شرح زاد المستقنع باب تعليق الطلاق بالشروط [7]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى:

[ فصلٌ: إذا علقه بمشيئتها بإن أو غيرها من الحروف لم تطلق حتى تشاء ولو تراخى ].

بيّن المصنف -رحمه الله- في هذا الفصل جملة من مسائل التعليق، وهذا التعليق مُختص بالتعليق بالمشيئة، يُعلق الطلاق على مشيئة امرأته أو أجنبي أو مشيئة الله عز وجل، فإذا تعلق الطلاق بالمشيئة فإنه ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يعلقه بمشيئة الله عز وجل.

القسم الثاني: أن يعلقه بمشيئة غير الله عز وجل.

فإذا علقه بمشيئة الله عز وجل مثل أن يقول: أنت طالق إن شاء الله، فسيأتي الكلام عنها، وسيذكر المصنف -رحمه الله- هذه المسألة.

وأما التعليق بمشيئة غير الله عز وجل فينقسم إلى قسمين:

إما أن يعلق بمشيئة منفردة.

أو يعلق بمشيئة مشتركة.

مشيئة منفردة مثل أن يقول: بمشيئتكِ -يخاطب زوجته- إذا شئتِ، متى شئتِ.

وإما أن يعلق بمشيئة مشتركة كأن يقول: إذا شئتِ وشاءت أمك، إذا شئتِ وأمك، إذا شئتِ وأبوك، وأخوك، أو غير ذلك.

تعليق الطلاق على مشيئة الزوجة

وقد شرع المصنف بالكلام عن تعليق الطلاق بمشيئة غير الله عز وجل.

فذكر تعليق الطلاق على مشيئة الزوجة، مثل أن يقول لها: إن شئتِ، أو إذا شئتِ، أو متى شئتِ، وهذا يسمى بالمشيئة المنفردة؛ لأنه أسند وعلق الطلاق على مشيئة شخص واحد، هو الزوجة: إذا شئتِ ومتى شئتِ وإن شئتِ، وإذا أسند الطلاق إلى مشيئة واحد فإما أن يسنده مقيداً وإما أن يسنده مطلقاً، مقيداً كأن يقول لها: إن شئت الآن، فيقصد في الحال، فيتقيد بالحال، أو إن شئت هذه الساعة، أو خلال ساعة، أو خلال هذا اليوم، أو خلال هذا الأسبوع، أو ما لم تغب الشمس، أو ما لم يطلع الفجر، فيقيد الطلاق بمشيئتها في هذه المدة، فلو أنها مضت عليها وانتهت، ولم تشأ الطلاق، فحينئذٍ لا يقع الطلاق إذا لم تشأ في هذه المدة المقيدة، أو قال: إن شئتِ ما دمت قائمةً، فيقيده بحال قيامها، فإن جلست انقطع الإسناد، والتمديد للطلاق كان معلقاً بالمشيئة حال قيامها.

والمشيئة: أمر متعلق بالقلب، وهو أمر غيبي خفي، لا يمكن أن نعلمه إلا إذا أخبرت به، وهكذا لو كان الذي علق الطلاق بمشيئته أجنبياً، فقال: إن شاء زيدٌ، أو متى شاء زيدٌ، أو إن شاء أبوك، أو شاءت أمك، في هذه الأحوال ننظر إلى مشيئة من ينفذ الطلاق، فلا يخلو إما أن يشاء الطلاق أو يشاء عدم الطلاق، فإذا شاء الطلاق فإنه يحكم بالطلاق، فلو قال لها: إن شئتِ، فقالت: قد شئتُ طلاقي، فإنها تطلق، أو قال لها: إن شاءت أمك، فذهبت إلى أمها فقالت الأم: أشاء الطلاق، وقع الطلاق؛ لأنه معلق على شيء يقع بوقوعه، وهو شرط بينه وبين الله عز وجل أنه إن وقعت هذه المشيئة فامرأته طالق، سواءً شاءت الزوجة أو أبوها أو أخوها أو أياً كان فمن علق الطلاق بمشيئته، ما دام أن هذا الشرط قد تحقق، وهو وجود المشيئة التي علق الطلاق على وجودها، فنحكم بالطلاق.

