خطب ومحاضرات
شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [2]
الحلقة مفرغة
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
[ وأما شفاعته ودعاؤه للمؤمنين فهي نافعة في الدنيا والدين باتفاق المسلمين، وكذلك شفاعته للمؤمنين يوم القيامة في زيادة الثواب ورفع الدرجات متفق عليها بين المسلمين، وقد قيل: إن بعض أهل البدعة ينكرها.
وأما شفاعته لأهل الذنوب من أمته فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم.
وأنكرها كثير من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والزيدية، وقال هؤلاء: من يدخل النار لا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها، وعند هؤلاء ما ثم إلا من يدخل الجنة فلا يدخل النار، ومن يدخل النار فلا يدخل الجنة، ولا يجتمع عندهم في الشخص الواحد ثواب وعقاب ].
بهذا يبين الشيخ صور الشفاعة الجائزة أو الشفاعة المشروعة، والصورة الأولى هي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته للمؤمنين، فهي نافعة في الدنيا والدين باتفاق المسلمين.
وكذلك شفاعته صلى الله عليه وسلم في الآخرة لأهل الكبائر من أمته وغيرها من الشفاعات المثبتة، ثم ذكر الشيخ المعارضين في هذه الشفاعة، وهم المعتزلة والخوارج، وبهذا نفهم بأن هذا سيتكرر في كتاب التوسل والوسيلة الذي نحن فيه، ونفهم أن أهل البدع في موضوع الشفاعة على طرفي نقيض، أي: أن لهم رأيين متقابلين، وهذا كثير عند أهل البدع في كل الأصول التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة، نجد أنهم على طرفي نقيض والحق بينهما، ولذلك يقول كثير من أهل السنة: إن الحق يتوسط في خصومة أهل البدع بعضهم مع بعض، يعني: تجد أدلة المانعين للشفاعة هي أدلة أهل السنة في نفي الشفاعة المنفية، والذين يطلقون الشفاعة أدلتهم هي أدلة أهل السنة في إثبات الشفاعة بشروطها، فتجد هؤلاء في رد بعضهم على بعض يخدمون السنة وهم لا يشعرون، لكن الحق وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فكما أن من أشار إليهم الشيخ قبل أكثر من درس من أهل التصوف وغيرهم يطلقون الشفاعة مطلقاً، حتى أنهم يطلبونها من الأموات الذين ليس لهم قدرة، ويطلبونها من الجمادات ويزعمونها لأوثانهم ومعبوداتهم، ولا يعترفون بشروطها عند الله عز وجل، فإنه يقابلهم آخرون ينكرون حتى الشفاعات المثبتة في الكتاب والسنة، وهم المعتزلة والزيدية والخوارج، فهؤلاء ينفون الشفاعات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها الشفاعة التي تواتر بها الخبر، وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته.
إذاً: هؤلاء -أي: الذين نفوا الشفاعة-، أدلتهم حجة على الذين أطلقوها بلا شروط، وأدلة أولئك حجة على النافين أو الذين ينكرون الشفاعة بلا قيد ولا شرط.
قال رحمه الله تعالى: [ وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأئمة كالأربعة وغيرهم، فيقرون بما تواترت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله يخرج من النار قوماً بعد أن يعذبهم الله ما شاء أن يعذبهم، يخرجهم بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويخرج آخرين بشفاعة غيره، ويخرج قوماً بلا شفاعة ].
هذا كله ورد في حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وغيرهما في الصحيحين، ومفاده: أن الله عز وجل يأذن للنبي صلى الله عليه وسلم بعدة شفاعات: منها شفاعته للخلائق جميعاً بأن يفصل الله بينهم القضاء، ومنها شفاعته صلى الله عليه وسلم لطوائف من أهل الجنة بأن تفتح لهم أبوابها بعد أن توصد أمامهم، ومنها شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، ومنها شفاعة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين والملائكة، ومنها شفاعة القرآن، وشفاعة الصيام.. كل هذه شفاعات يأذن الله بها ووردت أيضاً في الحديث، ثم بعد ذلك ثبت الخبر أن الله عز وجل حينما تحدث جميع هذه الشفاعات يقول الله عز وجل: شفع الملائكة وشفع النبيون ولم تبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيقبض قبضة بيده من أهل النار، فيخرجهم منها، ومنهم من لم يعمل خيراً قط، والله فعال لما يريد، له في عباده شئون، ويفعل في خلقه ما يشاء، ورحمته وسعت كل شيء، وذلك كله إلى الله عز وجل، وفي ذلك إعلام للعباد بألا يتألوا على الله، وليعلموا أن الأمور بيد الله، وليس للعباد أن يحكموا بأحكام على غيرهم، وليس لهم بأن يحكموا أفعال الله عز وجل بمقاييسهم، فالله فعال لما يريد، لو عذب الخلق جميعاً فله ذلك، ولو رحمهم جميعاً فله ذلك، لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه.
إذاً: بعد استنفاذ الشفاعات يحدث هذا الذي يحدث، وهو أن الله عز وجل يخرج أقواماً من النار لم يعملوا خيراً قط.
وقوله: (لم يعملوا خيراً قط)، هذه كلمة مجملة، اختلف العلماء في تقريرها، وهل يشمل ذلك من لم يكن عنده إيمان ألبتة؛ لأن هذا ظاهر النصوص؛ لأنه ورد في الحديث نفسه، أنه قال: (أخرجوا من في قلبه مثقال شعيرة.. مثقال خردلة.. مثقال ذرة من النار)، والذرة هي الهباء التي لا يكاد يكون لها وزن، ثم بعد ذلك تأتي هذه القصة، فالله أعلم ما تفسير ذلك، وبعضهم فسره بتفسيرات ليس عليها دليل، منهم من قال: أن هؤلاء هم الذين أسلموا في آخر لحظة من حياتهم ولم يتمكنوا من أن يعملوا خيراً قط، لكن هذا يرد بأن الإسلام يجب ما قبله، وأن من أسلم بدل الله سيئاته حسنات، فتأتي كالجبال بإذن الله، لكن ومع ذلك تبقى المسألة محتملة، الله أعلم بمراده.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ واحتج هؤلاء المنكرون للشفاعة بقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [البقرة:48]، وبقوله: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ [البقرة:123]، وبقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254]، وبقوله: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18]، وبقوله: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48] ].
سبب خطأ المبتدعة في رد الشفاعة
وبعبارة أخرى: لو أخذت هذه النصوص مجردة عن القواعد السليمة لتفسير النصوص؛ وهي: تفسير القرآن بالقرآن، تفسير القرآن بالسنة، تفسير القرآن بفهوم الصحابة العرب الأقحاح الذين نزل عليهم القرآن، لكان ظاهرها يدل على قولهم بإنكار الشفاعة، لكن الصحيح والذي عليه أهل الحق، أن هذه النصوص لابد أن تفسر بالنصوص الأخرى؛ التي تذكر شروط الشفاعة والتي تستثني، ثم إن هذه النصوص مفسرة بفهم النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره لها، ومفسرة بأقواله التي أثبتت الشفاعة على نحو آخر بشروط وضوابط، وهذا هو منهج السلف؛ أنهم لا يعرضون نصوص الوعد دون نصوص الوعيد، ولا يعرضون النصوص دون تحكيم القواعد الموضحة لها والمبينة والمفسرة، بل لا يضربون آيات الله بعضها ببعض، فإذا جاء نص ظاهره مثل هذا النص الذي يمنع الشفاعة مطلقاً، فلا يمكن تفسيره بمعزل عن النص الآخر الذي يثبت الشفاعة بشروطها.
وهذا المنهج هو الميزان الذي سلم به أهل السنة والجماعة في جميع نصوص الشرع، في الشفاعة وفي غيرها؛ وهو أنهم يأخذون بجميع النصوص، وهذا منهج اختل عند كثير من الناس في العصر الحاضر مع الأسف، لما قل علمهم وقل فقههم واعتمدوا على آرائهم وعقولهم، فصاروا يخبطون في فهمهم لنصوص الشرع وفي تفسيرهم لها، فيقعون فيما وقعت فيه الفرق أهل الأهواء والبدع.
جواب أهل السنة على أدلة المنكرين للشفاعة
أحدهما: أنها لا تنفع المشركين، كما قال تعالى في نعتهم: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:42-48] فهؤلاء نفى عنهم نفع شفاعة الشافعين لأنهم كانوا كفاراً.
والثاني: أنه يراد بذلك نفي الشفاعة التي يثبتها أهل الشرك، ومن شابههم من أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، الذين يظنون أن للخلق عند الله من القدر أن يشفعوا عنده بغير إذنه، كما يشفع الناس بعضهم عند بعض فيقبل المشفوع إليه شفاعة الشافع لحاجته إليه رغبة ورهبة، وكما يعامل المخلوق المخلوق بالمعاوضة.
فالمشركون كانوا يتخذون من دون الله شفعاء من الملائكة والأنبياء والصالحين، ويصورون تماثيلهم فيستشفعون بها ويقولون: هؤلاء خواص الله، فنحن نتوسل إلى الله بدعائهم وعبادتهم ليشفعوا لنا، كما يتوسل إلى الملوك بخواصهم لكونهم أقرب إلى الملوك من غيرهم، فيشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك، وقد يشفع أحدهم عند الملك فيما لا يختاره فيحتاج إلى إجابة شفاعته رغبة ورهبة، فأنكر الله هذه الشفاعة فقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وقال: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26].
وقال عن الملائكة: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:26-28].
وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22-23].
وقال تعالى: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:51].
وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [السجدة:4].
وقال تعالى: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]، وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94]، وقال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:43-45].
وقال تعالى: وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه:108-109].
وقال صاحب يس: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:22-25].
فهذه الشفاعة التي أثبتها المشركون للملائكة والأنبياء والصالحين حتى صوروا تماثيلهم وقالوا: استشفاعنا بتماثيلهم استشفاع بهم، وكذلك قصدوا قبورهم وقالوا: نحن نستشفع بهم بعد مماتهم ليشفعوا لنا إلى الله، وصوروا تماثيلهم فعبدوهم كذلك، وهذه الشفاعة أبطلها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذم المشركين عليها وكفرهم بها.
قال الله تعالى عن قوم نوح: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [نوح:23-24]، قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: هؤلاء قوم صالحون كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، وهذا مشهور في كتب التفسير والحديث وغيرها كـالبخاري وغيره، وهذه أبطلها النبي صلى الله عليه وسلم وحسم مادتها وسد ذريعتها، حتى لعن من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلي فيها، وإن كان المصلي فيها لا يستشفع بهم، ونهى عن الصلاة إلى القبور، وأرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأمره: ألا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه، ولا تمثالاً إلا طمسه ومحاه، ولعن المصورين.
وعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)، وفي لفظ: (ولا صورة إلا طمستها) أخرجه مسلم ].
خلاصة الصورة التي ذكرها الشيخ وسيفصل فيها فيما بعد في الشفاعة التي أثبتها المشركون للملائكة والأنبياء والصالحين: أنهم جعلوا هؤلاء الشفعاء يشاركون الله عز وجل في ربوبيته، بمعنى: أن لهم تصرفاً نافذاً مع الله عز وجل، وإلا فلو قالوا بالشفاعة بشروطها، فنحن نعلم أن الشفاعة بشروطها على نوعين:
شفاعة ثبتت لأناس بأعيانهم، إما أشخاص بأعيانهم كثبوتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإما جنس كجنس الأنبياء وجنس الملائكة وجنس الشهداء إذا ثبت الحديث وغيرها.
وإما أن نقول بالنوع الثاني: وهو أن الشفاعة تثبت يوم القيامة بشروطها لمن يأذن الله، ولا نعين الأشخاص ما لم يعينهم الشرع، لكن أهل البدع أثبتوها لأناس بأعيانهم دون أن يعرفوا أن الله أذن لهؤلاء، فيثبتونها للأحياء والأموات ممن يسمونهم الأولياء، ويثبتونها أحياناً لجمادات أو لأشخاص موهومين أو غير ذلك، وكل ذلك جعلهم يتصورون أن هؤلاء الشفعاء يشاركون في أفعال الله عز وجل فأشركوا في الله بربوبيته، وهو من أعظم أنواع الشرك، وترتب على هذا بالضرورة الشرك في الإلهية؛ لأنه من ادعى أن أحداً من الخلق يشرك مع الله في ربوبيته عبده من دون الله، فشرك الربوبية يفضي إلى شرك الإلهية. والله أعلم.
هذه النصوص لو أخذت بمفردها دون إرجاعها إلى النصوص الأخرى، لكان ظاهرها يؤيد هؤلاء المعارضين الذين أنكروا الشفاعة.
وبعبارة أخرى: لو أخذت هذه النصوص مجردة عن القواعد السليمة لتفسير النصوص؛ وهي: تفسير القرآن بالقرآن، تفسير القرآن بالسنة، تفسير القرآن بفهوم الصحابة العرب الأقحاح الذين نزل عليهم القرآن، لكان ظاهرها يدل على قولهم بإنكار الشفاعة، لكن الصحيح والذي عليه أهل الحق، أن هذه النصوص لابد أن تفسر بالنصوص الأخرى؛ التي تذكر شروط الشفاعة والتي تستثني، ثم إن هذه النصوص مفسرة بفهم النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره لها، ومفسرة بأقواله التي أثبتت الشفاعة على نحو آخر بشروط وضوابط، وهذا هو منهج السلف؛ أنهم لا يعرضون نصوص الوعد دون نصوص الوعيد، ولا يعرضون النصوص دون تحكيم القواعد الموضحة لها والمبينة والمفسرة، بل لا يضربون آيات الله بعضها ببعض، فإذا جاء نص ظاهره مثل هذا النص الذي يمنع الشفاعة مطلقاً، فلا يمكن تفسيره بمعزل عن النص الآخر الذي يثبت الشفاعة بشروطها.
وهذا المنهج هو الميزان الذي سلم به أهل السنة والجماعة في جميع نصوص الشرع، في الشفاعة وفي غيرها؛ وهو أنهم يأخذون بجميع النصوص، وهذا منهج اختل عند كثير من الناس في العصر الحاضر مع الأسف، لما قل علمهم وقل فقههم واعتمدوا على آرائهم وعقولهم، فصاروا يخبطون في فهمهم لنصوص الشرع وفي تفسيرهم لها، فيقعون فيما وقعت فيه الفرق أهل الأهواء والبدع.
استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [9] | 3406 استماع |
شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [1] | 2847 استماع |
شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [10] | 2815 استماع |
شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [16] | 2787 استماع |
شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [31] | 2751 استماع |
شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [8] | 2658 استماع |
شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [35] | 2591 استماع |
شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [29] | 2547 استماع |
شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [26] | 2521 استماع |
شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [36] | 2457 استماع |