رمضان فرصة للسبق - محمد علي يوسف
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
صديقان حميمان هما.
بل أكثر من ذلك...
ربما..
إنهما أخوان لم تلدهما أم واحدة..
عاشا حياتهما مترابطين ثم جمعت بينهما رابطة جديدة أوثق من تلك التي كانت بينهما من قبل..
رابطة الأخوة الإيمانية..
لقد أسلما سويا وخالطت بشاشة الإيمان قلبيهما فى اليوم نفسه..
جاهدا معاً وشهدا المشاهد بجوار قائدهما ومعلمهما رسول الله صلى الله عليه سلم..
ثم حانت لحظة الفراق..
سقط الأول مضرجا في دمائه الزكية بميدان من ميادين الشرف والبطولة ونال ذلك الفضل الذي طالما طلبه في مظانه وسعى ليصيبه طوال حياته حتى أُكرم بتلك الشهادة والله حسيبه.
مكث صاحبه بعده عاما مضى فيه على عهده فما قصر -قدر وسعه- عن طاعة وما كسل عن قربى وما انقطع عن مكرمة طالما سبقه إليها أخوه الشهيد بإذن الله.
حتى حانت لحظة اللحاق..
لكنها كانت هذه المرة في مكان أقل صخبا وأكثر هدوءاً..
مات الصاحب على فراشه بين أهله وأحبابه ليلحق بمن سبق وليلاقي ما قدم لحياته..
لا شك أن ميتة الأول كانت أعظم شرفا وأعلى قدرا عند الناس بل بعموم وظاهر النصوص الشرعية هي الأعلى قدرا عند الله.
وهل من ميتة أعظم من ميتة شهيد قاتل في سبيل الله حتى قُتل مرتقيا ذروة سنام هذا الدين أو رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله؟!
الأصل أن الإجابة: لا.
لا نعلم ميتة أشرف ولا أعظم من تلك الميتة أو ما يوازيها من ميتات سادة الشهداء الصادعين بالحق عند جائر السلاطين في كل زمان ومكان.
لكن الأمر ها هنا كان مختلفا والمشهد كان يحوي معيارا مغايرا.
لقد أدرك الثاني رمضان ،
لقد زكى وصلى وصام،
ولقد سبق الأول!!
نعم الذي مات على فراشه سبق أخاه الذي مات تحت ظل السيوف والرماح.
ليس الاستثناء هنا رأيا أو اجتهادا بل هو بشهادة من لا ينطق عن الهوى..
لقد شهد له الحبيب صلى الله عليه وسلم أنه رغم موته على فراشه إلا أنه سبق صاحبه الشهيد.
وليس سبقا عاديا..
بل ما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم..
لقد رأى سيدنا طلحة رضي الله عنه مناما فيه أن الذي مات على فراشه سبق أخاه المجاهد إلى روضات الجنان.
ولقد تعجب طلحة وتعجب الناس لما في ذلك من مغايرة للأصل الذي يعرفونه فهرعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه ويستفسرون منه عن حقيقة تلك الرؤيا.
فجاء التفسير من البشير النذير: «من أَيِّ ذلكَ تَعْجَبُونَ؟!»، «أَليسَ قد مَكَثَ هذا بعدَهُ سَنَةً؟».،
- "بلى فعل يا رسول الله"..
- «وأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصامَ وصلَّى كذا وكذا من سَجْدَةٍ في السَّنَةِ»،
- "بلى"،
- «فما بينَهُما أَبْعَدُ مِمَّا بين السَّماءِ والأرضِ» (صحيح ابن ماجه [3185]).
هكذا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعيار المختلف الذي غاب عن البعض..
معيار يجعل الأمر ممكنا والسبق متاحا لمن تقبل الله منه يسير الأعمال..
ولمن أدرك رمضان..
إن هذا الحديث وغيره من أحاديث رمضان نقاط فاصلة ينبغي أن تُغَيّر مفهوم الناس لرمضان والاجتهاد والطاعة فيه..
