامٍ محتمِل فيقصد باطنه والسامع يظن ظاهره.

يقول رحمه الله: (باب التأويل في الحلف) أي باب التأويل في مسائل الطلاق خاصة في التعليق، أي سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالتأويل في الحلف في الطلاق.

وبين أن معناه أن يأتي بلفظٍ ولا يريد ظاهره، ومعنى ذلك أنه يشترط في اللفظ أن يكون محتملاً، يقول: جواري، ومراده السفن، لأنها تجري، وقد أخبر الله عز وجل عن ذلك وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ [الشورى:32] فيقول: جواري عتيقات، أو يقول: نسائي طوالق مني، ومراده بالنساء محارمه الذين هن لسن بزوجاته، ففي هذا مندوحة للإنسان إذا أكره وألجئ إلى الطلاق، وهذا من رحمة الله ولطفه بعباده.

قال المصنف رحمه الله: [فإذا حلف وتأول يمينه نفعه إلا أن يكون ظالماً ]

أي حلف على شيءٍ وكان حلفه بلفظٍ محتمل فقال: امرأتي طالق مالك عندي شيءٌ، أي إن كان عندي شيء فامرأتي طالق، فهذا ظاهر اللفظ، ومراده بالمال مالٌ معين، وكان الذي استحلفه بهذا المال ظالماً جائراً عليه يدعي أن له عنده حقوقاً والواقع أنه ليس له عنده حقوقاً، فألجأه أن يحلف بالطلاق، مثلاً: شخص قوي وعنده قوة قال له: أعطني العشرة الآلاف التي عندك قال له: أظن أنني سددتها لك، أعطيتها لك، قال: إذاً احلف بأن نساءك طوالق أو امرأتك طالق إن كنت لم تدفع لي هذه العشرة الآلاف أو إن كانت هذه العشرة الآلاف عندك، فحلف بطلاق زوجته أنه ما له عنده شيء، وقصد مالاً غير النقد التي هي العشرة الآلاف، أو قصد أنه ماله عنده شيء من ناحية الحق الثابت وهذا من حقه، أو قصد شيئاً آخر غير الذي فهمه سواء كان في عين المال، أو كان في صفة المال وحاله، فكل ذلك ينفعه إلا أن يكون ظالماً.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع