خطب ومحاضرات
تفسير سورة الحج [5-9]
الحلقة مفرغة
هذه الآية من أعظم الآي على قلة ألفاظها وبديع جملها كالقرآن كله فصاحة وبلاغة وجمع كلم، فقد جمعت فأوعت أطوار الإنسان ومراحله منذ الخلق الأول؛ منذ خلق أبينا آدم من تراب وإلى أن نعود بعد ذلك إلى التراب، في كلمات قليلة ذات معان كثيرة، وتحتمل هذه الآية وحدها مجلدات في التفسير والبيان.
والأطباء لهم فيها قول، والأدباء لهم فيها قول، والشريعة بأحكامها لها فيها قول كشأن القرآن الكريم، فيأخذ منه كل عالم بإحدى فنون علم الإسلام مما هو في حاجة إليه، وإلى معرفته، وإلى بيانه: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] .
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج:5] إذا قال الله: يا أيها الناس! فالخطاب والدعوة لكل بني آدم وبنات حواء، فكل البشر يعد بذلك مخاطباً، ويعد بذلك مبلّغاً، وتلزمه الحجة البالغة إذا هو تمرد وإذا هو عصى وإذا هو خالف.
وإذا قال الله: يا أيها الذين آمنوا! كان الخطاب للمؤمنين، وعادة القرآن الكريم ينادى بيا أيها الناس! في أصول الخلق والشريعة والدعوة إلى التوحيد، وإلى الإيمان بالله ورسله في أصول الإسلام، وأصول الديانة.
وإذا قال: يا أيها الذين آمنوا! فهو نداء للمؤمنين ليستجيبوا لفروع الشريعة ولأحكامها، أو يزدادوا إيماناً وتمسكاً بأمور عقائدهم.
وهنا الخطاب للناس جميعاً: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ [الحج:5] يا هؤلاء الناس! مؤمنهم وكافرهم، المؤمن بالبعث والكافر بالبعث، ويا هؤلاء! الذين لا يزالون في شك وفي ريب من البعث والخلق الثاني بعد الخلق الأول، والحياة الثانية بعد الموت والنشور والعرض على الله إما إلى جنة وإما إلى نار: إن كنتم لا تزالون في ريب وفي شك فاسمعوا قصة الإنسان وحياة الإنسان، والأطوار التي تطور فيها الإنسان منذ كان تراباً وقبل أن يخلق إلى أن عاد تراباً ثم حياً ثم يبعث بعد الموت.
قال تعالى: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [الحج:5] هذه هي الأطوار البشرية منذ التراب وإلى التراب وإلى البعث بعد الموت: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج:5] فخلق أبانا الأول أصل مادتنا وكياننا ووجودنا، خلقه من تراب؛ من كل أنواع التراب في الأرض: خصبها وجافها، صحرائها ومنبتها، جبلها ووهادها، ومن هنا كانت أنواع السلالة والذرية أشكالاً وألواناً، فالذكي والبليد، والأبيض والأسود، والطويل والقصير، ومن يعيش مدة ومن يزيد على ذلك، ومن يجهض قبل الولادة.
قال تعالى: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج:5] خلق أبانا من تراب، ثم نفخ فيه من روحه فكان بشراً سوياً، ثم خلق زوجته أمنا الأولى حواء عليهما السلام وعلى نبينا.
ثم كانت السلالة بعدهما من نطفة، والنطفة: هي القليل من الماء، فتطلق على الماء عموماً، وكان من ذلك المني أصل البذرة البشرية بعد الخلقة الأولى من التراب.
قال تعالى: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [الحج:5] (ثم) هنا على ترتيبها الزمني الوقتي، فكانت الخلقة الأولى من تراب، ثم الخلقة الثانية من نطفة من تزاوج بين ذكر وأنثى، فصب ماء من أصلاب الرجال إلى أرحام النساء فكون الوليد.
وهكذا منذ آدم وحواء وإلى عصرنا وإلى آخر مخلوق إلى يوم النشر، وإلى يوم النفخ في الصور، هكذا الخلقة من ماء مهين.
قال تعالى: ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ [الحج:5] والعلقة: هي القليل من الدم إذا قسا وتجمع، ولكنه بقي طرياً أشبه بالعلقة وهي الحشرة المعروفة.
