تفسير سورة الحج [39-41]


الحلقة مفرغة

قال الله عزت قدرته: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39].

سبق هذه الآية قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، هذه الآية التي مضى ذكرها وبيانها فيها دفاع الله عن المؤمنين، فقد أذن الله لهم أن يقاتلوا وينتقموا لدينهم ولأنفسهم ولنبيهم، وأن يقاتلوا الذين ظلموهم وأخرجوهم بغير حق من ديارهم، وصدوهم عن سبيل الله وعن الإسلام، هذا من جملة دفاع الله عن المؤمنين، فأذن لهم، أي: أقرهم وأعلمهم بأن لهم الحق في الجهاد والكفاح والدفاع، فقد كانوا يعذبون في مكة المكرمة من قبل كفارها بأنواع من العذاب والصد والقتال، لماذا يسلمون؟ ولماذا يدعون إلى ترك عبادة الأصنام وكسر الأوثان، وعبادة الله وحده؟ فكانوا يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقاتلوا ويقاوموا ويحاربوا، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأذن لهم، وحكمة ذلك أن المسلمين كانوا قلة والمشركين بالآلاف، إذاً: تكون النتيجة قتل هؤلاء المستضعفين واستئصالهم.

ومن الحكمة أن يكون الإسلام قد انتشر بين القوم بالدليل والبرهان والحجة، فيكون قد تم ذلك دون حرب ولا قتال، لكي لا يقول عدو للإسلام يوماً: انتشر الإسلام بالسيف، ومع ذلك قالوا هذا، فالإسلام عاش في مكة في أيامه الأولى اثني عشر عاماً بالدليل العقلي والبرهان العملي على أن الإسلام حق جاء من عند الله، وأن محمداً كان رسولاً نبياً، وأنه أرسل للناس كافة صلوات الله وسلامه عليه، ولكن عندما بالغ كفار مكة في الحرب والمقاومة والصد عن سبيل الله، وأصبح للمسلمين موطئ قدم في المدينة، إذ أصبحت المدينة دار إسلام، أذن الله للمسلمين، وقد أصبحوا جماعة لا بأس بها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة)، فقد بلغوا هذا العدد؛ لذلك فإن الحرب والقتال واجب، فهذه الآية أول آية نزلت في القتال والدفاع وفي حرب أعداء الله ورسوله، أذن لهم لأول مرة، وكانت تلك رغبتهم وأمنيتهم، فقد كانوا يلحون على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ليأذن لهم في قتال هؤلاء الكفرة الظالمين.

وبعد هذا أصبح القتال فرضاً واجباً كفائياً على المسلمين في جميع مشارق الأرض ومغاربها، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولكنهم منذ سنوات أوقفوا هذه الشعيرة، وأوقفوا هذه العز، فأصبح جهادهم إما لدفاع عن وطن، أو دفاع عن قوم، أو دفاع عن مثل ومعان ما أنزل الله بها من سلطان.

وأما الجهاد لرفعة الإسلام، ولإعلاء كلمة المسلمين، وللدفاع عن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان فقد ترك هذا، وما تركه مسلمون إلا وذلوا، وقد تم هذا وحدث، ولن يرفع الذل ما لم يعد المسلمون للجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته، وللدفاع عن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، والمسلمون اليوم يقاتلون في كل رقعة من رقاع الأرض ويخذلون، ولا يجدون مدافعاً عنهم لا بمال ولا بأرواح ولا بكلمة صارخة تعلن بين الأعداء والخصوم في مجالسهم الدولية العامة، وقديماً قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما حورب قوم في عقر دارهم إلا وذلوا).

فقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39] أي: أذن الله جل جلاله وأقر ووافق وأعلم نبيه ليعلم المسلمين أنهم قد ظلموا بإخراجهم من ديارهم وبقتالهم ظلماً وعدواناً، قوتلوا لا لذنب قدموه، ولا لجريمة سلفت منهم، وإنما قوتلوا وأخرجوا من ديارهم؛ لأنهم قالوا: ربنا الله.

إذاً: فالقتال شرع يوم أن نزلت فيه أول آية في هذه السورة الكريمة سورة الحج، وكانت دفاعاً لإزالة الظلم ودفاعاً عن الأوطان والعقائد، وقد أجبر هؤلاء المؤمنون على الخروج كما أجبر النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه بعد تقتيل وحرب وتعذيب واضطهاد، وبعد مؤامرة متواصلة متصلة لتصفية الإسلام والتخلص من نبينا صلوات الله وسلامه عليه.

