خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/68"> الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/68?sub=33614"> شرح كتاب زاد المستقنع
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
شرح زاد المستقنع باب تعليق الطلاق بالشروط [8]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ فصلٌ: وإن حلف لا يدخل داراً أو لا يخرج منها، فأدخل أو أخرج بعض جسده أو دخل طاق الباب، أو لا يلبس ثوباً من غزلها، فلبس ثوباً فيه منه، أو لا يشرب ماء هذا الإناء، فشرب بعضه لم يحنث]
عقد المصنف رحمه الله هذا الفصل لبيان جملة من المسائل التي تتعلق بتعليق الطلاق نفياً وإثباتاً على فعل شيء أو تركه، فمتى يصدق عليه أنه أخل يُحكم بوقوع الطلاق، ومتى لا يصدق عليه ذلك فلا يحكم بوقوع الطلاق، وهذا يتوقف على جملة من الصفات يعلق الطلاق على وجودها، وهذه الصفات قد يريد بها الكل أو يريد بها البعض فينظر في هذا الاسم الذي ذكره، هل يصدق على كل الشيء أو بعض الشيء؟ وهل الذي فعله الكل أو البعض؟ ثم بعد ذلك يُحكم بالوقوع وعدمه.
قال المصنف رحمه الله: (إن حلف لا يدخل داراً) فإذا قال: إن دخل بيت فلان فامرأته طالق، أو قال بالعكس: امرأته طالق إن خرج من بيته اليوم، أو نحو ذلك.
فإذا علق الطلاق على الدخول فلا بد من وجود الدخول على الصفة الكاملة؛ لأن الإنسان قد يدخل بكامل جسده وقد يدخل بعض جسده فقط، فهل امرأته تطلق بمجرد وقوع الدخول لبعض الجسد، أم أنها لا تطلق إلا إذا حصل الدخول الكامل للجسد؟
وهل الجزء يُنَزَّل منزلة الكل أو لا؟
نقول: إذا وقع الدخول للجسم كله فلا إشكال أن امرأته طالق؛ لكن لو أنه أدخل يده لاستخراج شيء من البيت فهل تطلق المرأة؟
وهكذا لو أنه أدخل رجله ثم تذكر ورجع ولم يُدخِل كلَّ جسده، فهل نحكم بالطلاق؟
الجواب: لا بد من دخول جسمه كاملاً، والجزء لا يأخذ حكم الكل، والشريعة أحياناً تعطي الجزء حكم الكل، وهذا بالسريان، أو بالتجوز في اللفظ، وأحياناً لا تعطي الجزء حكم الكل، فتعطي الجزء حكم الكل كما إذا قال: يدك طالق، فالحكم كأنه قال: أنت طالق؛ لأن الطلاق لا يتعلق بالجزء وحده، ولا يمكن إسقاط الطلاق الذي أثبته، فهنا يأخذ الجزءُ حكمَ الكل، ومن ذلك إطلاق الشرع للمسجد الحرام على مكة كلها، وكذا تسمية الصلاة بالسجدة، وتسميتها بالركعة، وهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، لكن هناك مسائل لا تعطي فيها الشريعة الجزء حكم الكل وهي كمسألتنا، ومثل: مسألة الاعتكاف لو كان معتكفاً في المسجد فأخرج يده فإنه لا يبطل اعتكافه؛ لأن الاعتكاف يبطل بخروج الإنسان من دون حاجة من المسجد، فلو أخرج يده أو رجله أو جزءاً من جسده ولم يخرج بكل بدنه فإنه لا يبطل اعتكافه، فلابد من وجود الكل تاماً على الوجه المعتبر حتى يُحكم بوقوع ما رتب المكلف وقوع الشيء عليه، وفي السنة ما يدل على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً في مسجده، فكان يناولها رأسه وهو معتكف فترجله) فهذا يدل على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل؛ لأنه لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد، كذلك ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لـعائشة وهو معتكف: (ناوليني الخمرة، قالت: يا رسول الله! إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك) لأنه قال: ناوليني، ومعنى ذلك: أنها ستدخل يدها، ففهمت عائشة أنها ممنوعة جزءاً وكلاً، فقالت: يا رسول الله! -وهي فقيهة رضي الله عنها- إني حائض، فقال: (إن حيضتك ليست في يدك)، يعني: أنك إن أدخلت اليد لم يكن ذلك دخولاً للجسم كله، وهكذا هذه المسألة التي ذكرها المصنف فلا يحنث بإدخال بعض جسده.
ثم عندنا استصحاب الأصل أنها امرأته، ولم يقع الدخول على الوجه التام الكامل، والأصل عدم الطلاق، فإذا قال: امرأته طالق إن دخل بيت محمد فأدخل جزءاً من جسده لم يحكم بطلاقٍ امرأته حتى يدخل جسمه كاملاً ولو للحظة يسيرة، فإذا دخل جسمه كاملاً ولو لطرفة عين فإنه تطلق عليه امرأته، وأما دخول بعض الجسم فلا يوجب ذلك ثبوت الطلاق.
