أرشيف المقالات

تفسير قوله تعالى: { ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى... }

مدة قراءة المادة : 33 دقائق .
تفسير قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى...

 
قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [البقرة: 246 - 252].
 
قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾.
 
قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾: الاستفهام للتقرير والتعجيب؛ كما في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ﴾ [البقرة: 243]، والكلام فيه كما سبق.
 
﴿ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ «الملأ»: الأشراف والوجهاء والرؤساء.
 
﴿ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ﴾ أي: من بعد وفاة نبي الله موسى- عليه الصلاة والسلام- كليم الرحمن، وأفضل أنبياء بني إسرائيل.
 
﴿ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ﴾ «إذ»: ظرف بمعنى «حين» أي: حين قالوا، وتنكير «نبي» للإشارة إلى أن محل العبرة ليس هو شخص النبي، وإنما المقصود هو حال القوم، وهذا النبي قيل: إنه «صمويل» وهو بالعربية «شمويل»، وقيل: هو«شمعون»، وقيل غير ذلك.
 
﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا ﴾ أي: أقم لنا واجعل لنا ملكًا، و«الملك»: من يقوم بتدبير وتصريف أمور المملكة.
 
وإقامة الملك أو الأمير الذي يدبر شؤون الناس أمر ضروري.
كما قيل:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم= ولا سراة إذا جهالهم سادوا[1]

وقد قيل: «ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام»[2].
 
﴿ نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ «نقاتل»: جواب الأمر «ابعث»، أي: نقاتل معه، وتحت إمرته في سبيل الله.
 
قيل: وذلك حين ظهرت العمالقة من قوم جالوت على كثير من أرضهم.
 
﴿ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ﴾ الاستفهام للتقرير والتحذير.
 
قرأ نافع: «عسِيتم» بكسر السين، وقرأ الباقون بفتحها ﴿ عَسَيْتُمْ ﴾، أي: قال لهم نبيهم: ﴿ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ﴾.
 
و«عسى» هنا للتوقع، أي: هل يتوقع منكم إن كتب عليكم القتال، أي: إن فرض عليكم القتال أن لا تقاتلوا.
 
أي: أن هذا هو المتوقع منكم، وهذا تحريض لهم على القتال وتحذير لهم من الجبن.
 
وجملة ﴿ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ﴾ معترضة بين اسم «عسى» وهو ضمير التاء، وخبرها وهو قوله: ﴿ أَلَّا تُقَاتِلُوا ﴾.
 
وبُني الفعل «كتب» في الموضوعين لما لم يسم فاعله؛ لأن الذي كتب ذلك وفرضه معلوم وهو الله سبحانه وتعالى.
 
﴿ قَالُوا ﴾ أي: قالوا إجابة على الاستفهام السابق: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، الواو: رابطة لهذا الكلام بما قبله لتأكيد رغبتهم في القتال في سبيل الله.
 
معناه هنا: الإنكار والتعجب، والمصدر المؤوّل ﴿ أَلَّا نُقَاتِلَ ﴾ في محل جر بحرف جرف محذوف تقديره «في»، أي: أيّ شيء لنا في ترك القتال؟! أي: أيّ شيء لنا يمنعنا من القتال؟!
 
﴿ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا ﴾ الجملة حالية فيها تعليل لوجه الإنكار، أي: والحال أننا قد أخرجنا من ديارنا.
 
﴿ وَأَبْنَائِنَا ﴾ أي: وأخرجنا من بين أبنائنا.
 
والمعنى: وأي مانع لنا يمنعنا من القتال في سبيل الله، وقد وُجِدَ ما يقتضي ذلك، وهو إخراجنا من ديارنا وأبنائنا.
 
﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ ﴾ أيّ: فلما فرض وأوجب عليهم القتال ﴿ تَوَلَّوْا ﴾ أي: تولوا بأبدانهم وأدبروا عن القتال، وأعرضوا بقلوبهم عما أمرهم الله به، فصدق فيهم ما توقعه نبيهم أنهم لن يقاتلوا.
 
﴿ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ الاستثناء متصل، والتقدير: تولوا إلا عددًا قليلًا منهم، و«القليل» يطلق على الثلث وَمَا دونه، كما قال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «الثلث والثلث كثير»[3].
 
﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ أي: والله ذو علم واسع بالظالمين المعرضين عما أمر الله به والمرتكبين لما نهى الله عنه، وهو سبحانه عليم بالظالمين وغيرهم وبكل شيء، وإنما خص علمه هنا بالظالمين وعيدًا للظالمين وتحذيرًا من الظلم.
 
والظلم: وضع الشيء في غير موضعه على سبيل العدوان، وهو النقص، قال تعالى: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾ [الكهف: 33].
 
واعتبر التولي عن القتال في سبيل الله ظلمًا؛ لأنه ترك لما أمر الله به ومعصية له بدل الامتثال لأمره وطاعته.
 
والظلم ينقسم إلى قسمين: الأول: ظلم النفس بترك ما أمر الله تعالى به وارتكاب ما نهى الله عنه، وأظلم الظلم الشرك، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].
 
والقسم الثاني: ظلم الغير، بالتعدي على دمائهم وأموالهم وأعراضهم ونحو ذلك، وهو داخل في ظلم النفس؛ لأن ضرره يعود عليها.
 
قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾.
 
قوله: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾ أي: وقال لهؤلاء الملأ من بني إسرائيل نبيهم إجابة على طلبهم أن يبعث لهم ملكًا يقاتلون معه في سبيل الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾، أي: جعل لكم طالوت ملكًا.
 
و«طالوت»: اسم للملك الذي بعثه الله تعالى عليهم، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.
 
و﴿ مَلِكًا ﴾: حال من «طالوت»؛ أي: حال كونه ملكًا لكم، والملك من له التصرف والتدبير في مملكته، حسب ما تقتضيه الولاية الشرعية، أو العرفية.
 
قيل: ولم يكن طالوت من بيت الملك فيهم؛ لأن الملك فيهم كان في سبط «يهوذا»، و«طالوت» من سبط «بنيامين» وهم لا ملك فيهم ولا نبوة.
 
﴿ قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا ﴾ «أنى» بمعنى كيف، وهو استفهام فيه معنى التعجب، أي: كيف يكون له الملك علينا؟!
 
وفي قولهم: ﴿ عَلَيْنَا ﴾ إيماء منهم إلى أنه بعث للسيطرة عليهم، بينما قال في أول الآية: ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾ باللام الدالة على أنه بعث لمصلحتهم.
 
﴿ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴾ هذا تعزيز وتعليل لاستفهامهم السابق وتعجبهم، أي: والحال أننا أحق بالملك منه؛ لأن الملك كان في آبائنا فنحن أولى بالملك منه وراثة وحسبًا ونسبًا ومكانة في المجتمع، وهذا كما قال إبليس: ﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [ص: 76].
 
﴿ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾: حال معطوفة على الحال السابقة، أي: والحال أنه لم يعط سعة من المال، أي: أنه فقير، لا مال له يقوم بالملك.
 
فمع أنهم يرون أنهم أحق بالملك منه، لكن لو أعطي سعة من المال لهان الأمر عليهم في كونه ملكًا عليهم تنازلًا منهم عن أحقيتهم بالملك لأجل المال.
 
لأن المال عصب الحياة، وبه يستطيع تدبير وتصريف شؤون الملك وإعداد الجيوش للقتال وغير ذلك، إضافة إلى أنه يغطي العيوب، كما قيل:

يغطى بالسماحة كل عيب
وكم عيب يغطيه السخاء[4]

والفقر ليس بعيب، فقد تولي الخلافة على المسلمين أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، وكانوا من أفقر الناس، وأقلهم مالًا، وما ضرهم ذلك، وماذا عساه أن يفي مال «طالوت» لو كان غنيًا بحاجيات المملكة.
 
﴿ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي: قال لهم نبيهم ردًا على قولهم: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴾: ﴿ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ﴾، أي: اختاره من بينكم، واختيار الله تعالى خير لكم من اختياركم لأنفسكم.
 
﴿ وَزَادَهُ بَسْطَةً ﴾ هذا رد على قولهم: ﴿ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾، أي: وزاده سعة ووفرة ﴿ فِي الْعِلْمِ ﴾ أي: علم سياسة الأمة، وحسن الرأي والتدبير الذي به يستطيع إدارة الملك والحرب وغير ذلك.
 