عند ذلك أذن الله له بالهجرة وللمؤمنين معه، وكانوا قبل ذلك بين مخف إسلامه في دار الأرقم، وبين مهاجر إلى أرض الحبشة، وبين معذب إلى أن قتلت سمية أم عمار وزوج ياسر ؛ لأنها قالت: ربي الله، وقالت: إن محمداً رسول الله، قتلها الظالم اللعين أبو جهل ، وقد لعنه الله وقتله شر قتلة في غزوة بدر، مع أمثاله من الظالمين الكافرين أعداء الله والإسلام.

فالله أذن للمسلمين في أول آية بالقتال بأنهم ظلموا واضطهدوا، وحوربوا ظلماً وعدواناً، وما أوذوا وحوربوا إلا لأن الله هداهم للإسلام وأمرهم به، وأرسل لهم نبياً من أنفسهم، يعرفون أبوته وأمومته، ويعرفون أرضه وعشيرته صلى الله عليه وسلم، آمنوا به امتثالاً لأمر الله، وعملوا بدينه امتثالاً لطاعة الله، وامتثالاً لرسوله الذين صدقوه بما أتى به من معجزات باهرات، وأدلة واضحات.

قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39] أقسم الله جل جلاله وأكد القسم باللام الموطئة للقسم، وبـ (إن) المؤكدة، بأنه سينصرهم، وأنه قادر على نصرهم، وأن الكفار الظالمين أذل من أن يغلبوا جند الله المؤمن، أو أن يقهروا رسل الله وأنبياءه، وقد فعل الله فنصر محمداً صلى الله عليه وسلم، ونصر دينه ونصر المسلمين، وشكراً لله تعالى على نعمائه وآلائه.

قال تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الحج:40] وهذا هو السبب الثاني للإذن بالقتال، فهم ظلموا في حربهم وفي العدوان عليهم، ثم ظلموا بإخراجهم من ديارهم، مساقط رءوسهم وبلدة آبائهم وأجدادهم، وبلدة نبيهم التي فيها ولد، وعليه فيها نزل الوحي صلى الله عليه وسلم، أخرجوهم من أرضهم من بين عشيرتهم وأولادهم وأرزاقهم، تركوا مكة مضطرين مقهورين على ذلك، إلى يثرب، فطابت يثرب بالهجرة النبوية فأصبحت طابة وطيبة، وأصبحت المدينة المنورة بالإسلام وبالدفاع عنه، وبكونها مأوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودار هجرته، وبكونها أصبحت دار الإسلام، وقاعدة لحرب أعداء الله في داخل جزيرة العرب وخارجها.

قوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا [الحج:40]، بدل من الذين في قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39]، والَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ [الحج:40] هم محمد سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، والمهاجرون ممن آمنوا به في مكة وهاجروا معه، ومن هاجر قبلهم إلى أرض الحبشة، فقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:40] أي: لأن ذنبهم وجريرتهم كونهم خرجوا عن دين هؤلاء المشركين من الشرك بالله، وعبادة الأوثان والأصنام وظلم المسكين، وأكل مال الفقير، فجريمة هؤلاء هي من النوع التي يقال فيها: عذر أقبح من ذنب.

رمتني بدائها ثم انسلت

فهؤلاء اعتبروا دين الله وتوحيد الله، وعبادة الله جريمة استحق عندهم من قام بها أن يضطهد، وأن يجرم، وأن يخرج من داره، وأن يقاتل بأنواع القتال.

وقوله: إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:40] استنثاء منقطع، أي: كانت جريمتهم أنهم قالوا ربنا الله، لا عيسى ولا مريم ولا عزير ولا العجل، ولا مناة ولا هبل من الأصنام التي لا تنفع نفسها ولا تضر فضلاً عن أن تنفع عابديها دون الله، فكان القتال قد أذن به لثلاث معان: أذن به لرفع الظلم، وأذن به للخروج من الأوطان، وأذن به للدفاع عن لا إله إلا الله وعن الإسلام والمسلمين، وعندما اجتمعت هذه المثل الثلاثة العليا أذن الله بالقتال والدفاع والجهاد، فقاتلوا وجاهدوا، وكانت الحرب يوماً لهم ويوماً عليهم، وكانت العاقبة للمتقين المؤمنين، ونصر الله عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، كما كان النشيد النبوي عند فتح مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم على رءوس المجاهدين المسلمين ينشد هذا النشيد مطأطئ الرأس؛ شكراً لله، وعبادة وخضوعاً له.

قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [الحج:40].

وهكذا أذن الله بالقتال للأمم السابقة؛ دفاعاً عن المعبد، ودفاعاً عن الدين، ودفاعاً عن العقيدة، أذن لهم بالقتال فجاهدوا بهذه المعاني؛ رفعاً للظلم، ودفاعاً عن الأوطان والعقائد، وكان هذا في معابد الأديان السابقة، وكان كذلك عند الصابئين، وهو ما عبر الله عن معابدهم في ذلك.

والصوامع: هنا جمع صومعة، وهي معبد الصابئين في أيامهم.

قوله: وَبِيَعٌ [الحج:40] هي معابد اليهود في أيامهم.

وقوله: وَصَلَوَاتٌ [الحج:40] أي: الكنائس، وهي معابد النصارى في أيامهم.

والمساجد معابد المسلمين.

فمضمون هذه الآية كما فهم جمهور المفسرين أن الله قد أذن في سابق الأزمان والأيام للرسل وأتباعهم أن يجاهدوا ويقاتلوا الكفار والمشركين؛ دفاعاً عن العبادة والمعبد، والله ما خلق العباد إلا لعبادته، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فلولا أن الله دافع عن المؤمنين بجهادهم للكافرين حتى قتلوا وذلوا ولقوا مصارعهم، وانتصر الإسلام، وحفظت دور العبادة من صلوات وبيع وصوامع ومساجد، لهدمت هذه المعابد كلها،ولانتصر الشرك، ولم يبق في أرض الله شبر لعبادة مؤمن موحد يقول: ربي الله، وله أسجد وأركع، وله محياي ومماتي إلى يوم الدين.

فالجهاد شرعه الله لنصر الإسلام والمسلمين، كما جاهد السابقون دفاعاً عن معابدهم، وكما جاهد الصابئون دفاعاً عن صلواتهم ومعابدهم، وكما قاتل اليهود في أيامهم دفاعاً عن بيعهم، وكما قاتل النصارى في أيامهم دفاعاً عن كنائسهم وصلواتهم، وكما دافع ويدافع ويجب أن يستمر ذلك ويستبسل المسلمون في الدفاع عن مساجدهم؛ لتبقى كلمة الله هي العليا.

قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أحدنا ليقاتل للغنيمة، أو دفاعاً عن القوم، أو يقاتل عن الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).

والشهادة: هي حضور الملائكة وشهودهم الذي يموت ويستشهد في المعركة إعلاءً لكلمة الله، فالشهيد بذل حياته رخيصة لله لا يرجو من عبد جزاء ولا شكوراً، إنما يرجو ذلك من الله الذي قتل من أجله وانكساراً لأمره.

وقال قوم: إن تفسير الآية هو أن الأرض لا تزال فيها بعض أديان أهل الكتاب، وإن كانت قد حرفت وبدلت، ولكنهم مع ذلك لا يزالون يزعمون أنهم يعبدون الله، وإن كانوا قد أشركوا به، فقد أشرك النصارى بالله بـمريم وعيسى، وأشرك به اليهود عزيراً والعجل، وأشركوا جميعاً حين قالوا عن الله: أبونا في السماء، قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة:18].

قكل ذلك من الشرك الذي لم يأذن به الله، وكل ذلك من التبديل والتغيير والتحريف للزبور والتوراة والإنجيل، وما أمروا جميعاً إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا شريك له.

وبعد البعثة المحمدية نسخت تلك الأديان التي قد بدلت وغيرت، فلا يقبل الله إلا الإسلام والإيمان بخاتم الأنبياء رسولاً للناس كافة.

وهكذا بعد أن أرسل الله جل جلاله الرسول الخاتم لكل من في الأرض مشارقها ومغاربها، لم يقبل إلا دينه، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً مستمراً إلى يوم البعث، ومن ذكرهم الله من أنبياء نؤمن بهم أنهم أرسلوا لأقوامهم، ولم يكن أحد منهم نبياً للبشر كلهم إلا محمد العربي القرشي صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فلن يقبل من أحد ديناً بعد البعثة المحمدية إلا الإيمان بكتاب الله القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والإيمان بالمرسل إليه نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فلولا أن الناس مؤمنون وكافرون، يقاتل المؤمنون الكافرين رفعة للإسلام وإعلاء لكلمة الله، لانتهت الأديان وهدمت المعابد، ولم يبق في الأرض رقعة يقول فيها إنسان: ربي الله.

وقد شرع الجهاد للمسلمين فقال: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36] فأمرنا بجهاد الكفر بكل أشكاله وألوانه يهوداً ونصارى ومنافقين وملاحدة ومجوساً، وإنما المؤمنون فقط إخوة، وليست دار الإسلام إلا الأرض التي يسكنها المسلمون ويحكمونها، وتكون فيها راية الإسلام خفاقة، وأحكام الإسلام قائمة، وما سوى ذلك فهي دار كفر وشرك وتعطيل للدين الحق، يجب قتالها وقتال أهلها، حتى تكون كلمة الله هي العليا.

قال تعالى: يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [الحج:40] يذكر اسم الله صلاة، ويذكر اسم الله ذكراً، ويذكر اسم الله تذكيراً واعتباراً، ويذكر اسم الله بتلاوة كتابه، وبذكر آلائه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حضراً وسفراً، ليلاً ونهاراً، وقد اعترى الناس في هذا العصر فسوق وكفر وعصيان، ومع ذلك لن تجد رقعة في الأرض حتى في أراضي أهل الكفر إلا وفيها مساجد ومآذن تعلن بشعار الإسلام: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتعلن فيها الصلاة قياماً وركوعاً وسجوداً، بحيث لم تخل الأرض منذ البعثة المحمدية إلى يومنا وإلى يوم البعث والنشور من قوم يعلنون ويرفعون أصواتهم عالياً بشعار الإسلام، وبتوحيد الله، وبالشهادة لمحمد نبياً ورسولاً للناس كافة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم وهم على ذلك إلى قيام الساعة).

قال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40] هذا قسم من جل جلاله، ودل على القسم لام القسم، أو اللام التي يقال لها كما في لغة العرب: موطئة للقسم، أي: المهيئة للدخول في القسم.

والمعنى: يقسم الله بذاته العلية أنه لينصرن، ويؤكد ذلك بنون التوكيد المثقلة، فمن ينصر الله ينصره الله.

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40] إن الله جل جلاله قوي على نصرة المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، فالناصرون لله ينصرهم الله، وهو عزيز لا يرام جنابه، وهو الذي لا يغالب، ومن تأله عليه صرعه وأهلكه وقهره، ومن يتأله على الله يكذبه كما قال الله صلى الله عليه وسلم، وأبدل الله هذه الجملة: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40] بقوله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41].

قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].

هؤلاء هم الذين ينصرون الله، لا كل مدع للإسلام وهو على فراشه يتمرغ في رفاهيته مع نسائه ومطاعمه، ويقول: هذا الذي علي، وليطف الطوفان على كل المسلمين مادمت أنا مسلماً، فهو قد أدى الواجب عليه، هكذا يزعم.

وعرض الله بهؤلاء الذين ينصرونه أنهم هم الذين إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة، فقوله: (مكناهم في الأرض) أي: نصرناهم، وجعلنا لهم دولاً مستقلة يحكمونها بالأمر والنهي، والقتل والإحياء بإذن الله، فهؤلاء المسلمون الذين إذا مكنهم الله في الأرض حكاماً أو علماء أو أمماً وشعوباً إسلاميه يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.

فهم إذا تمكنوا حكموا بإقامة الصلاة وإعلانها، وتشييد مساجدها، ونشر دينه وتعليمه: من رياض الأطفال، إلى الجامعات، إلى التخصص، فهؤلاء الذين إذا مكنوا في الأرض دولاً وملوكاً وحكاماً ورؤساء يؤتون الزكاة ويأمرون رعاياهم بأدائها، هؤلاء الممكنون في الأرض يأمرون بالمعروف كما عرفه الله في كتابه ورسوله في سنته، وينكرون المنكر كما أنكره الله في كتابه وأنكره رسوله في سنته، هؤلاء الذين إن فعلو ذلك كانوا قد نصروا الله حقاً بأن نصروا دينه ونصروا نبيه ونصروا كتابه.