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ [الحج:5] والمضغة: هي قطعة اللحم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب) وهكذا الإنسان يبتدئ تراباً، ثم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة، مخلقة أي: كاملة تامة بتخطيط حواسها وجوارحها من عين وشفتين ومنخرين وأذنين ولسان ويدين ورجلين ورأس وشعر وفرج، وهكذا يخطط الإنسان وهو في رحم أمه في الطور الثالث، هذه المضغة تكون مضغة غير مخلقة، ثم تتحول إلى مخلقة، أي: تصبح تامة الخلقة، تامة الحواس، إنساناً كاملاً ولكنه لا يزال جنيناً في الرحم.
قال تعالى: مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [الحج:5] أي: تامة وغير تامة، فالتامة قد تأخذ سبيلها إلى التمام إلى أن تولد وتخرج للدنيا طفلاً، وغير المخلق: أن يسقط ويجهض وهو لم يتم خلقه بعد، ولم تبن حالته، ولم يظهر بعد أذكر هو أم أنثى: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [الحج:5].
ثم قال تعالى: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ [الحج:5] أي: قدرة ربكم على فعل كل شيء وصنع كل شيء، وخلق كل شيء، كيف جعل من التراب الميت إنساناً سوياً، جميل الجوارح، جميل التقاطيع، فصيح اللسان، عاقل الفكر، متكلماً، وإذا به يخلفه ثم جعله الله خليفة في الأرض، كما قال عن داود: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ [ص:26]، وقال: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30] .
وإذا بهذا التراب يتحول بقدرة الله على كل شيء إنساناً كاملاً في أطوار من تراب إلى نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، ثم بشراً طفلاً صغيراً سوياً، وقد خرج من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا.
قال تعالى: مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ [الحج:5] أي: نبين لكم قدرة ربكم على فعل كل شيء وخلق كل شيء، وكيف قد خلق من الميت الحيَّ، ومن الحي الميتَ، وصنع من التراب الهامد الذي لا يتحرك ولا حياة فيه بشراً سوياً، ونشره في الأرض فأصبح سيد الخلق، والمحكم في الخليقة، فيأمر وينهى، ويقتل ويحيي بإذن الله إن كان عادلاً، ويظلم ويسفك الدم الحرام إن كان ظالماً.
قال تعالى: وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الحج:5] أي: هذه المضغة غير المخلقة التي تسقط وتجهض قبل خروجها للعالم.
وعلماؤنا وأطباؤنا جماهيرهم تقول: الجنين لا يبقى في رحم أمه أكثر من تسعة أشهر، ولكن الكثيرين يؤكدون ويقولون: قد يبقى الجنين في بطن أمه سنة كاملة وسنتين وأكثر.
وكثيراً ما يقول الناس في تراجم علماء وأقوام ورجال وسادة: أنه عاش في بطن أمه كما أخبرته أمه سنة وسنتين. يذكر هذا عن أحياء، ويذكر هذا عن أموات، ويذكر عن كبار من الأئمة وعن صغار من الناس.
ثم قال تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج:5] ثم يخرجنا من الأرحام طفلاً، وفي لغة العرب المفرد قد يطلق مذكراً على الجمع، أي: نخرجكم أطفالاً.
قال تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ [الحج:5] لتصلوا وتبلغوا إلى الأشد، وإلى القوة وتمام الرجولة وتمام العقل، وتمام القوة، وتمام القدرة على الحياة بما ينفعك أو يضرك.
قال تعالى: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى [الحج:5] أي: منكم من يموت عند الشبيبة وعندما يبلغ الأشد، ومنكم من يموت طفلاً، فقد يموت الإنسان شاباً، وقد يموت كهلاً، ومنهم من يزيد به العمر إلى أن يصير شيخاً حاضر الذهن، حاضر الوعي، وقد يصل إلى أرذل العمر.
قال تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [الحج:5] فيرد إلى خلقه الأول ضعيفاً، فقد خلق عاجزاً عن النطق وعن الوعي فيعود للعجز عن النطق وعن الوعي، ولذلك سمى الله هذه السن الفانية: أرذل العمر، أي: أقبح العمر وأقبح الأيام، وقد استعاذ بالله نبينا من ذلك عليه الصلاة والسلام، استعاذ بالله من الفقر، ومن الجوع، ومن الكفر، ومن بلوغ أرذل العمر.
وقد يصل الإنسان -ونشاهد هذا كثيراً وتشاهدونه- إلى مائة سنة وقد يتجاوز ذلك، وقد مات رجل صالح في أرض المغرب تجاوز المائة والعشرين سنة وهو على غاية ما يكون من الوعي والفهم والعقل، يسأل عن أحوال المسلمين في المشارق والمغارب، مما يدل على أنه مع هذه السن لا يزال واعياً، ذاكراً، متتبعاً أحوال المسلمين، يهتم بهمومهم، فيفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم.
قال تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ [الحج:5] اللام هنا هي لام العاقبة، أي: ليصل إلى درجة بعدما كان يعلم ويعي وينطق ويفهم يرجع إلى عدم علم شيء كما ابتدأ، وهذا أرذل العمر، وهو ما نعوذ بالله أن نصلها، وإن وصلناها يوصلنا الله مع الوعي وحفظ الذاكرة، وحفظ الفهم وبقية الحواس.
هذه الآية قال النبي عليه الصلاة والسلام في تفسيرها مما زادها بياناً كما في الصحاح وعن جماعة من الأصحاب: أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وغيرهما، قال عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم ليكون خلقه في بطن أمه أربعين ليلة نطفة، ثم علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يأمر الله الملك بأن ينفخ فيه الروح، ثم يقول الملك: يا رب! أشقي أم سعيد؟ ما عمله؟ ما رزقه؟ ما أمد حياته؟)؟
فيحيله الله على اللوح المحفوظ حيث اسمه هناك، فيذهب الملك إلى اللوح المحفوظ الذي هو من قبل الخلق، من قبل الملائكة، وقد قلنا: هما لوحان: لوح لا يراه أحد إلا الله، ولوح من قبل الناس، من قبل الملائكة، من قبل خلق الملائكة، فهذا يبدل ويغير.
قال الله عن الذي عنده: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق:29]، وهو اللوح الذي لا يعلمه إلا الله.
وقال عن اللوح الذي من قبل الملائكة ويتلقون فيه الأوامر: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] وأم الكتاب: هو اللوح الذي من قبل الكتاب، فهذا الذي لا يبدل ولا يغير كما في الصلوات الخمس التي أمرنا بها عند إسراء نبينا عليه الصلاة والسلام إلى سدرة المنتهى.
وبعد مرور سنة أو أكثر أو أقل إذا بوليد يخرج بعد أن انتفخت البطن وأخذت تتحرك بعد زمن، ومن المعلوم أن النفخ في الروح يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك بعد أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين يوماً علقة، ثم أربعين يوماً مضغة، ثم بعدها يرسل إليه الملك وينفخ فيه الروح، ولا يعتبر الجنين كاملاً مهيئاً للحياة إلا إذا تحرك في بطن أمه، وذلك معلوم بالاضطرار عند الأمهات، ويحدث هذا عادة في أشهر الحمل الأخيرة.
ثم قال تعالى ضارباً المثل بالأرض لشهود الإنسان لهذا الأمر، فالله تعالى ويخاطبنا بلغة العقول، ويخاطبنا بما نرى ونسمع، يخاطبنا بما نعي ونعقل، إلا من ذهب الله بسمعه وبصره: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، فالذي لا تفيد فيه موعظة ولا هداية ولا آية ولا سنة ولا بلاغ لا من الله ولا من رسوله ولا من الناس فمن يعظه وممن يعتبر؟!
معنى قوله تعالى: (وترى الأرض هامدة...)
هذا يدل على أن ما يصنعه الله في الإنسان يصنعه في الأرض، وقد يكون هذا أعظم وأبلغ، وهو كالإحياء من التراب لأبينا الأول آدم.
قال تعالى: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً [الحج:5] أي: ميتة لا حراك فيها، فهي تهمد همود الميت.
فيخاطب الله تعالى أي إنسان يرى الأرض ببصره عندما لا تنبت هامدة ميتة لا حراك بها كالصحاري وكالصخور وكالأرض المتحجرة، وكالأرض المالحة، وكالأرض المجدبة، تجدها باستمرار هامدة لا تقبل نباتاً ولو أفضنا عليها بحار الأرض.
وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج:5] فإذا سقاها الله وأغاثها بالمطر أخذت تهتز وتربو، أي: ترتفع؛ لأن الحياة دخلتها.
ومن أين أتت هذه الحياة؟ نرى الأرض هامدة فإذا أنت وضعت فيها حبوباً ميتة، ورأيت جذر شجرة ميتاً، فتغيب عنه أياماً وإذا به ينمو ويعلو ويخضر؛ لأن الله جعل الحياة تدب فيه مرة أخرى، فقد سقاه الله وأحياه بالماء والمطر، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30] إنساناً وحيواناً ونباتاً، وكل ما يطلق عليه شيء.
قال تعالى: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج:5] أخذت تهتز وتضطرب، ولو أردت أن تؤكده وتحققه -وخبر الله مؤكد، فهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- فازرع شيئاً وراعه ليلاً ونهاراً أو في أي وقت، فستجد أن ذلك التراب أخذ يربو ويهتز ويضطرب، وإذا بتلك البذرة انفلقت عن غصن، وانفلقت عن شيء فيه حياة، وهكذا من كونه غصناً صغيراً ليناً يكسر بأي شيء، وإذا به شجرة شامخة، فمن الذي أحياها؟ ومن الذي زرع فيها الحياة؟ وكيف كان ذلك؟
تلك قدرة الله التي انفرد بها جل جلاله، فهو المحيي والمميت، وهو الحي موجد الوجود والحياة، وهو الذي يحيي ويميت، فلا صنم ولا وثن ولا ملك ولا إنس ولا نبي ولا جن ولا غير الله يستطيع أن يفعل ذلك، فالطبيب يعالج العضو الفاسد ويرقعه، أما إذا فقد أو ذهبت منه الحياة فلا يعطي الحياة إلا الله، ولا يعطي العضو الحركة إلا واهبه ومحركه جل جلاله.
ثم قال تعالى: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5].
هذا يدل على أن ما يصنعه الله في الإنسان يصنعه في الأرض، وقد يكون هذا أعظم وأبلغ، وهو كالإحياء من التراب لأبينا الأول آدم.
قال تعالى: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً [الحج:5] أي: ميتة لا حراك فيها، فهي تهمد همود الميت.
فيخاطب الله تعالى أي إنسان يرى الأرض ببصره عندما لا تنبت هامدة ميتة لا حراك بها كالصحاري وكالصخور وكالأرض المتحجرة، وكالأرض المالحة، وكالأرض المجدبة، تجدها باستمرار هامدة لا تقبل نباتاً ولو أفضنا عليها بحار الأرض.
وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج:5] فإذا سقاها الله وأغاثها بالمطر أخذت تهتز وتربو، أي: ترتفع؛ لأن الحياة دخلتها.
ومن أين أتت هذه الحياة؟ نرى الأرض هامدة فإذا أنت وضعت فيها حبوباً ميتة، ورأيت جذر شجرة ميتاً، فتغيب عنه أياماً وإذا به ينمو ويعلو ويخضر؛ لأن الله جعل الحياة تدب فيه مرة أخرى، فقد سقاه الله وأحياه بالماء والمطر، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30] إنساناً وحيواناً ونباتاً، وكل ما يطلق عليه شيء.
قال تعالى: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج:5] أخذت تهتز وتضطرب، ولو أردت أن تؤكده وتحققه -وخبر الله مؤكد، فهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- فازرع شيئاً وراعه ليلاً ونهاراً أو في أي وقت، فستجد أن ذلك التراب أخذ يربو ويهتز ويضطرب، وإذا بتلك البذرة انفلقت عن غصن، وانفلقت عن شيء فيه حياة، وهكذا من كونه غصناً صغيراً ليناً يكسر بأي شيء، وإذا به شجرة شامخة، فمن الذي أحياها؟ ومن الذي زرع فيها الحياة؟ وكيف كان ذلك؟
تلك قدرة الله التي انفرد بها جل جلاله، فهو المحيي والمميت، وهو الحي موجد الوجود والحياة، وهو الذي يحيي ويميت، فلا صنم ولا وثن ولا ملك ولا إنس ولا نبي ولا جن ولا غير الله يستطيع أن يفعل ذلك، فالطبيب يعالج العضو الفاسد ويرقعه، أما إذا فقد أو ذهبت منه الحياة فلا يعطي الحياة إلا الله، ولا يعطي العضو الحركة إلا واهبه ومحركه جل جلاله.
ثم قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج:6].
هذه إشارة للخلق وللإيجاد، ولوهب الحياة، ولجعل التراب إنساناً، ثم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم جنيناً سوياً، ثم طفلاً يخرج لهذا الوجود، ثم شاباً يافعاً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، ثم شيخاً فانياً، ثم بعد كل ذلك الموت والتراب، ثم البعث بعد الموت.
قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ[الحج:6] جل جلاله، ذلك بسبب أن الله وحده هو الحق، فلا صنم ولا شريك ولا وثن ولا ملك ولا نبي ولا إنس ولا جن ولا أي شيء في هذا الوجود، فليس الحق إلا الله.
والله جل جلاله هو الذي يهب الحياة لمن شاء، فهو الذي وهب الموت والحياة، وهو الذي خلق الإنسان في هذه الأطوار، وهو الذي خلق الأرض بعد أن كانت ميتة فأخذت تهتز وتربو.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى[الحج:6] بعد الخلق الأول بهذه الأطوار التي ذكر جل جلاله، وبعد هذا فهو قادر على أن يحييها ويعيدها كما بدأها أول مرة.
قال تعالى: قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79].
قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الحج:6]، فالله وحده هو القادر على كل ما يريد، والقادر على كل شيء، ولا يستطيع ذلك ولا يقدر عليه كل من نسب له شريكاً، ونسب له معيناً، ونسب له مؤازراً كذباً وزوراً وافتراءً من المشركين والكافرين، فالله هو المنفرد بالخلق وبالحياة وبالإيجاد، فإن كانت هناك حياة فمن خلقها؟ وإن كان هناك رزق فمن خلقه؟ وإن كان هناك بعث بعد الموت فمن قدره؟ قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الحج:6]، فالله الذي يحيي ويميت هو الحق لا حق غيره، ولا حق سواه، وهو المنفرد بالقدرة على كل شيء.
ثم قال تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا[الحج:7]، فبعد أن عرض هذا العرض أخذ يخاطب العقول السليمة، ويخاطب المؤمنين بعد أن أكرمهم الله بالفهم وبالعقل وبالإدراك وبالإيمان، يقول عن الساعة: إنه سبق في علم الله كما أنه أوجد هؤلاء الخلق من العدم ثم أماتهم وأفناهم أنه سيعيدهم مرة ثانية، آمن من آمن أو كفر من كفر، فذلك حق لا ريب فيه ولا شك.
قال تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا[الحج:7] أي: وكل آت قريب، فستقوم الساعة وسيأتي يوم القيامة.
قال تعالى: لا رَيْبَ فِيهَا[الحج:7] أي: لا شك ولا ارتياب، ومن شك فيها أو جحدها فهو كافر مرتد لا يؤمن بالله، ولا يؤمن بما جاء به الله، ولا يؤمن برسل الله، وبما أمروا بتبليغه للناس.
قال: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ[الحج:7]، فيبعث الموتى من عهد آدم وحواء وإلى آخر ميت من الإنس والجن، وقد قبروا ودفنوا وعاد إلى التراب إلى التراب، وعاد الفناء إلى الفناء، ولكن الله تعالى بعد ذلك يبعثهم ليوم الساعة الذي لا ريب فيه، يبعثهم من القبور ويعيدهم ويحييهم كما بدأهم وخلقهم أول مرة.
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: من آمن بيوم البعث، وأن الله قادر على كل شيء، وأن الله يحيي الموتى، فهو مؤمن يدخل الجنة.
ومن المعلوم: أن من آمن بهذا آمن بالله، ومن آمن بالله أطاعه، ومن أطاع الله آمن برسوله، ومن آمن برسوله أطاعه وعمل بما أمره به قدر جهده واستطاعته، وترك كل ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم.
استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة الحج [1-4] | 2558 استماع |
تفسير سورة الحج [8-16] | 2152 استماع |
تفسير سورة الحج [23-25] | 1990 استماع |
تفسير سورة الحج [58-60] | 1888 استماع |
تفسير سورة الحج [27-28] | 1864 استماع |
تفسير سورة الحج [61-63] | 1849 استماع |
تفسير سورة الحج [32-35] | 1645 استماع |
تفسير سورة الحج [26-28] | 1625 استماع |
تفسير سورة الحج [66-72] | 1565 استماع |
تفسير سورة الحج [73-78] | 1522 استماع |