وتقدم معنا أن الصحابة كانوا يعتبرون التعليق، وأجمع أئمة السلف على اعتبار التعليق من حيث الجملة، فلو قال لها: إن طلعت الشمس أو إن غابت الشمس فأنت طالق، فإنها تطلق وجهاً واحداً، وهكذا حينما قال لها: إن شاء أبوك، إن شئتِ، إن شاء عمك، إن شاء خالك، وقد شاء ذلك الغير مضى الطلاق ونفذ، لأن الذي اشترطه بينه وبين الله: أن امرأته طالقة إن وجدت هذه المشيئة.

الحالة الثانية: أن لا تشاء الطلاق، تقول: لا ما أريد الطلاق، ولا أشاء الطلاق، أو لا أحب الطلاق، لا أرضى الطلاق، وتعذرت بأنها لا مشيئة لها بالطلاق، فحينئذٍ انتفى الشرط فلا يقع ما التزم به من طلاقها، وتبقى المرأة في عصمته، وهكذا لو قال لها: إذا شاءت أمك أو شاء أبوك، فذهبت وسألت أباها، وسألت أمها، فقالت أمها: لا أريد الطلاق، وقال أبوها: لا أريد الطلاق، فإنها لا تطلق.

إذاً: إذا أسندت المشيئة إلى شخص سواءً كانت الزوجة أو غيرها، فإنه إن شاء الطلاق وقع، وإن لم يشأ الطلاق لم يقع، هذا حكم إسناد الطلاق إلى مشيئة منفردة.

لكن في بعض الأحيان قد تدمج المشيئة إلى مشيئة آخر، فتركب المشيئة على المشيئة، مثلاً: يقول لها: أنت طالق إن شئتِ، فقالت: قد شئتُ إن شئتَ، قد تخشى من زوجها ولا تريد أن يكون الأمر إليها، فردت عليه وقالت: قد شئتُ إن شئتَ، أو تقول: قد شئتُ إن شاءت أمي، قد شئت إن شاء أبي، أو إن شاء أخي، أو إن شاء فلان، فإن قالت: قد شئتُ إن شاء أبي أو شاءت أمي، فأسندت مشيئتها إلى الغير فلا طلاق، ولو طلق ذلك الغير؛ لأنه فيما بينه وبين الله اشترط أن تكون لها مشيئة، فلما أسندت إلى الغير دل على أنها لا تشاء الطلاق لأنها لو شاءت الطلاق لقالت: شئتُ، وهو يقول: إن شئتِ، يعني: إن كان منك مشيئة وأردت الطلاق فأنت طالق.

قوله: [إذا طلقها بمشيئتها بإن أو بغيرها من الحروف لم تطلق حتى تشاء] :

لأنه اشترط فيما بينه وبين الله أنها طالق إن شاءت، ولم يقع ذلك الشرط فلا يقع المشروط.

الخلاف في زمن المشيئة للمرأة إذا علق الطلاق على مشيئتها

قوله: [ولو تراخى].

(لو) إشارة إلى خلاف مذهبي، بعض العلماء يقول: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شئتِ، أو إن شئتِ فأنت طالق، فلها أن تشاء الطلاق مباشرة، بلا تراخٍ، فلو تراخت فإنه لا مشيئة لها، مثلاً: لو قالت بعد ساعة أو بعد ساعتين أو بعد ثلاث ساعات: قد شئت الطلاق، فلا طلاق، يعني: لا بد أن يكون جوابها مباشرة، وهذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من أئمة السلف رحمهم الله، والجمهور أنه لا يشترط أن يكون جوابها على الفور، وأنه لو وقعت منها المشيئة ولو متراخية فإنه يقع الطلاق، ما لم يقيدها أو يرفعها.

هناك قول ثالث للحسن البصري وعطاء بن أبي رباح -رحمهما الله- يقولان: نعطيها مهلة مدة المجلس، فإذا قال لها: أنت طالق إن شئتِ، في مجلس، فإنه من حقها أن تطلق ويقع الطلاق إن أخبرت بمشيئتها في ذلك المجلس، فإن قامت عنه انقطع الإسناد ولا طلاق، والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور المصنف -رحمه الله- أنه لا يشترط الفور.

الحكم إذا أحالت المرأة مشيئتها على مشيئة الغير

قال رحمه الله: [فإن قالت: قد شئتُ إن شئت فشاء لم تطلق] :

إذا أسند الطلاق إلى فرد فإما أن يبت الطلاق، وإما أن لا يبت الطلاق، وإما أن يُسند للغير، هذه ثلاثة أحوال: أن يبت الطلاق فيقع، وأن لا يبت الطلاق فلا يقع، وأن يسند إلى الغير فلا يقع، على أصح قولي العلماء وهو مذهب الجمهور، وفي وجه ضعيف عند الشافعية -رحمهم الله- أشار الإمام النووي وغيره إلى ضعفه قالوا: إذا أسندت إلى الغير تنتقل مشيئتها إلى مشيئة الغير، ولكن هذا ضعيف؛ لأنه فيما بينه وبين الله شرط أن امرأته تطلق إذا وقعت منها المشيئة، فهي لما نفت أن عندها مشيئة للطلاق وأسندت للغير دل على أن قلبها خالٍ من المشيئة، وحينئذٍ لا طلاق.

تعلق الطلاق بمشيئة مشتركة

قال المصنف رحمه الله: [وإن قال: إن شئت وشاء أبوك أو زيدٌ، لم يقع حتى يشاءا معا، وإن شاء أحدهما فلا] :

هذا من التسلسل والترتيب المنطقي في الأحكام، يبين أول شيء: مشيئتها، وثانياً: إذا أسندت مشيئتها إلى الغير، وثالثاً: إذا وقعت المشيئة مشتركة، يعني: أن يقول لها: إن شئت وشاء فلان؛ لأننا قلنا: إما أن يسند لمشيئة الله أو مشيئة غيره، ومشيئة غيره إما أن تكون مفردة كأن يقول: إن شئتِ، ثم تأتي الصورة الأخرى أن تقول: قد شئتُ إن شاء فلان، قد شئتُ إن شئتَ، فهي مركبة لكنها مبنية على الصورة الأولى، والصورة الثانية: أن تكون مشتركة، فيسند المشيئة لأكثر من واحد فيقول لها: إن شئتِ وشاء أبوك، إن شئتِ وأبوك، إن شئتِ وأخوك، وهكذا، فإذا أسند المشيئة إلى اثنين أو ثلاثة، فللعلماء وجهان: أصحهما وهو مذهب الجمهور: أنه لا يقع الطلاق إلا إذا شاءا معاً، فتقول: قد شئتُ، ويقول الآخر: شئت، فإذا شاءا معاً فإنه حينئذٍ يقع الطلاق، وإن شاء أحدهما ولم يشأ الآخر فإنه لا يقع الطلاق، وهذا هو الصحيح؛ لأن الواو تقتضي الجمع والتشريك، فلما أسند المشيئة إلى شخصين فإنه لا يقع الحكم ولا يقع الذي اشترطه من الطلاق إلا بوقوع المشيئة من الاثنين معاً، فإذا وقعت من أحدهما فلا يعتد بمشيئة ذلك الواحد حتى تقع المشيئة منهما جميعاً على الوجه الذي اشترطه.

تعلق الطلاق بمشيئة الله

قال المصنف رحمه الله: [وأنت طالق وعبدي حرٌ إن شاء الله وقعا] :

أصل التقدير: أنتِ طالق إن شاء الله وعبدي حر إن شاء الله، وهذا النوع الثاني من الإسناد بالمشيئة وهي مشيئة الله عز وجل.

مشيئة الله عز وجل يختلف حكمها في الطلاق والعتاق والأيمان، يقول: أنتِ طالق إن شاء الله، أو: عبدي حر إن شاء الله، أو: والله لا آكل إن شاء الله، وهكذا.

هذه المسألة تعرف بمسألة الاستثناء بمشيئة الله عز وجل، ووجه ذلك: أنه يستثني الطلاق ويجعله معلقاً على وجود المشيئة، يقول: امرأتي طالق إن شاء الله، ففي هذه الحالة اختلف العلماء -رحمهم الله- هل يقع الطلاق أو لا يقع؟