فهؤلاء الذين أقسم الله لهم وعليهم بأنهم إن فعلو ذلك لينصرنهم على أعداء الأرض كلها مشارقها ومغاربها، يهوداً ونصارى، ملاحدة وكفاراً ومنافقين، في داخل المجتمع الإسلامي وخارجه، العدو المكشوف الذي نعلمه جميعاً، والعدو الخفي المنافق الذي لا يكاد يعرف إلا بفلتات لسانه وفلتات قلمه، ونظراته الشزراء في عينيه للمؤمنين وشعائرهم ومناسكهم.

وهنا نتساءل ويسأل الكثيرون: لماذا لم ينصر الله المسلمين؟ ولماذا سلط عليهم اليهود وهم أحقر الأمم والشعوب وأذلهم؟ فقد سجل الله عليهم أبد الآباد اللعنة والخزي إلى يوم القيامة، وجعلهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167]، وكلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14].

فهل نحن حقاً مسلمون؟ وهل دولنا ومجتمعاتنا حكموا القرآن، وحكموا السنة، وجعلوا أحكامها مطبقة في مكاسبهم وأحكامهم وإداراتهم؟ أصحيح أنهم دعوا إلى الصلاة في أنفسهم، وأمروا الناس بها؟ أصحيح أنهم نشروا الإسلام تعليماً من رياض الأطفال إلى التخرج من الجامعات وإلى ما هو أعلى من الجامعات؛ إلى التخصص العلمي في كل فن من الفنون؟

هذا العالم الإسلامي بين أنظارنا وأسماعنا قد تركوا كتاب الله لتحكيم قوانين الكفر يهوداً ونصارى، وأخرجوا المرأة عارية في الشوارع لا حياء ولا خجل ولا دين ولا مروءة؟ ألم يحكموا حضارة الكفر من فسق ودعارة وسعي وراء الشيطان في كل ما يعمل؟ ألم يتبعوا اليهود والنصارى في كل ما يعجبهم ويسرهم ويقر أعينهم؟

وكلنا نعلم أنهم لم ينصروا الإسلام، ولم يقاتلوا من أجل ذلك، إلا من رحم ربك وقليل ما هم.

لتبقى حكمة الله البالغة: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم وهم على ذلك إلى قيام الساعة).

إذاً: كيف نطلب نحن المسلمين نصرة الله، ونقول قد قال الله تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]؟ هل نحن مؤمنون حقاً؟ هل نشرنا دين الله حقاً؟ هل دافعنا عن دين الله حقاً؟

إذاً: فالله قال ذلك واشترط، والشرط الذي اشترطه أنه إذا مكن لنا في الأرض وحكمنا أمماً وشعوباً أن نحكم بدينه.

قوله: وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].

لله عاقبتا، وإليه معادنا، وستكون حياة بعد هذه الحياة الدنيوية الفانية سنعرض على ربنا للحساب، فمن قام وفعل ما أمر الله به فإلى رحمة الله وجنته، ومن قصر وزعم الإسلام ولم ينصر دينه، ولم يقاتل عن المسلمين ولم يأمر بمعروف ولم ينه عن منكر، ولم يقم صلاته، ولم يؤد زكاته، هؤلاء سيكون حسابهم على الله عسيراً، فإن سلموا بالشهادة وماتوا عليها يرج لهم العفو والخروج من النار، وإن ماتوا على الكفر والشرك فخلود في عذاب الله، قال جل جلاله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].

لقد حكم الله على من أضاع حكمه وأحكامه في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه ظالم وفاسق وكافر في حكمه، ومع ذلك يزعم ديناً وإسلاماً، وإن رفع سيفاً زعم أنه رفعه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلله عاقبتنا ومعادنا وحسابنا، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، إما إلى جنة وإما إلى نار.


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة الحج [1-4] 2558 استماع
تفسير سورة الحج [8-16] 2152 استماع
تفسير سورة الحج [23-25] 1990 استماع
تفسير سورة الحج [58-60] 1889 استماع
تفسير سورة الحج [27-28] 1865 استماع
تفسير سورة الحج [61-63] 1849 استماع
تفسير سورة الحج [32-35] 1646 استماع
تفسير سورة الحج [26-28] 1626 استماع
تفسير سورة الحج [66-72] 1566 استماع
تفسير سورة الحج [73-78] 1523 استماع