تفسير سورة الحج [73-78]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73].

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الحج:73] الخطاب هنا للناس كلهم، وما كان خطاباً للناس فهو خطاب للمؤمن والكافر والمنافق، وهذه الآية أعظم آية في القرآن في إذلال المشركين وتحقيرهم، وضرب المثل والواضح نظراً وسمعاً ودليلاً وبرهاناً على سخف عقول الظالمين المشركين الضالين المضلين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الحج:73] فالله يلفت الأنظار لسماع هذه الآية، فيبتدئها بنداء كل الناس، ثم يقول لهم: أعيروني آذانكم لتسمعوا ضرب الأمثال لهؤلاء المشركين الضالين المضلين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الحج:73].

ضرب شبه بكم وبأصنامكم، بكم عابدين وبأصنامكم معبودين، انظروا إلى هذا المثل، يقول الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73].

يا من له عقل أو لا عقل له ممن يتصرف بحواسه سمعاً وبصراً وقلباً وممن عميت منهم البصائر قبل الأبصار، انظروا واسمعوا وفكروا وعوا، لهذا المثل الذي يضرب بكم وبمعبوديكم.

ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج:73] أي: من تعبدونهم مع الله أو دون الله من ملك أو أنس أو جن، وما بالك بحجر وجماد وخشب وحيوان وما إلى ذلك، لو اجتمع هؤلاء كلهم ملائكة وإنساً وجناً متعاونين متكاتفين متواطئين متآمرين على أن يخلقوا ذباباً فلن يستطيعوا ذلك، فهم أعجز من ذلك.

لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج:73] أي: لو اجتمعوا جناً وإنساً وملكاً، وكل ما على الأرض سوى الله ليخلقوا ذباباً وليوجدوه من العدم لما استطاعوا ولما قدروا.

وأعظم من ذلك تحقيراً لهم عبدة وعابدين قوله: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ [الحج:73] أي: لو يأتي الذباب إلى فتات حبة ثم يأخذها ويذهب بها فلن يستطيعوا ملاحقته ليستنقذوا ذلك منه، ولن يستطيعوا إنقاذ شيء أخذه.

ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73] أي: ضعف وعجز الطالب وهو العابد للأصنام، والمطلوب: المعبودات من الأصنام، سواء كانت الأصنام ملائكة أو بشراً أو جناً، والذباب جمع ذبابة، ويجمع جمع تصغير أذبة، وجمع تكسير ذبان، والذباب كذلك يطلق على الفرد وعلى الجماعة، والذبابة معروفة، ولو كان هناك ما هو أحقر من الذباب لذكره الله.

ونحن نرى الآن في هذا العصر الذي يسمونه عصر الحضارة والمخترعات لم يستطيعوا أن يخلقوا ذبابة في حضارتهم، فالطيارة مثلاً وهي أعظم شيء وجد إذا نظرنا إلى مكوناتها: خشب لم يخلقوه، وحديد لم يخلقوه، وأكثر من ذلك هذه اليد البشرية، وهذا العقل البشري الذي فكر في صنع الطائرة، واليد التي صنعت الطائرة، هل هم الذين خلقوا الأيدي؟! وإذا ذهبت الأيادي فهل يستطيعون الإتيان بمثلها، وهذا العقل الذي به صنعت تلك الطائرة إذا أخذه الله فهل يستطيعون أن يأتون بعقل غيره ليصنع ذلك؟! ومع ذلك هذه الصناعة على ما تدهش الناس ويستغربها الناس وأشركوا بها دون الله، فهل هناك شيء أخترع وأوجد من عدم وكان غير موجود، إنما هو ترقيع، وهو جمع، كمن يأتي إلى حب، هذا الحب خلقه الله في الأرض التي لم نخلقها نحن، بالماء الذي لم نخلقه نحن، بالسماد الذي لم نخلقه نحن، فاستطعنا أن نصنع من هذا الحب حلوى، وأن نصنع منه خبزاً، وأن نصنع منه سميداً أو ما إلى ذلك، فهذا لا يعني أننا أوجدناه؛ لأن أصل الحب أوجده الله.

