مقاصد القصص القرآني
مدة
قراءة المادة :
36 دقائق
.
مقاصد القصص القرآنيإِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
القصص في القرآن العظيم لا يقصد به بيان التاريخ بذاته، وإنما له مقاصد متنوعة تُلتمس فيها العبرة والعظة.
وكذلك لم يكن القرآن العظيم ليصوِّر الأحداث في الأزمان الغابرة لقصد التَّنبيه على أحوال الأمم السالفة، أو لغرض التَّسلية وجذب الأسماع فحسب، وإنَّما اجتمعت في قصص القرآن مقاصدُ سامية، تقوم على تحقيق الإيمان وترسيخ أصوله في القلوب.
إنَّ القرآن العظيم يذكر القصَّة في مواطنها بأساليب متغايرة، وفي صور متقاربة، ولكلٍّ منها مغزى لا يؤدِّيه غيره، ومرمى لا يصيبه سواه، وهي بذلك ليست عملًا فنيًّا مقصودًا لذاته، وإنما هي وسيلة للإيمان والإرشاد، وشرح الأوامر والنَّواهي الشرعية [1].
إذًا فمقاصد القصص القرآني تتنوع تنوعًا كبيرًا، وهي موزَّعة على قصصه، حسب موضوعها وسياقها، وهي مقاصد كثيرة لا يمكن الإلمام بها جميعًا، وسيدور الحديث عن أهمها بإيجاز؛ ليتبيَّنَ لنا أنَّ القصص القرآني لم يأت اعتباطًا، وإنَّما جاء لمقاصدَ عظيمة، منها المقاصد الآتية:
المقصد الأول: إثبات الوحدانية لله تعالى، والأمر بعبادته:
اتَّفقت دعوة الأنبياء والمرسلين جميعًا على إثبات الوحدانية لله تعالى، والأمر بعبادته بطرائق شتَّى وأساليب مختلفة، وهذا هو أهمُّ مقاصد القصص القرآني، وذلك لإبراز حقيقة التَّوحيد، وإبطال الشِّرك والوثنية.
فالرُّسل والأنبياء جميعًا، دَعَوا إلى توحيد الخالق جلَّ جلالُه، والإقرار له بالوحدانية، لا ربَّ غيره، ولا معبودَ سواه، فدعوتهم جميعًا اجتمعت على التَّوحيد.
ومن أدلَّة ذلك: ما قصَّه القرآن العظيم في تدرُّج إبراهيم عليه السلام في الاستدلال على الحقيقة الإلـهية والإيمان بالوحدانية، فقال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 74-79].
وكذلك جاء إثبات التوحيد على لسان يعقوب عليه السلام وبنيه في قوله تعالى: ﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133].
وكذلك على لسان نوح عليه السلام، فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59].
وعلى لسان هود عليه السلام، فقال تعالى: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 65].
وعلى لسان صالح عليه السلام، فقال تعالى: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 73].
وعلى لسان شعيب عليه السلام، فقال تعالى: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 85].
وجاء في قصة سليمان عليه السلام: ﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [النمل: 25،26].
وكذلك في قصة موسى عليه السلام، فقال تعالى: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14].
وجاءت الدَّعوى إلى التوحيد واضحة في قصَّة يوسف عليه السلام فقال تعالى: ﴿ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 37-40].
فقد صرَّح يوسف عليه السلام بأنَّه لم يبتدع دينًا وإنما سار على ملَّة آبائه وأجداده الذين هداهم الله إلى العقيدة الصَّحيحة، ألا وهي وحدانية الله، وهذه العقيدة لا تختلف من عصر إلى عصر، إذْ لا يُعقل أنْ يوحي الله تعالى إلى أنبيائه عقيدةً في حقيقتها تتناقض من رسول إلى رسول، إذًا فوحدانية الله تعالى دعوةٌ اشْتَرَكَ في التَّأكيد عليها جميع الأنبياء[2].
ممَّا سبق ذِكره يتبيَّن لنا أنَّ هؤلاء الرُّسل جميعًا، توحَّدت دعوتهم في الدَّعوة إلى الله تعالى من أجل الإيمان به تعالى، ولكن اختلف أسلوب كلِّ واحد فيما بَعْدَ هذه الدَّعوة: فنوحٌ عليه السلام خاف على قومه من عذاب الله العظيم، إنْ هم عَصَوه وخالفوا أمر الله، وهودٌ عليه السلام طلب من قومه تقوى الله؛ لأنه ليس لهم إلـهٌ غيره عزّ وجل، وصالحٌ عليه السلام بيَّن لقومه أنَّه قد جاءتهم دلالة واضحة، وعلامة بَيِّنة - ناقة الله - بأن يتركوها تأكل في أرض الله، ولا يمسُّوها بسوء، خوفًا عليهم من العذاب الأليم، وهكذا.
