خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
تفسير سورة الحج [1-4]
الحلقة مفرغة
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1] .
نحن الآن في سورة الحج، وهي في النصف الثاني من الجزء السابع عشر، وسورة الحج فيها ثمان وسبعون آية، ووضعها عجيب، فهي مكية مدنية، أي: نزل بعضها في مكة ونزل بعضها في المدينة، وهي حضرية سفرية، أي: نزل بعضها في الحضر والنبي عليه الصلاة والسلام مقيم، وبعضها نزل والنبي عليه الصلاة والسلام مسافر ومتنقل بين مكة والمدينة، وفيها الناسخ والمنسوخ، وفيها المحكم والمتشابه.
وهذه السورة تمتاز عن بقية السور الأخرى بأن فيها سجدتين، وهي تشتمل على أكثر أحكام الحج، وهو الركن الخامس من الأركان الخمسة في دين الإسلام.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الحج:1] النداء هنا يعم كل إنسان من سلالة آدم وحواء، وقوله: اتَّقُوا رَبَّكُمْ معناه: اجعلوا بينكم وبينه وقاية؛ لتنقذوا من غضبه، وتنقذوا من عذابه. والتقوى: هي فعل الأوامر قدر الاستطاعة، وترك النواهي البتة.
قوله: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]:
الزلزلة: هي الاهتزاز والاضطراب والقلق النفسي، فالفتن يتبع بعضها بعضاً حتى تزلزل النفس وتزلزل الأرض، ويكاد يضيع الإنسان عن نفسه.
إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ [الحج:1] أي: هول الساعة، وقيام الساعة.
قوله: شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1] عظيم بخطره، عظيم بزلزلته، عظيم ببلائه، عظيم بهزة النفس التي تكاد تفقد كل شيء ذهولاً وغفلة، وتكاد تنسى نفسها وكل ما يتعلق بها، فهذه الزلزلة شيء عظيم فظيع كبير لا تكاد النفس تتصوره، ولا تقوم له.
وقد قال تعالى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214]، فقد زلزل المؤمنون وقت البعثة النبوية بكثرة البلاء، وكثرة الاضطهاد، وكثرة التآمر من أعداء الإسلام، فتزلزلت نفوسهم وقلقت خواطرهم، وأخذوا يتحدثون بما لو نطقوا به لكان كفراً، فقد أجاب الله بعد ذلك: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
وزلزلة الساعة يحتمل أنها ما ذكرناه، ويحتمل أنها الزلزلة التي تكون من علامات الساعة الكبرى قبل قيام الساعة عند النفخ في الصور، وقد تكون في قيام الساعة، وقد تكون يوم العرض على الله.
والآية تدل على هذا وذاك، والأحاديث المفسرة تدل على هذا وذاك، ومعنى هذا: أن الزلزلة تكون عند آخر العلامات الكبرى بعد خروج يأجوج ومأجوج الذين يزيد الفساد انتشاراً عند خروجهم، ويهلكون الحرث والنسل، ولا يكون بعدهم إلا الساعة تقوم وهي كالحمل المسن لا يدري أهلها متى تفجأهم بالولادة والوضع أليلاً أم نهاراً؟ أصيفاً أم شتاءً؟
ويتبع ذلك من الأهوال العظام ومن البلابل والفتن ما لا تكاد النفس البشرية تتحملها مهما تحملت، ولكن مع ذلك لا بد من حملها كرهاً أو رضاء.
والله ينذر الناس منذ أن أنزل هذه الآية، ومنذ أن أرسل نبينا صلوات الله عليه وسلم رسولاً للبشر كلهم، بأن الساعة قريبة، وأن الساعة آتية، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو من علامات قربها الأولى، ولذلك يدعو كل الناس إلى أن يجددوا التوبة ويجددوا التقوى، حتى إذا قامت القيامة قامت وهم مؤمنون، موحدون، تائبون لربهم ومنيبون.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ [الحج:1] أي: إن قلاقلها، وإن اهتزازها للنفس وللعقل والبدن، وإن هولها لشيء عظيم لا يكاد يوصف ولكن يوصف ما يحدث معها.
قال تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2] .
يصف الله جل جلاله بعض أهوالها وعظائمها وزلازلها، وأن الإنسان يوم يراها، أي: يرى الزلزلة أو يرى الساعة ويعيش في واقعها ويكون معها فإنه: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الحج:2] .
فيوم يراها الناس يقع ذهول للمرضعة، ويقع فيها ضياع عن نفسها، حتى إنها تترك الرضيع الذي ترضعه، فهي غافلة عنه، ناسية له، وليس هذه هي العادة بالنسبة للمرضع، ولكن الذهول الذي تكون فيه يشبه الجنون، ويشبه ضياع العقل، حتى تنسى نفسها وتنسى رضاعها، وتنسى رضيعها، وتنسى أحب الناس إليها وأعزهم فتتركه ذاهلة ضائعة تائهة.
يقال: مرضعة إذا كانت ترضع في الحين، ولها ولد ترضعه، ويقال: مرضع إذا كانت ذات ولد وهي ترضعه ولكن ليس بالضروري أن تكون في تلك الساعة ترضعه.
قال تعالى: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا [الحج:2]، والحامل كذلك تجهض، وتضع حملها قبل وقته وقبل وصوله للشهر التاسع؛ لهول ما هي فيه من زلزلة الساعة وشدتها وعظم ألمها ووجعها وذهولها.
وهذان الوصفان: أن المرضعة تذهل عن رضيعها، وأن الحامل تسقط حملها وتجهضه يدلان على أن هذا الزلزال في الدنيا عند قيام الساعة وليست في وقت الساعة؛ لأن يوم القيامة لا ولادة ولا رضاعة ولا حمل.
وقد يكون المعنى شاملاً، فتكون الزلازل والأهوال العظيمة الشديدة عند قيام الساعة، وبطبيعة الحال تتصل إلى قيام الساعة، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عبس:34] إلى آخر ما يصف ربنا من الهول ومن الشدة ومن الزلازل وعظمتها وقوتها على النفس.
وفي الأحاديث الثابتة عن نبي الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله يقول لآدم: خذ بعث النار إلى النار، قال: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون) .
وقد نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في حروب اليهود: بني قريظة وبني النضير، وقد نزلت ليلاً فأصبح فتلاها على المؤمنين، وإذا بهم يبكون في ذهول وكأنهم يعيشون وقت الزلزلة ووقت القيامة، حتى إنهم كفئوا القدور وامتنعوا عن الأكل ولم يجدوا شهية لشيء من أمور الدنيا، فسأل سائل منهم: (ومن عسى أن يكون هذا الواحد يا رسول الله؟ قال: أبشروا فإن منكم واحداً، ومن يأجوج ومأجوج ألف، والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبر الصحابة فرحين، ثم أعاد فقال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فأعادوا فكبروا فرحاً وسروراً، ثم أعاد فقال: وإني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة).
وفي رواية: (ثلثي أهل الجنة، فكبر المؤمنون وقرت نفوسهم فرحاً بوعد الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد فقال: إنكم بين الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، وإني لأرجو أن يدخل منكم الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، فاستقل هذا العدد
قال تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى [الحج:2] أي: لم يشربوا خمراً، وليس الوقت وقت شراب ولكنه كما قال تعالى: وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، ولكن العذاب شديد حيث الزلزلة العظيمة الشديدة، فتذهل من أجلها المرضعات، وتجهض الحوامل، وترى العقلاء من الناس وكأنهم سكارى وليسوا بسكارى وما شربوا قط، وإنما هو الذهول، وإنما هو الضياع، وإنما هي الشدة والألم من هذه الزلازل عند قيام الساعة.
قال تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، فالله جل جلاله يعلن هذا للناس وقت البعثة النبوية، ووقت نزول هذه الآية الكريمة ويدعو كل الناس إلى التقوى، وإلى عبادة الله، وإلى ترك الشرك، وإلى ترك المخالفة والمعاصي، فإذا عاشوا وعاصروا هذه الزلازل عند قيام الساعة كانوا على تقىً، وكانوا على توحيد، وكانوا على دين، ومن مات كذلك يحفظه الله جل جلاله من الكثير من الزلازل ومن البلايا والمحن نتيجة توحيده وإيمانه.
قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج:4].
يقول الله عن بعض المشركين، وعن بعض اللسنين المجادلين، وهم مع كفرهم ومع ردتهم ومع شركهم فيهم عناد وجدال للحق بالباطل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الحج:3] .
وكان سبب نزول هذه الآية ما قاله النضر بن الحارث وهو يلف المشركين حول رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو جالس عند الكعبة الشريفة، يقول لهم: هذا الذي يقوله محمد أنا أقول مثله، لقد سافرت ورأيت بلاد الروم وبلاد الفرس وأستطيع أن أقص عليكم أساطير الأولين كما يقصها محمد، فهو يجادل بالباطل، ويجادل بغير علم، فلم يحاج ويبرهن ويستدل ويبحث عن الحق بدلائل المعقول والمنقول، وبالدلائل التي يقبلها العقل السليم، وبالأدلة التي نزلت وحياً عن الله جل جلاله على رسله وعلى خاتم النبيين عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، فالآية قد نزلت من أجل النضر، هذا وقد لقي جزاءه وقتل مع عقبة بن أبي معيط يوم بدر؛ يوم الفرقان، يوم نصر الله لنبيه وللمسلمين، وهذه صفة كل مشرك مضى أو سيأتي.
وكثيراً ما نجالس بعض هؤلاء المشركين وبعض المرتدين ممن كان يوماً مسلماً، فيجادل بالباطل في كتاب الله وهو يجهل منه أي كلمة وأية آية، ويجادل في دين الله وهو لا يعلم عنه نقيراً ولا قطميراً.
قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الحج:3] وما أكثرهم، فهو يجادل في الله بغير علم وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [الحج:3] فإمامه الشيطان، ومصدر تلقيه هو الشيطان ووسوسته وأضاليله، ويتبع كل شيطان من الإنس والجن من أئمة الباطل ومن أئمة الشرك، ومن أئمة الفساد في الأرض، فتراه يتبع كل ناعق، وتراه مع كل شيطان مارد.
قال تعالى: وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [الحج:3] أي: متمرد، وفعيل: صيغة مبالغة، أي: شديد التمرد على الله، وشديد الإصرار والتمسك بالشرك والعناد والمخالفة للسنة ولكتاب الله الكريم: وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [الحج:3].
قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ [الحج:4] أي: قدر عليه، أي: قدر على الشيطان في الأزل منذ تعاظم على ربه وتكبر على السجود لآدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، وأبى أن يسجد له متعاظماً متكبراً مخالفاً لأمر الله، وأول ما عصي الله بالكبر، وما تعالى إنسان على الله إلا وقصمه وأماته بالذل والهوان حتى كأنه البعوض.
قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ [الحج:4] أي: كتب على الشيطان أن من تولاه، أي: من جعله ولياً، وجعله إماماً، وجعله متبوعاً، وجعله يوحي إليه بكفره وشركه.
قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج:4] فمن تولاه واتبع قوله، واتبع وساوسه كانت نتيجته أنه يضل ويشرك ويتمرد تمرد الشيطان.
قال تعالى: وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج:4] أي: إلى أشد أنواع العذاب والحريق بحيث تتسعر به جهنم كأنه وقودها، وكأنه الحجر أو الحطب الذي به اشتعلت النار وتسعرت واشتد حريقها. وهداية الشيطان ليست إلى النور، ولا إلى الحق، ولا إلى التوحيد، ولكن إلى عذاب السعير، إلى جهنم وبئس المصير، إلى لعنة الله وغضبه، فلا يقوده ولا يهديه إلا إلى الشرك والكفر والضلال.