العكس لو قال: امرأته طالق لو خرج اليوم من بيته، فأخرج يداً أو أخرج رجلاً، أو أخرج رأساً، لم تطلق امرأته حتى يخرج بتمامه وكماله.
مسألة: لو قال: امرأته طالق إن خرج من البيت وكانت امرأته حاملاً، وشاء الله أن تضع في الساعة السادسة، وفي الساعة السادسة إلا عشرة أخرج الزوج جزءاً من بدنه من البيت، ثم خرج من البيت بعد الولادة، فحينئذٍ تعتد بعد الولادة لأن الطلاق وقع بعد الولادة، ولكن إن وقع خروج الجسم كاملاً قبل ولادتها ولو بلحظة فإنها تطلق قبل الولادة وقت خروجه من البيت، وتخرج من عدتها بالولادة؛ لأن المطلقة الحامل تخرج من عدتها بالوضع، فحينئذٍ إن خرج الزوج بكل جسده قبل الولادة ولو بوقت يسير فإنه يحكم بكونها أجنبية؛ لأنها خرجت من عدتها بالوضع، أما لو أخرج بعض جسده ثم وضعت ولدها ثم خرج بجسمه كله بعد وضعها لولدها فتستأنف عدتها بالحيض؛ لأن الطلاق وقع بعد الولادة.
والحاصل: أن الجزء لا يأخذ حكم الكل في مسألتنا؛ لأنه علق الطلاق على صفة الدخول فلا بد من وقوعها من الجسم كاملاً ولا يجزئ وقوع البعض، وكذلك الحال في الخروج.
(أو دخل طاق الباب) هو القوس الذي تكون فيه عضادتي الباب، فلو جاء رجل ودخل على فم الباب ووقف على نفس الطاق بحيث إن جسمه مسامت للطاق، هذا هو الحد، فإن جاوزه حصل الدخول الفعلي بحيث يخلف هذا الطاق وراء ظهره ويدخل، وإن خرج وخلَّف الطاق وراء ظهره خروجاً فقد خرج، فالعبرة بهذا الحد الفاصل الذي يعتمد عليه الباب ويسمى: طاق الباب، فإن جاوزه حكم بالطلاق دخولاً وخروجاً، وإن لم يجاوزه لم يحكم بوقوع الطلاق.
(أولا يلبس ثوبا من غزلها فلبس فيه منه)
علق الطلاق على لبس ثوبٍ من غزل امرأته، أو غزل أخته، أو غزل أمه ...الخ. واللبس هو: الدخول في الشيء، فلو حلف بالله أنه لا يلبس الثوب، فنام ووضع الثوب فوقه، لم يحنث؛ لأنه لم يدخل فيه؛ لأن اللبس حقيقته الدخول، ولو كان محرماً فأخذ الثوب ووضعه على كتفيه لم تلزمه الفدية؛ لأنه لم يلبس، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تلبسوا القمص، ولا العمائم) بحيث يقع الدخول الفعلي.
وفي هذه المسألة: إذا كان الثوب فيه شيء من غزل المرأة ولبسه فقد حصل الدخول، ولذا قال بعض العلماء: يحنث ولو كان فيه أقل ما يكون من غزل المرأة، واختار المصنف أنه لا بد وأن يكون منسوجاً من غزلها نسجاً كاملاً، فلو كان النسج في بعض الثوب أو كان في هذا الثوب شيء من غزلها فإنه لا يحكم بالطلاق على ما اختاره رحمه الله، فيعلق هذا على التمام والكمال، فلا بد وأن يكون الثوب منسوجاً كله من غزلها حتى يقع الطلاق وإلا لم يقع.
(أو لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه لم يحنث) الإناء ينقسم إلى قسمين:
إناء كبير وإناء صغير، فالكبير الذي لا يمكن لمثله أن يشربه، فإذا كان الإناء صغيراً فعلى ما ذكر المصنف من أنه إذا قال الرجل: لا يشرب ماء هذا الإناء، فمعناه: إن شربه تاماً كاملاً وقع الطلاق، فلو شرب منه وبقي منه بقية ولو قليلة لا يقع الطلاق؛ لأنه علقه على شربه تاماً كاملاً، فالمسألة مبنية على ما تقدم من أنه لا يأخذ البعض حكم الكل.
أما لو كان الإناء كبيراً فإنه لا يقدر على شرب كل ما في الإناء لأنه أمر مستحيل، مثل أن يقول: لا يشرب ماء هذا النهر، فإنه لا يمكن شرب كل النهر وإنما المراد أن لا يشرب من النهر، فهذه قرينة تدل على أنه يريد الشرب من الإناء أو من النهر.
