لامية ابن الوردي [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فهذه الرسالة تسمى بلامية ابن الوردي ، وهو عمر بن مظفر بن عمر بن أبي الفوارس بن الوردي ، من أئمة القرن السابع والقرن الثامن الهجري، حيث ولد عام ستمائة وتسعة وثمانين، وتوفي عام سبعمائة وتسعة وأربعين للهجرة.

وهذه اللامية هي نحو من سبعين بيتاً من الشعر، وقد تضمنت كثيراً من الآداب والسلوك التي حث عليها الشرع، وحثت عليها الفطر السوية؛ ولذلك جمع فيها المصنف كثيراً من الآداب.

وينبغي للعالم والمتعلم أن يظفر بالآداب ومعرفة دليلها من الشرع والطبع، فإن الله سبحانه وتعالى قد فطر الناس على فطر سليمة، مستقيمة سوية، تعرف الخير، وتنكر الشر، وقد جاءت الشريعة بما تعرفه النفوس فشرعته، وجاءت ببيان الشر فأنكرته؛ ولذلك قد يكون للنفس نزوات تخالف ما جاء في الشرع.

وسيأتي في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دلالة الناس إلى الخير وإرشادهم إليه، وقد وصف الله عز وجل هذه الأمة بالخيرية فقال سبحانه وتعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ [آل عمران:110]، وهذا يكون لنزوات النفس التي تخالف الصراط المستقيم وتحيد عنه، وغالباً ما يكون هذا من النفوس التي تقر بالمخالفة، فمن يقع في السرقة أو في الزنا أو الكذب أو الغيبة أو النميمة أو غيرها من المحرمات هو مقر بذلك؛ لأنه يعلم أنه قد أتى شيئاً تنبذه النفوس، فإنه لا يرغب لنفسه أن يخدع وأن يسرق، وأن يكذب عليه، وأن ينمى أو يطعن في عرضه، وقد جاءت الشريعة بحماية العقل وحماية الدين وحماية النفس وحماية العرض وحماية المال، وهذه هي الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها.

وقد أراد المصنف عليه رحمة الله تعالى في هذه المنظومة أن يدل على سبيل الحق في باب السلوك والتربية وتهذيب النفس ونحو ذلك، بعيداً عن الأحكام الشرعية في باب الحلال والحرام والفقه، وهذا باب يحتاجه الناس عامة، ويحتاجه الخاصة أيضاً؛ ليتبصروا بمواطن السلوك الحق، ودرجة سلوكه والحذر منه، وما تكرهه الطباع، وما لا تكرهه.

وقد جاء في الشرع باب الحلال وباب الحرام وباب المتشابهات، وجاء ما يسمى في الشرع بالمروءة، فإن النفس لها مروءة، وإن كان هذا الأمر لا يدخل في باب الحلال والحرام إلا أن النفوس مجبولة على موافقة ومحاكاة غيرها، وهذا معلوم بالضرورة، فإن النفس تحاكي الغير، وإذا شذ أحد الناس في المجتمع بسلوك أو فعل فإن من النفوس من تحاكيه، وإن لم ينكر عليه ويبين ما هو عليه من باطل فإن النفس تحاكيه، ثم يحاكيه الآخر، والمنكر والخطأ لا ينتشر في الناس إلا أن واحداً فعل أو قال، والآخر سكت على ذلك الفعل أو القول، فانتشر الفساد في الناس.

والمصنف عليه رحمة الله تعالى قصد إلى بيان التربية والسلوك والأخلاق الحميدة التي دلت عليها الشريعة ودلت عليها الفطر السليمة.

قال المصنف رحمه الله:

[اعتزل ذكر الأغاني والغزل وقل الفصل وجانب من هزل]

قوله: (اعتزل) الاعتزال هو البعد والانفراد، وهي محمودة في مواطن كثيرة، منها حينما يختلط الخير بالشر، ولا يعرف الإنسان الخير من الشر إما لجهله وإما للفتنة العامة التي حلت بالناس ونحو ذلك.