ويتَّضح هذا الأمر جليًا في ردِّ الملأ على كلِّ رسول: فقوم نوح رَمَوه بالضَّلال المبين، وقوم هود رَمَوه بالسَّفاهة والكذب، وقوم صالح شكَّكوا في إرساله [3].
المقصد الثاني: إثبات الوحي والرسالة:
ذلك أنَّ القصص المذكور في القرآن تأتي فيه إشارة إلى أنه غيب ومجهول، لا يعلمه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم ولا قومُه، وهو دليل على صدق الرِّسالة وإثبات الوحي، وأحيانًا تأتي هذه الإشارة في نهاية القصص المذكور، فقال تعالى عقب قصة نوح عليه السلام: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 49].
وقال تعالى تعقيبًا على قصَّة موسى عليه السلام: ﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ﴾ [القصص: 44-46].
وهذه القصص تدلُّ دلالة واضحة على نبوَّة محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه عليه السلام: كان أمِّيًّا وما طالع كتابًا ولا تتلمذ على أستاذ، ولا يوجد في هذا القصص تناقض أو اختلاف، فقد دلَّ ذلك أنَّه وحي من عند الله تعالى ويدلُّ كذلك على صحَّة نبوَّته صلّى الله عليه وسلّم [4].
ومما يفيد إثبات الوحي والرسالة ما جاء في مقدِّمات بعض القصص، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 2،3].
فهذا القصص القرآني لم يكن ليُعْلَمَ إلاَّ لمن شاهَده، والنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكن مشاهدًا لهذه الأحداث الصَّادقة، كما قال تعالى - عقب قصة مريم: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 44].
وفي نهاية سورة الشُّعراء قال الله تعالى - بعد ذكر عدد من قصص الأنبياء: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 192-194].
فهذا نصٌّ صريح على أنَّ هذا القصص من عند الله وأنَّه وحيُه تعالى وتنزيلُه [5].
المقصد الثالث: إثبات البعث والجزاء:
كثيرًا ما يرد في سياق القصص القرآني إثبات هذا المقصد - البعث والجزاء - فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 258-260].
وجاء على لسان نوح عليه السلام: ﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [نوح: 4].
فالقصص القرآني ترد فيه كثير من الأدلَّة على إثبات البعث والجزاء، فيصرِّفها بطرائق شتَّى، وأساليب مختلفة؛ ليحقِّق الإيمان بذلك اليوم [6].
المقصد الرابع: تثبيت النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وأُمَّتِه:
من أعظم مقاصد القصص القرآني تثبيت النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وأمَّته على لزوم الدَّعوة إلى الحقِّ، وتحمُّل مشاقها، والصَّبر على العذاب في سبيلها، وبذلك تقوى ثقة المؤمنين بنصرة الحقِّ وجنده، وخذلان الباطل وأهله، مصداق ذلك قوله تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120][7].
(لَمَّا ذَكَرَ في هذه السورة من أخبار الأنبياء ما ذكر، ذَكَرَ الحكمة في ذِكْرِ ذلك، فقال: ﴿ وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ أي: قلبك؛ ليطمئن ويثبت، ويصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن النفوس تأنس بالاقتداء، وتنشط على الأعمال، وتريد المنافسة لغيرها، ويتأيد الحق بذكر شواهده، وكثرة من قام به).
ولا سيما أنهم كانوا في مكة مضطهدين، فهذا القصص يكشف لهم عن نهاية الطريق، ويريهم معالمه في مراحله جميعًا، ويأخذ بأيديهم[8].
وكثيرًا ما نجد في القصص القرآني تسليةً للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم على ما لقيه هؤلاء الأنبياء الكرام من نفور عن الحقِّ، رغم الأدلة الواضحة والبراهين السَّاطعة، الدَّالة على رسالتهم، فإنَّ كثيرًا من أتباعهم عَمُوا وصَمُّوا عن اتِّباع الحقِّ، وأصرُّوا على اتِّباع الباطل، كما جاء على لسان نوح عليه السلام: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴾ [نوح: 5-7].
