شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [29]


الحلقة مفرغة

سيبين الشيخ رحمه الله فيما يأتي الحقيقة الشرعية للتوسل على جهة التفصيل والاستدلال لذلك، ويبين أنواع التوسل الشرعي إجمالاً، ثم سيلخصها في نهاية هذا المقطع كما سيتبين إن شاء الله.

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى:

[ وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).

وقد قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:8-9].. ].

بين الشيخ فيما سبق أن حقيقة التوسل تكون أولاً بحب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بالسعي إلى ما يرضي الله وما يرضي الرسول صلى الله عليه وسلم.

أي أن من أنواع التوسل المشروعة: الحب ثم الرضا ثم الطاعة، ثم ذكر هنا أيضاً توقير الرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيره ونحو ذلك، وأن هذه هي حقيقة التوسل الذي ينبغي أن يسعى إليه المسلم، وأن هذه الأنواع من التوسل الشرعي تغني الإنسان عن أن يتطلع إلى توسلات أخرى مبتدعة وليست مما يحبه الله ولا يرضاه، وأن ما شرعه الله عز وجل من التوسل الشرعي الصحيح الذي أنواعه كثيرة هو القدر الكافي الذي لا يحتاج البشر بعده إلى أن يلجئوا إلى خلق الله من دونه سبحانه، ليميز لنا في هذه المقامات بين التوسل الشرعي والتوسلات البدعية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، وتعزيره نصره ومنعه، والتسبيح بكرة وأصيلاً لله وحده، فإن ذلك من العبادة لله.

والعبادة هي لله وحده: فلا يصلى إلا لله، ولا يصام إلا لله، ولا يحج إلا إلى بيت الله، ولا تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة؛ لكون هذه المساجد بناها أنبياء الله بإذن الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يحلف إلا بالله، ولا يدعى إلا الله، ولا يستغاث إلا بالله.

وأما ما خلقه الله سبحانه من الحيوان والنبات والمطر والسحاب وسائر المخلوقات، فلم يجعل غيره من العباد واسطة في ذلك الخلق، كما جعل الرسل واسطة في التبليغ، بل يخلق ما يشاء بما يشاء من الأسباب، وليس في المخلوقات شيء يستقل بإبداع شيء، بل لا بد للسبب من أسباب أخر تعاونه، ولا بد من دفع المعارض عنه، وذلك لا يقدر عليه إلا الله وحده، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، بخلاف الرسالة، فإن الرسول وحده كان واسطة في تبليغ رسالته إلى عباده.. ].

يقصد الشيخ الفرق بين كون الرسل وسائط في تبليغ الرسالة، وبين كونهم وسائط في العبادة، فكونهم واسطة في تبليغ الرسالة هذا عين الحق؛ لأن الله أرسلهم وبعثهم ليبينوا التوحيد ويشرعوا الشرائع، وجعلهم هم الوسيلة للتبليغ، يعني: الواسطة؛ فهذه وسيلة، لكن ليس للإنسان أن يتعبد بها، يعني: أن يجعلهم وسيلة في العبادة.

نعم، الأنبياء هم الذين بعثهم الله بالحق، وطاعتهم من عبادة الله عز وجل، فهم واسطة في التبليغ، لكنهم ليسوا وسائط في العبادة، فإنه لا يجوز أن يعبد إلا الله وحده، ولم يجعل الله عز وجل بينه وبين خلقه وسيطاً في العبادة، لا الأنبياء ولا الملائكة ولا من دونهم.

وهذا التفريق تفريق شرعي وعقلي، فكون الأنبياء وسائط في التبليغ لا يعني ذلك اتخاذهم وسائط في العبادة؛ لأن مما بلغوه عن الله تحريم أن تتخذ المخلوقات وسائط، وأمر ألا ندعو غيره، وألا نعبد غيره، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نصرف أي نوع من العبادة إلا له عز وجل، والرسل ليس عليهم إلا البلاغ، نحبهم ونوقرهم ونتبع ما جاءوا به، ونعلم أن ما جاءوا به هو الحق، ونصدقهم بما شرعه الله عز وجل على ألسنتهم، وما عدا ذلك فليس بمشروع.

قال رحمه الله تعالى: [ وأما جعل الهدى في قلوب العباد فهو إلى الله تعالى لا إلى الرسول، كما قال الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، وقال تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النحل:37].

وكذلك دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، واستغفارهم وشفاعتهم هو سبب ينفع إذا جعل الله تعالى المحل قابلاً له، وإلا فلو استغفر النبي للكفار والمنافقين لم يغفر لهم، قال الله تعالى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون:6].

وأما الرسل فقد تبين أنهم هم الوسائط بيننا وبين الله عز وجل في أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وخبره؛ فعلينا أن نصدقهم في كل ما أخبروا به، ونطيعهم فيما أوجبوا وأمروا، وعلينا أن نصدق بجميع أنبياء الله عز وجل، لا نفرق بين أحد منهم، ومن سب واحداً منهم كان كافراً مرتداً مباح الدم.

