أرشيف المقالات

الثناء على الله جل جلاله

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
الثناء على الله جل جلاله
 
الحمد لله وحده، لا أحصي ثناءً عليه هو سبحانه وتعالى كما أثنى على نفسه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه؛ أما بعد:
فليس ثَمَّ خلافٌ ألبتة في أهمية موضوع الثناء على الله عز وجل - ولا غرو - فإن الثناء وصفٌ بالخير ومدح، ((ولا أحد أحب إليه المِدحة من الله؛ فلذلك مدح نفسه))[1]، فأمرٌ يحبه الله ويريده ويُثيب عليه، بل وعد فاعله الجنةَ، فلمَ لا يكون بالغَ الأهمية، ساميَ المنزلة، عاليَ المرتبة، سامقَ الدرجة؟ وتحضرني هنا أيضًا قولة ماتعة لشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ليست الصلاة مبنية إلا على الثناء على الله عز وجل"[2]، ولو أخذتُ في بيان أسباب أهمية موضوع الثناء على الله، لجاء بحثًا مستقلًّا طويلَ الذيول.
 
معنى الثناء في لسان العرب، واصطلاح علماء المسلمين:
والثناء في لسان العرب: وصف بـمدح أو بذم؛ قال الليث: "الثناء: تعمدك لتثنيَ على إنسان بحَسَنٍ أو قبيح"[3].
 
والثناء مأخوذ من الثني وهو العطف، ورد الشيء بعضه على بعض، ومنه: ثنيتُ الثوب، ومنه: التثنية في الاسم، فالمُثنِي مكررٌ لمحاسن مَن يثنى عليه مرةً بعد مرة[4].
 
وعموم الثناء في الخير والشر هو الذي جزم به كثيرون[5]؛ والدليل: عن أنس بن مالك قال: ((مُرَّ بجنازة، فأُثنيَ عليها خيرًا، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: وجبت، وجبت، وجبت، ومُرَّ بجنازة، فأُثنيَ عليها شرًّا، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: وجبت، وجبت، وجبت، قال عمر: فدًى لك أبي وأمي، مُرَّ بجنازة، فأُثنيَ عليها خيرًا، فقلتَ: وجبت، وجبت، وجبت، ومُرَّ بجنازة، فأُثنيَ عليها شرًّا، فقلتَ: وجبت، وجبت، وجبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أثنيتم عليه خيرًا، وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًّا، وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض))[6].
 
ولأبي زكريا النووي قول آخر: "قال أهل اللغة: الثناء - بتقديم الثاء وبالمد - يستعمل في الخير، ولا يستعمل في الشر، هذا هو المشهور، وفيه لغة شاذة أنه يستعمل في الشر أيضًا، وأما النثا - بتقديم النون وبالقصر - فيستعمل في الشر خاصة، وإنما استُعمل الثناء الممدود هنا في الشر مجازًا؛ لتجانس الكلام؛ كقوله تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ ﴾ [الشورى: 40]، ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 54]"[7].
 
والحاصل: أن الثناء عامٌّ في الخير والشر كما مر، ومما يؤيد العموم أن مادة (ث ن ي)؛ كما قال ابن فارس في مقاييسه: "الثاء والنون والياء أصل واحد، وهو تكرير الشيء مرتين...
والمَثناة: ما قُرئ من الكتاب وكُرِّر، قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ﴾ [الحجر: 87]؛ أراد أن قراءتها تُثنَّى وتُكرَّر"[8]، والشاهد من كلام ابن فارس: قوله: "تكرير الشيء" مطلقًا دون تقييد بخير أو شر، أو حسن أو قبح، وآخر كلام ابن فارس يؤيد أن قوله: "مرتين" ليس قيدًا؛ بل لأن المرتين بداية التكرار؛ وفي الحديث: ((وله الثناء الحسن))[9]، والأصل أن يكون "الحسن" تقييدًا وتأسيسًا، لا توكيدًا ولا إطنابًا.
 
وفي المسألة بحث نافع[10] خلاصته: أن الثناء يستعمل للمدح والذم، وإنما يُميَّز بالقرينة.
 
الثناء في اصطلاح علماء المسلمين:
تكرار المحامد وتعداد أوصاف المحمود، أو حمد متكرر[11].
 
الألفاظ ذات العلاقة:
وقد جرت العادة في مثل هذه المقامات ببيان معاني الألفاظ ذات العلاقة؛ ومنها هنا:
المدح، والحمد، والشكر، والإطراء، والتمجيد.
1- المدح: لغةً: قال ابن فارس: "الميم والدال والحاء أصل صحيح يدل على وصف محاسن بكلام جميل، ومدحه يمدحه مدحًا: أحسن عليه الثناء"[12].
 