ذكر العزلة في السنة النبوية

وقد امتدح الله عز وجل العزلة في كثير من المواطن، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم من يأتي في أوائل صدر الإسلام، وفي نهاية الزمن بأنهم غرباء فقال: ( طوبى للغرباء )، وقال مادحاً العزلة كما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد : ( يوشك أن يأتي على الناس زمان يكون خير مال الرجل غنم يتتبع بها شعف الجبال )، وهذا يدل على أن العزلة محمودة في بعض الأحيان، إلا أن مخالطة الناس هي الأفضل، وفي ذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )؛ لأن مخالطة الناس فيها دلالة إلى خير، وحث على المعروف ورد عن الفساد والمنكر، ولو كان كل صاحب خير اعتزل لبقي في الناس الفساد وانتشر.

المواطن التي يحمد فيها الاعتزال

والعزلة ليست بمحمودة في العموم إلا في مواطن معدودة:

من هذه المواطن: أن يختلط الخير والشر على الإنسان، فلا يستطيع أن يميز خيراً أو شراً، فحينئذٍ يكون الاعتزال ممدوحاً، وقد صنف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في هذه الباب مصنفات، وللإمام الآجري عليه رحمة الله كتاباً سماه (العزلة في بيان مواطن العزلة المحمودة في الشرع)، والتي ينبغي على الإنسان أن يسلكها في حال من الأحوال، ولما وقعت الفتنة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم الخلاف كان هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل الاعتزال.

وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص أن أباه اعتزل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، وذهب ليعيش وحده خارج المدينة، حتى لامه في ذلك، فبين أن لديه أثراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا، وقد جاء هذا عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم أبي ذر و أبي الدرداء عليهم رضوان الله تعالى.

ومن المواطن التي يفضل ويستحب فيها الاعتزال: أن يكون الإنسان لا يطيق المنكر أن يراه إلا وقد وقع فيه، وهذا يكون عند النفوس الضعيفة التي لا تقاوم منكراً، ومعلوم أن الله عز وجل قد جعل في الدنيا من الفتن والبلاء والمغريات ما لا يستطيع الإنسان مقاومته، والله عز وجل قد جعل في نفس الإنسان وازعاً، وجعل له من الشرع وازعاً كذلك، فالوازعان اثنان: وازع الشرع ووازع الطبع، ووازع الشرع هي النصوص التي تحذره من الوقوع في المنكر، أما وازع الطبع فهو النفرة من ذلك المحرم الذي حذر الله عز وجل منه؛ لأنه يخالف فطر الناس السليمة.

وهذان الوازعان إن اجتمعا في قلب الإنسان فإنه يأطره على الحق أطراً، ويبعده عن مواطن الشر والفتنة، وإن ضعف الإنسان في هذين الجانبين فإنه يشرع له الاعتزال والبعد عن الناس.

الاعتزال المخصوص

وثم اعتزال مخصوص في حالة معينة، وهو اعتزال بعض الأفعال والمنكرات كاعتزال بعض المجالس التي يخاض فيها بالمحرم، كما نهى الله عز وجل عن مخالطة الذين يخوضون في آيات الله ويستهزئون بها، بل جعل الله عز وجل حكمهم كحكمهم: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، أي: في باب الحكم؛ لأن الغالب أن من جلس مع شخص يخوض في آيات الله عز وجل استهزاءً أنه راضٍ بذلك، وإلا لما جلس في ذلك المجلس، إلا إن كان صاحب إنكار فينكر ذلك المنكر، وحينئذٍ يقال: إن الاعتزال في مثل هذه المواطن هو اعتزال مخصوص، واعتزاله لهذه المجالس هو اعتزال لذلك الفعل.

وقد يكون الاعتزال اعتزالاً لفرد، كما حث الشارع على البعد عن جلساء وخلطاء السوء، فحذر الشارع من مخالطة أصحاب الفساد وأصحاب المنكر، والنبي عليه الصلاة والسلام شبه صاحب السوء بنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك وإما أن يحذيك ريحاً سيئة.

وهذا النوع الذي أشار إليه المصنف عليه رحمة الله تعالى هنا هو من الاعتزال المخصوص.

المراد بالأغاني والغزل

وقوله: (ذكر الأغاني والغزل) الأغاني جمع غانية، وهي الجارية الفاتنة التي تصرف الإنسان عما يحتاج إليه في دينه ودنياه، فيكون حينئذٍ قد اتبع شهوته، وما اتبع عقله، وهذا من الاعتزال المخصوص.

وأما الغزل فمراده بذلك الألفاظ التي يتغزل بها الإنسان بوصف مفاتن النساء والجواري؛ مما يجعل الإنسان من سقطة الناس، ولسانه بذيئاً لا يحمد.

أهمية صون اللسان وحفظه

والمصنف عليه رحمة الله تعالى أشار إلى هذا المعنى وهذا الباب؛ لكي يكمل للإنسان لسانه، ويظهر هنا أنه ابتدأ بصون اللسان، وهو من أعظم ما يوبق الإنسان أو يرفعه، ويقال في المثل: لسانك حصانك إن صنته صانك، وإن خنته خانك، وهذا معناه أن اللسان إما أن يرفعك وإما أن يضعك، وهو دليل على العقل، وتسمى الألسنة مغاريف، والعقول قدوراً، فهذه المغاريف تدل على ما في القدور، وإذا أراد الإنسان أن يغرف من قدر، فإن المغراف لا يخرج إلا ما في القدر، ولا يخرج شيئاً آخر، وإذا تكلم الرجل بلسانه بكلام بذيء دل على سوء عقله ونقصانه، وإن تكلم بخير دل على رجاحة عقله واتزانه، وهذا ظاهر ومعلوم عند الناس عامة شقيهم وسعيدهم.

اعتزال كتب الأغاني والغزل

وينبغي للمرء كما أنه يبتعد في هذا الباب، كذلك عليه أن يبتعد عن القراءة في مثل هذه المعاني، كقراءة الكتب التي تصنف في الغزل والأغاني، فيبتعد عنها كلها، وكل ذلك مذموم غير ممدوح في العقل والشرع، والإنسان إذا عدل النظر بالقراءة في المعاني السيئة في هذا الباب، فحينئذٍ يتشرب قلبه من تلك المعاني السيئة من حيث لا يشعر، ويجري ذلك على لسانه.

ولا زال الناس من أهل العلم والأدباء يصنفون في هذا الباب الغث والسمين، ومن هذا الباب مصنف صنفه الإمام الأصفهاني عليه رحمة الله تعالى سماه الأغاني، قد ملأه بالفحش والبذاءة، وإن كان من كتب الأدب المشهورة المعروفة التي يثني عليها العلماء عليهم رحمة الله تعالى، فهو من باب قوة العبارة والأدب العالي الرفيع الذي يذكر أدب الجاهليين ومن جاء في صدر الإسلام لما فيه من معانٍ قوية وجميلة، لكنه صاحبه قد ملأه بالمجون والحكايات الباطلة التي يستحي الإنسان من ذكرها، وقد صنف أحد العلماء الهنود كتاباً سماه (السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني)، ذكر فيه ما يذم عليه في كتابه، وما وضعه فيه من لوثة بالألفاظ والحكايات والمعاني.

وقد امتدح الله عز وجل العزلة في كثير من المواطن، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم من يأتي في أوائل صدر الإسلام، وفي نهاية الزمن بأنهم غرباء فقال: ( طوبى للغرباء )، وقال مادحاً العزلة كما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد : ( يوشك أن يأتي على الناس زمان يكون خير مال الرجل غنم يتتبع بها شعف الجبال )، وهذا يدل على أن العزلة محمودة في بعض الأحيان، إلا أن مخالطة الناس هي الأفضل، وفي ذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )؛ لأن مخالطة الناس فيها دلالة إلى خير، وحث على المعروف ورد عن الفساد والمنكر، ولو كان كل صاحب خير اعتزل لبقي في الناس الفساد وانتشر.

والعزلة ليست بمحمودة في العموم إلا في مواطن معدودة:

من هذه المواطن: أن يختلط الخير والشر على الإنسان، فلا يستطيع أن يميز خيراً أو شراً، فحينئذٍ يكون الاعتزال ممدوحاً، وقد صنف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في هذه الباب مصنفات، وللإمام الآجري عليه رحمة الله كتاباً سماه (العزلة في بيان مواطن العزلة المحمودة في الشرع)، والتي ينبغي على الإنسان أن يسلكها في حال من الأحوال، ولما وقعت الفتنة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم الخلاف كان هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل الاعتزال.

وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص أن أباه اعتزل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، وذهب ليعيش وحده خارج المدينة، حتى لامه في ذلك، فبين أن لديه أثراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا، وقد جاء هذا عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم أبي ذر و أبي الدرداء عليهم رضوان الله تعالى.

ومن المواطن التي يفضل ويستحب فيها الاعتزال: أن يكون الإنسان لا يطيق المنكر أن يراه إلا وقد وقع فيه، وهذا يكون عند النفوس الضعيفة التي لا تقاوم منكراً، ومعلوم أن الله عز وجل قد جعل في الدنيا من الفتن والبلاء والمغريات ما لا يستطيع الإنسان مقاومته، والله عز وجل قد جعل في نفس الإنسان وازعاً، وجعل له من الشرع وازعاً كذلك، فالوازعان اثنان: وازع الشرع ووازع الطبع، ووازع الشرع هي النصوص التي تحذره من الوقوع في المنكر، أما وازع الطبع فهو النفرة من ذلك المحرم الذي حذر الله عز وجل منه؛ لأنه يخالف فطر الناس السليمة.

وهذان الوازعان إن اجتمعا في قلب الإنسان فإنه يأطره على الحق أطراً، ويبعده عن مواطن الشر والفتنة، وإن ضعف الإنسان في هذين الجانبين فإنه يشرع له الاعتزال والبعد عن الناس.

وثم اعتزال مخصوص في حالة معينة، وهو اعتزال بعض الأفعال والمنكرات كاعتزال بعض المجالس التي يخاض فيها بالمحرم، كما نهى الله عز وجل عن مخالطة الذين يخوضون في آيات الله ويستهزئون بها، بل جعل الله عز وجل حكمهم كحكمهم: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، أي: في باب الحكم؛ لأن الغالب أن من جلس مع شخص يخوض في آيات الله عز وجل استهزاءً أنه راضٍ بذلك، وإلا لما جلس في ذلك المجلس، إلا إن كان صاحب إنكار فينكر ذلك المنكر، وحينئذٍ يقال: إن الاعتزال في مثل هذه المواطن هو اعتزال مخصوص، واعتزاله لهذه المجالس هو اعتزال لذلك الفعل.

وقد يكون الاعتزال اعتزالاً لفرد، كما حث الشارع على البعد عن جلساء وخلطاء السوء، فحذر الشارع من مخالطة أصحاب الفساد وأصحاب المنكر، والنبي عليه الصلاة والسلام شبه صاحب السوء بنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك وإما أن يحذيك ريحاً سيئة.

وهذا النوع الذي أشار إليه المصنف عليه رحمة الله تعالى هنا هو من الاعتزال المخصوص.

وقوله: (ذكر الأغاني والغزل) الأغاني جمع غانية، وهي الجارية الفاتنة التي تصرف الإنسان عما يحتاج إليه في دينه ودنياه، فيكون حينئذٍ قد اتبع شهوته، وما اتبع عقله، وهذا من الاعتزال المخصوص.

وأما الغزل فمراده بذلك الألفاظ التي يتغزل بها الإنسان بوصف مفاتن النساء والجواري؛ مما يجعل الإنسان من سقطة الناس، ولسانه بذيئاً لا يحمد.

والمصنف عليه رحمة الله تعالى أشار إلى هذا المعنى وهذا الباب؛ لكي يكمل للإنسان لسانه، ويظهر هنا أنه ابتدأ بصون اللسان، وهو من أعظم ما يوبق الإنسان أو يرفعه، ويقال في المثل: لسانك حصانك إن صنته صانك، وإن خنته خانك، وهذا معناه أن اللسان إما أن يرفعك وإما أن يضعك، وهو دليل على العقل، وتسمى الألسنة مغاريف، والعقول قدوراً، فهذه المغاريف تدل على ما في القدور، وإذا أراد الإنسان أن يغرف من قدر، فإن المغراف لا يخرج إلا ما في القدر، ولا يخرج شيئاً آخر، وإذا تكلم الرجل بلسانه بكلام بذيء دل على سوء عقله ونقصانه، وإن تكلم بخير دل على رجاحة عقله واتزانه، وهذا ظاهر ومعلوم عند الناس عامة شقيهم وسعيدهم.

وينبغي للمرء كما أنه يبتعد في هذا الباب، كذلك عليه أن يبتعد عن القراءة في مثل هذه المعاني، كقراءة الكتب التي تصنف في الغزل والأغاني، فيبتعد عنها كلها، وكل ذلك مذموم غير ممدوح في العقل والشرع، والإنسان إذا عدل النظر بالقراءة في المعاني السيئة في هذا الباب، فحينئذٍ يتشرب قلبه من تلك المعاني السيئة من حيث لا يشعر، ويجري ذلك على لسانه.

ولا زال الناس من أهل العلم والأدباء يصنفون في هذا الباب الغث والسمين، ومن هذا الباب مصنف صنفه الإمام الأصفهاني عليه رحمة الله تعالى سماه الأغاني، قد ملأه بالفحش والبذاءة، وإن كان من كتب الأدب المشهورة المعروفة التي يثني عليها العلماء عليهم رحمة الله تعالى، فهو من باب قوة العبارة والأدب العالي الرفيع الذي يذكر أدب الجاهليين ومن جاء في صدر الإسلام لما فيه من معانٍ قوية وجميلة، لكنه صاحبه قد ملأه بالمجون والحكايات الباطلة التي يستحي الإنسان من ذكرها، وقد صنف أحد العلماء الهنود كتاباً سماه (السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني)، ذكر فيه ما يذم عليه في كتابه، وما وضعه فيه من لوثة بالألفاظ والحكايات والمعاني.

قوله: (وقل الفصل) أي: اختصر في القول، ومن المعلوم أن الإنسان كلما زاد في التفصيل وأكثر في الكلام وقع في الخطأ، وكلما اختصر في قوله قل خطأه وأصاب، وينبغي على الإنسان أن يختصر في قوله، وألا يسهب، فإن كثرة الكلام تدل على ورود الخطأ فيه، ومما ينسب لـعلي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى- ولا أعلم له إسناداً عنه- قال: خير الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيمل.

أما الإسهاب في إيصال المعنى أو العبارة للمتلقي، أو الحديث بأمر ليس بمختصر، فيختصره الإنسان في عبارات يسيرة، فهذا مما هو مذموم؛ لأنه يوقع الإنسان في الخطأ.

وقوله: (وجانب من هزل) أي: ابتعد عنه، وهذا ضرب من ضروب العزلة، أن يعتزل الإنسان من وقع في الهزل، ولم يكن أمره أمر جد، والغالب على أمر المؤمن القوي أن يكون عازماً حازماً صادقاً لا هازلاً، والنبي عليه الصلاة والسلام ما كان هازلاً قط، نعم قد يمزح، لكنه لا يمزح إلا بحق، ولا يمازح أحداً من أصحابه إلا بصدق، أما كثرة الهزل فإن غلب على الإنسان فإنه يسقطه في أعين الناس.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
لامية ابن الوردي [2] 1516 استماع