وكذلك: ﴿ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [نوح: 21].
إنَّ القصص القرآني - حقًا - عزاءٌ للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم؛ لئلاَّ تذهب نفسه حسرات على كفر الكافرين وجحودهم، بَعد الأدلة الدَّامغة التي جاءهم بها [9].
المقصد الخامس: العبرة بأحوال المرسلين وأممهم:
المراد بهذه العبرة، هو الاتِّعاظ والاعتبار بأحوال الأنبياء والمرسلين للاقتداء بهم في الصَّبر على الأذى، وتبليغ الدعوة والاقتداء بإيمانهم القويِّ، وتخليد آثارهم، والإشارة إلى فضلهم ومكانتهم الرَّفيعة عند الله تعالى، وفي المقابل الابتعاد عن مثل تصرُّفات المخالفين من الأمم السابقة.
قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111].
وقال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأنعام: 34].
ولذلك فإنَّ الله تعالى يحكي في هذا القصص، أنَّ عاقبة أمر المنكرين كان إلى الكفر واللَّعن في الدُّنيا والآخرة، وعاقبة المؤمنين النَّصر في الدُّنيا والسَّعادة في الآخرة، وذلك يقوِّي قلوب أهل الإيمان، ويضعف قلوب أعدائهم.
ولهذه العبرة - المبثوثة في ثنايا القصص - فوائد عظيمة: أهمها التنبيه على سنن الله تعالى في حياة الناس، وقد نبَّه الله تعالى على ذلك في مواضع من كتابه؛ كقوله تعالى: ﴿ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الحجر: 13].
فهذه الآية جاءت في سياق الكلام عن المعرضين عن الحقِّ، الذين لا ينظرون في أدلته؛ لانهماكهم في ترفهم وسرفهم، وجحودهم، والإبقاء على عاداتهم وتقاليدهم.
وقال تعالى: ﴿ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴾ [غافر: 85].
وهذه الآية جاءت في سياق محاجَّة الكافرين والتَّذكير بما كان من شأنهم مع الأنبياء، والسَّير في الأرض والنَّظر في عاقبة الأمم القويَّة ذات القوى والآثار في الأرض وكيف هلكوا بعدما دُعُوا إلى الحقِّ؛ فلم يستجيبوا لأمر الله، وفي ذلك يقول الله تعالى كذلك: ﴿ وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [الأنعام: 10، 11]؛ «أي: فإن شككتم في ذلك، أو ارتبتم، فسيروا في الأرض، ثم انظروا، كيف كان عاقبة المكذبين، فلن تجدوا إلاَّ قومًا مُهلَكين، وأُممًا في المُثُلات تالفين.
قد أوحشت منهم المنازل، وَعُدِمَ من تلك الرُّبوع كل متمتع بالسِّرور نازل.
أبادهم المَلِكُ الجبَّار، وكان نبأُهم عبرةً لأولي الأبصار.
وهذا السَّير المأمور به، سير القلوب والأبدان الذي يتولَّد منه الاعتبار.
وأما مجرد النَّظر من غير اعتبار، فإنَّ ذلك لا يفيد شيئًا»[10].
هذا القصص القرآني فيه التَّأديب والتَّهذيب للأمَّة الإسلامية، وذلك أنه ذَكَرَ الأنبياءَ وثوابهم، والأعداءَ وعقابهم، وذكر في غير موضع تحذيره إيَّاهم عن صنع الأعداء، وحثَّهم على صنع الأولياء، قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ﴾ [يوسف: 7][11].
المقصد السادس: بيان جزاء الأمم السَّابقة ونهاية مصيرها:
إنَّ موقف المنكرين للرِّسالات والرُّسل موحَّد، مع كلِّ رسول في الإنكار والتَّكذيب، فقوم نوح قالوا في حقِّه: ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأعراف: 60].
وقوم هود قالوا له: ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ ﴾ [الأعراف: 66].
وقوم صالح قالوا للمؤمنين به: ﴿ إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [الأعراف: 76].
وقوم لوط قالوا: ﴿ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 82].
وقوم شعيب قالوا له: ﴿ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ [الأعراف: 88].
وقوم فرعون قالوا في حقِّ موسى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 109].
فهذه الأمم الغابرة التي لم تلتزم بدعوة الأنبياء والمرسلين، كان مصيرها الهلاك والدَّمار، نتيجةً لانحرافها عن الطريق المستقيم، فمن ذلك قول الله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴾ [الأنعام: 6].
وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [الروم: 9].
ومن أسباب هلاكهم - كما مرَّ بنا سابقًا: الإشراك بالله تعالى، والظُّلم والطُّغيان، والتَّكذيب بالبعث والجزاء، والتَّقليد الأعمى، والتَّهديد للمؤمنين، وإيذاؤهم، إلى غير ذلك من الأسباب.
كلُّ ذلك ليعتبر المسلمون بأحوال هذه الأمم، ويبتعدوا عن أفعالها وأقوالها، حتى لا يصيبهم ما أصابهم من الهلاك والدَّمار.
وقد بيَّن الله تعالى في كثير من قصص القرآن أنَّه انتقم لأوليائه من أعدائه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51].
فهي سُنَّة ماضية أثبتها الله في قوله: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأنعام: 34][12].
المقصد السابع: تربية المؤمنين:
مقاصد القصص القرآني تتضافر جميعًا في تربية المسلمين التَّربية الصَّحيحة والشَّاملة، ومن أعظمها: التَّربية على العقيدة الصَّحيحة، من الإيمان بالله تعالى، والإيمان بالبعث والجزاء، والإيمان بالأنبياء والمرسلين، والصَّبر على أذى الكافرين وإعراضهم عن الحقِّ، حتى يظهره الله تعالى ويهلك أعداءه.
نجد ذلك - مثلًا - في قصَّة السَّحرة الذين آمنوا بموسى عليه السلام فقضى عليهم فرعون بالصَّلب والقتل، فثبتوا على عقيدتهم رغم فظاعة التَّهديد، وفي قصَّة أصحاب الكهف تربية في الثَّبات على التَّوحيد، والإيمان بالبعث والجزاء.
والتَّربية في القصص القرآني المبارك شاملة للأنبياء والمرسلين، وأتباعهم المؤمنين.
ومما ورد في تربية الأنبياء قول الله تعالى لإبراهيم الخليل عليه السلام: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 131].
قال أبو السُّعود رحمه الله: «أَسْلِمْ؛ أي: أَذْعِنْ وأَطِعْ، وقيل: اثْبُتْ على ما أنت عليه من الإسلام والإخلاص، أو اسْتَقِم وفوِّض أمرك إلى الله تعالى، فالأمر على حقيقته، والالتفات مع التعرُّض لعنوان الرُّبوبية والإضافة إليه عليه السلام لإظهار مزيد اللُّطف به والاعتناء بتربيته، وإضافة الربِّ في جوابه - عليه الصلاة والسَّلام - إلى العالَمين؛ للإيذان بكمال قوَّة إسلامه، حيث أيقن حين النَّظر بشمول ربوبيَّته للعالمين قاطبة، لا لنفسه وحده كما هو المأمور به»[13].
ومن أنواع التَّربية في قصص القرآن: التَّربية على الصَّبر، والبرِّ، وامتثال أوامر الله تعالى، كما في قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إذ قال الله تعالى: ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الصافات: 101-105].
وفي قصَّة لقمان مع ابنه كثير من الفضائل التربويَّة النَّبيلة، ففيها التَّوحيد والنَّهي عن الشرك بالله، وفيها البرُّ بالوالدين، وفيها شكر الله والوالدين، وفيها البعث والجزاء، وفيها الأمر بإقامة الصَّلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصَّبر على المصيبة، والنَّهي عن إمالة الخدِّ عُجْبًا وَكِبْرًا، والنَّهي عن المشي في الأرض مرحًا، والأمر بالاقتصاد في المشي، وإغضاض الصوت، إذ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ الآيات [لقمان: 12-19].
ومن أنواع التَّربية في قصص القرآن: التربية على الصِّدق، اقتداء بالأنبياء والمرسلين، إذ قال الله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 41].
ومنها التَّربية على الإخلاص في الطاعة وتنفيذ أوامر الله، كما في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 51].
ومنها التَّربية على الوفاء والأمانة، إذ يضرب يوسف عليه السلام المثَلَ الأعلى في ذلك، إنه ليذكر جيدًا إكرام العزيز له، وكان دائمًا يقابل الإحسان بالإحسان، قال تعالى: ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: 23].
وبعد ثبوت براءته قال يوسف عليه السلام ما حكاه الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ [يوسف: 52].
ومنها التَّربية على مكارم الأخلاق، ويظهر ذلك جليًا في دعوة شعيب لقومه في عدَّة مواضع، منها ما حكاه الله تعالى: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 85].