ينبغي أن تفتح بابا عظيما للأمل في السبق والتغيير..
تغيير كل شىء في حياتك الدنيا وفي آخرتك بإذن الله..
عام واحد ورمضان واحد غير حياة إنسان كان أقل اجتهادا من أخيه كما بنص الحديث المذكور إلا أنه شكل انطلاقة عظيمة في حياته أهلته لأن يسابق الشهيد..
بل ويسبقه!!
الأمر طبعا ليس تقليلا من شأن الشهيد ولا الشهادة فالأصل أن الذي مات على فراشه كان كسائر الصحابة يطلبها في مظانها ويتواجد في ميادينها.
لكنه كما قلت باب أمل لمن لم يدرك تلك المنزلة ولم يُصطفى ليكون من أهل الشهادة.
والمسألة بالطبع ليست مطلقة مطردة فكم من أناس أدركوا رمضان ليس مرة لكن عشرات المرات في أعمارهم ولم يذكر لهم مثل ذلك الفضل..
فالعبرة للمسابقة ليست مجرد الإدراك الزماني ولكن الإدراك الحقيقي الذي يغير المرء للأفضل.
إن رمضان عبارة عن انطلاقة تغييرية وفرصة ذهبية لكل من ابتغى خيري الدنيا والآخرة لذا يُنَادَى هذا المريد للخير في أول أيام رمضان محفزا ويقال له: «يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ» (صحيح ابن ماجه [1339]).
أقبل فهذه فرصتك وتِيك غنيمتك والسوق قد نُصبت والعدو قد صُفّد والمضمار قد هُيىء والسباق قد انطلق..
أقبل فكل الظروف قد باتت مواتية لتتغير وتغير..
الناس من حولك في طاعة والشهوات قد تقلصت بصيام نهار والطاعات قد يسرت بقيام ليل ولم يتبق إلا أن تُقبِل..
لديك الفرصة أن تسابق الشهيد وأن تُدرك ما فاتك من جديد وأن تبيض صحائفك وتطهرها من ذنوب قد تكاثرت عليك وطاعات فيها قد قصرت.
ولقد جرت العادة وترَسّخ العُرف أن من واتته فُرصة فاستعلى عليها وأعرض عنها ناله بعدها من ذُل الندم الشيء الكثير.
لذلك نجد هذا المعنى الدقيق الذي ورد فيه الحديث من مَرْغَمَة أنف ذلك الذي أدرك رمضان ولم يُغفر له.
والأصل أن المغفرة أمر رباني هي بيد الغفور جل وعلا فكيف نجد الخبر بأن من لم يدركها رغِيم الأنف؟!
الجواب أنه أعرض وأبى فاستحق أنفه ذلك التمرغ في تراب الندم.
أعرض عن الفرصة وأبى أن يأخذ نصيبه من عرض المغفرة المُقام طوال شهر رمضان بقيام وصيام وقرآن بشرط الاحتساب والإيمان..
وجد من حوله الناس يطيعون والخلق يُقبلون وعلى الطاعات يداومون ولكنه أعرض حتى انسلخ عنه الشهر ولم ينل من ذلك الفضل الواسع.
أوليست نكسة تستحق ندما حقيقيا؟!
بلى هي كذلك وربي..
حين ينادَى فيُعرِض ويُدعى فيتولى ويُكرَم فيجحد فذلك هو الخذلان عافانا الله..
أما الحصيف فلا يذر مثل تلك الفرصة تمر..
فمثله كمثل التاجر الأريب لا تفوته صفقة رابحة ولا يتورط في بيعة خاسرة والمؤمن تاجر مع ربه يرجو تجارة لن تبور..
وأعظم صفقة رابحة في رمضان كما أسلفت هي صفقة التغيير..
فرمضان في ذاته تغيير والمرء في رمضان يختلف عنه في سائر الشهور وذلك ينطبق على الجميع..
حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم تجده في رمضان أجود ما يكون..