فيها قولان مشهوران، لكن قبل أن نذكر القولين نُنبِّه على مسألة وهي أن من قال: إن شاء الله، لابد أن يكون قاصداً للتعليق، فينوي في قرارة قلبه أنه معلق لطلاقه على مشيئة الله عز وجل، فلا يأتي يقول: إن شاء الله، بلسانه هكذا بالعادة أو نحوها، إنما يقصد ذلك بقلبه، فمن العلماء من يقول: لابد أن تكون عنده نية بالمشيئة، من قبل أن يقول أنت طالق، وهذا عند من يرى أن المشيئة مؤثرة، فيقول: لو قال لها: أنت طالق، ثم طرأ عليه، أن يقيد بالمشيئة لم ينفعه؛ لأنه لما قال: أنت طالق، وقع الطلاق، فلا يصح بعد ذلك أن يقول: إلا أن يشاء الله، أو: إن شاء الله؛ لأن هذا نوع من التلاعب ونوع من إسقاط ما وجب، وما وجب لا يمكن إسقاطه؛ لأن الشرع جعل كل من يتلفظ بالطلاق يُلزم به حتى في حالة الهزل، فلو فُتح الباب للناس لتلاعبوا بالطلاق، فيطلق الرجل ثم يقول: إن شاء الله، ولهذا يشترط لمن قال: إن شاء الله، أن يكون قاصداً بنيته تعليق الطلاق على مشيئة الله عز وجل، ومحل هذا التعليق قبل أن يتلفظ بالطلاق، وقال بعض العلماء: يمكنه أن ينوي الاستثناء أثناء الجملة ما لم يتم جملة الطلاق، فلو قال لها: أنت، ثم تذكر أن يستثني، فقال: أنت طالق، إن شاء الله، أجزأه عند هؤلاء، حتى لو قال لها: أنت طا، وقبل أن يتم جملة طالق نوى في قرارة قلبه أن يقيد بمشيئة الله؛ أجزأه، أما إذا استتم الجملة ففيه خلاف عند من يقول بأن المشيئة تؤثر، فمنهم من يقول: إنه لا ينفعه ذلك؛ لأن الطلاق قد مضى، ومنهم من يقول: إنه ينفعه ذلك، وأعجب من هذا أن بعضهم يقول: له أن يستثني ولو بعد مدة طويلة شهر أو أشهر، وهذا قول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وبعض السلف، والذي عليه العمل عند من يقول بالاستثناء بالمشيئة: أن يكون في نيته أن يستثني قبل أن يستتم الجملة أو قبل أن يتكلم بها.

إذا ثبت هذا فللعلماء في هذه المسألة قولان:

القول الأول: يقع الطلاق إذا علقه بمشيئة الله عز وجل مطلقاً، فإذا قال: أنت طالق إن شاء الله، وقع عليه الطلاق ويؤاخذ به، وهذا القول قال به: قتادة وسعيد بن المسيب من أئمة التابعين، ويُروى عن عطاء بن أبي رباح وقال به الثوري والأوزاعي وهو مذهب المالكية، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليهم.

القول الثاني: أنه لا يقع طلاقه، وهو قول بعض أئمة السلف من التابعين وهو مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.

وهذا الخلاف إذا كان قوله: إن شاء الله، بقصد التعليق بخلاف ما لو قال: إن شاء الله، تبركاً بذكر الله عز وجل؛ لأن اسم الله مبارك فيقول: إن شاء الله أفعل، إن شاء الله أقول، ولا يقصد التعليق، ولا ينوي في قلبه التعليق، وكذلك مسبوق اللسان، مثل من عادته أن يقول: إن شاء الله، فلما قال: أنت طالق، قال: إن شاء الله، فجرى بها لسانه دون أن يكون قاصداً للتعليق بقلبه، وكذلك إذا قصد التحقيق، فيقول لها: أنت طالق إن شاء الله، تحقيقاً وإثباتاً للأمر، في هذه الصور كلها يقع الطلاق وجهاً واحداً عند العلماء، فمن قال: أنت طالق إن شاء الله، ولم ينو في نفسه التعليق وإنما قال: إن شاء الله، تبركاً بذكر اسم الله عز وجل، أو قاله تحقيقاً للوقوع كما يقول لك: آتيك إن شاء الله، بقصد التحقيق، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) أي: تحقيقاً للحوقه وموته عليه الصلاة والسلام؛ فهذا كله يقع فيه الطلاق؛ لأنه ليس بتعليق ولا في معنى التعليق.

استدل الذين قالوا بوقوع الطلاق بقولهم: إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فعندنا لفظان:

اللفظ الأول: قوله: أنت طالق، أو زوجتي طالق، أو امرأتي طالق.

واللفظ الثاني: قوله: إن شاء الله، الذي هو التعليق.

فوقع لفظ الطلاق المعتبر من الشخص المعتبر على الصفة التي لا يشك في وقوعه فيها، وعلق في الجملة الثانية على أمر لا يمكننا علمه، فلا نعلم هل شاء الله أو لم يشأ؟ قالوا: واليقين أنه مطلق، والتعليق نشك في تأثيره وبناءً على ذلك يُلزم بقوله، لأن الشريعة لم تفتح باب التلاعب في الطلاق أبداً، حتى أن الهازل إذا تلفظ به تؤاخذه، مع أنها قد عفت وسامحت في كثير من الأمور إلا هذا اللفظ، فما دام أنه قال: أنت طالق، والله في كتابه والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته كلاهما حكم بأن من طلق فإنه يلزم بطلاقه، فنلزمه بالطلاق، وهذا اللفظ معتبر من الشخص ولا يؤثر فيه التعليق؛ لأنه أُسند إلى ما لا يمكن علمه، فلما أسند إلى ما لا يمكن علمه فمعناه: أن التعليق غير مؤثر؛ لأنه ما ثبت أن الله لا يشاء طلاقه، فنبقى على الأصل ونؤاخذه بلفظه، فيقع عليه الطلاق.

وبعض أئمة السلف له وجه ثانٍ من الاستدلال على وقوع الطلاق: وهو ما يلي:

إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فنقول له: قد شاء الله طلاق امرأتك؛ لأنه أذن بالطلاق، فنعتبرها طالقاً، وهذا قول عطاء بن أبي رباح كان إذا سُئل عن هذه المسألة يقول له: (قد شاء الله طلاق امرأتك) لأنه أذن بالطلاق، فلما تلفظت به فإنه شاء تطليقها، وهو محكوم به شرعاً، فتلزم بطلاقها، ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان إذا سئل عن قول الرجل: أنت طالق إن شاء الله، قال: (من قال: أنت طالق إن شاء الله، فهي طالق)، ويروى عن أبي سعيد وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: (كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى التعليق -يعني: بالاستثناء بالمشيئة- في الطلاق والعتاق) أي: أنه لا يؤثر في الطلاق ولا يؤثر في العتق، ولذلك ذكره المصنف -رحمه الله- في قوله: أنت حر إن شاء الله، فلم ير تأثيره في الطلاق، ولم ير تأثيره في العتق، وقولهما رضي الله عنهما: (كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) أشبه بالإجماع، ولذلك قالوا: لم يحفظ لهم مخالف، وهو حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، يمضي عليه الطلاق.

واستدل أصحاب القول الثاني الذين ذهبوا إلى أنها لا تطلق، بقولهم: اليقين أنها امرأته، وهو علق الطلاق على مشيئة الله، ولم يثبت ما يدل على أن الله قد شاء طلاقها، قالوا: فلو علق الطلاق على مشيئة عبد لتوقفتم في الحكم عليه حتى ننظر هل يشاء أو لا يشاء؟ وهنا قد علق المشيئة على الله سبحانه وتعالى، وليس عندنا دليل يثبت أن الله قد شاء طلاقها، ومن هنا قالوا: لا تطلق عليه.

والقول بالوقوع من القوة بمكان؛ لأن أصحاب القول الثاني بنوا على القياس على من استثنى في اليمين، قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف فقال: إن شاء الله؛ لم يحنث) أخرجه الترمذي وحسنه، ومن العلماء من يقول: إنه صحيح لغيره، هذا الحديث يدل على أنه لو قال في اليمين: والله لا أفعل إن شاء الله، والله أفعل إن شاء الله، أنه لو لم يفعل أو فعل ما حلف على عدم فعله لم يحنث؛ لأنه علق على المشيئة، قالوا: والطلاق واليمين بابهما واحد، ولكن هذا ضعيف، فالطلاق يخالف اليمين، فإنه إذا قال: والله لا أفعل إن شاء الله، ولم يفعل، علمنا أن الله قد شاء أنه لا يفعل، وكذلك إذا قال: والله أفعل كذا إن شاء الله، فإنه إذا فعله فقد شاء الله عز وجل أن يفعله، ويمكننا العلم بمشيئة الله عز وجل، وبهذا فرق العلماء بينهما، وباب الطلاق من باب الإنشاء، وباب الإنشاء أضيق من أن يعلق، ولذلك إذا قال لامرأته: أنت طالق، فقد طلق، ثم قوله بعد ذلك: إن شاء الله لا يمكن علمه، والأصل مضي الطلاق على كل من تلفظ به، فنلزمه بالطلاق، فالقول بوقوعه من القوة بمكان.

وأحب أن أنبه على أنني في المسائل الخلافية إذا قلت: الراجح كذا، والذي يترجح في نظري كذا وكذا، فلا شك عندي على غالب ظني أنه الراجح، لكن إذا قلت: أقواهما وأولاهما بالصواب، فهذا لا يستلزم الترجيح من كل وجه، بل القول الثاني يكون له وجه، وله قوة؛ تمنع من البت بالراجح في هذه المسألة.