لقد بدأ عليه السلام بإصلاح العقيدة، ثم ثَنَّى بعد ذلك بإيفاء الكيل والميزان حال البيع، والنَّهي عن بخس الناس أشياءهم حال الشِّراء، فقد ربط بين الإيمان والأخلاق، ودعا إلى التَّخلِّي عن الرَّذائل[14].
وهكذا نرى أنَّ القرآن العظيم «يستخدم قَصَصَهُ لجميع أنواع التَّربية والتَّوجيه الذي يشملها منهجه التربويُّ؛ تربية الروح، وتربية العقل، وتربية الجسم، والتَّوقيع على الخطوط المتقابلة في النفس، والتَّربية بالقدوة، والتربية بالموعظة، فهي سجل حافل لجميع التوجيهات» [15].
ويمكن أن نُجمِل الأهداف التَّربوية للقصص القرآني في ثلاثة جوانب، وهي:
1- مدُّ الفرد والجماعة بالقيم الإسلامية.
2- تربية المسلم على الثِّقة المطلقة بالله في قضائه وقدره.
3- تزويد قارئه وسامعه بالعديد من المعارف والحقائق التي تفيده في مسيرة الحياة، والتعامل مع الآخرين[16].
المقصد الثامن: الدَّعوة إلى الخير والإصلاح، ومنع الفساد:
نجد أنَّ من مقاصد القصص القرآني الدَّعوة إلى الخير والإصلاح، ومنع الفساد في الأرض، كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 85].
وكذلك في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [هود: 84، 85].
ففي قصة شعيب عليه السلام دعوة صريحة إلى ناحية عَمَلية، تتَّصل بالإصلاح الاجتماعي، ومنع الفساد في الأرض، والقيام بحقِّ الأمانة في التَّعامل.
وقد بيَّن القصص القرآني، عاقبة الصَّلاح والفساد، كما في قصَّة ابنَيْ آدم، إذ قال الله تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ ﴾ [المائدة: 27-32].
وكذلك في قصة صاحب الجنَّتين، إذ قال تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ﴾ الآيات [الكهف: 32-42].
وقصة سدِّ مأرب، إذ قال الله: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ الآيات [سبأ: 15-19].
وفي قصَّة آدم وإبليس - المبثوثة في مواضع شتَّى من القرآن - التَّنبيه لأبناء آدم من غواية الشيطان، وإبراز العداوة الخالدة بينه وبينهم، منذ عهد أبيهم آدم؛ ذلك لأنَّ إبراز هذه العداوة عن طريق القصَّة أوقع أثرًا في النَّفس الإنسانية، لتحذر أشد الحذر من غواية الشيطان ودعوته إلى الشر.
المقصد التاسع: مواجهة اليأس بالصبر:
ويبرز هذا المقصد جليًّا في قصَّة يوسف عليه السلام وفيها جملة من الآيات تُحقِّق هذا المقصد، ومنها قوله تعالى: ﴿ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18].
وقوله تعالى: ﴿ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64].
وقال تعالى: ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 83].
وقوله تعالى: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].
المقصد العاشر: بيان قدرة الله المطلقة:
في هذا المقصد يتبيَّن لنا الفارق العظيم في المحتوى بين القصص القرآني وبين القصص البشري، فهل يوجد في القصص البشري ما حكاه الله تعالى عن قصَّة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية، إذ يقول الله تعالى: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 259، 260].
أَمْ يوجد في القصص البشري قصَّة كخلق آدم، ومولد عيسى، وإحياء الطَّير لإبراهيم، وتحوُّل عصا موسى، وقصة موسى مع العبد الصَّالح، وغيرها؟
إنَّ ما ورد في القصص القرآني من ذكرٍ للخوارق والمعجزات، جاء ليدل على قدرة الله تعالى الكاملة، والتي لا يستطيعها مخلوق في الكون كلِّه، ويشير كذلك إلى بيان الفارق بين النَّظرة الإنسانية العاجلة قصيرة المدى، وبين الحِكمة الإلـهية الكاملة والمحيطة بالماضي والحاضر والمستقبل، إضافة لعلم الله تعالى الكامل بالغيب: قريبه وبعيده على حد سواء.
مما يلقي في رُوع المؤمنين الاطمئنان الكامل إلى جانب الله تعالى والرُّكون إليه [17].