والطلاق تارة يعلق على الشرب، وتارة يعلق على المشروب، وتارة يعلق على الإناء نفسه، فقد يقصد بقوله: لا يشرب من هذا الإناء، المشروب الذي فيه، فلو شرب منه ولو بعضه فإنه يقع الطلاق عند بعض العلماء لأن (من) للتبعيض، إذا قصد المشروب الذي داخل الإناء؛ لأن الإناء لا يُشرب وإنما يشرب الذي بداخله، فإذا قال: لا أشرب من هذا الإناء وقصد البعض فإنه لا يحنث إلا بالبعض، وإذا كان مراده: كل الإناء، فحينئذٍِ يرد فيه التفصيل ما بين الكبر والصغر، وأما إن قصد الإناء نفسه أنه لا يشرب منه، مثل أن يختصم مع رجل وقال له: امرأتي طالق إن شربت من إنائك، فيبقى الطلاق معلقاً على وقوع الشرب من الإناء سواءً كان فيه ماء أو غير ماء؛ لأن العبرة بالإناء نفسه، بغض النظر عن الذي يكون فيه، فإذا شرب من الإناء حكم بالطلاق.
إذاً: تارة يقصد بالامتناع عن الشرب من إناء مخصوص، وتارة يقصد نفس الشراب الذي في الإناء، فإن قال: والله ما أشرب من ماء هذا الإناء، ووضع في الإناء شراب برتقال أو لبناً لم يحنث، ولم يقع الطلاق؛ لأنه خصص فقال: من ماء هذا الإناء، وقصد الماء فلا ينصرف إلى غيره.
الخلاصة: أنه تارة يقصد الإناء نفسه، فحينئذٍ يقع الطلاق بأي مشروب في هذا الإناء سواء كان ماءً أو غيره، وتارة يقصد الماء الموجود في الإناء فيفصل بين أن يقصد تمام الإناء أو بعض الإناء، كما لو وجدت قرينة تدل على أنه يريد البعض، وتارة يقصد الأمرين سواءً كان في الإناء مشروب من الماء المسمى، أو كان غيره، فحينئذٍ يقع بأي واحد من الأمرين، سواء كان فيه شراب أو غيره وسواء استتمه أو لم يستتمه، فيحكم بوقوع الطلاق.
قال المصنف رحمه الله: [وإن فعل المحلوف عليه ناسياً أو جاهلاً حنث في طلاق وعتاق فقط]
النسيان: ذهاب الشيء عن بال الإنسان فلا يتذكره، والناسي إذا ذُكِّر يتذكر غالباً، وهذا من النقص الذي جعله الله عز وجل في بني آدم، ويعتبر النسيان من الأعذار الموجبة للتخفيف، فرحم الله العباد بإسقاط المؤاخذة عنهم حال النسيان، والنصوص في هذا واضحة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك قوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عن الله عز وجل أنه لما دعا المؤمنون بهذا الدعاء قال الله: (قد فعلت) أي: لا أؤاخذكم إن نسيتم أو أخطأتم، وقال عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) والإجماع منعقد على أن النسيان عذر، لكن في الشريعة تفصيل في هذا العذر: ففي بعض الأحيان يوجب سقوط المؤاخذة عن الإنسان من حيث الإثم ومن حيث التبعية، فلا يؤاخذ بضمان، وذلك في حق الله عز وجل خاصة، مثال ذلك: لو تطيب الحاج ناسياً، ثم تذكر فغسل الطيب فلا شيء عليه في أصح قولي العلماء رحمهم الله ولا يأثم؛ لأنه لم يقصد وضع الطيب، وإنما الآثم هو الذي يمنعه ربه فيعتدي حدود الله وهو مستشعر هذا الاعتداء، أما هذا فهو ناسٍ وليس عنده إرادة العصيان لله عز وجل في هذا الشيء، فلا يحكم بإثمه من هذا الوجه، فأسقط الله عنه المؤاخذة، وهذا يسمى: سقوط المؤاخذة، وأما الضمان فإنه يسقط عنه، ولا تجب عليه الفدية عند الشافعية والحنابلة، أما عند الحنفية والمالكية فتجب عليه الفدية، يقولون: يسقط عنه الإثم ولا يسقط عنه ضمان حق الله عز وجل، والصحيح: قول الشافعية والحنابلة، فمن تطيب ناسياً أو غطى رأسه ناسياً أو لبس مخيطاً ناسياً ثم أزال ذلك لما تذكر فإنه يسقط عنه الإثم وتسقط عنه المؤاخذة.
وبعض مسائل العبادات والمعاملات يجب فيها ضمان الحق على الناسي إذا وقع في خلل، فيسقط عنه الإثم لمكان النسيان، ولكن يجب عليه ضمان الحق، خاصة في حقوق الناس، مثال ذلك: رجل استدان من آخر ألف ريال ثم نسي هذه الألف نسياناً كلياً، وتخاصما عند القاضي فقال: هل لفلان عليك شيء؟ قال: لا، ليس عندي شيء، قال: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، قال: أتحلف اليمين؟ فحلف اليمين، فهو حلف بالله أنه ليس عنده شيء؛ لأنه لم يتذكر، ويجوز للإنسان أن يحلف على غالب ظنه ويقينه، فهو لم يتذكر أن لفلان عنده شيء، أو ظن أنه قد قاضاه، ثم بعد سنة أو سنوات تذكر أن لفلان عنده ألف ريال، فهذا النسيان يسقط عنه الإثم في حلفه، ويسقط عنه الإثم في القضاء، ولكن يجب عليه ضمان الألف الريال، مع أن القاضي قد حكم أن ذمته بريئة، فلا يسقط هذا الحق، ويجب عليه أن يضمن الحق لصاحبه، فيرد الألف ريال للشخص الذي استدانها منه، فهذا في حق المخلوق، وكذلك يجب عليه ضمان الحق في حق الخالق كما لو صلى ركعة من صلاة الصبح وظن أنه قد صلى الصبح تامة، ثم تذكر بعد طلوع الشمس أنه لم يصل الصبح، فهو معذور، ولكن لما تذكر يجب عليه ضمان حق الله عز وجل فيتوضأ ويصلي ولو خرج الوقت كما في الحديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك).
فهذه قاعدة: (إذا ألزمت الشريعة الناس بالضمان فهذا من باب الحكم الوضعي، وإذا أسقطت عنهم المؤاخذة فهذا من باب الحكم التكليفي)، والحكم الشرعي: إما حكم تكليفي وإما حكم وضعي، فمن حيث إسقاط المؤاخذة من جهة التكليف لا يحكم بإثم، ولذلك قال بعض العلماء: الناسي ليس بمكلف أثناء النسيان، فيسقط عنه الحكم من جهة الجانب التكليفي، لكن من جهة الجانب الوضعي لا يسقط عنه؛ لأن الشريعة أوجبت على الإنسان ضمان الحق بكل وجهٍ، فيضمن الحقوق لأهلها، وكونه ناسياً ثم يتذكر فإنه يعذر أثناء النسيان لكن بعد النسيان يجب عليه الضمان، فالنسيان والخطأ إذا ألزمت الشريعة فيهما بضمان فهذا من باب الحكم الوضعي.
مثال: لو أن رجلاً رأى طيراً وأطلق سلاحه ليصيده فأصاب شخصاً فقتله، فهذا خطأ مثل النسيان وكلاهما عذر، لكن يجب عليه أن يضمن دية هذا الشخص وأن يكفر كفارة قتل الخطأ، مع أنه خطأ، لأن الشريعة آخذته من باب الحكم الوضعي وليس من باب الحكم التكليفي، فالشريعة أوجبت الضمان لوجود القتل، بغض النظر عن كونه قاصداً أو غير قاصد.
مسألة: إن قال: إن دخلتُ الدار فامرأتي طالق، أو نسائي طوالق، ثم نسي هذا التعليق بالطلاق ودخل وهو ناسٍ، فهل يؤاخذ أو لا يؤاخذ؟
قال طائفة من العلماء: لا شيء عليه ولا يقع عليه الطلاق، وقال طائفة من العلماء: يؤاخذ في الطلاق وفي العتاق، قالوا: إن الطلاق أمره على الخطر حتى أن جده جد وهزله جد، والشريعة جعلت هذا اللفظ موجباً للمؤاخذة، فنحن نؤاخذه ولو كان ناسياً، وهذا الذي اختاره المصنف رحمه الله في الطلاق وفي العتاق كذلك، كما لو علق عتق عبده على دخول داره ثم نسي ودخل الدار ناسياً فإنه يحكم بعتق عبده؛ لأن النسيان لا يوجب سقوط العتق والطلاق؛ لأنه من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي.
قال المصنف رحمه الله: [ وإن فعل بعضه لم يحنث إلا أن ينويه ]
وإن فعل البعض لم يحنث إلا أن ينوي ذلك البعض، إذا قال مثلاً: لا أشرب من هذا الإناء، وقصد أي شيء يصدق عليه أنه شرب، فلو احتسى حسوات أو حسوة من الإناء بما يصدق عليه أنه شارب حكم بوقوع الطلاق، لأنه نوى ذلك البعض.
مثال آخر: قال: امرأتي طالق إن دخلت دار محمد، ونوى أن لا يدخل يده، وأن لا يدخل رجله، وأن لا يدخل أي جزءٍ منه، فيلزمه الطلاق بدخول البعض.
قال المصنف رحمه الله: [وإن حلف ليفعلنه لم يبرأ إلا بفعله كله]
يعني: إن حلف أن يقوم بشيء فإنه لا يحكم بوقوع الطلاق إلا إذا كان الشيء تاماً كاملاً، ولا يقع على البعض، فإذا قال: امرأته طالق إن بنى الجدار، أو بنى بيتاً، فعلق الطلاق على وجود البناء، فلو بنى بعض الجدار أو بعض البيت ولم يتمه لم يحكم بطلاق امرأته إلا بعد تمام البناء.
فلو ابتدأ بناء البيت في شهر وانتهى بعد ثلاثة أشهر وتوفي، فإنه أثناء البناء في الأشهر الأولى هي لا تزال في عصمته، ثم بعد تمام البناء حصل الطلاق وتوفي، فإذا وقع موته قبل تمام البناء فقد مات وهي في عصمته؛ لأنه علق ذلك على وجود البناء، والبناء لم يتم عند موته فهي في عصمته، لكن إن قلنا: يقع الطلاق على أقل شيء يتحقق به البناء، فبمجرد ما يقع ذلك البعض تخرج من عصمته وتكون امرأته مطلقة، ثم يفصل في ميراثها سواء كانت رجعية أو بائنة.
