خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/975"> الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/975?sub=4846"> سلسلة المحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
السياسة في الإسلام
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله تعالى أوجب على عباده المؤمنين رعاية دينه وحمايته، وجعله مسئوليتهم يسألون عنه يوم العرض على الله سبحانه وتعالى، فإذا كانوا قد اقتنعوا بدين الله سبحانه وتعالى وبصدق ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فليعلموا أنهم سيسألون عما قدموا في سبيل قناعتهم هذه، وإن الدين لا يمكن أن يقام إلا بدولة، وإن كثيراً من الواجبات لا يمكن أن يقوم بقها الأفراد، وذلك مثل جهاد العدو، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وإعانة المظلوم على الظالم، واستصلاح الأرض، واستخراج ما فيها من الخيرات، والعدل في توزيع ذلك بين الناس، فهذه أمور لا يمكن أن تتم من خلال أفراد ولا من خلال جماعة، وإنما تقوم بها دولة، ومن أجل هذا وجب أن تقوم دولة للإسلام، لكن هذه الدولة يميزها عما سواها من الدول كثير من المميزات، منها:
ليست الدولة دولة فرد ولا قبيلة
أنها دولة الإسلام، فليست دولة فرد يريد بها إشباع رغباته واتباع شهواته، وأن يجعل مال الله دولاً، وأن يجعل عباد الله خولاً، وليست دولة قبيلة ولا حزب ولا بلد مخصوص وإنما هي دولة الدين.
فإذاً: تميزها هذه العقيدة التي تجعلها متصلة بالله سبحانه وتعالى، ومنطلقة من أمره سبحانه وتعالى، وساعية لإعلاء كلمته وإعزاز دينه، وليست ساعية لإعزاز فرد ولا لإشباع رغباته، ولا لإعزاز مجموعة مخصوصة، ولا لتهيئة حاجياتها وما تطلبه، بل هي دولة للإسلام.
وافترض الله سبحانه وتعالى ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقاموا به أفضل قيام، سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة دولة للإسلام ولم يردها لنفسه ولا لقبيلته ولا لآل بيته، بل جعلها دولة لدين الله، ألا تلاحظون أن الله عرض عليه أن يكون نبياً ملكاً أو أن يكون نبياً عبداً فاختار أن يكون نبياً عبداً، وعندما جاءه الأعرابي الذي عرف خدمة الملوك فانحنى بين يديه وارتعشت بوادره، قال له: (أربع على نفسك، فإنني لست ملكاً، إنما أنا عبد الله ورسوله) .
وكذلك كان يقول لأمته على الملأ: (ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ليس لي مما أوتيتم إلا الخمس وهو مردود عليكم)، فلم يتخذ شيئاً من مال الله مختصاً به لنفسه، بل كان يعيش في حجرات، يقول الحسن البصري عنها: لو مد الرجل يده للامست سقف حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ينام على حصير فيؤثر في جنبه ويبقى أثره عليه، ويقول جابر بن عبد الله : لو دخلت أبيات النبي صلى الله عليه وسلم ما رأيت شيئاً يرد البصر، يعني: ما رأيت شيئاً تتعلق به النفس وتهواه، فكل ما فيها من وسط متاع الناس، أو من أدناه.
كذلك صلى الله عليه وسلم لم يجعل مميزات في بني هاشم، بل كان لهم من الحقوق ما لغيرهم، ولم يختصهم بأي شيء، ولذلك لم يكن من خلقه رجلاً من بني هاشم، وإنما هو رجل من بني تيم بن مرة، وقال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) وأبو بكر رجل من بني تيم بن مرة بن كعب بن لؤي وليس من بني هاشم ولا من بني عبد مناف.
وكذلك لم يجعلها دولة مختصة بقريش أو بالتمكين لهم في الأرض وإن كانت الإمامة مختصة بهم، لكن الوظائف والقيام بالمصالح لا يختص بهم، بل قال: (إنا لا نولي عملنا من سأله) وقال: (من ولى على عمل رجلاً وهو يجد أصلح منه لقي الله خائناً) ، فلذلك لم يختص قريشاً بالوظائف وإنما أعطى اللواء يوم فتح مكة لـسعد بن عبادة بن دليم وهو رجل من الخزرج، ثم حين شكي إليه، انتزعه منه وأعطاه ولده قيس بن سعد بن عبادة بن دليم .
وكذلك إذا نظرتم إلى من يعقد له الرسول صلى الله عليه وسلم اللواء في الغزوات المختلفة، أو يستعمله في الأعمال، ستجدون قريشاً مثل سواهم، ليس لهم ما يميزهم إلا قضية الإمامة فقط، وهذه حكمة ربانية، وهي أن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، كما قال أبو بكر في خطبته يوم السقيفة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) ، وقال أبو بكر للأنصار : نحن الأمراء وأنتم الوزراء، والأمر إذ ذاك شورى بين الجميع.
وكل قوم إنما يختار منهم الأعدل والأكفأ، فيستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يصلح للعمل دون النظر إلى سنه أو علمه أو قبيلته أو تخصصه، بل اختار لإمارة مكة وإمامة المسجد الحرام والقضاء بين الناس بمكة شاباً هو عتاب بن أسيد وكان في السابعة عشرة من عمره.
واختار لقيادة جيش أراد أن يبعثه في حياته أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل وهو شاب من بني كلب بن وبرة بن الحاف بن قضاعة ولم يتجاوز عمره سبع عشرة سنة، وفي الجيش أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ومن سواهم من كبار المهاجرين، وكذلك أمر على البحرين العلاء بن الحضرمي، وأمر الضحاك بن سفيان كذلك على عمان، وأمره على كتيبة بني سليم يوم الفتح.
كل هذا يدلنا على أن هذه الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن دولة فرد ولا دولة قبيلة ولا دولة جهة ولا دولة حزب وإنما كانت دولة الإسلام، فالعزيز فيها هو هذا الدين، والذي يقصد إعزازه والتمكين له هو هذا الدين، وسار على هذا النهج الخلفاء الراشدون المهديون.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه يعهد بالخلافة من بعده لـعمر بن الخطاب، وهو ليس من بني تيم بن مرة الذين منهم أبو بكر ، مع أن أولاده يصلحون للخلافة، ولكنه نحاها عنهم، ومع أن من بني عمه طلحة بن عبيد الله الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله) ، وأنزل الله فيه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[الأحزاب:23] ، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فلا يضره ما صنع أبداً، ومع ذلك عدل عنه أبو بكر ولم يعهد إليه بالخلافة، وإنما عهد بها إلى عمر .
وكذلك عمر بن الخطاب عندما جعلها في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، أخرج منهم سعيد بن زيد وهو ابن عمه وزوج أخته، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وممن شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بعينه بالجنة، فلا يضره ما فعله أبداً، لكن عمر أبعده؛ حتى لا تكون الخلافة دولة يتداولها بنو عدي بن كعب فقط.
وكذلك فإن علياً رضي الله عنه حين طعن جاءه أهل العراق يطلبون منه أن يولي عليهم الحسن بن علي فقال: لا والله لا أفعل، فلا يكون كبر هذا الأمر علي حياً وميتاً، إنما توليته بتكليف الله ما دمت حياً، فإذا أنا مت فقد انقطع التكليف، فلا أتحمله في حياتي وبعد موتي.
وكذلك فإن أبا بكر رضي الله عنه حين تولى الخلافة مكث سنة يدير أمور هذه الدولة، ولم يأخذ أي راتب من بيت المال، فلما نفدت تجارته كلم الناس في المسجد فقال: أيها المؤمنون! إني كنت امرأً تاجراً، وإنكم شغلتموني بأموركم عن أمور تجارتي، فلو تجعلون لي رزقاً من بيت مالكم، فجلس أهل المسجد يتفاوضون كم يجعلون لـأبي بكر ؟ كم الراتب الذي يستحقه على العمل الذي يقوم به؟
وعينوا له راتباً، ثم لما تولى عمر أخذ ذلك الراتب ولم يزد فيه مع أن أعماله قد ازدادت على أعمال أبي بكر ، اتسعت الخلافة واتسعت الأرض واتسع التدبير، واحتاج الناس إلى كثير من المال لم يكونوا محتاجين إليه في زمان أبي بكر، لكنه لم يزد في راتبه شيئاً، وحين ازدادت الميزانية، واتسعت الأموال، وكثر ما في بيت المال، لم يزد راتب الخليفة عما كان عليه في حال الضيق والمشقة.
وحين أدركه الموت دعا ولده عبد الله بن عمر فقال: إني كنت أخذت من بيت المال هذا الرزق الذي كان يأخذه أبو بكر ، وإن المسلمين لم يعطوني إياه وإنما أعطوه أبا بكر ، فلعلي أكون قصرت فلم أقم بما كان يقوم به أبو بكر ، وقد كتبت كل ما أخذت من بيت المال فأرجعه إليه، وإن وجدت في مال آل عمر وفاءً فخذه، وإلا فخذ من مال بني عدي بن كعب، فلأن يكونوا خصومي يوم القيامة أحب إلي من أن يخاصمني المسلمون، فأرجع راتبه مدة عشر سنوات وأشهر، أرجعه إلى بيت المال، تورعاً منه؛ لأنه يخاف ألا يكون قام بهذا الحق الذي بايعه الناس عليه، فهو يعلم أن البيعة لابد فيها من طرفين، ولابد أن يقوم بالواجب الذي عليه، ولا يمكن أن يأخذ حقوق المسلمين دون أن يدفع لهم مقابلاً وأن يقدم لهم خدمة، فخشي ألا يكون قد قام بالواجب، فأرجع إليهم ما أخذ من بيت مالهم.
ولما تولى عثمان الخلافة خطب في الناس فأخبرهم أنه غني عن مالهم، وأنه لا يحتاج إلى أي شيء من بيت مال المسلمين، فأرجع عليهم الراتب، ووفره على بيت مال المسلمين.
وهكذا فإن هذه الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعه عليها خلفاؤه الراشدون، كانت دولة الإسلام فعلاً، أما ما بعد ذلك فقد بدأت هذه الدولة تنحرف عن مداها وتسير في غير مرماها، فبدأ الناس يريدون هذه الدول لأفراد، ويريدون أن تكون ملكاً خاصاً لفرد أو لأسرة أو لقبيلة أو لبلدة أو نحو ذلك، ومن هنا فلم تكن دولة الإسلام تماماً، وهذا ما أوعد به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال فيما روى عنه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في مسند أحمد وغيره: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة .. وسكت).
الدولة في الإسلام دولة شورى لا استبداد
وإن دولة الإسلام مما يميزها أمور أخرى سأذكر بعضها ولا أحاول حصرها، فمن ذلك:
أنها دولة شورى فليست دولة استبداد ولا مصادرة لآراء الأفراد، ولا اتخاذ للقرارات الفردية، إنما هي دولة شورى يتشاور فيها المسلمون فيما بينهم في أمرهم، ويتشاورون في اختيار حاكمهم، وتيشاورون في تحديد سياساتهم وفي ترتيب أولوياتهم، كل هذا يميز هذه الدولة عما سواها من الدول.
قد وصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء المؤمنين بوصف الشورى في قوله جل ذكره: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ[الشورى:38] ، وأُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بها في قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[آل عمران:159] ، وأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وحض عليها، وذكر أهل العلم أن فيها كثيراً من الفوائد منها:
أولاً: أنها طاعة لأمر الله سبحانه وتعالى، فمن لا ينتهج أسلوب الشورى فليس مطيعاً لأمر الله تعالى حيث قال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[آل عمران:159] ، وقال: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ[الشورى:38] .
ثانياً: أنها اتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزوم لهديه ومنهجه.
ثالثاً: أنها مدعاة للتوصل إلى الصواب؛ فإذا تزاحمت العقول خرج الصواب.
رابعاً: أنها مدعاة لإزالة الضغائن والحقد، فمن يستشار في الأمر لا يمكن أن يجد في نفسه حرجاً ولا حسداً للقائم بالأمر، ومن هنا سيرضى به ويرضى عن تصرفاته؛ لأنه شاوره في الأمر.
خامساً: أن فيها إشراكاً في الأجر، فمن تستشيره فإنك تشركه في أجر القرار الذي ستتخذه.
سادساً: أن فيها تسلية عند إخفاق القرار، فمن اتخذ قراراً بعد استشارة، وفشل قراره ذلك، فإن له في ذلك تسلية، بأن هذا ليس من تدبيره وحده وإنما استشار الناس فيه.
سابعاً: أنها مدعاة للطاعة والتنفيذ، وأن من استشير عند اتخاذ القرار لا يمكن أن يخالف رأيه الذي أشار به، فهذا سيلزمه بالعمل على أساسه.
ثامناً: أنها تعويد لمن تقوده على الشورى، حتى لا يكون مستبداً إذا تولى هو القيادة.
تاسعاً: أنها أيضاً مدعاة لانقطاع الندم، فما خاب من استشار ولا ندم من استخار.
عاشراً: أن الشورى كذلك مدعاة لاستغلال كل الجهود؛ لأن كثيراً من الناس لا يشعر بمكانه ولا بأثره ومشاركته إلا إذا استشير.
الحادي عشر: أنها تغلب على النفس؛ لأن النفس البشرية تسعى لاتباع الحظوظ وتريد الكمال وتدعيه، فإذا كان الإنسان يقهر نفسه بالشورى ويريها أنها ناقصة وأنها محتاجة إلى عقل غيرها وعلمه؛ فهذا تغلب على النفس وقهر لها، هذه من فوائد الشورى ولا تقتصر على هذه.
وينبغي على القائم بأمر المسلمين أن يستشير في أموره، لكن لا يلزمه أن يستشير كل أحد، ويلزمه أن يشاور الناس في أمرهم العام ولا يلزمه الاستشارة في أموره الخاصة، لكنها مندوبة له، وهي أفضل، ولا يلزمه أن يستشير في الأمور المستعجلة، التي قد تأتيه وليس بحضرته أهل الاختصاص الذين يستشيرهم في ذلك الأمر.
وأيضاً: فإن إشارة بعض الأفراد غير ملزمة للقائم بالأمر ما لم يكونوا مرتبين لذلك، فإن كانوا مرتبين لذلك كأهل بدر وأهل الشورى في الأمة الإسلامية، الذين لا يحل للخليفة أن يتخذ قراراً حاسماً في أمور الأمة إلا بعد مشورتهم، فهؤلاء شوراهم ملزمة، فإذا اتخذوا رأياً معيناً ورجحوه لا يحل له أن يخالفه، أما ما سوى ذلك من الشورى فهو غير ملزم، بل هو معلم للصواب فقط.
ويجب على من تولى الأمر أين كان أن يحاول أن يستشير أهل الاختصاص في أي أمر سيتخذ فيه القرار، فلو كان الذي يتولى الأمر قاضياً مثلاً يجب عليه أن يشاور العلماء وأن يحضرهم مجلسه، وهذا محل اتفاق بين المذاهب، وتعرفون في مختصر خليل رحمه الله تعالى في باب القضاء: وأحضر العلماء وشاورهم.
فيجب على القاضي أن يحضر العلماء مجلس حكمه، وأن يشاورهم فيما يتخذه من الأقضية والصلح وغير ذلك.
وكذلك إذا كان الأمر يتعلق بالاقتصاد فلابد أن يستشار فيه الاقتصاديون، وإذا كان يتعلق بأمر السياسة فلابد أن يستشار فيه الساسة، وإذا كان يتعلق بأمر الاجتماع فلابد أن يستشار فيه أهل هذا التخصص، فهذه التخصصات معتبرة شرعاً، ولابد من اعتبارها حتى لا يستبد الأفراد، فإن الاستبداد من مظاهر الجبرية والملك العاض، وليس من مظاهر دولة الإسلام التي أنشأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون.