واصطلاحًا: إخبار عن محاسن المحمود إخبارًا مجردًا من حب وإرادة[13].
 
2- الحمد: لغة: قال ابن فارس: "الحاء والميم والدال كلمة واحدة وأصل واحد يدل على خلاف الذم، يقال: حمِدتُ فلانًا أحمَدُهُ، ورجل محمود ومحمد، إذا كثُرت خصاله المحمودة غير المذمومة"[14].
 
واصطلاحًا: إخبار عن محاسن المحمود إخبارًا مقرونًا بحبه وإجلاله وتعظيمه[15].
 
أو: الإخبار عن الله تبارك وتقدس بصفات كماله سبحانه وتعالى مع محبته والرضا عنه[16].
 
قال السعدي: "الحمد هو: الثناء على الله بصفات الكمال، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل"[17].
 
3- الشكر: لغةً: الثناء على الإنسان بمعروف يولِيكَهُ، ويقال: إن حقيقة الشكر: الرضا باليسير[18].
 
"وشكرت لله: اعترفت بنعمته، وفعلت ما يجب من فعل الطاعة وترك المعصية؛ ولهذا يكون الشكر بالقول والعمل"[19].
 
"وحقيقة الشكر هو: الاعتراف بجميع نعم الله، والثناء على الله بها، والاستعانة بها على طاعة المنعم"[20].
 
4- الإطراء: أطريت فلانًا، وذلك إذا مدحته بأحسن ما فيه[21]، والإطراء يكون مواجهةً[22].
 
5- التمجيد: لغة: من أمجده ومجَّده كلاهما: عظَّمه وأثنى عليه[23]؛ قال أبو منصور الأزهري: "والله تبارك وتعالى هو المجيد، تمجد بفعاله، ومجَّده خلقه لعظمته"[24].
 
"والميم والجيم والدال أصل صحيح، يدل على بلوغ النهاية، ولا يكون إلا في محمود، منه المجد: بلوغ النهاية في الكرم، والله الماجد والمجيد، لا كرم فوق كرمه"[25].
 
واصطلاحًا: "المدح بصفات الجلال والعظمة والكبرياء والملك"[26].
 
قال أبو عبدالله ابن القيم: "فالحمد: الإخبار عنه بصفات كماله سبحانه وتعالى مع محبته والرضا عنه؛ فلا يكون المحب الساكت حامدًا، ولا المثني بلا محبة حامدًا، حتى تجتمع له المحبة والثناء، فإن كرر المحامد شيئًا بعد شيء كانت ثناءً، فإن كان المدح بصفات الجلال والعظمة والكبرياء والملك كان مجدًا، وقد جمع الله تعالى لعبده الأنواع الثلاثة في أول سورة فاتحة الكتاب؛ ((فإذا قال العبد: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، قال: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾، قال: مجدني عبدي[27]))[28].
 
نماذج وأمثلة من بيان الثناء على الله تبارك وتعالى وتأصيله:
آيات القرآن العظيم لا تخلو عن أحد أمور ثلاثة: الثناء على الله تعالى، والتكليف، والحث على الطاعة[29]، ومما يجلي هذا:
1- تسمية فاتحة الكتاب سورة الحمد: ووجه تسميتها به: "أن الثناء على الله سبحانه في هذه السورة هو المقصود الأعظم من سائر معانيها، وقد استوعب نحو شطرها، فهو الغالب عليها، فسُمِّيت بما غلب عليها، بخلاف غيرها"[30].
 
2- تسميتها أمَّ القرآن والكنزَ والوافيةَ: قال الزمخشري: "وتسمى أم القرآن؛ لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من: الثناء على الله تعالى بما هو أهله، ومن التعبد بالأمر والنهي، ومن الوعد والوعيد، وسورة الكنز والوافية؛ لذلك"[31].
 
3- كونها الفاتحة مثاني: "وقد عُلِّل كونها مثانيَ أيضًا؛ بأنها مشتملة على الثناء على الله تعالى"[32]، وقال أبو عمر بن عبدالبر: "وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبيٍّ: ((هل تعلم سورة ما أنزل الله لا في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها؟)) فمعناه: مثلها في جمعها لمعاني الخير؛ لأن فيها الثناء على الله عز وجل بما هو أهله، وما يستحقه من الحمد الذي هو له حقيقة لا لغيره؛ لأن كل نعمة وخير منه، لا من سواه، فهو الخالق الرازق، لا مانع لما أعطى، ولا معطيَ لما منع، وهو المحمود على ذلك، وإن حُمد غيره فإليه يعود الحمد، وفيها التعظيم له، وأنه الرب للعالم أجمع، ومالك الدنيا والآخرة، وهو المعبود والمستعان، وفيها تعليم الدعاء إلى الهدى، ومجانبة طريق من ضل وغوى، والدعاء لُباب العبادة؛ فهي أجمع سورة للخير، ليس في الكتب مثلها على هذه الوجوه"[33].
 