حكم من علق الطلاق على فعله لشيء ثم وكل غيره أن يفعله
الجواب: باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذا الأمر فيه تفصيل، هناك كلمات ينزل فيها الوكيل منزلة الأصيل، مثل أن يقول: والله لا أبني داراً، أو يقول: إن بنيت الدار فامرأتي طالق، ومعلوم أنه لا يبني بنفسه، وإنما يأمر غيره بالبناء، فإذا أمر غيره بالبناء وفعل البناء غيره، فإنه حينئذٍ يحكم بوقوع الطلاق؛ لأن هذا معلوم بداهة.
وأما إذا كان مراده بالفعل أن يفعله بنفسه فلا يقع الطلاق إلا إذا فعله بنفسه، والمعول في ذلك على الصيغة التي يذكرها، ولكن الأصل أن الوكيل ينزل منزلة الأصيل والله تعالى أعلم.
حكم قياس طلاق الناسي على المكره
الجواب: الأصل يقتضي أن المكره يقع طلاقه، لكن جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا طلاق في إغلاق) وجاء القياس القوي: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] فاختلف الوضع، وثبتت الرخصة للمكره، وإلا فالأصل يقتضي وقوعه، والهازل لا يقصد الطلاق، ولم يدر بخلده أنه يطلق زوجته، ومع ذلك طلق عليه الشرع زوجته، ولم يعتبر ذلك رخصة له، وجعل هزله جداً، وهذا يدل على خطر الطلاق، فكل باب نعمل فيه الأصول التي وردت وهدي الكتاب والسنة فيه، فلما كان أمر الطلاق - كما يقول العلماء- على الخطر استنباطاً من نصوص الكتاب والسنة فإنه حينئذٍ إذا طلق ناسياً كما اختار المصنف رحمه الله وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، أنه يمضي عليه طلاقه، والله تعالى أعلم.
من علق الطلاق على الخروج من البيت فهل تستثنى الضرورة
الجواب: الحكم عام، سواءً خرجت لضرورة أو بدون ضرورة؛ لأن العبرة بالخروج، إلا إذا كان مراده أن تخرجي -مثلاً- لحفلة معينة، أو تخرجي إلى مناسبة معينة، فما كان مقيداً يقيد بتقييده، والله تعالى أعلم.
حكم من قصد بتعليق الطلاق الزجر
الجواب: بينا هذه المسألة: قصد الزجر، وهذا كله لا تأثير له، المؤثر عندنا أنه علق الطلاق بينه وبين الله على وقوع شيء، وهذا مذهب جماهير السلف ومنهم الأئمة الأربعة رحمة الله عليهم، فمن علق الطلاق على فعل أو ترك فنغض النظر عن كونه قاصداً أن يفعل أو يترك، فهذا الذي بينه وبين الله، والشريعة أعطته الطلاق معلقاً وأعطته الطلاق منجزاً، فإن شاء طلق امرأته، وإن شاء أبقاها، فإذا أقدم على الأحموقة -كما قال ابن عمر رضي الله عنه- فارتكب الأحموقة وجعل طلاقه معلقاً على شيء ألزمناه ما تلفظ به؛ لأن الله يقول: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2] وهو قد تقحم هذا الحد من حدود الله، فإن الطلاق من حدود الله، فإذا تعدى هذا الحد وألزم نفسه ما لم يلزمه الشرع؛ فإنه يلزم بما التزم، وهذا لا إشكال فيه فإن الأصل الشرعي دالٌ عليه.
فنقول: إذا علق طلاقه على فعل شيء أو ترك شيء فإنه ملزمٌ بهذا التعليق ويبقى التعليق على إطلاقه إلى الأبد، إلا إذا وجد ما يدل على التقييد والتخصيص، كأن يكون ذلك في حال خصومة معينة، وانقضت في الحال وبينه وبين الله تقييدها بهذا، أو كان الظرف الذي علق عليه من الظروف التي تنشأ وترتب على أحوال معينة، وقصد حالة دون أخرى، فحينئذٍ يتقيد بذلك القيد، والله تعالى أعلم.
حكم العدة بعد الطلقة الأولى في الطلاق المتتابع
الجواب: إذا كانت في عدتها فهي رجعية والرجعية ينسحب عليها الطلاق، والرجعية يصح طلاقها وظهارها، فبناءً على ذلك: ينسحب ولا يشترط أن تنتهي من عدة الطلقة الأولى حتى تقع الطلقة الثانية، فلو قال لها: أنت طالق، بعد دخوله بها، فهي الطلقة الأولى، فإذا طلقها الثانية أثناء عدتها وقع عليها الطلاق، فالرجعية تأخذ حكم الزوجية من حيث تعلق الطلاق بها، وسيأتينا -إن شاء الله- بيان هذه المسألة في الأحكام المترتبة على الرجعة.
حكم حج المرأة عن الرجل
الجواب: لا بأس أن تحج المرأة عن الرجل والرجل عن المرأة؛ لأن الوكالة في الحج لا يشترط فيها اتحاد الجنسين، والدليل على ذلك: أن المرأة الخثعمية رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنته في الحج عن أبيها فأذن لها، فدل على أنه لا بأس أن يحج الذكر عن الأنثى والعكس، ولا يشترط اتحاد الجنسين وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، والله تعالى أعلم.