المقصد الحادي عشر: بيان نعم الله على أنبيائه وأصفيائه:
نجد من مقاصد القصص القرآني بيان نعم الله تعالى على أنبيائه وأصفيائه، ممَّا يترك أثرًا طيبًا في نفوس المؤمنين بأنَّ الله تعالى يكافئ أولياءَه وأصفياءَه ويُنعم عليهم في الدُّنيا قبل الآخرة، وهذا له دوره في ثباتهم على الحقِّ الذي يعتقدونه.
وإنَّ نعمة الله على أنبيائه وأصفيائه تتجلَّى في مواقف شتَّى، ومنها [18]: إنعامه تعالى على سليمان عليه السلام بتسخير الجنِّ والطَّير، فقال تعالى: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ الآيات [النمل: 16-44].
وتسخير الرِّيح، وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ﴾ الآيات [سبأ: 12].
وقال تعالى: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [الأنبياء: 81].
وإنعامه على داود بتسخير الجبال والطَّير وإلانة الحديد، إذ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [سبأ: 10،11].
وتعليمه صنعة الدُّروع، فقال تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 80].
وإنعامه على إبراهيم بالغلام الحليم، إذ قال تعالى: ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 101].
والتَّبشير بإسحاق، فقال تعالى: ﴿ بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 112].
وعلى موسى وقومه بفلق البحر لهم وإنجائهم من فرعون وجنده، إذ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ [البقرة: 50].
وقال: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴾ [الشعراء: 63-66].
والامتنان على موسى وهارون، إذ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴾ الآيات [الصافات: 114،115].
وإنعامه على إبراهيم وإسماعيل بفدائه بالذِّبح العظيم، إذ قال تعالى: ﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات: 107].
وإنعامه على يونس بنبذه من بطن الحوت، وإنبات شجرة اليقطين عليه، وهداية قومه للإيمان بعد ذلك، إذ قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ الآيات [الصافات: 139-142].
وإنعامه على عيسى بإظهار كثير من المعجزات على يديه، منها قوله تعالى: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنْ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 46].
وقوله تعالى: ﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ ﴾ [آل عمران: 49].
وإنعامه على مريم بتبرئة ساحتها ممَّا اتَّهمها به قومها، فقال تعالى: ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 47].
وقال تعالى: ﴿ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾ [مريم: 28-32].
وقال تعالى: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 91].
وإنعامه على زكريا بهبته يحيى، وإصلاح زوجه، إذ قال تعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 38،39].
وقال تعالى: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 90].
وفي الإنعام على الأنبياء والأصفياء تخليدٌ لذكرهم الحَسَن، فها نحن أولاء ما زلنا نقرأ - حتى الآن - ما فعلوه فيما سبق من الزَّمان، وسيأتي مَنْ بعدنا ليقتدوا بهم إلى أنْ يأذن الله تعالى بقيام الساعة، وفي هذا ما فيه من الخلود والخير، وليعلم الذين أَتوا من بعد هؤلاء الأنبياء أنَّ ما يفعلونه من خير فلن يُكفروه، وهذا من عاجل البُشرى للمؤمنين [19].
[1]انظر: روائع الإعجاز في القصص القرآن، محمود السيد حسن (ص61).
[2] انظر: بلاغة تصريف القول في القرآن الكريم، د.
عبد الله محمد النقراط (2/886).
[3] انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزُّرقاني (2/333).
[4] انظر: تفسير الطبري (14/140).
[5] انظر: بلاغة تصريف القول في القرآن الكريم (2/896).
[6] انظر: المصدر نفسه (2/899).
[7] انظر: معالم القصة في القرآن الكريم، محمد خير العدوي (ص41، 42).
[8] تفسير السعدي، (1/324).
[9] انظر: بلاغة تصريف القول في القرآن الكريم (2/901).
[10] تفسير السعدي (2/9).
[11]انظر: المصدر السابق (2/903).
[12] انظر: المصدر نفسه (2/913).
[13] تفسير أبي السعود (1/163).
[14] انظر: المصدر السابق (2/924).
[15] القصص القرآني، عماد زهير حافظ (ص16).
[16] انظر: القصة القرآنية ودورها في التربية، أحمد أحمد غَلْوَش، مجلة كلية التربية، جامعة الرياض العدد (1)، السنة (1397هـ) (ص6).
[17] انظر: معالم القصة في القرآن الكريم (ص45).
[18] انظر: بلاغة تصريف القول في القرآن الكريم (2/918).
[19] انظر: معالم القصة في القرآن الكريم (ص47).