قصة وعبرة .. كذلك فعل الذين من قبلهم
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
قصة وعبرة كذلك فعل الذين من قبلهم
تزوَّجَت فتاةٌ حديثًا، وبعد انقضاء شهر العسل، قال لها زوجُها: يا حبيبتي، نريد اليوم أن آكل من طبخ يدَيْكِ، فأي أكلةٍ تفضِّلينها؟ فقالت له: سأطعمك اليوم أكلة سمك على كيفك!
ثمَّ ناولَتْه بعد ذلك قائمةً بالمشتريات اللازمة، وكان من ضمنها شراء سمك من نوع خاص، وبعد أن أحضر الطلبات، دخل معها المطبخ ليساعدها أولًا، ثم ليكتشف مهارتها في الطبخ ثانيًا، فناولته السكين وطلبَتْ منه قطع رأس السمكة وذيلها، فقال لها: ولماذا أقطع رأس السمكة وذيلها؟ فأنا أهوى أكلَ رأسِ السمكة، فقالت له: إن أمي تقطع رأس وذيل السمكة دائمًا، فقال لها: وما السر في قطعهما؟ فقالت: لا أدري؟! ولكنها دائمًا تفعل هكذا، فقال لها: حسنًا، وهل يمكن الاتصال بأمِّك الآن لنسألها عن سبب قطعها لرأس وذيل السمكة، فإن كان وجودُهما سوف يُفسِد الطبخة، قطعناهما بلا شك، فاستحسنَتِ الفكرة، وأخذَتْ جوَّالها واتصلت بأمها، فقالت لها: نريد "يا ماما" أن نعد سمكًا لوجبة الغداء اليوم، وعندما جئنا نريد قطع رأس وذيل السمكة كما كنتُ أراك دائمًا تفعلين، قال لي زوجي: إنه يحب أكل رأس السمكة، فهل من ضرر في قَلْيه مع السمكة دون قطعه؟ فقالت الأم: حقيقة لا أعرف إن كان يفسد الطبخة أم لا، ولكن كنت أرى جدَّتَك تفعل هكذا، ففعلتُ مثلها، ولم أسألها عن سرِّ ذلك، ولكن "كِرْمَال" عيون زوجك سنسأل جدتك، وأنت وزوجك ستشاركونني محادثَتها، فأنشأت الأم مكالمةً جماعية مع الجدة ومعهم، وسألوا الجدة عن السر في قطع رأس وذيل السمكة قبل القَلْي، فأخبرتهم الجدة أن أغلب الناس في أيامِهم كانوا فقراء، وكانوا لا يملكون مِقلاةً كبيرة تتَّسِع لكامل السمكة، فيضطرون لقطع رأس وذيل السمكة؛ حتى تتسع المِقلاة للسمكة!
ثم قالت الجدة لزوج حفيدتها: طالما أنك تحب رأس السمكة، والمِقلاةُ تتسع لكامل السمكة، فلا حاجة لقطع رأس وذيل السمكة، فشكروها جميعًا.
وهنا أكمل الزوجانِ إعدادَ وجبة الغداء الأولى لهما في مطبخهما دون قطع ذيل ورأس السمكة!
وذلك بعد أن وعَدَا الجدة والأم بدعوتِهما لتناول وجبة عشاء بمنزلهما قريبًا إن شاء الله.
وفي الحياة العامة نلحظ مجالات يكثر فيها الاقتداء والتقليد دون وعيٍ؛ ففي مجال العقائد والمذاهب نجد كل جيل يَدين ويتعصب لدين ومذهب الآباء والأجداد، وهذا ما أثبَتَه القرآن الكريم في عدة مواطن؛ منها قوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [النحل: 33]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104].