فمن قال من العلماء: إن الاستثناء بالمشيئة مؤثر فإنه لا يوقع الطلاق، ومن قال: إنه غير مؤثر فإنه يوقع الطلاق، وإذا قلنا: الاستثناء بالمشيئة مؤثر، فبعضهم يقول: لا يؤثر إلا إذا تلفظ به وأسمعه للغير، فيقول: زوجتي طالق إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله، بصوت يسمعه الغير، ومن أهل العلم من يقول: لو حرّك بها لسانه دون أن يُسمع الغير بل لم يسمع غير نفسه فإنه يجزئه، وهذا القول الثاني هو الأقوى، يعني: لو قلنا بتأثير الاستثناء بالمشيئة فإنه لابد وأن يتلفظ بذلك في الحكم والقضاء، ويجزئه أن يكون اللفظ بقدر يسمعه هو.

لكن لو قال أمام الناس: زوجتي طالق، وسمعه الناس يقول: زوجتي طالق؛ ثم قال: إن شاء الله، بصوت لم يسمعه إلا هو، ثم رفع عند القاضي، فإن القاضي يطلقها عليه قضاء، ولا تطلق عليه ديانة وفتوى، وهذا عند من يرى أن الاستثناء بالمشيئة مؤثر، لأن الذي سمعه الناس وقامت عليه البينة هو قوله: أنت طالق، فلو فتح الباب لتلاعب الناس، وأصبح كل رجل يقول لامرأته: أنت طالق، ثم يقول: استثنيت، وقلت: إن شاء الله، فمن قال: إن شاء الله، بصوت لم يسمعه إلا هو، فإنها تطلق عليه قضاءً، ولكنه بينه وبين الله يجزئه، ويؤثر ديانة، ولا يؤثر قضاءً وحكماً.

تعليق الطلاق على مشيئة الله مع شيء آخر

قال المصنف رحمه الله: [وإن دخلتِ الدار فأنت طالق إن شاء الله، طلقت إن دخلت] :

هنا تعليقان: تعليق الطلاق على الدخول، ثم تعليق وقوع الطلاق بالدخول على المشيئة.

لو علق الطلاق على مشيئة مخلوق؛ كأن يقول: أنت طالق إن دخلت الدار إن شاء فلان؛ ففي هذه الحالة ننتظر أمرين: دخولها الدار، ثم نسأل فلاناً الذي علق الطلاق على مشيئته: هل يشاء أو لا يشاء، إن دخلت دار أبي بدون إذني فأنت طالق إن شاء أبي، من باب أن يعاقبها، إن دخلت على أمي مرة ثانية أو آذيتِ أمي مرة ثانية فأنت طالق إن شاءت أمي، فحينئذٍ لا إشكال فننتظر الأذية وننتظر مشيئة الأم، ولا يمكن أن نحكم بوقوع الطلاق بمجرد وقوع الأذية، فنتقيد بالمشيئة، ولم يذكر المصنف هذه المسألة لظهورها، لكن ذكر التعليق بمشيئة الله عز وجل، فلو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله، عند من يرى أن (إن شاء الله) مؤثرة، فحينئذٍ لا يقع الطلاق؛ لأنه علقه على مشيئة الله عز وجل، والتعليق بمشيئة الله يسقط الطلاق، وأما على المذهب الذي اختاره المصنف -رحمه الله- وهو مذهب الإمام أحمد في الرواية التي اختارها أكثر من واحد من أصحابه رحمة الله عليهم: أنه إذا علق بالمشيئة فالمشيئة لا تؤثر، وبناءً على ذلك: إن دخلت الدار فإنه يُحكم بطلاقها، وما قال: نكفر كفارة يمين؛ لأن اليمين شيء، والطلاق شيء آخر، حتى ولو قصد منعها، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا كلام العلماء -رحمهم الله- فيها وأن جماهير السلف والخلف -رحمهم الله- على أنه إذا علق على الدخول أو الخروج ونحوها من الصفات كما حكاه ابن المنذر وغيره بالإجماع أنه إذا وقع هذا الذي علق الطلاق عليه وقع الطلاق.

فحينئذٍ نحكم بوقوع الطلاق إن دخلت في الدار، ولا ننتظر العلم بمشيئة الله؛ لأن هذا يتعذر، ويحكم بمضي الطلاق ونفوذه.

حكم قوله: (أنت طالق لرضا زيد)

قال المصنف رحمه الله: [وأنت طالق لرضا زيد أو لمشيئته طلقت في الحال] :

أنت طالق لرضا زيد أو لمشيئة زيد، أنت طالق لرضا أمي، أنت طالق لرضا أبي، أنت طالق لمشيئة أمي، أنت طالق لمشيئة أبي، اللام هنا إذا قصد بها التعليل فيقع الطلاق فوراً، يعني: طلقتك من أجل رضا أمي، أنت طالق لرضا أمي، يعني: من أجل أن أمي راضية بالطلاق، لكن إذا قصد باللام التعليق؛ فننتظر حتى يرضى من علق الطلاق عليه، ففرق بين المسألتين: اللام إذا قصد بها التعليل بأن قال: أنت طالق لرضا أمي، أي: طلقتك لأن أمي راضية بطلاقك، فحينئذٍ يمضي الطلاق، وإن قال: أنت طالق لرضا أمي، أي: إن رضيت أمي، فطلاقك معلق وموقوف حتى ترضى أمي، فإنه حينئذٍ نتوقف حتى ترضى أمه، وهكذا لو علقه على رضا غيرها أو مشيئته.

قال المصنف رحمه الله: [فإن قال: أردت الشرط قبل حكماً] :

(قبل حكماً) يعني: يُقبل حكماً، وإذا قبل حكماً قُبل ديانةً، والحكم هو القضاء، ومراده هنا: أنه لو رفع عند القاضي وأراد القاضي أن يحكم عليه فقال: أنت قلت: أنت طالق لرضا أمي، فقال: قصدت بقولي: لرضا أمي، أي: إن رضيت أمي، وأمي لم ترض، فالقاضي يقبل منه قوله، ويحكم بعدم وقوع الطلاق؛ لأنه في هذه الحالة جاء بلفظ محتمل، والقاعدة: (أن الألفاظ المحتملة لا يلزم المتكلم فيها بشيء حتى يبين مراده) ولا يمكن أن يلزمه بأحدهما ما دام أن اللفظ يحتمل الأمرين.

وقد شرع المصنف بالكلام عن تعليق الطلاق بمشيئة غير الله عز وجل.

فذكر تعليق الطلاق على مشيئة الزوجة، مثل أن يقول لها: إن شئتِ، أو إذا شئتِ، أو متى شئتِ، وهذا يسمى بالمشيئة المنفردة؛ لأنه أسند وعلق الطلاق على مشيئة شخص واحد، هو الزوجة: إذا شئتِ ومتى شئتِ وإن شئتِ، وإذا أسند الطلاق إلى مشيئة واحد فإما أن يسنده مقيداً وإما أن يسنده مطلقاً، مقيداً كأن يقول لها: إن شئت الآن، فيقصد في الحال، فيتقيد بالحال، أو إن شئت هذه الساعة، أو خلال ساعة، أو خلال هذا اليوم، أو خلال هذا الأسبوع، أو ما لم تغب الشمس، أو ما لم يطلع الفجر، فيقيد الطلاق بمشيئتها في هذه المدة، فلو أنها مضت عليها وانتهت، ولم تشأ الطلاق، فحينئذٍ لا يقع الطلاق إذا لم تشأ في هذه المدة المقيدة، أو قال: إن شئتِ ما دمت قائمةً، فيقيده بحال قيامها، فإن جلست انقطع الإسناد، والتمديد للطلاق كان معلقاً بالمشيئة حال قيامها.

والمشيئة: أمر متعلق بالقلب، وهو أمر غيبي خفي، لا يمكن أن نعلمه إلا إذا أخبرت به، وهكذا لو كان الذي علق الطلاق بمشيئته أجنبياً، فقال: إن شاء زيدٌ، أو متى شاء زيدٌ، أو إن شاء أبوك، أو شاءت أمك، في هذه الأحوال ننظر إلى مشيئة من ينفذ الطلاق، فلا يخلو إما أن يشاء الطلاق أو يشاء عدم الطلاق، فإذا شاء الطلاق فإنه يحكم بالطلاق، فلو قال لها: إن شئتِ، فقالت: قد شئتُ طلاقي، فإنها تطلق، أو قال لها: إن شاءت أمك، فذهبت إلى أمها فقالت الأم: أشاء الطلاق، وقع الطلاق؛ لأنه معلق على شيء يقع بوقوعه، وهو شرط بينه وبين الله عز وجل أنه إن وقعت هذه المشيئة فامرأته طالق، سواءً شاءت الزوجة أو أبوها أو أخوها أو أياً كان فمن علق الطلاق بمشيئته، ما دام أن هذا الشرط قد تحقق، وهو وجود المشيئة التي علق الطلاق على وجودها، فنحكم بالطلاق.