﴿ وَالْجِسْمِ ﴾ أي: وزاده سعة في الجسم، في الضخامة والقوة والشجاعة، والطول.
 
قيل: ولهذا سمي بـ«طالوت» على وزن اسم المصدر، مشتق من الطول، فمنعه من الصرف للعملية وشبه العجمة، فاجتمع فيه القوة المعنوية بسعة العلم بالسياسة وحسن التدبير، مع القوة الحسية بسعة الجسم والقوة والشجاعة التي يستطيع بها مكافحة الأعداء ومكابدة الحروب؛ لأن سياسة أمر الأمة ترجع إلى أصالة الرأي وقوة البدن.
 
وقدم زيادة البسطة في العلم من العلم بالسياسة والرأي؛ لأن الرأي أهم وأعظم وهو أول، كما قال أبو الطيب[5]:

الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني

﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ أي: والله يعطي الملك من يريد من العباد حسب ما تقتضيه حكمته، ولو من غير إرث ولا مال، وأضاف عز وجل الملك إليه؛ لأن ملك الكون كله له سبحانه.
 
كما قال تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].
 
﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ ﴾ أي: ذو سعة في جميع صفاته، و«الواسع» من أسماء الله عز وجل.
 
﴿ عَلِيمٌ ﴾ أي: ذو علم واسع بكل شيء، كما قال تعالى: ﴿ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الأنعام: 80].
 
فهو عليم بمن يستحق الملك من ذوي النسب والغنى وغيرهما ممن لا يستحقه، وغير ذلك، ومن سعة علمه وفضله عز وجل أن يعطي الملك من يشاء حسب ما تقتضيه حكمته.
 
قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾.
كأنهم لما قال لهم نبيهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾ الآية، قالوا له: ائت بآية، فقال لهم: ﴿ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ ﴾ الآية.
 
والآية: العلامة، كما قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الشعراء: 197]، والضمير في قوله: ﴿ مُلْكِهِ ﴾ يعود إلى طالوت، الذي بعثه الله تعالى ملكًا عليهم.
 
أي: إن علامة أنه ملك من الله تعالى لكم ﴿ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ الآية.
 
﴿ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ﴾ «أن» والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل رفع خبر «إنَّ»، والتقدير: إن آية ملكه إتيان التابوت إليكم.
 
و«التابوت» في الأصل الصندوق من خشب أو غيره ويحفظ فيه المتاع.
 
والتابوت المذكور في الآية قيل: هو شيء على هيئة الصندوق مصنوع من الخشب أو غيره، وفي تعريفه إشارة إلى أنه كان معهودًا عندهم لكنه سلب منهم.
 
﴿ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ الجملة حالية، أي: حال كونه فيه سكينة من ربكم، أي: فيه، وفي مجيئه إليكم ﴿ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ يُسَكِّن- سبحانه- به نفوسكم، ويُطمئن به قلوبكم، وآية من آيات الله تعالى ورحمة لكم.
 
﴿ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ ﴾ من العلم والحكمة والتوراة.
 
﴿ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ الجملة حالية، أي: حال كون هذا التابوت تحمله الملائكة، وفي هذا إشارة إلى أن هذا التابوت كبير.
 
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ ﴾ «إنَّ»: حرف توكيد ونصب، ﴿ فِي ذَلِكَ ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف في محل رفع خبر «إنَّ» مقدم، و«آية» اسمها منصوب مؤخر، واللام في قوله: ﴿ لَآيَةً ﴾ للتوكيد.
 
والإشارة في «ذلك» لإتيان التابوت إليهم فيه سكينة من ربهم، وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة.
أي: إن في ذلك لعلامة لكم على صدقي فيما جئتكم به من النبوة، وفيما أخبرتكم به من بعث الله عز وجل «طالوت» ملكًا لكم، وعلى قدرة الله تعالى وعظمته.
 
﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي: كنتم من ذوي الإيمان الذين يصدقون بالآيات وينتفعون بها، كما قال تعالى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، وحينئذٍ سلَّموا وانقادوا له.
 
قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾.
 
قوله: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ﴾ أي: خرج بهم وانفصل عن البلد، قيل: عن بيت المقدس.
 
و«الجنود» جمع جندي، وهم الرجال المقاتلون، قيل: كانوا ثمانين ألفًا، وقيل غير ذلك.
 
﴿ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ﴾؛ أي: ممتحنكم ومختبركم ﴿ بِنَهَرٍ ﴾ وهو الماء الجاري الكثير؛ ليعلم من يصبر ومن لا يصبر؛ لأن القتال يحتاج إلى صبر وتحمل، وليعلم من يطيع ويمتثل الأمر، ممن لا يطيع، وكانوا أشد ما يكونون من العطش، قيل هذا النهر نهر الأردن، وقيل: نهر بين فلسطين والأردن.
 
﴿ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ ﴾ أي: فمن شرب من هذا النهر شربًا كثيرًا.
 
﴿ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾: جواب الشرط، أي: ليس مني لا قربًا ولا ولاءً ولا طاعة؛ لمخالفته وقلة صبره، أو ليس من جندي.
 
﴿ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ ﴾ أي: لم يذقه ولم يشرب منه شيئًا.
 
﴿ فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾: قربًا وولاءً، لصدقه وصبره وطاعته.
 
﴿ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ قرأ نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو بفتح الغين «غَرفةً»، وقرأ الباقون بضمها ﴿ غُرْفَةً ﴾.
 
والغَرفة بالفتح: المرة الواحدة من الغرف، وهو أخذ الماء باليد، والغُرفة بالضم: المقدار المعروف.
 
والاستثناء في قوله: ﴿ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ استثناء متصل من قوله: ﴿ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُفَلَيْسَ مِنِّي ﴾، و«من» في قوله: ﴿ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ ﴾ موصولة.
 
والمعنى: إلا الذي اغترف غرفة واحدة بيده لا بيديه معًا فشربها يبل بها ريقه، فلا بأس عليه.
 
والجملة الثانية: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ معترضة بين المستثنى والمستثنى منه، وأصلها التأخير إلا أنها قدمت للعناية؛ لأنها تدل عليها الأولى بطريق المفهوم، فإنه لما قال: ﴿ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾، فُهم منه أن من لم يشرب فإنه منه، فلما كانت مدلولًا عليها بالمفهوم صار الفصل بها كلا فصل.
 
﴿ فَشَرِبُوا مِنْهُ ﴾ أي: أكثرهم، مما يدل على عدم صبرهم، وأنهم ليسوا أهلًا للحرب.
 
﴿ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ الاستثناء متصل، أي: إلا عددًا قليلًا منهم لم يشرب.
 
قال بعض المفسرين: من اغترف منه بيده رَويَ، ومن شرب منه لم يرو.
 
﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ﴾؛ أي: لما جاوز طالوت النهر هو والذين آمنوا معه من بني إسرائيل.
 
روى البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن، بضعة عشر وثلاثمائة»[6]، وقيل: أربعة آلاف.
 
﴿ قَالُوا ﴾ أي: الذين جاوزوا النهر، أي: قال بعضهم بدليل قوله: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ ﴾.
 
﴿ لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ ﴾ أي: لا قدرة لنا ﴿ الْيَوْمَ ﴾ «ال» للعهد الحضوري، أي: اليوم الذي شاهدوا فيه عدوهم.
 
قال ابن كثير[7]: «أي: استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم؛ لكثرتهم، فشجعهم علماؤهم العالمون بأن وعد الله حق، فإن النصر عند الله تعالى ليس عن كثرة عدد ولا عدة».
 
﴿ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ أي: بقتال وحرب جالوت وجنوده، وذلك لما رأوا كثرتهم.
ويحتمل أن الذين قالوا هذه المقالة الذين نكلوا يبررون به نكولهم، ويحتمل أنهم الذين جاوزوا مع طالوت استقلوا أنفسهم، فشجعهم أصحابهم؛ لقوله: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ ﴾ تثبيتًا لأنفسهم ولأصحابهم وتقوية لقلوبهم: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾.
 
ومعنى ﴿ يَظُنُّونَ ﴾ أي: يتيقنون.
والظن يطلق كثيرًا في القرآن الكريم على اليقين، كما في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 46] [8].
﴿ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ ﴾، أنهم سيلقون الله ويقابلونه ويحشرون إليه ويعرضون عليه، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6].
 