بل ويتعدى بهم الأمر إلى جمع الأموال من المتبرِّعين للدعوة للدين والمذهب الذي يعتنقونه؛ بهدف زيادة أتباعه، وهذا ما يلاحظ في جهود حملاتِ التبشير إلى النصرانية مثلًا، ففي الخطاب الذي ألقاه البابا شنودة في الكنيسة المرقسية في الإسكندرية في صفر 1393 هـ، الموافق مارس 1973 م، ذكر فيه أنه: "يجب مضاعفة الجهودالتبشيرية التي وُضِعت وبُنِيت على أساس هدفٍ اتفق عليه للمرحلة القادمة، وهو زحزحة أكبرقدر من المسلمين عن دينهم والتمسك به، على ألا يكون من الضروري اعتناقُهم المسيحية؛فإن الهدف هو زعزعة الدين في نفوسهم، وتشكيك الجموع الغَفيرة منهم في كتابهم وصدقمحمد)؛ اهـ.
وفي المقابل نلحَظُ ما تقوم به المنظمات الإسلامية؛ كرابطة العالم الإسلامي، وهيئة الإغاثة الإسلامية، والمجلس الإسلامي العالَمي للدعوة والإغاثة برئاسة شيخ الأزهر، وغيرها من المنظمات في مختلف الدول الإسلامية، والتي يشكو بعضها من ضعف ميزانيَّاتها، وما تقوم به تلك المنظمات الإسلامية من جهود مباركة في الدعوة إلى الدين الحق وأعمال الإغاثة، ونسأل الله لها وللعاملين فيها من المحتسبين التسديدَ والعونَ.
وهنا نُؤكِّد على أهمية ثقافةِ التفكير في سائر جوانب تعاملاتِنا في الحياة، والخروج من دائرة القوالب الجاهزة، والأنماط الجامدة، إلى رؤيةٍ تتسم بإعمال العقل والتحرر من القيود التي فرضها العقل الجَمْعيُّ؛ كالمبالغة في الكرم مثلًا، لدرجة "الهِياط"؛ كغسيل أيدي الضيوف بدهن العود، أو ذاك الذي تظاهَرَ بذبح ابنه وتقديم مادة سائلة تشبه الدم لضيوفه لغسيل أيديهم إمعانًا في إكرامهم على حدِّ زعمه، وكالبَذخ في أفراح الزواج الذي أثقل كاهل الأزواج وأدخلهم في ديونٍ يصعب خلاصهم منها، بل وقد تعدى ضررها إلى الأقارب والحضور بعامة، من جرَّاء المبالغات في الهدايا، وحتى الملابس التي يرتدونها للتفاخر.
وهكذا، فالناس يتوارثون السلوكات الخاطئة، والعادات التي تضر بالمجتمع، دون تفكير أو تساؤل عن الأسباب التي تدعو إلى التمسُّك بممارستها دون حيادٍ؛ وإنما يفعلون ذلك تقليدًا ومحاكاةً للعادات والتقاليد المتوارثة، دون سؤال أنفسِهم عن جدوى هذه العادات، وفي الغالب يكون أغلبهم غيرَ راضٍ عنها، ولكنها تبقى لدى البعض مُسلَّماتٍ يصعب نقدُها أو الخروج عليها، أو حتى محاولة التفكير في مناقشة سلبياتها على الشخص بصفة خاصة، ثم على المجتمع بصفة عامة، وهذا لا يعني الدعوةَ إلى تعطيل خبرات السابقين والسحب على تجاربِهم، بل يجب الاطلاع عليها والاستفادة منها؛ ففي الكثيرِ منها حِكَمٌ حياتية تستحقُّ التأمل والوقوف عندها للاستفادة منها، وعلينا السؤال عن المبرِّرات والفوائد من التزامنا بعادات وتقاليدَ تضرُّ بنا ولا تحظَى بقناعتنا، بل ويجب عرضُها على العقل والمنطق، لا أن ننقادَ لها بسلبياتها دون نقد أو اعتراض، مع قناعتنا بتعارضها مع العقل والمنطق والعلم.
قفلة: فهل يا ترى، كم سمكة قطعنا رأسها، وقلَّلنا من فوائدها التي من الممكن أن تتحقَّق لنا بوجودها، وكم مِن عادة نمارسها دون أن نسأل أنفسنا: لماذا نفعلها؟ وما الجدوى منها؟!