إذاً البشر والخلق كلهم: ملائكة وبشراً وجناً وكل ما على الأرض من إنسان وحيوان وهوام كلها أعجز من أن تصنع ذباباً، أو أن توجد ذبابة، لم يكن لهم أن يوجدوها من العدم، وإن كان ضرب المثل بأذل شيء وأحقر شيء فما بالك بما هو أعظم.

ومثل هذا الذي اغتر بحضارته لم يستطع أن يقضي على الموت ولا على الشيخوخة، ولا استطاع أن يخلد مع الخالدين.

وهذا عندما يقوله الله جل جلاله في العصر الأول فهو يبقى في كل العصور إلى يوم قيام الساعة، فأي إنسان عبدوه، وأي ملك عبدوه، وأي جن عبدوه لا يستطيع أن يخلق شيئاً، ولا أن ينفع ولا يضر نفسه.

ودليلهم وحجتهم في عبادتهم أن قالوا: وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22]، وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ [الأنبياء:53]، وجدنا آبائنا كانوا يصنعون ذلك، فقلدوا آباءهم في الكفر، فزادوا بذلك ضلالاً، وزادوا بذلك كفراناً وجحوداً.

قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، أي: عجز الطالب العابد، وعجز المطلوب المعبود من الأصنام دون الله، فهؤلاء أضعف وأعجز وأقل وأذل من أن يخلقوا شيئاً، ولو كان ذباًباً، ولو تكاتفوا واجتمعوا جميعاً ليوجدوا ذلك، فقد ضعف العابد والمعبود، ولن يكون ذلك إلا صفة للخالق الذي يوجد الشيء من العدم، فهو الذي ينشئ الشيء ولم يكن ثم يصبح فيكون.

قال تعالى: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:74].

فهؤلاء الضعفة والعجزة من العابدين المشركين، والمعبودين من الأصنام، كانوا أحياء أو كانوا جمادات: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:74] أي: ما علموا قدرته ولا قدروها، وما قدروا وحدانيته ولا عرفوها، وما قدروا صفاته العلا وأسماءه الحسنى.

إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40] قوي على كل شيء، قادر على كل شيء، ومن قوته معاقبته لهؤلاء الكفرة الجاحدين الذين يأبون إلا الشرك، ونزع الحق من أهله، والله عزيز لا يغالب، عظيم لا يبارى، ومن يتأله على الله يكذبه.

قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:75].

الله جل جلاله لا يسأل عما يفعل، فيصطفي ويختار رسلاً من الملائكة ورسلاً من الناس، اختار من الملائكة رسلاً الله أعلم بأعدادهم، منهم جبرائيل وهو كبيرهم، ومنهم عزرائيل أرسل لأخذ الأرواح، ومنهم إسرافيل كلف بالنفخ في الصور، وغيرهم.

وهناك رسل الملائكة إلى الناس، فقد كان جبريل يرسل إلى نبينا وإلى الرسل كلهم منذ آدم وإلى خاتمهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه.

ومن الناس اصطفى الله آدم لأولاده وذريته، واصطفى إدريس بعده، واصطفى نوحاً وإبراهيم وذريته وسلالته: إسماعيل وإسحاق، واصطفى من سلالة إسحاق أنبياء بني إسرائيل، ومن سلالة إسماعيل نبينا صلى الله عليه وسلم إمام الأنبياء وسيد الخلق والبشر عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75] وليس الاصطفاء برأي الناس، ولا بهوى الناس ونزواتهم ومحباتهم، فالله يجعل رسالاته حيث شاء، فيرسل من يشاء وإليه عمل كل شيء، وهو القادر على كل شيء: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء:23]، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124].

إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:75] سميع بأعمالنا وأقوالنا، سميع لمن أعلن التوحيد ودعا إلى التوحيد، وسميع لمن أعلن الشرك ودعا إلى الشرك وعمل به، بصير بأعمالنا، فيجازي كلاً حسب عمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وفي ذكر هذين الاسمين في آخر الآية تهديد ووعيد لأهل الوعيد من أهل النار، وبشرى للمؤمنين المتقين بأن الله يسمع أقوالهم ويبصر أعمالهم، فيجازيهم عليها بالرضا والرحمة ودخول الجنان، قال تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [الحج:76].

فالله جل جلاله يعلم ما بين أيدينا وما سيتقبل من أعمالنا، ويسمع ويعلم ما نصنعه حالاً، ويعلم ما سنفعله بعد حين ويسمعه ويبصره، يسمع أقوالنا ويعلم أعمالنا مما بين أيدينا ومما هو آت، وما خلفنا مما انتهى وقد عملناه وقلناه، فلا يخفى عليه شيء، فعلمه بالماضي كعلمه بالحاضر والمستقبل لا تخفى عليه خافية جل جلاله.

قال تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [الحج:76].

قوله تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [الحج:76] أي: ما بين أيديهم في الحاضر والمستقبل، وما خلفهم مما مضى وانقضى، وعلمه بالحاضر كعلمه بالماضي وكعلمه بالمستقبل.

وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [الحج:76] أي: أن أمورنا ترجع إليه، فيعامل كلاً حسب عمله، فإلى الله ترجع أمورنا الصالحة، وإلى الله ترجع أمورنا الطالحة، إلى الله خيرنا، وإلى الله ما صنعنا من شر، فيعاقب هذا على عصيانه، ويحسن لهذا على إحسانه، فلا تخفى عليه خافية، والآيات كلها على نسق واحد ونظام واحد: بأن الله جل جلاله دعا الناس إلى توحيده وإلى عبادته، فحبب إليهم الإيمان وكره إليهم الفسوق والعصيان، ودعاهم إلى عبادته وحده، وذم الأصنام والشرك والظلم، وأنذرهم بما حقر من معبوديهم من الأصنام التي يعبدونها دون الله، وأخبرهم بأنه يعلم كل شيء من ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، وإليه المصير، فإلى الله نرجع وإلى الله نصير: إما إلى جنة وإما إلى نار، فإن كان من أهل الخير فإلى الجنة، وإن كان من أهل الشر فإلى النار.

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].

سبق أن قلنا في أول السورة: إن من خصائص سورة الحج أن فيها سجدتين، ولا يوجد سورة فيها سجدتان، وهذه السجدة قال بها الشافعية والحنابلة ولم يقل بها المالكية والحنفية؛ لأنهم قالوا: إن قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77] دعوة إلى الصلاة وليس أمراً بالسجود فقط، ولذلك ذكر الله حركات الصلاة، فذكر الركوع فيها وذكر السجود فيها، ثم عمم وذكر العبادة، وعلى أي حال لا معنى للمذهبية هنا.

فنحن عندما نسجد لله، ونضع جباهنا والمواضع السبعة من عظامنا وجباهنا وما إلى ذلك، فنحن نعبد الله ذاتاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).

فلا معنى هنا لأن يقول مالك : أنا لا أسجد، وأن يقول الحنفي: أنا لا أسجد، ونحن نسجد على أي حال وقد دعانا الله للركوع والسجود، والإمام مالك مع جمهور الأئمة يمنعون الصلاة بعد صلاة العصر بأمر رسول الله المتواتر، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تشرق الشمس) .