﴿ ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾ «كم»: خبرية، معناها التكثير، و«فئة» أي: جماعة، والمعنى: كثير من فئات قليلة غلبت فئات كثيرة؛ لأن العبرة بالكيف لا بالكم.
 
ومعنى ﴿ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾؛ أي: تفوقت عليها وانتصرت عليها، كما قال تعالى: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 66].
 
﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ أي: بإذن الله وأمره الكوني، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 102].
 
﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ معهم معية خاصة بنصره وتأييده وتوفيقه لهم، كما أنه معهم ومع جميع الخلق معية عامة بعلمه وإحاطته، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4].
 
أي ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ الذين حبسوا أنفسهم على طاعة الله تعالى وعن معصيته وعن التسخط والجزع على أقداره المؤلمة.
 
قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾.
قوله: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا ﴾ أي: ولما ظهر طالوت والذين آمنوا معه.
 
﴿ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ وواجهوهم، و«برزوا» مأخوذ من «البَرَاز» وهي الأرض البارزة المنكشفة المستوية الظاهرة، ومنه سُميت المبارزة.
 
﴿ قَالُوا ﴾؛ أي: قال طالوت والذين آمنوا معه داعين الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾.
 
﴿ رَبَّنَا ﴾ أي: يا ربنا، ودعوه عز وجل وتوسلوا إليه بوصف الربوبية؛ لأن الرب من له الخلق والملك والتدبير وبيده الأمر كله.
 
﴿ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ﴾؛ أي: أَفِضْ علينا واملأ قلوبنا صبرًا، ونكر «صبرًا» للتفخيم، أي: صبرًا عظيمًا.
وفي التعبير بقولهم: «وأفرغ» إيذان بالكثرة.
 
﴿ وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾؛ أي: اجعل أقدامنا ثابتة راسخة بحيث لا تزول فلا نفر ولا نهرب، ولا نتزلزل عند اللقاء بتثبيت قلوبنا.
 
﴿ وَانْصُرْنَا ﴾ أي: وقونا وأظهرنا ﴿ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ وهم جالوت وجنوده وغيرهم، وأظهر في مقام الإضمار، فلم يقولوا: وانصرنا عليهم، أو وانصرنا على أعدائنا، بل قالوا: ﴿ وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ لما فيه من بيان وتعليل سبب دعائهم بالنصر عليهم، وهو كفرهم، لا لحمية أو عصبية ونحو ذلك، أي: وانصرنا عليهم لأجل كفرهم، وعلى هذا فيعم هذا الدعاء طلب النصر على جميع الكافرين.
 
قوله تعالى: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾.
قوله: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ ﴾ أي: فهزم طالوت والمؤمنون معه من بني إسرائيل، وغيرهم، جالوت وجنوده؛ أي: غلبوهم وقهروهم وانتصروا عليهم.
 
﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ الباء للاستعانة، أي: بإذن الله وعونه وتقديره وأمره الكوني.
 
﴿ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾ داود عليه الصلاة والسلام كان من جنود طالوت، وكان قويًا شجاعًا، وكان جالوت جبارًا قويًا عنيدًا، فطلب- فيما ذكر- من داود المبارزة، فتبارزا، فقتل داود جالوت فانهزم جنوده.
 
﴿ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ الضمير يعود إلى داود، أي: فأعطى الله داود الملك والسلطان، وآتاه الحكمة، وهي النبوة، ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله.
 
وذكر الحكمة بعد الملك؛ لأنها كانت بعده وقوعًا، أو للترقي من ذكر الأدنى إلى ذكر الأعلى، فاجتمع له القوة الدينية الشرعية بالنبوة والرسالة، والقوة الدنيوية والتنفيذية بالملك والإمارة، كما قال تعالى: ﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ [ص: 20].
 
وباجتماع الدين والملك صلاح البلاد والعباد؛ لأن الدين والملك كالتوءمان، وبارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر؛ لأن الدين أس والملك حارس، وما لا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع.
 
﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ أي: وعلم عز وجل داود من الذي يريده سبحانه من العلم الديني والدنيوي الذي اختصه به، ومن ذلك صنعة الدروع والتقدير في السرد، كما قال تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ﴾ [الأنبياء: 80].
 
﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ قرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب بكسر الدال وفتح الفاء وألف بعدها: «دفاع»، وقرأ الباقون بفتح الدال وإسكان الفاء من غير ألف ﴿ دَفْعُ ﴾.
 
و«لولا»: حرف امتناع لوجود، و«دفع» مبتدأ وهو مصدر مضاف إلى فاعله لفظ الجلالة (الله)، و«الناس»: مفعول به، و«بعضهم»: بدل منه، «ببعض» متعلق بـ«دفع»، وخبر المبتدأ محذوف تقديره: موجود.
 
أي: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض بالجهاد لفسدت الأرض، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود وبالمؤمنين.
 
﴿ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ جواب «لولا»، واللام: واقعة في جواب «لولا»، أي: لفسدت الأرض، و«الفساد»: ضد الصلاح، والمعنى: لفسدت الأرض باستيلاء الكفرة والفجار وظهور الشرك وانتشار المعاصي والشرور، وحصول الجدب والقحط ومحق البركات وقلة الخيرات، وكثرة الآفات وهلاك الحرث والنسل وخراب البلاد، كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الروم: 40].
 
﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ ﴾ الواو: عاطفة، و«لكن» للاستدراك، و«ذو» بمعنى صاحب، «الفضل»: الزيادة والعطاء الواسع الكثير.
 
﴿ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ «العالمين» جمع عالم، وهم جميع الخلق، كما قال تعالى: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20].
 
ففضله واسع وجوده عميم، على جميع العالمين، الناطق والبهيم، ومن فضله عز وجل على العالمين دفع الناس بعضهم ببعض بالجهاد ونحو ذلك، فإن في تحكيم الإسلام، وإقامة شرع الله نعمة من الله وفضلًا على الخلق كلهم من المسلمين وغيرهم.
 
قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾؛ كقوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 108].
 
قوله: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ ﴾ (تلك): إشارة إلى ما سبق من الآيات، ويجوز كون الإشارة للقرآن كله.
ويقوي هذا كونها بصيغة البعد- مع ما في ذلك من تعظيم الآيات وتنزيلها منزلة المشاهد لوضوحها وبيانها.
 
و﴿ آيَاتُ ﴾: جمع آية، والمراد بها الآيات الشرعية وما تضمنته من الأخبار والأحكام والعبر.
 
﴿ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ ﴾ أي: نقرؤها عليك بتلاوة جبريل عليه السلام؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 17 - 19] وقال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 193، 194].
 
﴿ بِالْحَقِّ ﴾ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ [المائدة: 48] والباء للملابسة، أي: نتلوها عليك حال كونها متلبسة بالحق فهذه الآيات حق، كما قال تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، وطريق وصولها حق، فسندها أصح الأسانيد وأعلاها، نزلت من عند الله بواسطة جبريل الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 193، 194].
 
وهي مشتملة على الحق فيما جاءت به، أخبارها صدق، وأحكامها عدل، كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام.
 
﴿ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ الواو: عاطفة، و«إنَّ» واللام للتوكيد، فالجملة فيها توكيد لرسالته صلى الله عليه وسلم، وتنويه بشأنه، وتثبيت لقلبه، ورد على المنكرين لرسالته وبيان أنه ليس بدعًا من الرسل؛ ولهذا قال: ﴿ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ ولم يقل: «إنك رسول الله».

[1] البيت للأفوه الأودي.
انظر: «ديوانه» (ص10).

[2] انظر: «السياسة الشرعية» ص *.

[3] أخرجه البخاري في الوصايا (2742)، ومسلم في الوصية (1628)، وأبو داود في الوصايا (2864)، والنسائي في الوصايا (3626)، والترمذي في الوصايا (2166)، من حديث سعد رضي الله تعالى عنه.

[4] البيت للشافعي.
انظر: «ديوانه» (ص 10).

[5] انظر: «ديوانه» (4/ 174)، وانظر: «شرح ديوان المتنبي» للواحدي (ص296).

[6] أخرجه البخاري في المغازي (3957)، والترمذي في السير (1598)، وابن ماجه في الجهاد (2828).

[7] في تفسيره (1/ 447).

[8] انظر ما سبق في الكلام على هذه الآية.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