كيفية حج الحائض
الجواب: كما قال صلى الله عليه وسلم: (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) فلا تطوف بالبيت، ولا تسعى بين الصفا والمروة على اشتراط أن يكون السعي بعد الطواف على ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أوقع سعياً إلا بعد طواف في حجه وعمرته، فتحتاط لهذا وتؤخر السعي، فتؤخر طوافها وسعيها، ثم يفصل فيها:
إذا كانت مفردة؛ فالأمر يسير لأنها تمضي إلى عرفات وتبيت في مزدلفة، ثم ترمي جمرة العقبة، ثم تتحلل، ولا تنزل تطوف طواف الإفاضة لأنها لم تطهر، وتنتظر إلى طهرها ثم تطوف بالبيت وتسعى، وحينئذٍ تم حجها.
وإذا كانت قارنة فالقارنة مثل المفردة تذهب مباشرة إلى عرفات وتؤدي مناسك الحج، والعمرة تدخل تحت الحج في القران، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـعائشة (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) وكانت قارنة، والدليل على أن عائشة حجت قارنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك) وبالإجماع أنها ما تحللت بعد عمرتها، وأنها ما فعلت عمرة قبل حجة الوداع، فدل على أنها انقلبت قارنة.
وإذا كانت متمتعة، فلا بد أن توقع عمرتها قبل الحج، فحينئذٍ ننظر:
إن كان طهرها قبل الوقوف بعرفة، فإنها تبقى على إحرام العمرة ولا ترفضها، ثم إذا طهرت نزلت وطافت بالبيت وسعت وتحللت، ثم مضت إلى عرفات وأتمت النسك وهي متمتعة وعليها دم التمتع.
وأما إن كان الوقت الذي قبل الوقوف بعرفة لا يسع لطهرها، ولم تطهر قبل الوقوف بعرفة فتنقلب من التمتع إلى القران، وتصبح قارنة، فتذهب إلى عرفات، ثم تؤدي مناسك الحج، حتى إذا طهرت نزلت وطافت طواف الإفاضة وسعت سعي حجها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) وقد كانت أهلت عائشة بعمرة، ففي الصحيحين أنها لما جاءت سرف -وهي ما يسمى اليوم النوارية- حاضت، فدخل عليها صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: (ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم، اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) لأن قدومه عليه الصلاة والسلام كان في رابع ذي الحجة، وحينئذٍ لا تتمكن من طوافها قبل الوقوف بعرفة، وما طهرت إلا بعد يوم النحر، ولذا قال العلماء: إنها انقلبت إلى القران، فدل على أن المرأة إذا أهلت بعمرة ولم تطهر قبل وقوفها بعرفة فإنها تنقلب إلى القران ويلزمها دم القران، والله تعالى أعلم.
ميقات المقيم في مكة إذا ذهب إلى أهله ثم رجع للحج
الجواب: هذا السؤال فيه تفصيل:
إن كان خروجه إلى بلده أو أهله قبل دخول أشهر الحج، ثم دخل إلى مكة قبل دخول أشهر الحج فحينئذٍ يهل بالحج من مكة وحكمه حكم أهل مكة؛ لأنه لم يدخل عليه ميقات الحج الزماني وقد تعلق بالميقات الأبعد المكاني.
وأما إن كان خروجه من مكة بعد دخول شهر شوال ثم دخل مكة من أي جهة من الجهات الآفاقية فإن حكمه حكم أهل تلك الجهة التي دخل منها، لا يدخل إلا بعمرة، أو يدخل حلالاً وإذا جاء الحج خرج إلى الميقات الذي مر به، والسبب: أنه مر بالميقات يريد الحج بعد دخول زمانه فلزمه ذلك الميقات، لقوله عليه الصلاة والسلام: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة) فحينئذٍ يقال له: إما أن تدخل بعمرة تتمتع بها إلى أن يأتي الحج وتهل للحج بمكة وأنت متمتع وعليك دم، أو تدخل حلالاً ثم إذا جاء وقت الحج خرجت إلى هذا الميقات وأحرمت منه، والله تعالى أعلم.
كيفية تحديد الميقات عند الحج عن الغير
الجواب: الحج عن الميت ينقسم إلى قسمين:
إما أن يكون الميت مفرطاً وعليه الحج وتساهل وقصر، فاختار جمعٌ من العلماء أن يُحج عنه من الموضع الذي قصر منه؛ لأنه كان واجباً عليه أن يحج منه، قالوا: إذا كان مستطيعاً في ميقات فإنه أبعد يبدأ من الميقات الأبعد؛ لأن البديل يأخذ حكم الأصيل، والقاعدة: (أن البدل يأخذ حكم مبدله) فلو كان حياً ألزم أن يحرم من ذلك الميقات، فإذا فرط فيه لزمه الحج من الميقات الأبعد.