فالإمام مالك دخل مرة إلى المسجد النبوي بعد صلاة العصر فجلس، وإذا بطفل صغير بجانبه قال له: يا إمام! ألا تركع ألا تصلي؟ فذكره بتحية المسجد، فوقف مالك وركع وصلى تحية المسجد، وإذا بأصحابه يقولون له: يا أبا عبد الله رأيناك اليوم تصنع شيئاً ما سبق أن صنعته، بل دعوت لعدمه وأن الأمر النبوي بخلافه، قال الأمر كما تقولون، ولكن هذا الطفل دعاني للركوع، ودعاني للسجود فخفت أن أدخل في قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات:48]، فإذا كان هذا قول طفل امتثله مالك على غير رأيه واجتهاده، فما بالك والله يقول لنا: اركعوا واسجدوا؟! فنركع.

فقال الآخرون: فنحن نركع بأمر الله، ونسجد بأمر الله، ونقصد الامتثال في كل ما أمرنا به في ذلك.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:77] الخطاب هنا للمؤمنين؛ لأن الركوع والسجود لا يقبل إلا من إنسان قبل التوحيد، فقوله: (يا أيها الناس) كانت خطاباً للناس كلهم، وفروع الشريعة دائماً ينادى بها المؤمن؛ لأن الأصول قد أداها واعتقدها وتمسك بها، وهي التوحيد والإيمان بالرسالات.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الحج:77] أي: لازموا الصلاة وأقيموها، وهي التي فيها ركوع وسجود.

وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الحج:77] بكل أنواع العبادات كما أتى ذلك مبيناً في القرآن، وفي السنة النبوية.

وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الحج:77] بحسب الأركان الخمسة: من صلاة وصيام وزكاة وحج، ومن أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأنواع العبادات التي لا تكاد تحصى.

وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج:77] ويدخل في الخير كل أخلاق الخير، وكل الحسنات، وكل مكارم الأخلاق، وكل السير الطيبة الصالحة، ولنا الأسوة في ذلك الأعظم نبينا صلى الله عليه وعلى آله، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

قوله: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77] أي: لازموا الركوع والسجود، ولازموا عبادة الله حسب أمر الله وأمر نبيه، ولازموا فعل الخيرات وترك المنكرات حسب أمر الله ونهيه، وحسب أمر رسوله ونهيه.

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77] بعد كل ذلك ترجون الفلاح، ولكن أطلعنا علماؤنا ومفسرو كتاب ربنا بأن (لعل) في القرآن ليست للترجي ولكنها لليقين، أي: إن فعلتم ذلك ستفلحون، ونرجو الله الدوام على ذلك، وتحقيق الفلاح حقاً.

قال تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:78].

قال تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:78]، الجهاد معناه بذل الجهد الإنساني البشري في عمل من الأعمال، والله عندما قال: جاهدوا في الله، لم يقل بسيف ولا بقلم، قال: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:78]، فأمرنا بالجهاد فيه في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله يكون بما أمرنا الله به، وبينه رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى ذلك بذل الجهد جهاداً في سبيل الله عبادة ودعوة له بالسيف واللسان والقلم والمال والحياة وبكل ما يستطيعه الإنسان.

فنجاهد بأنفسنا عندما نطالب بذلك؛ إعلاء لكلمة الله، وصداً للكافرين، وحرباً على المنافقين، ونجاهد في سيبل الله بألسنتنا عندما تكثر البدع وأنواع الشرك والضلالات والمذاهب الوافدة الضالة المضلة، فإننا نجاهد بألسنتنا فنبين الحق ونوضحه نصاً من كتاب الله ونصاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما تؤكده لغة العقول السليمة، والأنفس القابلة الواعية، ونجاهد بأموالنا عطاء للفقير وللمسكين وللقريب وللسائل والمحروم.

فنجاهد في سبيل الله كل حسب استطاعته، فمن يملك المال فبالمال، ومن يملك السلطة والجاه والجيوش والجنود فبالجيوش والجنود والجاه، ومن يملك الولد فبالولد، ومن يملك اللسان فباللسان، ومن ملكه الله كل ذلك فبكل ذلك.

فليكن الجهاد لساناً، وليكن الجهاد قلماً، وليكن الجهاد مالاً، وليكن الجهاد حياة، وهكذا الله قال: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:78] أي جاهدوا الجهاد الحق، أي: استفرغوا كل جهدكم حسب قدرتكم وطاقتكم، وبعد ذلك لا نلام.

(هو اجتباكم) أي: الله اصطفانا نحن أمة محمد، فكنا خير الأمم، ونبينا خير الأنبياء، وديننا أتم الأديان وأشملها وأدومها، فأديان الناس قبلنا كانت أدياناً قومية، والرسل قبلنا كانوا رسلاً قوميين لأقوامهم خاصة، وانتهت رسالاتهم بموتهم، ونبينا صلى الله عليه وسلم نبي العالمين لكل البشر بشيراً ونذيراً، فقد أرسل لكل من عاصروه ومن أتوا بعده إلى يوم القيامة، للعربي والعجمي، للأبيض والأسود والأحمر، في عصره وما بعد عصره، ودينه قد كمل فلن يأتي بعده دين ولن يكون دين مكانه في التمام، ونسخت به الأديان الأولى.

فاجتبانا ربنا وقال لنا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، فكنا خير الأمم للأمم، وخير الإنسان للإنسان، وخير البشر للبشر؛ لأننا أمرنا أن نأمر بالمعروف كما عرفه الله ورسوله، وأن ننهى عن المنكر كما أمره الله ورسوله، وأن ندعو إلى عبادة الله الواحد لا إله إلا الله، ومن لم يفعل ذلك من المؤمنين لا يكون ضمن الخيرية.

هُوَ اجْتَبَاكُمْ [الحج:78] أي: هو اصطفاكم واختاركم وانتخبكم من بين الأمم.

وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] هذا الدين الذي أمرنا به؛ دين الإسلام، ودين القرآن، ودين محمد عليه الصلاة السلام، لم يجعل فيه حرجاً علينا، فلم يضيق علينا، ولم يشدد علينا، وهكذا قال صلى الله عليه وسلم مبيناً: (بعثت بالحنيفية السمحة).

وأرسل أميريه ليحكما اليمن، أرسل معاذ بن جبل ، وأبا موسى الأشعري وقال لهما: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا) .

فكانت دعوتهما للناس بأن يكونوا مبشرين لا يخوفون الناس، وأن يكونوا منذرين دون أن ييأسون الناس، وأن يكونوا ميسرين ولا يكونوا معسرين، وهي دعوة لكل داعية إلى الله بكلمة أو بكلام، في مجلس أو مجالس أو في جميع الحياة.

ومثال ذلك: أننا نصلي أربعاً في الحضر، ثم يسر الله علينا فنصلي ركعتين في السفر، ونحن نصلي بوضوء وقبلة وإذا بالمريض يسر عليه أن ينتقل من الماء إلى التيمم، وأن ينتقل من القيام إلى الجلوس، وإذا سافرنا عبر الطائرة نصلي ونحن في الطائرة على الرواحل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـبلال وهو يؤذن في الطريق إلى أحد غزواته، وكانت ظلمة وكان طين ومطر، فقال لـبلال وهو يؤذن أن يقول: (ألا صلوا في الرحال).

وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم فالرحال جمع راحلة، فالطائرة راحلة، والراحلة كل ما يرحل عليها، فنحن نصلي على الرواحل النوافل كما قال الأئمة الثلاثة، وقال أحمد : نصلي الفرائض والنوافل إذا اقتضى الحال، وكان أحمد هنا أبعد نظراً، فنحن الآن عندما نكون في الطائرات لا بد من الصلاة، فقد نركبها لساعات متواصلة: قبل العصر وقبل الظهر إلى المغرب، فيجب أن نعلن كلمة التوحيد، وأن نؤذن ونصلي سواءً كان ذلك في الطائرة أو على الرواحل ونحن جلوس، ونستقبل القبلة عند التكبير ثم ندع الطائرة حيث ذهبت ونحن نصلي، وإلا كنا قد أخرنا الصلاة عن وقتها، وجمعنا الصلوات وهي كبيرة من الكبائر، وخاصة صلاة العصر التي قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم (من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله).

وقال: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله).

فنصلي باستمرار، وندعو من معنا أن يصلي بنا، وأحياناً نأمر من يقف عند المكبر في الطائرة فيؤذن ويقيم ونصلي ونحن جلوس، فإن لم تجد ماء وكان الماء قليلاً للشرب فقط فيمكن أن يتيمم الإنسان بحجر، أو يمسح على الجورب إن كان قد لبسه وهو على طهارة كالخف، ويكتفي بغسل وجهه مرة، ويديه مرة، ومسح الرأس والمسح على الجورب، وهكذا يكون قد قام بدين الله ودعوة الله في الأرض، وفي البحر وفي الجبال، وفي الوهاد، وفي الأجواء، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84].

قال جل جلاله وعز مقامه: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78].

(ملة) أي: كملة، نصبت على حذف الخافض.

هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ [الحج:78]، والإسلام لم يرسل للعرب فقط، فقد أرسل للعرب والعجم وغيرهم، والقرآن أرسل به نبينا صلى الله عليه وسلم لكل الناس، وأبيكم هنا المقصود بها أبوة الحقيقة للعرب، وهي أبوة للمسلمين عموماً أبوة احترام، كما قال النبي عليه الصلاة السلام للمسلمين: (أنا لكم كالوالد للولد)، وكما قال عن نسائه: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6].

فأزواج رسول الله أمهات جميع المسلمين، وليست أمومة نسب أو دم، ولكنها أمومة احترام وتعظيم وإجلال، وهكذا أبوة إبراهيم فإنها لكل مسلم.

مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ [الحج:78] زعم بعض المفسرين أن المقصود بقوله: (هو سماكم المسلمين) أي: إبراهيم الذي سمانا، والآية لا تسمح بذلك، فالآية تقول: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا [الحج:78] المقصود بقوله: (في هذا) أي في القرآن، وإبراهيم ما سمانا في القرآن، فإن القرآن لم ينزل أيام إبراهيم، ولكن المقصود هو الله جل جلاله، فهو الذي سماكم المسلمين من قبل، أي من قبل محمد، ومن قبل القرآن المنزل على محمد، وفي الأديان السابقة، وهذا من كرامة المسلمين على الله، وكرامة نبيهم على الله: أن ذكرنا الله في التوراة، وذكرنا في الإنجيل، وذكر نبينا محمد باسم أحمد في الكتب السابقة: يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، وقد حكى الله عن شريعتنا، وعن ديننا، وعن أخلاق أصحاب نبينا، وعن الصالحين الزهاد العباد من المؤمنين.

هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78] فالله جل جلاله تكلم عنا في التوراة والإنجيل وفي الأديان السابقة، إشادة بنبينا، وباتباع نبينا وهو إشادة بنا.

وَفِي هَذَا [الحج:78] أي: القرآن، فالله سمانا المسلمين في القرآن، والله سمانا المسلمين من قبل، وليس معناها أن إبراهيم سمانا في القرآن، فإن هذا ليس صحيحاً؛ لأن القرآن لم يكن موجوداً أيام إبراهيم، والقرآن ما أنزل إلا بعد البعثة المحمدية، وهكذا أكد ابن جرير ، وابن كثير، وجماهير المفسرين تخطئة من قال: إن من سماكم المسلمين هو إبراهيم.

هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78] أي: قبل نزول القرآن، وقبل إسلامنا، وقبل بعثة نبينا، سمانا من قبل في الكتب السابقة المسلمين، (وفي هذا) أي: في القرآن الكريم.

والنبي يقول عليه الصلاة والسلام: (دعوها فإنها منتنة) أي الدعوات القومية، وقولوا بما سماكم الله به أيها المسلمون! فالله سمانا مسلمين وسمانا مؤمنين وسمانا عباداً.