كذلك هي وسيلة اختيار حاكم المسلمين؛ لأن الحكم لله سبحانه وتعالى وحده، وهو قد عين أنبياءه قادة لخلقه، وجعل ذلك جائزة على الامتحان الشديد الذي لقوه في ذاته، وجعل إبراهيم للناس إماماً فقال سبحانه وتعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ[البقرة:124] ، فالظالمون أي: الذين يظلمون الناس ولا يؤدون حق الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكونوا أئمة للمسلمين؛ لأن الله شرط هذا الشرط على إبراهيم.
وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعين أحداً بعينه أنه هو الذي يلي الأمر من بعده، فاختار المسلمون أبا بكر وبايعوه بيعتين، أولاهما البيعة المبدئية وكانت بسقيفة بني ساعدة، والأخرى البيعة العامة وكانت بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم على منبره.
وكذلك حين عهد إلى عمر ، فكانت بيعة عمر جزءاً من بيعة أبي بكر، ومع هذا فقد بايعه الناس في المسجد، وعندما عهد بها عمر إلى الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض -تنازل ثلاثة منهم لثلاثة- فتنازل الزبير بن العوام لـعلي بن أبي طالب ، وتنازل طلحة بن عبيد الله لـعثمان بن عفان ، وتنازل سعد بن أبي وقاص لـعبد الرحمن بن عوف ، فانحصر أمر الأمة حينئذٍ في ثلاثة وهم: عبد الرحمن بن عوف ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، ثم تنازل عبد الرحمن لصالح عثمان وعلي بشرط أن يختار هو السابق منهما، فانحصر الأمر في عثمان وعلي وكان السبق لـعثمان ثم من بعده علي ، فعندما اختاره عبد الرحمن وبايعه بايعته الأمة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما قتل عثمان مظلوماً بايعت الأمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
أنها دولة الإسلام، فليست دولة فرد يريد بها إشباع رغباته واتباع شهواته، وأن يجعل مال الله دولاً، وأن يجعل عباد الله خولاً، وليست دولة قبيلة ولا حزب ولا بلد مخصوص وإنما هي دولة الدين.
فإذاً: تميزها هذه العقيدة التي تجعلها متصلة بالله سبحانه وتعالى، ومنطلقة من أمره سبحانه وتعالى، وساعية لإعلاء كلمته وإعزاز دينه، وليست ساعية لإعزاز فرد ولا لإشباع رغباته، ولا لإعزاز مجموعة مخصوصة، ولا لتهيئة حاجياتها وما تطلبه، بل هي دولة للإسلام.
وافترض الله سبحانه وتعالى ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقاموا به أفضل قيام، سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة دولة للإسلام ولم يردها لنفسه ولا لقبيلته ولا لآل بيته، بل جعلها دولة لدين الله، ألا تلاحظون أن الله عرض عليه أن يكون نبياً ملكاً أو أن يكون نبياً عبداً فاختار أن يكون نبياً عبداً، وعندما جاءه الأعرابي الذي عرف خدمة الملوك فانحنى بين يديه وارتعشت بوادره، قال له: (أربع على نفسك، فإنني لست ملكاً، إنما أنا عبد الله ورسوله) .
وكذلك كان يقول لأمته على الملأ: (ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ليس لي مما أوتيتم إلا الخمس وهو مردود عليكم)، فلم يتخذ شيئاً من مال الله مختصاً به لنفسه، بل كان يعيش في حجرات، يقول الحسن البصري عنها: لو مد الرجل يده للامست سقف حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ينام على حصير فيؤثر في جنبه ويبقى أثره عليه، ويقول جابر بن عبد الله : لو دخلت أبيات النبي صلى الله عليه وسلم ما رأيت شيئاً يرد البصر، يعني: ما رأيت شيئاً تتعلق به النفس وتهواه، فكل ما فيها من وسط متاع الناس، أو من أدناه.
كذلك صلى الله عليه وسلم لم يجعل مميزات في بني هاشم، بل كان لهم من الحقوق ما لغيرهم، ولم يختصهم بأي شيء، ولذلك لم يكن من خلقه رجلاً من بني هاشم، وإنما هو رجل من بني تيم بن مرة، وقال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) وأبو بكر رجل من بني تيم بن مرة بن كعب بن لؤي وليس من بني هاشم ولا من بني عبد مناف.
وكذلك لم يجعلها دولة مختصة بقريش أو بالتمكين لهم في الأرض وإن كانت الإمامة مختصة بهم، لكن الوظائف والقيام بالمصالح لا يختص بهم، بل قال: (إنا لا نولي عملنا من سأله) وقال: (من ولى على عمل رجلاً وهو يجد أصلح منه لقي الله خائناً) ، فلذلك لم يختص قريشاً بالوظائف وإنما أعطى اللواء يوم فتح مكة لـسعد بن عبادة بن دليم وهو رجل من الخزرج، ثم حين شكي إليه، انتزعه منه وأعطاه ولده قيس بن سعد بن عبادة بن دليم .
وكذلك إذا نظرتم إلى من يعقد له الرسول صلى الله عليه وسلم اللواء في الغزوات المختلفة، أو يستعمله في الأعمال، ستجدون قريشاً مثل سواهم، ليس لهم ما يميزهم إلا قضية الإمامة فقط، وهذه حكمة ربانية، وهي أن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، كما قال أبو بكر في خطبته يوم السقيفة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) ، وقال أبو بكر للأنصار : نحن الأمراء وأنتم الوزراء، والأمر إذ ذاك شورى بين الجميع.
وكل قوم إنما يختار منهم الأعدل والأكفأ، فيستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يصلح للعمل دون النظر إلى سنه أو علمه أو قبيلته أو تخصصه، بل اختار لإمارة مكة وإمامة المسجد الحرام والقضاء بين الناس بمكة شاباً هو عتاب بن أسيد وكان في السابعة عشرة من عمره.
واختار لقيادة جيش أراد أن يبعثه في حياته أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل وهو شاب من بني كلب بن وبرة بن الحاف بن قضاعة ولم يتجاوز عمره سبع عشرة سنة، وفي الجيش أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ومن سواهم من كبار المهاجرين، وكذلك أمر على البحرين العلاء بن الحضرمي، وأمر الضحاك بن سفيان كذلك على عمان، وأمره على كتيبة بني سليم يوم الفتح.
كل هذا يدلنا على أن هذه الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن دولة فرد ولا دولة قبيلة ولا دولة جهة ولا دولة حزب وإنما كانت دولة الإسلام، فالعزيز فيها هو هذا الدين، والذي يقصد إعزازه والتمكين له هو هذا الدين، وسار على هذا النهج الخلفاء الراشدون المهديون.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه يعهد بالخلافة من بعده لـعمر بن الخطاب، وهو ليس من بني تيم بن مرة الذين منهم أبو بكر ، مع أن أولاده يصلحون للخلافة، ولكنه نحاها عنهم، ومع أن من بني عمه طلحة بن عبيد الله الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله) ، وأنزل الله فيه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[الأحزاب:23] ، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فلا يضره ما صنع أبداً، ومع ذلك عدل عنه أبو بكر ولم يعهد إليه بالخلافة، وإنما عهد بها إلى عمر .
وكذلك عمر بن الخطاب عندما جعلها في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، أخرج منهم سعيد بن زيد وهو ابن عمه وزوج أخته، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وممن شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بعينه بالجنة، فلا يضره ما فعله أبداً، لكن عمر أبعده؛ حتى لا تكون الخلافة دولة يتداولها بنو عدي بن كعب فقط.
وكذلك فإن علياً رضي الله عنه حين طعن جاءه أهل العراق يطلبون منه أن يولي عليهم الحسن بن علي فقال: لا والله لا أفعل، فلا يكون كبر هذا الأمر علي حياً وميتاً، إنما توليته بتكليف الله ما دمت حياً، فإذا أنا مت فقد انقطع التكليف، فلا أتحمله في حياتي وبعد موتي.
وكذلك فإن أبا بكر رضي الله عنه حين تولى الخلافة مكث سنة يدير أمور هذه الدولة، ولم يأخذ أي راتب من بيت المال، فلما نفدت تجارته كلم الناس في المسجد فقال: أيها المؤمنون! إني كنت امرأً تاجراً، وإنكم شغلتموني بأموركم عن أمور تجارتي، فلو تجعلون لي رزقاً من بيت مالكم، فجلس أهل المسجد يتفاوضون كم يجعلون لـأبي بكر ؟ كم الراتب الذي يستحقه على العمل الذي يقوم به؟
وعينوا له راتباً، ثم لما تولى عمر أخذ ذلك الراتب ولم يزد فيه مع أن أعماله قد ازدادت على أعمال أبي بكر ، اتسعت الخلافة واتسعت الأرض واتسع التدبير، واحتاج الناس إلى كثير من المال لم يكونوا محتاجين إليه في زمان أبي بكر، لكنه لم يزد في راتبه شيئاً، وحين ازدادت الميزانية، واتسعت الأموال، وكثر ما في بيت المال، لم يزد راتب الخليفة عما كان عليه في حال الضيق والمشقة.
وحين أدركه الموت دعا ولده عبد الله بن عمر فقال: إني كنت أخذت من بيت المال هذا الرزق الذي كان يأخذه أبو بكر ، وإن المسلمين لم يعطوني إياه وإنما أعطوه أبا بكر ، فلعلي أكون قصرت فلم أقم بما كان يقوم به أبو بكر ، وقد كتبت كل ما أخذت من بيت المال فأرجعه إليه، وإن وجدت في مال آل عمر وفاءً فخذه، وإلا فخذ من مال بني عدي بن كعب، فلأن يكونوا خصومي يوم القيامة أحب إلي من أن يخاصمني المسلمون، فأرجع راتبه مدة عشر سنوات وأشهر، أرجعه إلى بيت المال، تورعاً منه؛ لأنه يخاف ألا يكون قام بهذا الحق الذي بايعه الناس عليه، فهو يعلم أن البيعة لابد فيها من طرفين، ولابد أن يقوم بالواجب الذي عليه، ولا يمكن أن يأخذ حقوق المسلمين دون أن يدفع لهم مقابلاً وأن يقدم لهم خدمة، فخشي ألا يكون قد قام بالواجب، فأرجع إليهم ما أخذ من بيت مالهم.
ولما تولى عثمان الخلافة خطب في الناس فأخبرهم أنه غني عن مالهم، وأنه لا يحتاج إلى أي شيء من بيت مال المسلمين، فأرجع عليهم الراتب، ووفره على بيت مال المسلمين.
وهكذا فإن هذه الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعه عليها خلفاؤه الراشدون، كانت دولة الإسلام فعلاً، أما ما بعد ذلك فقد بدأت هذه الدولة تنحرف عن مداها وتسير في غير مرماها، فبدأ الناس يريدون هذه الدول لأفراد، ويريدون أن تكون ملكاً خاصاً لفرد أو لأسرة أو لقبيلة أو لبلدة أو نحو ذلك، ومن هنا فلم تكن دولة الإسلام تماماً، وهذا ما أوعد به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال فيما روى عنه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في مسند أحمد وغيره: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة .. وسكت).
وإن دولة الإسلام مما يميزها أمور أخرى سأذكر بعضها ولا أحاول حصرها، فمن ذلك:
أنها دولة شورى فليست دولة استبداد ولا مصادرة لآراء الأفراد، ولا اتخاذ للقرارات الفردية، إنما هي دولة شورى يتشاور فيها المسلمون فيما بينهم في أمرهم، ويتشاورون في اختيار حاكمهم، وتيشاورون في تحديد سياساتهم وفي ترتيب أولوياتهم، كل هذا يميز هذه الدولة عما سواها من الدول.
قد وصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء المؤمنين بوصف الشورى في قوله جل ذكره: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ[الشورى:38] ، وأُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بها في قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[آل عمران:159] ، وأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وحض عليها، وذكر أهل العلم أن فيها كثيراً من الفوائد منها:
أولاً: أنها طاعة لأمر الله سبحانه وتعالى، فمن لا ينتهج أسلوب الشورى فليس مطيعاً لأمر الله تعالى حيث قال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[آل عمران:159] ، وقال: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ[الشورى:38] .
ثانياً: أنها اتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزوم لهديه ومنهجه.
ثالثاً: أنها مدعاة للتوصل إلى الصواب؛ فإذا تزاحمت العقول خرج الصواب.
رابعاً: أنها مدعاة لإزالة الضغائن والحقد، فمن يستشار في الأمر لا يمكن أن يجد في نفسه حرجاً ولا حسداً للقائم بالأمر، ومن هنا سيرضى به ويرضى عن تصرفاته؛ لأنه شاوره في الأمر.
خامساً: أن فيها إشراكاً في الأجر، فمن تستشيره فإنك تشركه في أجر القرار الذي ستتخذه.
سادساً: أن فيها تسلية عند إخفاق القرار، فمن اتخذ قراراً بعد استشارة، وفشل قراره ذلك، فإن له في ذلك تسلية، بأن هذا ليس من تدبيره وحده وإنما استشار الناس فيه.
سابعاً: أنها مدعاة للطاعة والتنفيذ، وأن من استشير عند اتخاذ القرار لا يمكن أن يخالف رأيه الذي أشار به، فهذا سيلزمه بالعمل على أساسه.
ثامناً: أنها تعويد لمن تقوده على الشورى، حتى لا يكون مستبداً إذا تولى هو القيادة.
تاسعاً: أنها أيضاً مدعاة لانقطاع الندم، فما خاب من استشار ولا ندم من استخار.
عاشراً: أن الشورى كذلك مدعاة لاستغلال كل الجهود؛ لأن كثيراً من الناس لا يشعر بمكانه ولا بأثره ومشاركته إلا إذا استشير.
الحادي عشر: أنها تغلب على النفس؛ لأن النفس البشرية تسعى لاتباع الحظوظ وتريد الكمال وتدعيه، فإذا كان الإنسان يقهر نفسه بالشورى ويريها أنها ناقصة وأنها محتاجة إلى عقل غيرها وعلمه؛ فهذا تغلب على النفس وقهر لها، هذه من فوائد الشورى ولا تقتصر على هذه.
وينبغي على القائم بأمر المسلمين أن يستشير في أموره، لكن لا يلزمه أن يستشير كل أحد، ويلزمه أن يشاور الناس في أمرهم العام ولا يلزمه الاستشارة في أموره الخاصة، لكنها مندوبة له، وهي أفضل، ولا يلزمه أن يستشير في الأمور المستعجلة، التي قد تأتيه وليس بحضرته أهل الاختصاص الذين يستشيرهم في ذلك الأمر.
وأيضاً: فإن إشارة بعض الأفراد غير ملزمة للقائم بالأمر ما لم يكونوا مرتبين لذلك، فإن كانوا مرتبين لذلك كأهل بدر وأهل الشورى في الأمة الإسلامية، الذين لا يحل للخليفة أن يتخذ قراراً حاسماً في أمور الأمة إلا بعد مشورتهم، فهؤلاء شوراهم ملزمة، فإذا اتخذوا رأياً معيناً ورجحوه لا يحل له أن يخالفه، أما ما سوى ذلك من الشورى فهو غير ملزم، بل هو معلم للصواب فقط.
ويجب على من تولى الأمر أين كان أن يحاول أن يستشير أهل الاختصاص في أي أمر سيتخذ فيه القرار، فلو كان الذي يتولى الأمر قاضياً مثلاً يجب عليه أن يشاور العلماء وأن يحضرهم مجلسه، وهذا محل اتفاق بين المذاهب، وتعرفون في مختصر خليل رحمه الله تعالى في باب القضاء: وأحضر العلماء وشاورهم.
فيجب على القاضي أن يحضر العلماء مجلس حكمه، وأن يشاورهم فيما يتخذه من الأقضية والصلح وغير ذلك.
وكذلك إذا كان الأمر يتعلق بالاقتصاد فلابد أن يستشار فيه الاقتصاديون، وإذا كان يتعلق بأمر السياسة فلابد أن يستشار فيه الساسة، وإذا كان يتعلق بأمر الاجتماع فلابد أن يستشار فيه أهل هذا التخصص، فهذه التخصصات معتبرة شرعاً، ولابد من اعتبارها حتى لا يستبد الأفراد، فإن الاستبداد من مظاهر الجبرية والملك العاض، وليس من مظاهر دولة الإسلام التي أنشأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون.
كذلك هي وسيلة اختيار حاكم المسلمين؛ لأن الحكم لله سبحانه وتعالى وحده، وهو قد عين أنبياءه قادة لخلقه، وجعل ذلك جائزة على الامتحان الشديد الذي لقوه في ذاته، وجعل إبراهيم للناس إماماً فقال سبحانه وتعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ[البقرة:124] ، فالظالمون أي: الذين يظلمون الناس ولا يؤدون حق الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكونوا أئمة للمسلمين؛ لأن الله شرط هذا الشرط على إبراهيم.
وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعين أحداً بعينه أنه هو الذي يلي الأمر من بعده، فاختار المسلمون أبا بكر وبايعوه بيعتين، أولاهما البيعة المبدئية وكانت بسقيفة بني ساعدة، والأخرى البيعة العامة وكانت بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم على منبره.
وكذلك حين عهد إلى عمر ، فكانت بيعة عمر جزءاً من بيعة أبي بكر، ومع هذا فقد بايعه الناس في المسجد، وعندما عهد بها عمر إلى الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض -تنازل ثلاثة منهم لثلاثة- فتنازل الزبير بن العوام لـعلي بن أبي طالب ، وتنازل طلحة بن عبيد الله لـعثمان بن عفان ، وتنازل سعد بن أبي وقاص لـعبد الرحمن بن عوف ، فانحصر أمر الأمة حينئذٍ في ثلاثة وهم: عبد الرحمن بن عوف ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، ثم تنازل عبد الرحمن لصالح عثمان وعلي بشرط أن يختار هو السابق منهما، فانحصر الأمر في عثمان وعلي وكان السبق لـعثمان ثم من بعده علي ، فعندما اختاره عبد الرحمن وبايعه بايعته الأمة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما قتل عثمان مظلوماً بايعت الأمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فهذه الشورى إذاً هي وسيلة اختيار حكام المسلمين، فهم يختارون وفق ضوابط شرعية لابد منها، وهي شروط الخليفة، وهذه الشروط عشرة:
أولها: أن يكون مسلماً، فإن كان كافراً أو منافقاً أو مشكوكاً في عقيدته، فإنه لا يصلح لهذه الإمامة.
ثانياً: أن يكون ذكراً، فلا تصح إمامة أنثى لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
ثالثاً: أن يكون حراً؛ لأنه هو الذي يتصرف في أمور نفسه وسيتصرف في أمور غيره.
رابعاً: أن يكون بالغاً؛ لأن الصبي محجور عليه فلابد من البلوغ.
خامساً: أن يكون مجتهداً في دين الله، فإن كان جاهلاً أو عالماً مقلداً لم تصح إمامته، وقد حكى ابن حزم وابن تيمية وابن عبد البر الإجماع على أن المقلد والجاهل لا تنعقد إمامته، وإنما يشترط في الإمامة أن يكون مجتهداً في دين الله.
سادساً: أن يكون عدلاً، فإن كان فاسقاً لم تنعقد إمامته؛ لأن الله شرط على إبراهيم أن الظالمين لا ينالهم عهده بالإمامة.
سابعاً: أن يكون كافياً؛ لأن هذه الخلافة ليست مقصداً وإنما هي وسيلة، ويضمن بها الوصول إلى أهداف محددة هي إعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه، وإظهار الحق، ونصرة المظلوم، وإقامة الحدود، وجهاد أهل الكفر، فإذا لم يستطع القيام بذلك لم يكن خليفة قطعاً، فلابد أن يكون كافياً للقيام بمهمته، ولهذا قال ابن بدران رحمه الله: إن الحاكم المسلم الذي هو تحت إدارة المشركين لا يكون إماماً للمسلمين؛ لأنه غير قادر على إنصاف المظلوم من الظالم، وغير قادر على جهاد العدو، وغير قادر على إقامة الحدود ولا على غير ذلك.
ومن هنا فإن الذين يمارسون السلطة في كثير من بلاد الإسلام عاجزون عن اتخاذ القرارات في كثير من الأمور، وإذا سئلوا عن السبب في تعطيلهم لأحكام الله سبحانه وتعالى واستبدالهم لها بأحكام الطاغوت، قالوا: نحن ليس لنا من الأمر شيء، فمن ليس له من الأمر شيء لا يكون إماماً قطعاً ولا يكون خليفة، من هو تحت الضغط المطلق كيف يكون إماماً وخليفة على غيره؟!
الشرط الثامن: أن يكون سميعاً بصيراً متكلماً، فإن كان ناقص القوى لم تنعقد إمامته؛ لأنه لا يستطيع القيام بمصالح نفسه، فكيف توكل إليه مصالح أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومصالح الدين بكامله.
تاسعاً: أن يكون شجاعاً؛ لأنه إذا كان جباناً لم يستطع القيام بمهمته، ولابد لمن يتولى الخلافة أن يستشعر مسئوليته، وأن يعلم أنه النائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن الخلافة تعريفها الفقهي: هي النيابة عن صاحب الشرع في إقامة الدين وسياسة الدنيا به.
النيابة عن صاحب الشرع، يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم.
في إقامة الدين وسياسة الدنيا به، أي: بالدين، فمن لا يستطيع ذلك ولا يجرؤ عليه لا يمكن أن يكون خليفة، ومن هنا تذكرون قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رجوعه من الحجة عندما وقف على ضجنان، فقال: لا إله إلا الله كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت، وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه -فهذا هو مقام الخلافة-، ثم أنشأ يقول:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سيلمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد
أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب لابد من ورده يوماً كما وردوا
الشرط العاشر من هذه الشروط: أن يكون قرشياً، معناه أن يكون من ذرية فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة ، وهذا الشرط المقصود به تحقيق هذه العصبية لدين الله سبحانه وتعالى؛ وقريش اختار الله منهم النبي صلى الله عليه وسلم، واختارهم اختيار اصطفاء من عموم الناس، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اصطفى إبراهيم من ذرية آدم، واصطفى من ذرية إبراهيم إسماعيل، واصطفى من إسماعيل قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسمى، فأنا خيار من خيار من خيار ولا فخر)، فهذا الاصطفاء يقتضي اختياراً ربانياً قد لا نستشعره نحن ولا ندركه لكنه موجود، اصطفاء رباني في قريش، وهذا الاصطفاء يقتضي منهم حرصاً على الدين واستعداداً لبذل الأنفس والأموال في سبيله بخلاف من سواهم.
هذه الشروط يلزم من عدمها العدم مثل كل الشروط الشرعية؛ لأن الشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته كالطهارة للصلاة، فإذا اختلت هذه الشروط فانتصب أي إنسان وقال: أنا خليفة، فهو بمثابة من يصلي بدون طهارة، فخلافته باطلة كما أن صلاته لو صلى بدون طهارة باطلة.
وهذه الدولة أسلوبها في الحكم هو الذي ذكرناه، وهو أسلوب الشورى، ومن هنا فاتخاذ القرارات بعد تعيين الخليفة وبيعته تعتمد كذلك على هذا الأسلوب، ولا يكون هذا تشريعاً لما لم يأذن به الله ولا مخالفة لشرع الله، وإنما هو اختيار لبعض الجائزات وتقديم لبعض المصالح على بعض، ولذلك فإن من يظن أن مجلس الشورى بالدولة الإسلامية ليس له حق في التشريع مخطئ في تصوره، لكن التشريع الذي أذن له فيه ليس تشريعاً بمعنى تقدير وحي أو تغييره، وإنما هو اختيار في مجالات الدنيا ومجالات الاجتهاد ومجالات الرأي، فيمكن أن يقدم ساسة الدولة مثلاً: الزراعة على الصناعة أو الصناعة على الزراعة، أو أن يوافقوا على اتفاقية معينة، أو أن يقدموا مشروعاً معيناً في الوقت والتمويل على غيره.. وهكذا، فهذا هو معنى ما لمجلس الشورى من الحق في التشريع.
وكثير من الناس يلتبس عليه هذا الأسلوب -الذي هو أسلوب الدولة الإسلامية في الحكم وهو الشورى- بأسلوب الديمقراطية، والديمقراطية كلمة يونانية في الأصل يقصد بها حكم الجمهور، أو أن يكون الحكم عاماً يشترك فيه كل الناس، وهذه الفكرة تقتضي أن يكون الناس جميعاً سواسية مشتركين في اختيار أسلوب الحكم، وفي اختيار من يحكمهم، وهذا مخالف للشرع؛ لأن الشرع حدد أسلوب الحكم كما ذكرنا وهو الشورى، وحدد كذلك شروط الحاكم، فإذا تغاضى الناس عن هذه الشروط لم يبحها ذلك.
وكذلك فإن الشرع لم يجعل لكل إنسان حق التصويت والاختيار في أمر المسلمين، وإنما قصر ذلك على الذين يمكن أن يقوموا بأمر عامة المسلمين، وهم الذين اتصفوا بثلاثة شروط:
بالعلم.
والعدالة.
وجزالة الرأي.
فهذه الشروط الثلاثة لأهل الاختيار الذين لهم الحق في المشورة، وأن يختاروا من يقوم بأمر المسلمين، وقد قال مالك رحمه الله: لا أرى اليوم تجتمع في واحد، فإن لم تجتمع فورع عاقل، فبالعقل يسأل، وبالورع يكف أو يعف.
ويمكن أن يطبق هذا أيضاً على شروط الخلافة، فإذا عدم المتأهل والمتحقق والمتصف بكل الشروط، فلا يمكن أن تعدم دولة الإسلام ولا أن يعدم من يقوم بها، بل يختار الأمثل فالأمثل، ومثل هذا في القضاء، فإن القضاء يشترط لمن يقوم به عدة شروط وكذلك الإمامة.
لكنه عند فقد من تتحقق فيه هذه الشروط كلها يعدل إلى الأكفاء. فالأكفاء، ولذلك يقول خليل رحمه الله بعد ذكره لشروط القضاء: (مجتهد إن وجد وإلا فلأمثل مقلد، وزيد للإمام الأعظم قرشي)، وقوله: (فلأمثل مقلد) معناه: إذا لم يوجد مجتهد فحينئذٍ يعدل عنه إلى أمثل مقلد، ومعناه: أدراه بالأدلة وأدراه بالمذاهب وأحسنه بصيرة وأحسنه عقلاً وإن كان مقلداً، فالمقلد لا تتوفر فيه هذه الشروط، ولكنه أحسن من غيره إذا عدم من سواه.
ثم إن الديمقراطية بعد أن كانت فكرة يونانية في الأصل تداولتها الأمم والحضارات، واختلف تطبيق الناس لها من طور إلى طور، واختلفت تأليفاتهم لها من وقت إلى وقت، وفي زماننا هذا ليست الديمقراطية ديمقراطية واحدة بل هي ديمقراطيتان:
ديمقراطية غربية.
وديمقراطية في بلدان العالم الثالث.
أما الديمقراطية الغربية فإنها تقوم على أساس العدالة الاجتماعية في توزيع الفرص بين الناس، وعلى أساس أخذ الرأي المشترك، وعلى أساس التداول على السلطة عن طريق التصويت، وعلى أساس تحديد ركائز الحكم وأركانه، وتحديد الصلاحيات للحاكم في كل أمر يقوم به، وهي بهذا المعنى خير الأنظمة الفاسدة، ففيها مزايا تكون بها خيراً من الاستبداد، وخيراً من اغتصاب الحقوق من الناس، وخيراً من الظلم السافر، فهي خير أنظمة الحكم الفاسدة، فمن أجل هذا قد يضطر إليها المسلمون في حال من الأحوال، أو يضطرون إلى المشاركة فيها، فيكون هذا من باب ارتكاب أخف الضررين والحرامين، وهو جائز لقول الله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ[الأنعام:108] ، ولقوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ[هود:78] ، فإن تزويج الكافر بالمسلمة محرم ولكن الاعتداء على الملائكة أعظم منه وأشد حرمة، فلذلك بدأ بالحرام الذي هو أقل حرمة، وقدمه على الحرام الذي هو أشد منه.
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على بني غطفان عام الأحزاب أن يرجعوا عنه وأن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، وإن كان محرم على المسلمين أن يدفعوا أموالهم لأعدائهم الكافرين ليستعينوا بها على قتالهم، لكنه من ارتكاب أخف الضررين والحرامين، فإذا اضطر إليها المسلمون وعجزوا عن إقامة الأسلوب الإسلامي للحكم فهي أحسن الأساليب الأخرى غير الإسلامية.
أما الديمقراطية لدى العالم الثالث فتختلف عن الديمقراطية الغربية، وسأبين بعض أوجه الاختلاف:
فالديمقراطية في العالم الثالث هي عملية تجميل للاستبداد والغصب والغش والتزوير، وتظهر على أنها قائمة بأسلوب الديمقراطية وأنها مشاورة للناس، وأن كل الناس يشتركون فيها، ومن أجل هذا تطبل لها الطبول ويجتمع حولها الناس، ويظنون أنهم يتشبثون بشيء أو أن لهم شيئاً من الأمر، والواقع خلاف ذلك، وإنما يخدع بها ضعاف العقول وضعاف الثقافة، والذين لم يروا الديمقراطية على وجهها في البلدان التي طبقت فيها، ومن هنا فهذه العملية عملية التجميل لا تنطلي إلا على البلهاء البلداء، فهم الذين يظنونها ديمقراطية وينخدعون بها، وإلا فما هي إلا استبداد سافر وتزوير صارخ، وأخذ لأموال الناس وإهدار للطاقات في غير فائدة.
ونتائجها محسومة في البداية، وأسلوبها محدد من قبل، والإنسان فيها لا يصوت حسب قناعته، وإنما يصوت خوفاً أو طمعاً، وليس فيها أي عائد راجع إلى الأمة، فالذي يصوت لا يعتبر نفسه مؤدياً خدمة للأمة، ولا محققاً لهدف من أهدافها، ولا محافظاً على شيء من كرامتها أو كيانها، وإنما يعتبر نفسه مناصراً للشخص الفلاني ليكون هو الممسك بزمام الدولة الفلانية، أو الممسك بزمام ابادية الفلانية أو غير ذلك من الأمور.
ومن هنا تجدون الصراع الذي فيها يختلف تماماً عن الصراع في الديمقراطية الغربية، الصراع في الديمقراطية الغربية ليس على أساس البهرجية والأصوات والأغاريد والأغاني، وإنما هو على أساس البرنامج الذي يتعهد به المترشح، فالمترشح يشرح برنامجه ولا يبالغ ولا يعد الناس وعوداً كاذبة؛ لأنه يعلم أنه ستسجل عليه هذه الوعود وستناقش، فيسجل الوعود التي يستطيع الوفاء بها من خلال الصلاحيات الممنوحة له.
وأنتم تعلمون البرامج التي تشاع في العالم الثالث بالديمقراطية، فإن كل إنسان يأتي ويعد الناس بأنه سينقلهم من دار الفناء إلى دار البقاء، ويحملهم إلى الجنة، أو أنه سينتقل بهم نقلة حضارية عجيبة، لكن أين وسائلها؟ أين المال الذي سيوظف به الناس ويجعل لهم فرصاً للعمل؟ أين المال الذي سيبني به البنى التحتية؟
هذه أمور لا يفكرون فيها، وأين الرجال الذين سيقومون بهذه المصالح؟ المترشح فرد وهو المستفيد ولا ينظر إلى من حوله، وإنما يختار من ناصره فقط، يختار من يقول: نعم، ولا يدني من يقول: لا.
أما لدى الغربيين فإن الناس إنما يصوتون على أساس البرنامج الانتخابي المقدم، ليس على أساس معرفة ولا علاقة شخصية ولا مصالح شخصية، بل يقدمون مصالح بلادهم على مصالحهم الشخصية، ولذلك تجدون المهزوم يسلم مفاتيح القنابل الذرية للناجح الذي انتخب مكانه بكل رحابة صدر، وهو بيده مفتاح القنابل الذرية، وكان بالإمكان أن يفني خصومه في لحظة، ولكنه اقتنع بهذا الأسلوب واقتنع بمصلحة هذا البلد وبكيانه، ودخل ذلك في مخه وتفكيره، فيرجع هو ويأخذ سيارة التكسي، ويعمل في أي وجه من وجوه الاكتساب.
بخلاف الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، فمن وصل إلى الحكم لا يمكن أن يتركه بوجه من الوجوه، سيستمر فيه إلى أن ينقل إلى قبره؛ لأنه يمسك مفاتيح الأبواب كلها، فيوصد الأبواب التي لا توصله هو إلى مقتضاه وما يبتغيه، ويفتح الأبواب التي توصله إلى مقصوده فقط، ولذلك قوانين الانتخابات، وتوزيع الدوائر، وتوزيع الأصوات، وشروط الناخبين، هذه كلها يتحكم فيها الذي يريد أن يجعلها وفق ما يضمن له النجاح.
أما في بلدان الغرب فهذه متفق عليها مسبقاً، ولا يمكن أن يقع فيه تبديل ولا تغيير إلا بموافقة الجميع.
وأيضاً حتى الحملة الانتخابية التي يقومون بها تكون منضبطة بأخلاق، ليس فيها تبذير ولا إتلاف أموال؛ لأن الذي يريد الترشح يعرف أنه لو وصل إلى الحكم، أو لو وصل إلى البلدية، أو لو وصل إلى أي وظيفة يراد التنافس عليها، فإن تلك الوظيفة لن تدر عليه مطراً من الذهب، وإنما له راتب محدد يعرفه، وهذا الراتب لا يمكن أن يفي بتمويل هذه الحملات المكلفة جداً، فلذلك يقتصر في الحملات على شرح برنامجه الانتخابي في أماكن وجود السكان، وفي مكان الكثافة السكانية وأماكن المثقفين، واستغلال وسائل الإعلام في ذلك.
لكن نظراً لأن وسائل الإعلام قد تكون مكلفة فإن الدول الغربية تدعم المترشحين بما يكفل لهم التغطية الإعلامية، وتتيح الفرص متساوية أمام كل المرشحين، بخلاف بلدان العالم الثالث فإن المنافس ستكتم أنفاسه ويكمم فمه، ولا تتاح له أي فرصة للتعبير عن برنامجه أو عن رأيه.
كذلك: الديمقراطية الغربية لا تقتضي حصول الشحناء والبغضاء، وإنما تقتضي التنافس النظيف الذي يقوم على أساس الوازع والضمير الوطني والضمير المهني، ومستعد لأن يكون تحت طائلة المساءلة، فإذا اكتشفت عليه أي فضيحة تجده مستعداً لأن يقدم استقالته وأن يتنازل عن الحكم، وإذا حصل عليه ضغط وعرف أن الناس لا يريدونه فإنه سيتنازل عن الحكم طائعاً، بخلاف بلدان العالم الثالث فلا يمكن أن يتخلى فيها عن الحكم، حتى لو علم أن الناس جميعاً يكرهونه غاية الكراهة، أو أنهم جميعاً مظلومون أو مضطهدون يشعرون بأنهم قد صودر منهم حكمهم، وصودرت منهم أرزاقهم، وصودرت منهم فرصهم ولم يعدل بينهم فيها.
إن أسلوب الديمقراطية مع الأسف ينخدع به كثير من الناس إذا قرءوا عنه في الكتب أو رأوه تطبيقاً في بلاد الغرب، فيظنونه هو نفس الديمقراطية التي تطبق في بلاد العالم الثالث، لكن الغربيين يعرفون الفرق بين الأمرين ويقولون: هذه الديمقراطية التي تصلح للغرب؛ لأنه على مستواها، وهذه التي تصلح للعالم الثالث؛ لأنه على مستواها، فهم يكيلون بمكيالين، المكيال الذي يكال به للفقراء والضعفاء غير المكيال الذي يكال به لشعب الله المختار من المثقفين والأغنياء.
ومن هنا يساعدون من يحمون مصالح الغرب في بلدان العالم الثالث بكل ما يحتاجون إليه، وتعرفون الانقلابات العسكرية التي يقوم بها الغربيون لصالح من يكفل لهم مصالحهم، ويقوم على رعاية مصالحهم في بلدان العالم الثالث، والسعي الحثيث الذي يسعونه للإطاحة بكل من بدر منه أي مخالفة أو أي عدول عن تحقيق المصالح الغربية.
وكذلك: الديمقراطية الغربية لا تقتضي حصول الشحناء بين الشعوب، فالشعوب المتنافسة لا يقع بينها حمل السلاح، ولا يقع بينها التهاجي والتقاذف بالكلام، بل يلقى هذا الشخص إنساناً آخر بكل ابتسامة وهو يعلم أنه سيصوت ضد من يختاره هو ومن يصوت له، بل قد تكون الأسرة الواحدة أبوها من أنصار أحد المرشحين، وأمها من أنصار أحد المرشحين الآخرين، وأحد أولادها من أنصار مرشح ثالث وهكذا، وكثير ما يقع هذا في البلدان الغربية.
بخلاف العالم الثالث فكثيراً ما يؤدي الاختلاف السياسي إلى إراقة دماء، وكثيراً ما يؤدي إلى السب والتهاجي، وكثيراً ما يؤدي إلى الضرب والشتم، ثم يؤدي إلى البغضاء الدائمة، مع أن هؤلاء الذين يتضاربون أو يتهاجون أو يتقاتلون ليس لهم من الأمر شيء، إنما باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم.
ومن ممزيات دولة الإسلام: أنها دولة تريد تحقيق غاية، والوصول إلى هدف، أما الدول الغير إسلامية فليس لها غاية ولا هدف، إنما تريد إشباع أكبر قدر ممكن من الرغبات والاتساع في اتباع الشهوات، دون أن يكون وراء ذلك أية محاسبة، فمن تولى الحكم في أي بلد من البلدان بغير حكم الله تعالى -كالحال في حكام المسلمين اليوم- فإنه لا ينظر إلى مصالح هذه الأمة، التي هي أمانة في عنقه وسيسأل عن كل أمورها، ولا يستحضر أنه هو المسئول شرعاً بين يدي الله سبحانه وتعالى عما يصيبها.