أجود من الريح المرسلة حين يأتيه جبريل فيدارسه القرآن وتجده في العشر الأواخر يشد مئزره ويوقظ أهله ويجتهد أيما اجتهاد وهوالذي كان في سائر حياته صاحب أعظم الجد والاجتهاد..
لكنه مع ذلك يحتفي برمضان بشكل مختلف في رسالة ضمنية إلى الأمة أن تنبهوا فالسوق منصوبة وسرعان ما ترحل وما هي إلا أيام معدودات ولا يُعد إلا الثمين من الأشياء.
والتغيير هوالمقصد الأهم من رمضان وعلى ذلك اتفق العقلاء وشهد الشاهدون ودل على ذلك الدليل من الشرع والواقع.
وهل بعد قول الله من قول وهوالذي أنزل في كتابه مبينا المقصد من الصيام محكما ظاهرا في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة من الآية:183].
فلهذا شَرَع الله الصيام.
لكي تخرج منه وقد تحليت بالتقوى وتزينت بالاستقامة وترسخت في نفسك معاني الإحسان والمراقبة.
وكم من شواهد واقعية تظهر تلك الحقيقة واضحة جلية وذلك حين تنظر لنماذج من خرجوا من رمضان بحال تختلف تماما عن الحال التي دخلوه وهم عليها.
كم من شاب استقام في رمضان وأكمل حياته على تلك الاستقامة وكم من عاصٍ كان رمضان بداية لتوبته ومنطلقا لأوبته وكم من عابد وعابدة وزاهد وزاهدة تقلبوا في نعيم القرب من الله وسلكوا سبيل العبودية والتنسك من بوابة رمضان.
النماذج تلك مشهودة وأكثر من أن تحصى ولا يتسع المقام لذكرها.
يكفيك أن تجول جولة بذهنك مسترجعا حال من تحسبهم على خير وتقوى وصلاح ممن تعرف وتتذكر كيف بدأوا ولا شك أنك ستجد بينهم من كانت بداية تغييره إلى الأفضل في هذا الشهر الكريم.
ذلك لأن رمضان جرعة تغييرية مكثفة تتضافر فيها عدة عوامل أهمها في نظري الصيام والقرآن.
فالصيام يقلل الشهوات إلى أدنى درجاتها وقد نصح النبي من لم يستطع الباءة فلم يتمكن من الزواج بالصوم فهو جُنة وترس في وجه الشهوات.
والقرآن كتاب تغييري في المقام الأول أنزله الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور وهو كتاب لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا ولشهدته متصدعا وقد قال الله عنه : {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ} [الرعد من الآية:31]، وتقدير الكلام لكان هذا القرآن هو الذي يُحدث تلك التغيرات الكونية العظيمة من تحريك جبال وتقطيع أرض وتكليم موتى فإن كانت تلك قدرته التغييرية على تلك الكائنات فما بالك بقدرته التغييرية على قلبك.
لذلك تجد الربط الواضح بين مشهد الجود المضاعف لدى النبي صلى الله عليه وسلم وبين مدارسته للقرآن مع جبريل عليه السلام.
واجتماع الصيام والقرآن على القلب في رمضان ينشىء حالة عميقة أكيدة من التأثير التغييري يندر أن تجد متعرضا صادقا لها إلا ويتغير بها حيث تُعرض الآيات على القلب وهو في حالة من تراجع لمنسوب الشهوات تؤهله للتأثر والتفاعل مع كلام الله.
وتلك هى الفرصة الكبرى للتغيير ولاكتساب التقوى .
وهو فرصة كذلك للتغيير السلوكي وتعويد النفس على صالح الأخلاق التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتممها.
فهو مدرسة للصبر والجلد وتحمل المشاق وهومحضن أخلاقي يكسب المسلم الواعي الذي يدرك خطورته قدرة على حسن الرد ومقابلة الإساءة بالحسنى وهو فرصة ليذر الإنسان ما تساهل فيه من قبل من قول زور أو عمل به.