4- قال أبو العباس ابن تيمية: "وأما سورة الإخلاص والمعوذتان؛ ففي الإخلاص الثناء على الله، وفي المعوذتين دعاء العبد ربه ليعيذه، والثناء مقرون بالدعاء، كما قُرِن بينهما في أم القرآن المقسومة بين الرب والعبد: نصفها ثناء للرب، ونصفها دعاء للعبد"[34].
 
5- "شكر المنعم، وهو الثناء على الله على إنعامه واجب شرعًا بالاتفاق"[35]، والشكر كما مضى ليس مقصورًا على الثناء قولًا، كما هو ثابت متقرر.
 
6- الثناء على الله أحق ما قاله العبد؛ قال شيخ الإسلام: "((أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطيَ لما منعت، ولا ينفع ذا الـجَدِّ منك الـجَدُّ))، وقوله: أحق ما قال العبد: خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا الكلام أحق ما قال العبد، فتبين أن حمد الله والثناء عليه وتمجيده أحق ما قاله العبد"[36].
 
7- التشهد من أبلغ أنواع الثناء[37]، ولو تتبعت هذا الباب لجاء شيئًا كثيرًا جدًّا، ولكن كما قيل: "حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق"[38]، ولعل الله أن ييسر لي في هذا الباب شيئًا يقربني إليه زلفى، ويدنيني منه قربى، والله ولي التوفيق، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


[1] رواه البخاري (4637)، وفي البخاري (7416)، ومسلم (1499): ((ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة))، وعند مسلم: ((ولا شخص)) مكان ((ولا أحد))؛ وقال النووي في المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (10/ 133): "ومعنى: ((من أجل ذلك وعد الله الجنة)): أنه لما وعدها ورغَّب فيها، كثر سؤالُ العباد إياها منه، والثناءُ عليه".

[2] القواعد النورانية الفقهية (ص: 98).

[3] تهذيب اللغة (15/ 143).

[4] بدائع الفوائد (ص: 539).

[5] ينظر: تاج العروس (37/ 298، 299) (ث ن ي).

[6] رواه مسلم (949).

[7] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (7/ 20).

[8] مقاييس اللغة (1/ 391، 392) (ث ن ي).

[9] جزء من حديث رواه مسلم (1282).

[10] ينظر: المصباح المنير (ص: 80، 81) (ث ن ي)، وذخيرة العقبى في شرح المجتبى (13/ 206، 207).

[11] بدائع الفوائد (2/ 536).

[12] مقاييس اللغة (5/ 308) (م د ح).

[13] بدائع الفوائد (2/ 536).

[14] مقاييس اللغة (2/ 100) (ح م د).

[15] بدائع الفوائد (2/ 536).

[16] الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب (ص: 219).

[17] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 39)، وينظر: (ص: 469)، و(ص: 674).

[18] مقاييس اللغة (3/ 207) (ش ك ر).

[19] المصباح المنير (ص: 262) (ش ك ر).

[20] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 943).

[21] مقاييس اللغة (3/ 454) (ط ر ي).

[22] الفروق اللغوية (ص: 56).

[23] تاج العروس (9/ 151، 152) (م ج د).

[24] تهذيب اللغة (10/ 682).

[25] مقاييس اللغة (5/ 297) (م ج د).

[26] الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب (ص: 219).

[27] رواه مسلم (395).

[28] الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب (ص: 219).

[29] ينظر: نواهد الأبكار وشوارد الأفكار، للسيوطي (1/ 36).

[30] تفسير سورة الفاتحة، لابن رجب الحنبلي (ص: 32).

[31] الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل (1/ 1).

[32] نواهد الأبكار (1/ 49).

[33] مجموع الفتاوى (17/ 17)، والاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار، فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار، وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار، لابن عبدالبر (4/ 186).

[34] مجموع الفتاوى (16/ 478).

[35] فتح الرحمن في تفسير القرآن، للعليمي (1/ 225).

[36] جامع المسائل (2/ 65).

[37] بدائع الفوائد (2/ 686).

[38] أي: اكْتَفِ بالقليل من الكثير، مجمع الأمثال، للميداني (1/ 196).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