لكن إذا كان حجك عن والدك تطوعاً منك، حيث إنه لم يقصر رحمه الله وأردت أن تحجي عنه؛ لأنه لم يحج، فتهلين من مكة، ويجزئك أن تحرمي عن الوالد من بيتك، وهذا من بره، والله تعالى أعلم.
حكم أخذ الأجرة في الحج عن الغير
الجواب: أوصيكم ونفسي دائماً أن لا يدخل الإنسان أمور الدنيا في الدين، فالله عز وجل أحل لعباده الطيبات، وأحل لهم المكاسب التي يتوصل الإنسان عن طريقها إلى الحلال، فيستغني الإنسان بربه، إذا كان يريد الدنيا فسوقها معروف، وإذا أراد الآخرة فليسعى لها سعيها وهو مؤمن، أي: مخلص موحد وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19] انظر كيف قال الله: (أولئك) وهو اسم إشارة يدل على علو الدرجة وكما قال: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69] ثم قال: (كان) وهي تدل على الدوام والاستمرار، ثم ذكر السعي، ولم يقل: كان منهم ذلك مشكورا، بل قال: كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا أي السعي: الذي سعوه بتوحيدٍ وإخلاص مشكور من الله عز وجل، فنعم السعي ونعم الساعي.
فإذا أردت أن تتاجر في الدنيا فسوقها معروف، وأحل لك ربك التجارات، وأباح لك الطيبات، فأما الحج فصنه عن الأخذ والعطاء والبيع والشراء، ولا تجعل الحج سلعة تزايد عليها وتساوم عليها، والصحيح عند العلماء: أنه لا يصح أن يحج عن الغير مقاطعة، أي: يقول له: أعطني خمسة آلاف ما زاد لي وما نقص أكمله لا يجوز هذا؛ لأنه بيع وشراء بالعبادة.
والواجب عليه أن يأخذ أجرة تبلغه الحج، فيكون خرج إلى الحج من أجل الحج، ولم يجعل حجه وعبادته ومشاعره مساوماً عليها بالدنيا، فهذه يراد بها وجه الله، وما جعل الحج ولا جعلت المناسك ولا جعل البيت ولا جعلت الصفا والمروة إلا لوجه الله جل جلاله، وأنت تقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، فالإنسان يخرج لوجه الله عز وجل، وابتغاء مرضاة الله عز وجل، يخرج بحجٍ خالص لوجه الله سبحانه وتعالى، لا للدنيا التي يريدها.
وصحيح أن الله أحل لنا أن نبتاع ونشتري في الحج لكن هذا وقع تبعاً وما وقع أساساً وأصلاً، أما شخص يقول: أنا ما أحج إلا لما تعطيني خمسة آلاف ريال، فمعناه: أن الخمسة الآلاف هي التي أخرجته، وجعلت همته للحج قوية.
والواجب على المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن المال إذا أُخذ بالدين فإنه منزوع البركة، وأن يعلم أن هذا المال الذي يأخذه قد يؤثر على عبادته وقد يؤثر على صلاته، وقد يؤثر على خشوعه، فعليه أن يتقي الله عز وجل.
فلا تجعل الحج محلاً للبيع والشراء، وارفع نفسك عن المساومة في شيء أراده الله لوجهه خالصاً لا شريك له.
فإذا أردت الحج عن الغير من أجل طاعة الله، تقول: أنا إنسان ما عندي نفقة ومحتاج وأريد شيئاً يبلغني الحج، فهذا يدل على أنك مشتاق إلى ذكر الله، مشتاق أن تكون مع الذاكرين ومع الملبين ونفسك تتقطع حرقة أن تحرم هذا الخير، فتقول: أعطني ما يبلغني بيت الله عز وجل، ما يبلغني الوقوف في هذه المشاعر، من أجل أن تذكر الله وحده لا شريك له، ثم تأتي وترد له ما زاد ولا تريد منه ديناراً ولا درهماً وإنما تريد وجه ربك وحده لا شريك له، إن فعلت ذلك طبت وطاب ممشاك وكان أجرك على الله عز وجل، ومن كان أجره على الله فقد تولى الله أمره والله نعم المولى ونعم النصير.
فعلى الإنسان أن يكون مخلصاً في كل شيء وفي العلم أيضاً، ولذلك قالوا: العالم يكون عالماً إذا لم يتكبر على من دونه، أي: لم يتعاظم على من دونه، ولم يحتقره، ولم يتعال على من فوقه، أي: لم يشوه من فوقه من العلماء فلا ينتقصهم أو يختبرهم، أو يحتقرهم، ولا يأخذ على علمه أجرا، فإذا فعل هذا طاب علمه وزكى، فأمور الآخرة لا تطيب ولن تطيب ولن يتقبلها الله إلا إذا أريد بها وجهه سبحانه وتعالى، وإذا فعل العبد ذلك تولى الله جزاءه، وتولى الله أجره في الدنيا والآخرة، فعلى الإنسان أن يتقي الله عز وجل.
ولذلك ما رأينا أحداً أدخل الدنيا في الدين إلا وجد شؤم ذلك في دنياه قبل أن يلقى ربه في آخرته، ووالله ما وجدنا شيئاً ينزع البركة مثل إدخال الدنيا في أمور الدين، والعبث بهذا الدين، سواءً في دعوة الإنسان، سواءً في علمه، سواءً في قراءته، في توجيهه، في نصحه، في وعظه، في خطبه.
فالواجب على المسلم في كل شيء أن لا يدخل الدنيا في أمور الدين، ولا يجعلها أكبر همه، وأن يراقب قلبه ويخاف الله عز وجل فلو قيل له: لا نعطيك شيئاً، مضى لوجه الله أشد حرصاً مما لو أعطي من الدنيا.
على المسلم دائماً أن يجعل الآخرة أكبر همه، ومبلغ علمه، وغاية رغبته وسؤله، وإذا فعل ذلك زكى الله عز وجل أمور دينه، ولذلك تجد البركة والخير في بعض مبتدئي طلبة العلم، عندما يطلب العلم وليس في قلبه إلا الله سبحانه وتعالى، قد يكون فقيراً، وقد يكون محتاجاً، وقد يكون مديوناً، وقد يكون مكروباً منكوباً مهموماً مغموماً ويصبر السنوات ثم بإخلاصه يفضل ربه عليه فيبدد همه، وينفس كربه، ويزيل غمه، ويقضي دينه، ويعلي درجته، ويحسن عاقبته، ويزكي ما يقوله وما يعمله.
والله لن تجد من ربك إلا كل خير، متى ما أصلحت قلبك لله عز وجل، ودائماً في كل كلمة تقولها، وفي كل عمل تعمله من أمور الآخرة اطعن في نفسك بأنك ما أردت وجه الله، حتى تبلغ درجة المخلصين الصادقين فعندها يستقيم قولك، ويطيب عملك وترى ما الذي سيعطيك الله من خير الدنيا قبل الآخرة، ومن أراد أن يرى ذلك جلياً فلينظره في صفوة الله عز وجل من خلقه من الأنبياء والرسل الذين أحسن الله عواقبهم في الأمور كلها، وجعل لهم عز الدين والدنيا والآخرة بإخلاصهم وتوحيدهم لله عز وجل، فما كانت الدنيا أكبر همهم، ولا مبلغ علمهم، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه: (ما أحب لو أن عندي مثل أحدٍ ذهباً)، جبل أحد الذي يقارب ثلاثة كيلومترات، وهو من أضخم الجبال وأكبرها يقول لـأبي ذر : (يا
ووالله ثم والله ما عاملتَ الله بصدق إلا صدقك ربك، وثق ثقة تامة بذلك، واقرأ في سير العلماء، ونحن نشهد الله ونشهد ملائكته، ونشهد خلقه أجمعين أننا ما رأينا من الله في هذا العلم وفي هذا الدين إلا كل خير، وأن الله سبحانه وتعالى أعطانا وأولانا وأكرمنا وأحسن إلينا فوق ما كنا نرجو، وفوق ما كنا نأمل، وفوق ما كان يدور بخيالنا.
فما عليك إلا أن تخلص لله عز وجل، وإياك أن تدخل الدنيا في أمر من أمور دينك فيفسد عليك دينك.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الإخلاص لوجهه، وابتغاء ما عنده، وأن يجعل الآخرة أكبر همنا ومبلغ علمنا وغاية رغبتنا وسؤْلِنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
تعليق طلاق الرجل لزوجته على سرقتها لماله
الجواب: المال يطلق على كل شيء له قيمة، فكل شيء له قيمة فهو مال، ولا يختص المال بالذهب والفضة، والناس تظن أن الأموال خاصة بالذهب والفضة، ولكن نصوص الشريعة دلت على أن المال عام شاملٌ لكل شيء له قيمة، لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من صاحب مالٍ لا يؤدي زكاته) ثم ذكر الذهب والفضة، والإبل، والبقر، والغنم، فسمى الإبل والبقر والغنم مالاً، فدل على أن المال لا يختص بالذهب والفضة.
وكذلك ثبت في الصحيح من حديث الأعمى والأقرع والأبرص أن الأعمى قال للملك لما جاءه في صورة الفقير: (كنت فقيراً فأغناني الله، وكنت أعمى فرد الله علي بصري، فدونك الوادي فخذ من مالي ما شئت، فقال الملك: أمسك عليك مالك، فقد أنجاك الله وأهلك صاحبيك) فقال: (أمسك عليك مالك)، مع أن ماله غنم، فدل على أن المال لا يختص بالذهب والفضة،ولذلك يقولون: المال كل شيء له قيمة. وقالوا: سمي المال مالاً؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه
رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مالُ
ومن ليس عنده مالُ فعنه الناس قد مالوا
الناس لا تميل إلا لمن عنده مال، فسمي المال مالاً؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه وتحبه، فلا يختص بالذهب والفضة، فإذا قال لها: إن سرقت من مالي، وقصد الذهب والفضة نفعته نيته؛ لأن هذا تخصيص، ونيته نافعة فيما بينه وبين الله عز وجل، وأما في القضاء فإنه إذا قصد التخصيص وبين نفعه ذلك وحكم به. والله تعالى أعلم.