وأحاديث الأخلاق في رمضان بالذات تحمل طابعا ترهيبيا خاصا يختلف عما جرت به عادة بقية ما ورد من أحاديث في شأن رمضان.
ويتبين المرء خطورة المران الأخلاقي في رمضان ومدى التلازم بينه وبين قبول الطاعة في هذا الشهر ما بين تحذير من الرفث والفسوق حال الصوم حتى وإن شاتمك أحد أو أساء إليك فتقول إني امرؤ صائم إلى بيان أن من لم يدع قول الزور أو العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعام وشرابه وختاما بإشارة رهيبة إلى صائم وقائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش والسهر والنصب.
أيضا تجد في رمضان مرانا عمليا على التأدب مع الله وحسن معاملته ويتجلى ذلك في مشهد الخلوة النهارية للصائم القادر على أن يفطر بكل بساطة دون أن يلحظه أحد ومع ذلك لا يفعل بل تجده يبالغ في التخلص من بقايا ماء الوضوء في فمه خشية أن يصل إلى حلقه ولو بدون قصد.
إن لم يكن ذلك من مقام المراقبة والإحسان وعبادة الله كأنه يراه فما يكون إذن؟!
المشكلة الكبرى أن كثيرا من الناس يصلون لتلك المراتب العلا والدرجات الإيمانية الرفيعة ويغفلون عن اقتناصها وجعلها نقطة انطلاق للتغيير الشامل في كافة مناحى الحياة إيمانية كانت أو تعبدية أو سلوكية.
فتجد الانشغال الجاف بأمور تأخذ للأسف في كثير من الأحيان الشكل الجامد للتعبد دون تحقيق المقصد الأسمى وهو تمام التغيير فضلا عمن ينشغل بالملهيات وبواعث الغفلات.
فبدلا من أن يتحول رمضان إلى واحة للتدبر والمدارسة وذلك هوالأقرب لهدي النبي صلى الله عليه وسلم تجد الاهتمام منصبا فقط على الإكثار من الختمات دون كبير اهتمام بفهم أو تأمل يورث تغيرا إلى الأفضل من خلال القرآن.
وبدلا من اكتساب المقامات الإيمانية من الصوم وعلى رأسها الإحسان والمراقبة تجد الانشغال بالتسلية أو النوم لتنقضي ساعاته دون تأمل في مقاصده وروحانياته.
وبدلا من التخلق بالحلم والأناة والصبر على الأذى ومقابلة الإساءة بالحسنى نجد اتخاذ الصوم ذريعة للعصبية والجهل على الناس وضيق الأفق أثناء معاملاتهم.
وبدلا من إحياء ليل رمضان بالقيام والذكر والاستغفار تجد الانشغال باللهو ومتابعة الفجار الذين يبذلون كل ما في وسعهم لسرقة ساعات الليل الغالية في رمضان.
وبدلا من أن يكون رمضان فرصة للزهد وللتخفف من أحمال الدنيا وزخرف شهواتها تجد المبالغة في الترف والسرف الذي يزيد المرء تثاقلا وتباطؤً عن الطاعات والقربات التي تحتاج إلى مثل هذا التخفف المأسوف عليه.
وهكذا ينقلب الحال في رمضان ويفقد قيمته الحقيقية وتزول قدرته التغييرية بعد إفراغه من مواطن تأثيره ويصير المرء دون أن يشعر عرضة لدعاء سيد الملائكة وتأمين إمام المرسلين: «رَغِمَ أنفُ عبدٍ دخل عليه رمضانُ لم يُغفَرْ له» (صحيح الأدب المفرد [502]).
لذلك ينبغي على المسلم المسدد أن تكون له استراتيجية وخطة دقيقة في رمضان يُمعن من خلالها في الانتفاع بمواطن التأثير والتغيير كما أسلفنا كي لا يكون فقط ممن أدركوا رمضان إدراك زمان بل يسعى جاهدا ليكون ممن أدرك رمضان كفضل وإحسان..
ثم ينخلع منه بتغيير وسبق وغفران.