بخلاف الحاكم في دولة الإسلام، فإنه يستشعر هذه المسئولية، كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: والله إني لأخشى أن يحاسبني الله إذا عثرت البغلة في الليلة الظلماء في سواد العراق لماذا لم أعبد لها الطريق؟ وكذلك كان يحرس بنفسه ويتولى الأمور بنفسه.
وهكذا الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم يقومون بهذه المصالح بأنفسهم، فـعثمان بن عفان هو الذي يعلم الناس الوضوء على باب المسجد، وهو الذي يعلمهم القرآن في الثلث الأخير من الليل في المسجد، وهو الذي يخطبهم على المنبر، ويؤمهم في الصلوات ككل الخلفاء الراشدين.
وعلي بن أبي طالب رضي الله أيضاً هو الذي بيده مفاتيح المسجد، وهو الذي يقمه بردائه، وهو الذي يوزع بيت المال بنفسه، ويقود الغزو بنفسه، وكل الأمور يباشرها بنفسه؛ لأنه لا يريد من وراء هذه الدولة ولا هذا الحكم أن يصل إلى رغبات شخصية أو شهوات لنفسه، وإنما يريد الوصول إلى أهداف كبرى، هي خدمة دين الله تعالى وإعلاء كلمته، ووصول كل أحد إلى حقه ومستحقه مما خصه الله به.
كذلك: من خصائص دولة الإسلام أنها تسعى لاستغلال ما في هذه الأرض من الخيرات وإيصالها إلى الناس، وإلى جمع كلمتهم وعدم تفرقهم، وتتبنى مسائل المسلمين وقضاياهم المختلفة، وتناصرهم في أي مكان كانوا، ولا تقتصر على حدود يحددها أعداؤها، فهذه الحدود التي دخلت في كيان الناس وأصبحت محترمة لديهم معتبرة، ما هي إلا من اصطناع أعدائهم، وما قصدوا بها إلا تفريق كلمتهم وتشويه صورتهم، فما الفرق بين غامبيا وزجانشور مثلاً؟ ما الذي جعل زجانشور وهي في جنوب غامبيا تابعة للسنغال وأخرج غامبيا وهي شريط ضيق داخل أرض السنغال من هذه الدولة؟
إن المستعمر هو الذي يقطع هذه القطع، ولذلك لم يترك بين بلدين من بلاد الإسلام حدوداً واضحة، وإنما يرسل بعثات متتالية كل بعثة تخط خطاً، وتأتي البعثة التي بعدها فتخط خطاً مغايراً حتى تقع مشكلة، ويترك منطقة محايدة بين البلدان لتكون مشكلة في المستقبل مثل قضية الصحراء، ومثل قضية الحدود في الجنوب، ومثل قضية الشرق، ومثل المشكلات في أي مكان من أنحاء العالم الإسلامي.
كذلك من مميزات دولة الإسلام أنها دولة تقوم على مشروع، فلا يمكن أن تقام بمجرد قرار، ولا بمجرد انقلاب عسكري، ولا بمجرد تغيير خفيف؛ لأنها مشروع حضاري يحتاج إلى الإعداد واتخاذ قوة، يحتاج إلى ذلك في أصل نشأته، ويحتاج إليه بعد ذلك في الحفاظ عليه، كثير من الناس يتصور أن الدولة إنما هي مثل قصر، له حراس وله سجن وله أبواق إعلامية، ويظن أن هذه هي الدولة.
لكن التصور الإسلامي مختلف عن هذا، فالدولة لابد أن تكون قائمة على بُنى ثابتة، وأن يكون لها أهداف واضحة، وأن تكون لها ميزات تخصصها عن غيرها، ومن هنا فلا يمكن أن تقام دولة الإسلام إلا إذا أعد لها الإعداد الكامل في مختلف المجالات، إذا جاءت أجيال مستعدة لتحمل مسئولية هذه الدولة وللدفاع عنها حتى تقوم، ثم بعد ذلك يحافظ عليها بعد أن تقوم لأجل ألا تسقط، ولابد أن يشارك فيها أهل الاختصاصات المختلفة، ولابد أن ترعى مصالح المسلمين في مختلف الميادين، وأن تكون قائمة على فكرة واضحة، وألا تكون مجرد تخبط سياسي يتخبط فيه الساسة، فتارة مع هؤلاء وتارة مع هؤلاء، ينسلخون من هذا التحالف اليوم ليدخلوا في تحالف آخر، ثم ينسلخون من ذلك التحالف إلى تحالف ثالث، فهذا التذبذب غير مقبول في دولة الإسلام، ولابد أن تكون معالم سياستها بارزة واضحة للجميع، ولابد أن يتخذ لها كل الوسائل لقيامها ولاستمرارها بعد ذلك.
ومن ميزات دولة الإسلام -كذلك- في العلاقة بين الراعي والرعية: البيعة، وهذه البيعة هي في الأصل بيعة مع الله سبحانه وتعالى على نصرة دينه وبذل النفس والمال في سبيل ذلك، وهي التي بايع الله عليها كل المؤمنين في قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111] .
وهذه البيعة لابد أن يمثل الجانب الديني فيها طرف يأخذ الشروط الشرعية على من يبايعه، وقد نصب الله لذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمره ببيعة من يبايعه على الشروط التي حددها، لكنه أخبر أن تلك البيعة ليست مع الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هي مع الله: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ[الفتح:10] ، فهي إذاً عهد على السمع والطاعة في المعروف وعلى نصرة الحق، وهي كذلك رباط روحي يجمع المرتبطين به على نصرة دين الله سبحانه وتعالى، وتختلف أساليبها باختلاف ما يحقق المصلحة.
فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار بالعقبة بيعة النساء، التي حدد الله شروطها في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الممتحنة:12] .
وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار أيضاً بعد الهجرة، ثم بايع أصحابه قبل الخروج إلى بدر على القتال، ثم بايع المؤمنين يوم الحديبية على الموت، وقد بايع أفراداً من أصحابه على شروط مخصوصة، مثل ما ثبت في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة فشرط علي: والنصح لكل مسلم)، وكذلك بايع عشرة من أصحابه على ألا يسألوا أحداً شيئاً، فنوع رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق البيعة، وجعل بيعته للرجال عن طريق المصافحة أو عن طريق الالتزام العام.
وبيعته للنساء قال فيها: (إني لا أصافح النساء وإنما مقالي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة)، ونوعها أيضاً فقد كان يغمس يده في إناء فيه ماء فيغمس النساء أيديهن فيه بعد أن يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وذلك للتبرك؛ لأن النساء يغبطن الرجال على ملامسة يد النبي صلى الله عليه وسلم لما فيها من البركة، فجعل لهن بديلاً وهو أن يغمس يده في الإناء الذي فيه الماء، ثم تغمس كل امرأة يدها فيه للتبرك من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لامست ذلك الإناء.
ثم لما جاء أبو بكر رضي الله عنه طور هذه البيعة فبايعه الناس بسقيفة بني ساعدة البيعة الخاصة، وبايعوه بالمسجد البيعة العامة، وطورها أيضاً تطويراً جديداً حين عهد بالخلافة إلى عمر ، ثم طورها عمر تطويراً جديداً حين تركها في ستة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فدلنا هذا على أنها ليست مقصورة على أسلوب واحد، وإنما تتنوع بحسب ما تؤدي إليه المصلحة المقصودة، وما لم يخالف ذلك حكماً شرعياً فهو مقبول شرعاً.
وهذه البيعة ترفع الوعيد الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) والحديث في صحيح مسلم ، فإذا بايع الإنسان هذه البيعة منعه ذلك من النكث، ولا يحل له أن ينكث حتى يرى كفراً بواحاً له عليه من الله برهان، كما صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أجمعت الأمة على وجوب إقامة دولة الإسلام، ووجوب بيعة الخليفة، ونصبه، وفي ذلك يقول المقري رحمه الله:
والنصب للإمام بالشروط حتم بشرع بالهدى منوط
فهذا أمر حتم لابد من أدائه.