وتقدم معنا أن الصحابة كانوا يعتبرون التعليق، وأجمع أئمة السلف على اعتبار التعليق من حيث الجملة، فلو قال لها: إن طلعت الشمس أو إن غابت الشمس فأنت طالق، فإنها تطلق وجهاً واحداً، وهكذا حينما قال لها: إن شاء أبوك، إن شئتِ، إن شاء عمك، إن شاء خالك، وقد شاء ذلك الغير مضى الطلاق ونفذ، لأن الذي اشترطه بينه وبين الله: أن امرأته طالقة إن وجدت هذه المشيئة.

الحالة الثانية: أن لا تشاء الطلاق، تقول: لا ما أريد الطلاق، ولا أشاء الطلاق، أو لا أحب الطلاق، لا أرضى الطلاق، وتعذرت بأنها لا مشيئة لها بالطلاق، فحينئذٍ انتفى الشرط فلا يقع ما التزم به من طلاقها، وتبقى المرأة في عصمته، وهكذا لو قال لها: إذا شاءت أمك أو شاء أبوك، فذهبت وسألت أباها، وسألت أمها، فقالت أمها: لا أريد الطلاق، وقال أبوها: لا أريد الطلاق، فإنها لا تطلق.

إذاً: إذا أسندت المشيئة إلى شخص سواءً كانت الزوجة أو غيرها، فإنه إن شاء الطلاق وقع، وإن لم يشأ الطلاق لم يقع، هذا حكم إسناد الطلاق إلى مشيئة منفردة.

لكن في بعض الأحيان قد تدمج المشيئة إلى مشيئة آخر، فتركب المشيئة على المشيئة، مثلاً: يقول لها: أنت طالق إن شئتِ، فقالت: قد شئتُ إن شئتَ، قد تخشى من زوجها ولا تريد أن يكون الأمر إليها، فردت عليه وقالت: قد شئتُ إن شئتَ، أو تقول: قد شئتُ إن شاءت أمي، قد شئت إن شاء أبي، أو إن شاء أخي، أو إن شاء فلان، فإن قالت: قد شئتُ إن شاء أبي أو شاءت أمي، فأسندت مشيئتها إلى الغير فلا طلاق، ولو طلق ذلك الغير؛ لأنه فيما بينه وبين الله اشترط أن تكون لها مشيئة، فلما أسندت إلى الغير دل على أنها لا تشاء الطلاق لأنها لو شاءت الطلاق لقالت: شئتُ، وهو يقول: إن شئتِ، يعني: إن كان منك مشيئة وأردت الطلاق فأنت طالق.

قوله: [إذا طلقها بمشيئتها بإن أو بغيرها من الحروف لم تطلق حتى تشاء] :

لأنه اشترط فيما بينه وبين الله أنها طالق إن شاءت، ولم يقع ذلك الشرط فلا يقع المشروط.

قوله: [ولو تراخى].

(لو) إشارة إلى خلاف مذهبي، بعض العلماء يقول: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شئتِ، أو إن شئتِ فأنت طالق، فلها أن تشاء الطلاق مباشرة، بلا تراخٍ، فلو تراخت فإنه لا مشيئة لها، مثلاً: لو قالت بعد ساعة أو بعد ساعتين أو بعد ثلاث ساعات: قد شئت الطلاق، فلا طلاق، يعني: لا بد أن يكون جوابها مباشرة، وهذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من أئمة السلف رحمهم الله، والجمهور أنه لا يشترط أن يكون جوابها على الفور، وأنه لو وقعت منها المشيئة ولو متراخية فإنه يقع الطلاق، ما لم يقيدها أو يرفعها.

هناك قول ثالث للحسن البصري وعطاء بن أبي رباح -رحمهما الله- يقولان: نعطيها مهلة مدة المجلس، فإذا قال لها: أنت طالق إن شئتِ، في مجلس، فإنه من حقها أن تطلق ويقع الطلاق إن أخبرت بمشيئتها في ذلك المجلس، فإن قامت عنه انقطع الإسناد ولا طلاق، والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور المصنف -رحمه الله- أنه لا يشترط الفور.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع