شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال شيخ الإسلام قدس الله روحه:

[ الحمد لله؛ نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه حتى أتاه اليقين من ربه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً ].

في هذا الاستفتاح ينبغي التنبيه إلى أن الشيخ في هذا الدرس بدأ بكتاب جديد في ثنايا المجلد الأول من الفتاوى، ولذلك افتتح بخطبة الحاجة، وهو كتاب التوسل والوسيلة، وهذا الكتاب كما يوجد ضمن الفتاوى، فهو يوجد مستقلاً ومطبوعاً في كتاب متداول، فينبغي التنبه إلى أنه في هذه الافتتاحية سيبدأ في كتاب جديد يشمل باقي المجلد الذي بين أيدينا.

ابتغاء الوسيلة إلى الله بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ففرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق أهل الجنة وطريق أهل النار، وبين أوليائه وأعدائه.

فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وقد أرسله الله إلى الثقلين الجن والإنس، فعلى كل أحد أن يؤمن به وبما جاء به ويتبعه في باطنه وظاهره، والإيمان به ومتابعته هو سبيل الله وهو دين الله، وهو عبادة الله، وهو طاعة الله، وهو طريق أولياء الله، وهو الوسيلة التي أمر الله بها عباده في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35]، فابتغاء الوسيلة إلى الله إنما يكون لمن توسل إلى الله بالإيمان بمحمد واتباعه.

وهذا التوسل بالإيمان به وطاعته فرض على كل أحد باطناً وظاهراً، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته؛ في مشهده ومغيبه، لا يسقط التوسل بالإيمان به وبطاعته عن أحد من الخلق في حال من الأحوال بعد قيام الحجة عليه، ولا بعذر من الأعذار، ولا طريق إلى كرامة الله ورحمته والنجاة من هوانه وعذابه إلا بالتوسل بالإيمان به وبطاعته.

وهو صلى الله عليه وسلم شفيع الخلائق، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فهو أعظم الشفعاء قدراً وأعلاهم جاهاً عند الله.

وقد قال تعالى عن موسى: وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]، وقال عن المسيح: وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [آل عمران:45]، ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم جاهاً من جميع الأنبياء والمرسلين، لكن شفاعته ودعاءه إنما ينتفع به من شفع له الرسول ودعا له، فمن دعا له الرسول وشفع له توسل إلى الله بشفاعته ودعائه، كما كان أصحابه يتوسلون إلى الله بدعائه وشفاعته، وكما يتوسل الناس يوم القيامة إلى الله تبارك وتعالى بدعائه وشفاعته صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً.

ولفظ التوسل في عرف الصحابة كانوا يستعملونه في هذا المعنى ].

قبل أن يبدأ الشيخ تفصيله في التوسل أحب أن أشير أنه في هذه المقدمة أشار الشيخ إلى مجمل الموضوع وسيفصل فيما بعد، فأشار إلى حقيقة التوسل التي سيتكلم عنها؛ لأن المخالفين خالفوا في مفهوم التوسل وحقيقته فوقعوا في البدع، وذكر بإيجاز أن حقيقة التوسل هو التقرب إلى الله عز وجل، وأن كل تقرب على نحو مشروع إلى الله بالعبادة والدعاء واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ذلك هو التوسل الحقيقي، وأنه يدخل في التوسل صور أيضاً هي نوع من التقرب، لكن يخفى أمرها على الناس، وقد أشار شيخ الإسلام هنا إلى شيء منها، وهي التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، أي: بطلب الدعاء منه، وهذه سيتكلم عنها الشيخ كثيراً؛ لأن الناس توهموا في مثل هذه الصورة أن التوسل يكون بذات النبي صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، وأن التوسل يكون بدعائهم من دون الله وصرف أنواع العبادة له أو لغيره من الخلق، فأراد أن يستفتح هذا الكتاب بهذه المقدمة التي ضمنها المفهوم الصحيح عن حقيقة التوسل، وأنه يعني التقرب إلى الله بعبادته بما شرع هو سبحانه وشرع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الصور الأخرى التي تخرج عن هذا المعنى ملحقة به وهي صور محدودة، كالتوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وما سيذكره أيضاً فيما بعد من طلب الدعاء من المسلمين أو من الرجل الصالح، وأن هذا ليس فيه توسل بالذوات، إنما فيه طلب لأمر مشروع، وهو أن تطلب من المسلم أن يدعو لك وهو قادر حي مستطيع، وهذا من باب التعاون على البر والتقوى، ومن باب النصيحة لعامة المسلمين وخاصتهم، لا من باب التبرك أو التوسل بالذوات كما يفعل كثير من الجهلة.

التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته مع الإيمان به

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والتوسل بدعائه وشفاعته ينفع مع الإيمان به، وأما بدون الإيمان به فالكفار والمنافقون لا تغني عنهم شفاعة الشافعين في الآخرة.

ولهذا نهي عن الاستغفار لعمه وأبيه وغيرهما من الكفار، ونهي عن الاستغفار للمنافقين وقيل له: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون:6]، ولكن الكفار يتفاضلون في الكفر كما يتفاضل أهل الإيمان في الإيمان ].

إذاً: لو كانت الوسيلة بيد النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً دون أن تقيد بإذن الله عز وجل وبشروطها لقبل استغفاره لمن لم يأذن الله له، لكن لما شرط قبول الاستغفار بشروطه الشرعية، صار الأمر لا يرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما يرجع إلى إذن الله عز وجل، وإلى ما شرعه الله لرسوله.

والرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاه ربه عن أن يستغفر للمشركين، التزم هذا الأمر فلم يستغفر لهم، ولم يأمر به ولم يشرعه، لا كما يفعل كثير من المبتدعة الذين لا يفرقون بين هذا وذاك.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولكن الكفار يتفاضلون في الكفر كما يتفاضل أهل الإيمان في الإيمان، قال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]، فإذا كان في الكفار من خف كفره بسبب نصرته ومعونته، فإنه تنفعه شفاعته في تخفيف العذاب عنه لا في إسقاط العذاب بالكلية، كما في صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: (قلت: يا رسول الله، فهل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم، هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)، وفي لفظ: (إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل نفعه ذلك؟ قال: نعم، وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح).

وفيه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منهما دماغه) وقال: (إن أهون أهل النار عذاباً أبو طالب ، وهو منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه).

وكذلك ينفع دعاؤه لهم بألا يعجل عليهم العذاب في الدنيا (كما كان صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، وروي أنه دعا بذلك: (أن اغفر لهم فلا تعجل عليهم العذاب في الدنيا)، قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [النحل:61].

وأيضاً فقد يدعو لبعض الكفار بأن يهديه الله أو يرزقه فيهديه أو يرزقه، كما دعا لأم أبي هريرة حتى هداها الله، وكما دعا لدوس فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم) فهداهم الله.

وكما روى أبو داود أنه استسقى لبعض المشركين لما طلبوا منه أن يستسقي لهم، فاستسقى لهم، وكان ذلك إحساناً منه إليهم يتألف به قلوبهم، كما كان يتألفهم بغير ذلك ].

على أي حال في هذا المقطع لا يزال الشيخ يقدم لما سيفصله، ليبين بعض الصور الجائزة في التوسل والصور الممنوعة، وأن الصور التي ورد استثناؤها من القاعدة كشفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب لا يقاس عليها؛ لأنه لا يجوز القياس في أمور الغيب.

ثم إن هذه الشفاعة التي ستحدث لـأبي طالب لا تكون في مصيره، إنما تكون فيما يتعلق بتخفيف العذاب عنه، ونعلم أن أهل النار تتفاوت درجاتهم فيها.

ثم إن هذه الصور التي تخرج عن القاعدة في ظاهرها صور محدودة جاءت عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

أما الصور الأخرى التي ابتدعها أهل الأهواء وتوسعوا في مفهوم الشفاعة فيها، فهي من الباطل الذي يتعارض مع أصول الشرع، لأنها قول على الله بغير علم، والقول على الله من أعظم الذنوب. والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ففرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق أهل الجنة وطريق أهل النار، وبين أوليائه وأعدائه.

فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وقد أرسله الله إلى الثقلين الجن والإنس، فعلى كل أحد أن يؤمن به وبما جاء به ويتبعه في باطنه وظاهره، والإيمان به ومتابعته هو سبيل الله وهو دين الله، وهو عبادة الله، وهو طاعة الله، وهو طريق أولياء الله، وهو الوسيلة التي أمر الله بها عباده في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35]، فابتغاء الوسيلة إلى الله إنما يكون لمن توسل إلى الله بالإيمان بمحمد واتباعه.

وهذا التوسل بالإيمان به وطاعته فرض على كل أحد باطناً وظاهراً، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته؛ في مشهده ومغيبه، لا يسقط التوسل بالإيمان به وبطاعته عن أحد من الخلق في حال من الأحوال بعد قيام الحجة عليه، ولا بعذر من الأعذار، ولا طريق إلى كرامة الله ورحمته والنجاة من هوانه وعذابه إلا بالتوسل بالإيمان به وبطاعته.

وهو صلى الله عليه وسلم شفيع الخلائق، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فهو أعظم الشفعاء قدراً وأعلاهم جاهاً عند الله.

وقد قال تعالى عن موسى: وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]، وقال عن المسيح: وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [آل عمران:45]، ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم جاهاً من جميع الأنبياء والمرسلين، لكن شفاعته ودعاءه إنما ينتفع به من شفع له الرسول ودعا له، فمن دعا له الرسول وشفع له توسل إلى الله بشفاعته ودعائه، كما كان أصحابه يتوسلون إلى الله بدعائه وشفاعته، وكما يتوسل الناس يوم القيامة إلى الله تبارك وتعالى بدعائه وشفاعته صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً.

ولفظ التوسل في عرف الصحابة كانوا يستعملونه في هذا المعنى ].

قبل أن يبدأ الشيخ تفصيله في التوسل أحب أن أشير أنه في هذه المقدمة أشار الشيخ إلى مجمل الموضوع وسيفصل فيما بعد، فأشار إلى حقيقة التوسل التي سيتكلم عنها؛ لأن المخالفين خالفوا في مفهوم التوسل وحقيقته فوقعوا في البدع، وذكر بإيجاز أن حقيقة التوسل هو التقرب إلى الله عز وجل، وأن كل تقرب على نحو مشروع إلى الله بالعبادة والدعاء واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ذلك هو التوسل الحقيقي، وأنه يدخل في التوسل صور أيضاً هي نوع من التقرب، لكن يخفى أمرها على الناس، وقد أشار شيخ الإسلام هنا إلى شيء منها، وهي التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، أي: بطلب الدعاء منه، وهذه سيتكلم عنها الشيخ كثيراً؛ لأن الناس توهموا في مثل هذه الصورة أن التوسل يكون بذات النبي صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، وأن التوسل يكون بدعائهم من دون الله وصرف أنواع العبادة له أو لغيره من الخلق، فأراد أن يستفتح هذا الكتاب بهذه المقدمة التي ضمنها المفهوم الصحيح عن حقيقة التوسل، وأنه يعني التقرب إلى الله بعبادته بما شرع هو سبحانه وشرع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الصور الأخرى التي تخرج عن هذا المعنى ملحقة به وهي صور محدودة، كالتوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وما سيذكره أيضاً فيما بعد من طلب الدعاء من المسلمين أو من الرجل الصالح، وأن هذا ليس فيه توسل بالذوات، إنما فيه طلب لأمر مشروع، وهو أن تطلب من المسلم أن يدعو لك وهو قادر حي مستطيع، وهذا من باب التعاون على البر والتقوى، ومن باب النصيحة لعامة المسلمين وخاصتهم، لا من باب التبرك أو التوسل بالذوات كما يفعل كثير من الجهلة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والتوسل بدعائه وشفاعته ينفع مع الإيمان به، وأما بدون الإيمان به فالكفار والمنافقون لا تغني عنهم شفاعة الشافعين في الآخرة.

ولهذا نهي عن الاستغفار لعمه وأبيه وغيرهما من الكفار، ونهي عن الاستغفار للمنافقين وقيل له: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون:6]، ولكن الكفار يتفاضلون في الكفر كما يتفاضل أهل الإيمان في الإيمان ].

إذاً: لو كانت الوسيلة بيد النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً دون أن تقيد بإذن الله عز وجل وبشروطها لقبل استغفاره لمن لم يأذن الله له، لكن لما شرط قبول الاستغفار بشروطه الشرعية، صار الأمر لا يرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما يرجع إلى إذن الله عز وجل، وإلى ما شرعه الله لرسوله.

والرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاه ربه عن أن يستغفر للمشركين، التزم هذا الأمر فلم يستغفر لهم، ولم يأمر به ولم يشرعه، لا كما يفعل كثير من المبتدعة الذين لا يفرقون بين هذا وذاك.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولكن الكفار يتفاضلون في الكفر كما يتفاضل أهل الإيمان في الإيمان، قال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]، فإذا كان في الكفار من خف كفره بسبب نصرته ومعونته، فإنه تنفعه شفاعته في تخفيف العذاب عنه لا في إسقاط العذاب بالكلية، كما في صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: (قلت: يا رسول الله، فهل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم، هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)، وفي لفظ: (إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل نفعه ذلك؟ قال: نعم، وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح).

وفيه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منهما دماغه) وقال: (إن أهون أهل النار عذاباً أبو طالب ، وهو منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه).

وكذلك ينفع دعاؤه لهم بألا يعجل عليهم العذاب في الدنيا (كما كان صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، وروي أنه دعا بذلك: (أن اغفر لهم فلا تعجل عليهم العذاب في الدنيا)، قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [النحل:61].

وأيضاً فقد يدعو لبعض الكفار بأن يهديه الله أو يرزقه فيهديه أو يرزقه، كما دعا لأم أبي هريرة حتى هداها الله، وكما دعا لدوس فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم) فهداهم الله.

وكما روى أبو داود أنه استسقى لبعض المشركين لما طلبوا منه أن يستسقي لهم، فاستسقى لهم، وكان ذلك إحساناً منه إليهم يتألف به قلوبهم، كما كان يتألفهم بغير ذلك ].

على أي حال في هذا المقطع لا يزال الشيخ يقدم لما سيفصله، ليبين بعض الصور الجائزة في التوسل والصور الممنوعة، وأن الصور التي ورد استثناؤها من القاعدة كشفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب لا يقاس عليها؛ لأنه لا يجوز القياس في أمور الغيب.

ثم إن هذه الشفاعة التي ستحدث لـأبي طالب لا تكون في مصيره، إنما تكون فيما يتعلق بتخفيف العذاب عنه، ونعلم أن أهل النار تتفاوت درجاتهم فيها.

ثم إن هذه الصور التي تخرج عن القاعدة في ظاهرها صور محدودة جاءت عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

أما الصور الأخرى التي ابتدعها أهل الأهواء وتوسعوا في مفهوم الشفاعة فيها، فهي من الباطل الذي يتعارض مع أصول الشرع، لأنها قول على الله بغير علم، والقول على الله من أعظم الذنوب. والله أعلم.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:

[ وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاهاً عند الله، لا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته، لكن دعاء الأنبياء وشفاعتهم ليس بمنزلة الإيمان بهم وطاعتهم، فإن الإيمان بهم وطاعتهم توجب سعادة الآخرة والنجاة من العذاب مطلقاً وعاماً، فكل من مات مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مطيعاً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ كان من أهل السعادة قطعاً، ومن مات كافراً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أهل النار قطعاً ].

أراد الشيخ بذكر هذه الحقيقة تقرير أمر اتهم أهلُ الأهواء أهل السنة بأنهم ينكرونه أو قدحوا فيهم من هذا الجانب؛ ذلك أن أهل السنة والجماعة لما أنكروا على أهل البدع التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه من دون الله عز وجل في قبره وهو ميت، وأنكروا عليهم أنواعاً من التوسلات البدعية، وما زعموا أن له صلى الله عليه وسلم من الخصائص في الدنيا والآخرة ما لا يجوز إلا لله عز وجل، وحينما زعموا ذلك ظنوا أن من منع هذا فقد انتقص الرسول صلى الله عليه وسلم، فكأن الشيخ أراد أن يبين أن المسلمين اتفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاهاً عند الله، وأن هذا الجاه إنما هو منَّة من الله عز وجل وفضل، وأن هذا الجاه الذي للنبي صلى الله عليه وسلم مشروط بشروطه وبضوابطه التي ذكرها الله عز وجل، وأن شفاعته راجعة إلى إذن الله وإلى انطباق الشروط حتى يأذن الله بها، وأنه لا يعني قولنا بأنه لا يجوز تقديس النبي صلى الله عليه وسلم أو التوسل به انتقاصه أبداً، بل يعني ذلك تكريمه صلى الله عليه وسلم من أن يحدث باسمه أو في دينه ما لا يجوز عند الله عز وجل، فإنما ذلك لحماية جنابه ولحماية حقه صلى الله عليه وسلم، بعكس ما يظن أهل الأهواء.

إذاً: اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاهاً عند الله، وأهل السنة هم أول من قرر ذلك، وأنه لا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، والشفاعة العظمى دليل ذلك، بل أدلة ذلك متواترة، فهو أفضل الخلق على الإطلاق صلى الله عليه وسلم؛ أفضلهم ذاتاً، وأفضلهم جاهاً، وأفضلهم اعتباراً، وأفضلهم قدراً ومنزلة، وأقربهم إلى الله عز وجل، لكن لا يعني ذلك أن تكون له خصائص لا تجوز إلا الله، أو أن يتوسل به التوسل البدعي؛ لأن ذلك من انتقاص قدره لا من تعظيمه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما الشفاعة والدعاء، فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع، فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار، والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم، ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاهاً، فلا شفيع أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الخليل إبراهيم، وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له كما قال تعالى عنه: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41] ].

بعد أن بين أن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس جاهاً، ذكر أن الشفاعة والدعاء لها شروط وموانع، فإن شفاعته لا تنفع الكفار، فأراد أن يمهد بهذا المقام حتى يذكر الأدلة من الكتاب والسنة على أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الشفعاء لا يمكن أن تشمل الكافرين أبداً، وأن الله عز وجل منع ذلك، وأن ذلك لا يعني الاستنقاص من جاه النبي صلى الله عليه وسلم أو جاه إبراهيم أو غيره من الأنبياء، إنما يعني أن الأمر راجع لله وحده، فله الأمر سبحانه لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه.