تفسير سورة الحج [66-72]


الحلقة مفرغة

قال الله جلت قدرته: وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ [الحج:66].

هو الله جل جلاله الذي أنشأنا من العدم، وأحيانا بعد أن لم نكن، وأوجدنا على غير مثال سابق، وكانت هذه هي الحياة الأول، ثم بعد إنشائنا وإيجادنا سيميتنا، وبعد هذه الموته سيحيينا مرة أخرى؛ للبعث والنشور والعرض على الله والحساب على ما قدمت أيدينا من خير أو شر، ولا يقدر على هذا إلا الله جل جلاله.

فهو الذي خلق، ثم هو الذي يميت، ثم هو الذي يعيد الحياة كما بدأها أول مرة للبعث والنشور، والله على كل شيء قدير.

والله جل جلاله يلفت أنظارنا ويعلمنا ويهدينا وأنه وحده القادر على الحياة، القادر على البعث، القادر على العرض عليه، والحساب لكل من فعل خيراً أو شراً، فهذا إلى الجنة وهذا إلى السعير.

إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ [الحج:66] أي: ولكن الإنسان يكفر نعم ربه، ويجحد ما آتاه الله من نعم ظاهرة وباطنة، ويشرك به، ويعبد معه غيره من الأحجار ومن الإنس ومن الجن، ومن كل من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً.

والإنسان وهو يرى بعينه، ويسمع بأذنه، ويعي بقلبه، أن الله وحده القادر على كل شيء، وأن غيره ليس بيده حياة ولا موت ولا نشور، ومع ذلك يجحد نعم الله ويشرك به ظلماً لنفسه وعدواناً على الحق.

قال تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [الحج:67].

يقول جل جلاله: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا [الحج:67] أي لكل نبي أمة؛ إذ الوحي يكون للرسول وللنبي ولا يكون للأمة، ولكن الأمة تكون مجال دعوة هذا النبي ومجال شريعته وأمره ونهيه.

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67] المنسك هو الشريعة والعقيدة والدين والدعوة، يخبرنا ربنا جل جلاله أنه جعل لكل أمة من الناس نبياً، وأنه أرسل إليهم رسولاً دعاهم إلى عبادة الله الواحد، وجعل لهم شريعة تخصهم: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48].

أما الدعوة والعبادة فالكل جاء يدعو إلى عبادة الله الواحد لا شريك له، وبذلك أمر أنبياؤنا ورسلنا ليبلغونا ذلك عن الله، وكما قال المصطفى صلوات الله عليه وسلامه: (نحن معاشر الأنبياء أبناء علات، أبونا واحد وأمهاتنا شتى).

فدعوة الأنبياء دعوة واحدة؛ دعوة إلى الله الواحد الذي لا شريك له، وإلى عبادته وتوحيده، وأما الشرائع والمناسك وأنواع العبادات فلكل نبي ولكل أمة جعل الله شريعة خاصة بها وبه.

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67] أي: هم تابعوه وسالكوه، يلتزمون ويعملون بهذا المنسك وبهذه الشريعة، فقد أمروا بالتزامها والعمل بها، وهذا أمر من الله ورسوله.

وفسرت المناسك بالمواعد، بالأعياد، بالمواقع، ومنها مناسك الحج، فإن للحج مناسك تعرض في مكة وما يحيط بمكة، من طواف بالكعبة، ومن سعي بين الصفاء والمروة، ومن وقوف بعرفات، ومن مبيت بمزدلفة، ومن بيات ومقام بمنى ليلتين أو ثلاثاً، ومن إحرام وما إلى ذلك، وعلى هذا فسرت الآية: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا [الحج:67] أي: معبداً وموعداً يتواعدون عليه لعبادة ربهم في أوقات مخصوصة، وأزمان معينة، وشهور معروفه، وليالي وأيام يعرفونها، كما نعرف مناسكنا: من صيام شهر في كل سنة، ومن صلوات خمس في اليوم والليلة، ومن المناسك التي سميت مناسك في الحج الذي فرضه الله على كل إنسان مرة في العمر، وانتدب إليه وسنه مرة كل خمس سنوات.

وعلى كلا المعنيين فإن المعنى قائم وصحيح وواقع، لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67] وأرسل لكل أمة نبياً بموعد، وبشريعة من الشرائع ألزموا بسلوكها وباتباعها وبالعمل بها.

قال تعالى: فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ [الحج:67] أي: لا تدع أهل الكتاب ومن هم على بقايا من أهل الكتاب، وقد بدلوا وغيروا، وقد نسخت أديانهم وشرائعهم، لا تدعهم ينازعونك، أي: يجادلونك في الحق بعد أن أرسل إليهم الحق الصريح، والدين الناسخ لبقية الأديان السابقة، والرسول الذي هو آخر الرسل والأنبياء، فلا شريعة بعد شريعته، ولا رسالة بعد رسالته، ولا نبي بعده ولا رسول، صلى الله عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين.

فلا تنازعنهم، والنزاع يكون بين اثنين، بمعنى: لا تجادلهم، وإنما مرهم أمراً، وعلمهم تعليماً، وربهم تربية، وأخبرهم بنسخ ما مضى، وأنهم قد حرفوه وبدلوه وغيروه.

ونحن أولاء نرى أهل الكتاب السابقين قد بدلوا في توراتهم وفي زبورهم وفي إنجيلهم، وفي الشرائع التي أرسلت إليهم، وفيما يتعلق حتى بالعقيدة، فقد قذفوا الأنبياء، وقلوا من الأدب مع الله، وأشركوا معه غيره، وعبدوا عيسى ومريم ، وعبدوا العزير والعجل، وجعلوا أنفسهم أبناء لله تعالى الله عن كفرتهم الصلعاء علواً كبيراً.

قال تعالى: فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ [الحج:67] أي: لا تدعهم ينازعونك ويجادلونك؛ لأنهم إن فعلوا سيفعلون بباطل، وعلى باطل، فليس لهم من الله برهان على ذلك، ولا دليل يمكن أن يجادلوك وينازعوك ويخالفوك به.

والنزاع يكون بين اثنين أو جماعتين، فكل يريد أن يشد الحبل لنفسه، وهنا كل يريد أن يقول: إن الحق معه، وإن الدين دينه، وإن الشريعة شريعته، مع أنك أرسلت إليهم وللناس جميعاً بشريعة مكان شريعتهم، فأنت الحق، وما جئت به الحق، والحق جل جلاله الذي صدر عنه ذلك، وأمر بالحق رسالة ورسولاً وشريعة.

فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ [الحج:67].

أي: لا تبال بهم، ولا تهتم لهم، ولا تقبل جدالهم، فإن استفسروك للعلم وللمعرفة فافعل، وأما أن يجادلوك بأن ديننا كذا، وبأن كتابنا كذا فلا، وإنما علمهم الحق وعرفهم به، ولا تقبل نزاعهم ولا جدالهم، وادع إلى ربك كما أمرك ربك، ادع إلى توحيد ربك وعبادته والعمل بشريعته، وادع لامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وبين ذلك بما أمرت به من البيان في قولك وفعلك وإقرارك.

وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [الحج:67] أي: إنك يا محمد! صاحب الحق، والمحق في الدعوة، والرسول المرسل بالحق.

(إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى) أي: لعلى هداية وطريق وشريعة ونور من ربك مستقيم لا اعوجاج فيه ولا أمت، ولا يقبل نزاعاً ولا جدلاً ولا خلافاً، وكل من حاول أن ينازعك، أو أن يجادلك، أو أن يجر النار لقرصه فهو مبطل ضال مضل، فلا تدعهم ينازعونك ولا يجادلونك، ولكن قم بالدعوة التي أمرك بها ربك من الدعوة إليه وإلى كتابه وإلى رسالته.

قال تعالى: وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحج:68].

أي: فإن أبوا إلا الجدال والنزاع في الحق بالباطل، والجدال هو: الإصرار على المماحكة بباطل لا بحق، فيريد أن يفلح ويظهر للناس أن معه دليلاً وبرهاناً، وما هو إلا الجدال، وما هو إلا الباطل، ولا يريد حقاً ولا هداية.

وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحج:68]، أي: دعهم في غيهم وقل كلمتك ولا تجعل لهم نزاعاً، ولا تفتح لهم جدالاً، فإن أبوا إلا جدالك فجادلهم فقط ولا تنازعهم.

(فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) فستصلون له يوماً، ويحاسبكم حساباً عسيراً، ومعنى الآية: التهديد والوعيد والنذارة المخيفة المرعبة، ومعنى ذلك: أن أبيتم أن تقبلوا الحق وقد جئتكم به فانتظروا، فستردون على الله وتعلمون الحق، ويتولى الله حسابكم وعقابكم ما دمتم قد أصررتم على الباطل ومخالفة رسول الله وكتاب الله.

قال تعالى: اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الحج:69].

أي: ما دمتم لم تقبلوا رسالتي، ولا نذارتي ولا بشارتي، ولا بما أتيت به عن الله من الآيات البينات والمعجزات الواضحات، والأدلة الفاضحات، فسأدعكم لربكم، فالله يوم القيامة يحكم بيني وبينكم، فهناك ستردون فتعلمون أنكم على ضلال وباطل، وأن الحق قد جاءكم فأبيتم قبوله، وجادلتم فيه، وهكذا سأدعكم لأنفسكم منذراً مهدداً إلى أن يحاسبكم الله، وإلى أن يعاقبكم، وهو عليكم أقدر وبكم جل جلاله أعلم وأعرف.

اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الحج:69].

فإن أبوا إلا الجدال والمنازعة فدعهم وما اختاروا لأنفسهم، وقم بواجبك من الجهاد بالسيف، والجهاد باللسان، وعاملهم بما أمرت به من ربك، فمن أبى إلا الإصرار على ما هو عليه من جحود وكفر فدعه إلى أن يحاسبه ربه يوم الحياة الثانية؛ يوم البعثة والنشور.

قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70].

أي: ألم تعلم يا محمد! -وقد علمت قبل- بأن الله يعلم ما في السماء والأرض قبل خلقهما، وهو العالم بالخفايا، العالم بالسر وأخفى، وقد علم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال ما حدثنا به من أحاديث صحاح وردت في الصحاح وفي السنن وفي المعاجم وفي المسانيد عن جماعة من الصحابة، تبين الآية وتفسرها، فمن ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إن الله قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف عام كتب ما سيكون في اللوح المحفوظ).

وعن جماعة من الصحابة قالوا: قال عليه الصلاة والسلام: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما يكون إلى قيام الساعة) .

فجرى القلم بما أمره الله به، وكان ذلك قبل خلق السماء والأرض بخمسين ألف عام، حدثنا بهذا رسول الله عليه الصلاة السلام، وبه علمنا أنه علم ما قاله الله له.

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحج:70] قد علم ذلك بتعليم الله له، فهو الذي علمه، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27].

وفي الحديث المتواتر عن جمهور من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوماً بعد صلاة الصبح، أي: صلى صلاة الصبح وصعد المنبر، فخطب فظل يخطب إلى أذان الظهر، فنزل وصلى ثم صعد المنبر فظل يخطب إلى أذان العصر، فنزل وصلى العصر ثم صعد المنبر فظل يخطب إلى أذان المغرب، قال رواة الحديث: فحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان وما سيكون منذ خلق الله السماوات والأرض، وإلى أن يبعث الله الناس إلى جنة أو إلى نار.

وقال بعض الرواة الذين منهم عمر وعلي وأبو عبيدة عامر بن الجراح ومعاذ بن جبل، وكاتم أسرار رسول صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان وغيرهم، قال بعضهم: حدثنا بكل شيء حتى بالطائر يطير بجناحين في السماء، وحدثنا حتى بقائد الفتنة متى سيخرج وما اسمه واسم أبيه، ومن سيكون معه، ما ترك شيئاً إلا وذكرنا به.

وهذه الأحاديث موجودة معلومة في الكتب الستة: عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ، وعند أحمد في المسند، وعند البزار في المسند، وعند أبي يعلى الموصلي في المسند، وفي معاجم الطبراني الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير، ولا يكاد يوجد كتاب من أمهات السنة إلا وفيه ذلك، ومنهم من خصص هذا بالتأليف، وهذا معنى قول الله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحج:70].

قد علم وعلمنا -ونحن نعلم بعلم رسول الله في سنته- أن الله كتب كل ما خلقه قبل خلقه بخمسين ألف عام، وأن ذلك في اللوح المحفوظ.

وكما سبق أن قلت في مناسبات: إن اللوح لوحان: لوح من قبل الحق، ولوح من قبل الملائكة جند الله، فاللوح الذي من قبل الحق لا يراه أحد لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهو الذي قال الله عنه: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق:29]، وهذا لا يبدل ما فيه ولا يغير.

واللوح المحفوظ الذي من قبل الملائكة؛ يأتي كل من كلف منهم بعمل فيرى عمله مكتوباً فينفذه ويمتثله، وهذا يقول الله عنه: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، فعنده اللوح الأم المحفوظ المرجع لهذا، وذاك لا يبدل القول لديه جل جلاله ولا يغير، وهذا يمحو الله ما يشاء فيه ويثبت.

فالدعاء يمحو، وكل شيء إذا أراد الله جل جلاله أن يمحيه محاه، وذاك أصل الناسخ والمنسوخ، قال تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106].

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج:70] أي: أن علم الله -علم السماوات وعلم الأرض- في الكتاب وفي اللوح المحفوظ عند الله، كتبه القلم مأموراً من الله قبل خلق الخلق بخمسين ألف عام، ولا ندري هل الألف يوم هي من أيام الأرض: اليوم واحد أربع وعشرون ساعة، أو من أيام الآخرة الذي اليوم فيه كألف سنة مما تعدون؟

إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70].

علم الأولين والآخرين، وعلم السماوات والأرضين، وعلم ما كان وما يكون إلى قيام الساعة وما بعد قيام الساعة، علم ذلك يسير على الله، والكل على الله يسير، فلا يصعب عليه شيء، ولا يعز عليه شيء جل جلاله وعلا مقامه.

قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج:71].

هؤلاء الكفرة والجاحدون يعبدون من دون الله أوثاناً لا دليل عندهم عليها لا من سلطان ولا من برهان، ولا من حق، ولا من كتاب سماوي، ولا من دعوة نبوية، ولا دليل يتصور، فيعبدون من دون الله ما ليس لهم به علم، ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً، وما لم ينزل الله به آية ودليلاً وبرهاناً وحجة على عبادتهم له، وإشراكهم الله فيه، فهم يعبدون ما دون الله جهلاً وإفكاً وافتراء، إن هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم، ما أنزل الله بها من سلطان من دليل ولا حجة.

وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج:71] أي: وليس للمشركين أمثال هؤلاء الذين يعبدون إفكاً وأصناماً، والذين يشركون مع الله غيره، والذين لا دليل ولا سلطان لهم من الله، ولا علم لهم بما يصنعون، هؤلاء الظلمة لأنفسهم، والذين لا يؤدون الحق هؤلاء ليس لهم نصير من الله عند حسابهم، وعند عذابهم، وعند عرضهم على الله يوم القيامة، فقد خرجوا للدنيا فرادى وسيأتون كذلك لا معين لهم ولا مساعد، ولا ولي ولا نصير من غضب الله.

وهيهات! أن يتدخل أحد بين الرب والمربوب، وبين العابد والمعبود، فالناس تفر وتقول: نفسي ونفسي! ولا أحد يهتم بأحد لا زوجاً ولا أباً ولا ولداً ولا شيئاً من ذلك، فكما خرجنا من أرحام أمهاتنا فرادى فسنذهب إليه فرادى لا حول لنا ولا طول إلا حول الله وطوله، فينفع آنذاك الموحد الذي مات على التوحيد، وأما من مات على الكفر والشرك فلا نصير له ولا مساعد ولا ولي من الله.

قال تعالى وهو يصف كفرهم، ويصف علامات حقدهم وبغضائهم لأهل الحق من الرسل والموحدين، قال عن هؤلاء: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحج:72].

يقول الله عن هؤلاء ليعرفهم النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين معه، وليعرفوهم بسيماهم وبلحظاتهم ونضرتهم الشزراء، ليعرفوهم بوجوههم المبتسرة العابسة المتجهمة التي تكاد يبدر منها الإيذاء والشر، عندما يرونك ويرون أدلتك واستدلالك وما تقرأه من آيات بينات، قال ربنا عن هؤلاء: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ [الحج:72].

أي: إذا قرأت عليهم أدلة قدرتنا، وآيات كتابنا، ومعجزات رسلنا، وبينات عندهم علموها، وتبينوها، وأدركوها وعلموا ما فيها، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ [الحج:72] أي: هؤلاء الذين إذا تليت عليهم آياتنا بينات تجد على وجوههم عبوساً جهاماً واكفهراراً، وتجد في نظراتهم شزراً، وتجد في نظراتهم حقداً وعداوة، وتجدهم متأففين متوجعين متبرمين.

تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ [الحج:72] أي: تعرف أنهم أنكروك، وأنكروا آياتك، وأنكروا أدلتك، أنكروك البتة بأدلتك وبراهينك قبل أن يتكلموا وقبل أن ينازعوا أو يجادلوا، فهؤلاء تعرفهم بسيماهم، وتعرفهم بنظراتهم.

يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [الحج:72].

(يكاد) من أفعال المقاربة، أي: قاربوا أن يسطون بالتالي وبالداعية وبالرسول وبنائب الرسول، وكادوا يضربونه وكادوا يشتمونه ويسبونه وكادوا يثورون في وجهه.

يَكَادُونَ يَسْطُونَ [الحج:72] يسطون من السطوة، ومن الطغيان والاعتداء والجبروت باليد أو باللسان أو بكليهما، فهؤلاء عندما يسمعون ذلك، وتقرأ في وجوههم المنكر وهو الاستنكار لما تقول، والحقد والبغضاء بما في نفوسهم عليك، ويكادون يسطون ويظلمون ويعتدون يتجبرون ويطغون بالذين يتلون عليهم آياتنا، وبمن سمعوه يقرأ الآيات، ويدعو إلى الله ويهديهم إليه، فتجدهم يكادون أن يفترسوه بالأعين والنظرات الشزراء قبل اليد وقبل اللسان، وهذه صفة للكفار المعاصرين للنبي عليه الصلاة والسلام، وهي صفة مستمرة لكل الكفار في كل زمان، فنرى هذا في الكفار المعاصرين، ونشعر بهم عندما نقف خطباء، أو مدرسين أو مذاكرين، أو داعين إلى الله، فتجدهم يتبرمون بك، وقد يمنعونك من الكلام، وقد يؤذونك إذا كانت السلطة بيدهم.

فلطالما حدث هذا ولا يزال يحدث من أعداء الله المشركين ومن الطغاة الجبابرة مما يعلمه كل أحد، سواء من الكفرة المكشوفين، أو الكفرة المنافقين الذين يحملون أسماء إسلامية وجغرافية إسلامية، ويزعمون أنهم أبناء المسلمين والمسلمات، وما هم إلا كفرة فجرة يحقدون على الإسلام حقد اليهود والنصارى والمجوس.

قال تعالى: قل لهؤلاء يا محمد: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ [الحج:72] أي: أتريدون يا أيها الحاقدون المشركون الذين تريدون أن تسطوا بمن يريد هدايتكم، وبمن يريد دعوتكم للحق، وبمن يريد لكم الخير، وأنتم تريدون لهم الشر، أؤنبئكم بما هو أشر من ذلك بالنسبة لكم؟ أتريدون أن أخبركم بشر من ذلكم؟ وليس هذا مقابلة؛ فإن أفعال التفضيل حسب اللغة العربية تقتضي المشاركة والزيادة، وشتان بين أن يقارن بين الخير والشر لنقول: هذا أخير، وهذا أصلح، ولكن باعتبارهم فإنهم رءوا للحق إلا شراً، وما رءوا للنور إلا ظلمة، وما رءوا في الهداية إلا ضلالاً.

فهذا الذي اعتبروه شراً قال الله لنبيه: قل لهؤلاء، وليقل بذلك خلفاء رسول الله: خلفاء السيف أو القلم، من ورثته من العلماء: أخبروا هؤلاء الطغاة الكفرة الفجرة: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ [الحج:72] أي: بشر من ذلك وبأقبح من ذلك، وبما شره أدوم، وبلاءه عليكم: النار التي ستقعون فيها وسيخلدون فيها، والتي سيبقون فيها، وكلما نضجت جلودهم أبدلهم الله جلوداً غيرها؛ ليذوقوا العذاب ويستمروا فيه.

النار الخالدة التالدة التي لا تفنى وتبقى باستمرار، فقد ذبح الموت؛ ذبح في صورة كبش، فلا موت لأهل النار ولا موت لأهل الجنة، وقد قال الله لهؤلاء: خلود ولا موت، وقال لهؤلاء: خلود ولا موت.

قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ [الحج:72] هذا استفهام إنكاري تقريعي، أي: قل يا محمد: أفأنبئكم بشر من ذلك، أي: بما هو أشر من ذلك لكم، وأدوم بلاء عليكم: النار فهي أدوم بلاء.

(وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (وعدها الله) من الإيعاد هنا، والوعد يكون للخير ويكون للشر، والإيعاد لا يكون إلا للشر، وعدهم الله إياها، وأوعدهم بسعيرها، وأوعدهم بعذاب النار وبئس المصير، بئس مصيرهم وعاقبتهم، فإنهم سيجدون عند العاقبة والمصير الشر والبلاء والعذاب والنقمة.