خطب ومحاضرات
تفسير سورة الحج [61-63]
الحلقة مفرغة
ثم قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:61].
(ذلك) أي: ومن قدرة الله ومن أحكامه وأوامره أنه جل جلاله: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [الحج:61] هذا في قارات الأرض طبيعي إلا ما شذ منها كالقطب الشمالي المتجمد، فإن النهار فيه أربع وعشرون ساعة، وعندما يقول الله لنا: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ [الحج:61] يصبح الليل في ليالي الشتاء قصيراً، ويصبح الليل في الشتاء طويلاً ويصبح النهار قصيرً، وتم ذلك بإدخال وإيلاج الليل في النهار، نقص من الليل وزاده في النهار وأدخله، واليوم الطبيعي اثنا عشر ساعة، والليل مثله، وقد يزيد الليل عن أربع عشرة ساعة، وقد يصل إلى سبع عشرة ساعة، ويعكس في الصيف.
وقوله سبحانه: (يولج) معناه: يدخل، فيدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل، فينقص من النهار صيفاً ويدخله في الليل، فيصبح الليل في الشتاء طويلاً والنهار قصيراً، وفي الصيف تكون الليالي قصيرة والنهار طويلاً، ومن هنا يشق الصوم على بعض الناس إن كان رمضان في الصيف، ولكن الله جل جلاله يشاء أن يأتي رمضان تارة قصيراً وتارة طويلاً، حسب الفصل الذي يكون فيه من شتاء أو صيف، وذاك معنى الإيلاج والإدخال.
ومع قصر الليالي والأيام وطولها فالصلاة هي الصلاة والصيام هو الصيام، فالصلوات تكون حسب الشمس، أي: يزيد وقتها أحياناً وينقص، والصيام أيضاً يكون حسب طلوع الفجر وغروب الشمس، ويزيد أيضاً وينقص، ولكن ذلك لا يخرج عن كون الصلاة في اليوم والليلة خمسة فروض، والصيام في السنة شهراً، ابتداء من طلوع الفجر، وانتهاء بغروب الشمس، ذاك حكم الله وأمره في النهار والليل.
ثم قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:61].
أي: سميع لمن دعاه، بصير بالمطيع وبالعاصي، وهذا في معنى التهديد والتبشير، أي: البشارة للمؤمن الملتزم بأن الله يعلم عمله ونيته وصدقه فيها، ويبصر عمله الخالص، كما يعلم ويسمع ويبصر عمل العاصي، فالأول يجازيه بالجنة، والآخر بالنار، فهي بشرى للمؤمن، ونذارة للكافر.
ثم قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62].
أي: ذلك ليعلم المؤمن والكافر بأن الله هو الحق، فالله هو الحق جل جلاله ويأمر به، فأمر بعبادته، وبامتثال أمره واجتناب نهيه، وأرسل رسله مبشرين ومنذرين، وأمر الناس بطاعتهم، وجعل طاعتهم طاعته، ومخالفتهم مخالفته، كما قال سبحانه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ[النساء:80].
فالحاصل: أن الله جل جلاله أرسل الحق نبياً، وأنزل الحق كتاباً، وجعل الحق ديناً، وما سوى الحق فهو الباطل.
والباطل من الشيطان، وهو يوسوس ويزين الباطل؛ فتنة من الله جل جلاله لعباده، فابتلانا بالخير وبالشر، وابتلانا بالشيطان ليعلم صدق الصادق وكذب الكاذب.
ولذلك فالله جل جلاله هو الحق، وهو من أسماء الله الحسنى، فلنا أن نسمي عبد الحق.
والمؤمن باستمرار في حق منذ أن يخرج لهذا الوجود، وإلى أن يلقى الله، فهو عندما يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قد نطق بالحق، وعندما يقول: الله ربي، ومحمد نبيي، والإسلام ديني، والقرآن إمامي، والمؤمنون إخوتي، والكعبة قبلتي، يكون قد نطق كل هذا الكلمات والفقرات بالحق الملزم.
والباطل هو ما عند غير المسلم، فاليهود في باطل، ودينهم قد نسخته الديانة المحمدية، فأصبح ديناً باطلاً، والتوراة أصلها من الله، ولكن عندما غيروها وبدلوها، وقذفوا فيها الأنبياء، وتهجموا فيها على الذات العلية، وقالوا عن أنفسهم أنهم أبناء الله، وقالوا عن عزير: هو ابن الله، وقالوا عن العجل كذلك، فأصبحوا يعيشون في باطل: كتاباً وديناً ودعوة ونطقاً، وهكذا قل عن كل كافر.
فاليهود في باطل، والنصارى في باطل، والمشركون في باطل، وكل ما سوى الإسلام باطل، وكل ما سوى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم باطل، إلا ما مضى من نبوة الأنبياء السابقين، وقد أدوا مهمتهم وانتهت.
وهم كانوا رسلاً لأقوام خاصة، ثم نسخت هذه الديانة القومية بالديانة المحمدية العالمية، التي أرسل بها إلى الناس جميعاً، في المشارق والمغارب بيضاً وسوداً وحمراً إلى يوم القيامة، فلا نبي ولا رسول بعده.
وكل دعوة دون الدعوة لله وحده، ودون دعوة محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، النبي الخاتم إلى يوم القيامة، فهي دعوة لغير الله، ولغير دينه، ومن ثم فهي دعوة باطلة شيطانية، فما أوحى بها إلا شياطين الإنس والجن.
ثم قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ[الحج:62].
الله أعلى من كل علي، وأكبر من كل كبير، لا أعلى منه مقاماً، ولا قدرة سبحانه، ولذلك شعار المسلم الذي ينطق به في اليوم عشرات المرات في صلاته: الله أكبر.
وتعني كلمة (الله أكبر) ألا يجعل المسلم نفسه كبيراً، فلا كبير إلا الكبير المتعال، وألا يهاب أحداً من الخلق إلا الكبير سبحانه، فمهما هدد بالبشر والطغاة والجبابرة فهو عندما يقول: الله أكبر، يكون قد قال: ربي أكبر من كل طاغية وجبار، ومن كل من يريدني بسوء، أو يقف في طريقي وأنا أدعوا إلى الله، وهكذا المؤمن لا يعمر قلبه إلا بالله، ولا يكبر في نفسه ولا يهاب إلا الله، فحينها يكون مؤمناً حقاً.
وأما عندما يكون ضعيف الإرادة والعقيدة، فتجده يخاف من أي شيء، وإذا أنذر بكلمة ارتعد ولم ينم، وينغص عمره وراحته من أجلها.
وأما العامر قلبه بالله بجلاله وعظمته ففي كل شيء يقول: الله أكبر، والله هو العلي الكبير لا سواه، فليس أحد علياً أو كبيراً إلا الله، ومن يجعله الله علياً كبيراً تبعاً لعلوه وكبريائه وجلالته، فهو كبير عندنا.
فالأنبياء والعلماء والصلحاء كبراء عندنا، ولكن ذلك لما أعطاهم الله، وهو من باب تعظيم شعائر الله الذي هو من تمام التقوى، وتعظيم ما عظمه الله وأكرمه، ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول: (اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك) .
ثم قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [الحج:63].
أي: ألم تر أيها الإنسان، وإن كان الخطاب أولاً لنبينا خاتم أنبياء الله في الأصالة، لكن هو خطاب لجميع الناس، مؤمنهم وكافرهم، وكأن المعنى: ألم تر أيها الإنسان ممن له عين تبصر، وأذن تسمع، وقلب يعي، أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج:63].
أي: هذه الأرض الميتة الهامدة التي تراها صحراء قاحلة، وتظن أنها لن تنبت، قد أنبتت بإذن الله، وهذه الأشجار التي نرها الآن في مكة والمدينة وفي الكثير من صحاري الحجاز، بل وصحاري الجزيرة العربية، ما كانت تعرف قبل بضع سنوات ولا توجد، ثم نحن اليوم نرى الأشجار، فبعد نزول المطر بضع ساعات ترى الأرض في اليوم التالي مباشرة وأنت في السيارة أو في الطائرة قد أخذت بالاخضرار.
وهذا معجزة إلهية، فالنبي عليه الصلاة السلام قد قال لنا: (لا تقوم الساعة حتى تصبح جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً، وحتى يخرج الرجل بزكاته فلا يجد من يقبلها، ويقول له: أعطها لغيري، أنا لست في حاجة إليها) .
وكلا الوصفين النبويين أخذنا نعيش فيهما، ففي الحجاز أصبح الماء يصعد إلى أعلى طبقات بنايات عالية، كأرض الشام والمغرب وتركيا وغيرها من البلاد ذات المياه الغزيرة الفياضة، فقد كان هنا شخص يسمى السقاء، فما عدنا نراه ولا يعرف، وأولادنا لا يعرفونه؛ لأنه مضى عليه أكثر من عشرين عاماً، فندخل البيت وإذا بالمياه تصعد من الأرض إلى أعلى دور، وهكذا وسيزداد ذلك، ولقد قال الخبراء الزراعيون: إن أرض الحجاز بل أرض صحراء الجزيرة يوجد الماء تحت جميع أرضها، فهي أرض على بحر من ماء، وحيثما حفرت تجد الماء.
ويوشك إذا لم يفعل ذلك بها -أي: أن تحفر- أن تنفجر يوماً في كثير من النواحي والجبال، وفي كثير من الصحاري، وهذا شيء لا يكاد يوجد في خارج جزيرة العرب، وهو من إخبار النبي عليه الصلاة السلام بالغيب، ومن المعجزات النبوية التي أدركنها ولم يدركها سابقونا، فسابقونا آمنوا بها تصديقاً، ونحن نؤمن بها واقعاً ومعايشة ومعاصرة.
وقوله سبحانه: فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج:63].
أي: أن الله ينزل الماء على الأرض الميتة التي لا حراك بها ولا تنبت، ولا يكاد يوجد فيها حتى حشرة -لأن الحشرات لا تعيش إلا بالماء- كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30].
فانظروا إلى الأرض الميتة وقد أمطر الله عليها غيثاً، كيف تصبح مخضرة، فتربو وتتحرك بما يخرج منها، وهذا الذي نراه.
كيفية إحياء الموتى
فالماء واحد والفاكهة ألوان، فهذا أحمر وهذا أخضر مع أن المياه الساقية واحدة، فمن الذي صبغ هذا بالأحمر، وهذا بالأخضر وهذا بالأبيض؟!
أليس الله جل جلاله، فإذا كان هذا نراه بأعيننا، ونحسه ببشرتنا، ونسمع ما يتعلق به بأسماعنا، وتعيه قلوبنا، فكيف ننكره بعد ذلك ونتشكك في الحياة بعد الموت، ونحن في الأصل قد جئنا من العدم، فإذا كنا شهدنا أولادنا ولم يكونوا، أي: جئنا بالمرأة بلا ولد، فأقامت عندنا بضع سنوات وإذا بمجموعة من الأبناء موجودون بإذن الله.
وأين الآباء الذين كانوا يعمرون البيت، جاءوا من التراب، وذهبوا إلى التراب، وسنلحقهم كما يلحقهم أولادنا وأحفادنا، ويبقى الملك لله الواحد القهار.
ولكن من أخذ الله بسمعه وببصره وبقلبه تجده كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].
فمن نزع نور القلب عميت بصيرته، فتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون؛ لأن البصيرة قد عميت.
صور من اللطف الإلهي
الله جل جلاله لطيف، فيخرج من الرمال والجمادات والأموات ما فيه حياة، أي: يخرج الحي من الميت، فالأرض الميتة أخرج منها حياة، ويخرج الميت من الحي كذلك، فتجد المرأة وهي في حركاتها ونشاطها يخرج منها ميت، وتجد الكافر وهو ميت في الحقيقة يخرج منه مؤمن صالح يدعو إلى الله، ويقول: ربي الله، والعكس بالعكس.
وهو سبحانه خبير بما ينفع وبما يضر عباده، ولكنه يأمر وينهى ويرسل الرسل مبشرين ومنذرين؛ لتبقى الحجة البالغة لله، فإذا سئل العبد عندما يدخل القبر: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ فيقول: لا أعلم، لم يرسل إلي شيء، ولم أقرأ كتاباً، فكأنه يقال له: أسمعت؟ فيقول: نعم سمعت، فيقال: لماذا لم تبحث؟ ألم يخطر ببالك أن الله جعل هذا من أجلك وخلقت من أجل عبادته؟ أخطر ببالك أنك خلقت في هذه الدنيا سبهللا؟
ألم تسمع يوماً قول الله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]؟
فتبقى الحجة لله البالغة، وإذا بهذا تحت المرازب والمقامع والعذاب المقيم، في القبر روحاً، وفي الآخرة جسد وروحاً، أما من مات على لا إله إلا الله فيرجى له الخير على أي حال، ومن مات على الشرك فقد قال الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48].
استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة الحج [1-4] | 2559 استماع |
تفسير سورة الحج [8-16] | 2154 استماع |
تفسير سورة الحج [23-25] | 1991 استماع |
تفسير سورة الحج [58-60] | 1892 استماع |
تفسير سورة الحج [27-28] | 1866 استماع |
تفسير سورة الحج [32-35] | 1647 استماع |
تفسير سورة الحج [26-28] | 1627 استماع |
تفسير سورة الحج [66-72] | 1569 استماع |
تفسير سورة الحج [73-78] | 1524 استماع |
تفسير سورة الحج [5-9] | 1441 استماع |