وإذا تكلمنا فيما يستحقه الله تبارك وتعالى من التوحيد؛ بيَّنَّا أن الأنبياء وغيرهم من المخلوقين لا يستحقون ما يستحقه الله تبارك وتعالى من خصائص، فلا يشرك بهم ولا يتوكل عليهم، ولا يستغاث بهم كما يستغاث بالله، ولا يقسم على الله بهم، ولا يتوسل بذواتهم، وإنما يتوسل بالإيمان بهم وبمحبتهم وطاعتهم، وموالاتهم وتعزيرهم وتوقيرهم، ومعاداة من عاداهم، وطاعتهم فيما أمروا، وتصديقهم فيما أخبروا، وتحليل ما حللوه، وتحريم ما حرموه.. ].

في هذه السطور الثلاثة لخَّص الشيخ ما سبق تلخيصاً رائعاً جداً، وأعطى خلاصة ما سبق بعبارات جامعة وهي وصف حقيقة التوسل الشرعي، وقال: إنما يتوسل بالإيمان بهم أولاً، ومحبتهم وطاعتهم وموالاتهم وتعزيرهم وتوقيرهم ومعاداة من عاداهم، وطاعتهم فيما أمروا به، وتصديقهم.. إلى آخر ما قال.

هذه خلاصة وصف التوسل الشرعي بأنواعه التي سيذكرها فيما بعد من وجه آخر.

والشيخ فصَّل ليحكم المسألة ويسدُّ باب الشبهات والاعتراضات التي قال بها أهل الأهواء الذين يعملون أو يقولون بالتفسيرات البدعية.

قال رحمه الله تعالى: [ والتوسل بذلك على وجهين.. ].

المقصود بـ(ذلك) هذه الأعمال: الإيمان والمحبة والطاعة والموالاة وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه وتوقيره.. إلى آخر هذه الأمور الإيمانية، فالتوسل بها على وجهين..

قال رحمه الله تعالى: [ أحدهما: أن يتوسل بذلك إلى إجابة الدعاء وإعطاء السؤال: كحديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فإنهم توسلوا بأعمالهم الصالحة ليجيب دعاءهم ويفرج كربتهم، وقد تقدم بيان ذلك.

والثاني: التوسل بذلك إلى حصول ثواب الله وجنته ورضوانه.. ].

الوجهان متقاربان، لكن الأول غالباً تطلب به المنافع العاجلة.

والنوع الثاني: هو التوسل بالأعمال الصالحة بطلب الثواب لها من الله عز وجل، أي: حصول الثواب وحصول المصلحة الآجلة من تحصيل السعادة والجنة في الآخرة، ورضوان الله عز وجل قبل ذلك كله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والثاني: التوسل بذلك إلى حصول ثواب الله وجنته ورضوانه، فإن الأعمال الصالحة التي أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم هي الوسيلة التامة إلى سعادة الدنيا والآخرة.

ومثل هذا كقول المؤمنين: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193]، فإنهم قدموا ذكر الإيمان قبل الدعاء.

ومثل ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المؤمنين في قوله تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ[المؤمنون:109]، وأمثال ذلك كثير.

وكذلك التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، فإنه يكون على وجهين.. ].

الوجهان اللذان سيذكر فيهما الشيخ أنواع التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم هما مثل الوجهين السابقين: توسل لتحقيق مصلحة عاجلة، أو توسل لطلب مصلحة آجلة، كذلك التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم قد يطلب به مصلحة عاجلة، أو مصلحة آجلة، المصلحة العاجلة تحصيل المنافع في الدنيا، ودفع المضار، والمصلحة الآجلة تكون بالشفاعة ونحو ذلك.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أحدهما: أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيدعو ويشفع، كما كان يطلب منه في حياته، وكما يطلب منه يوم القيامة، حين يأتون آدم ونوحاً ثم الخليل ثم موسى الكليم ثم عيسى، ثم يأتون محمداً صلى الله عليه وسلم وعليهم فيطلبون منه الشفاعة.

والوجه الثاني: أن يكون التوسل مع ذلك بأن يسأل الله تعالى بشفاعته ودعائه، كما في حديث الأعمى المتقدم بيانه وذكره، فإنه طلب منه الدعاء والشفاعة، فدعا له الرسول وشفع فيه، وأمره أن يدعو الله فيقول: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك به، اللهم فشفعه في، فأمره أن يسأل الله تعالى قبول شفاعته، بخلاف من يتوسل بدعاء الرسول وشفاعة الرسول، والرسول لم يدع له ولم يشفع فيه، فهذا توسل بما لم يوجد، وإنما يتوسل بدعائه وشفاعته من دعا له وشفع فيه.. ].

يظهر أن الوجهين فيهما اختلاف عن الوجهين السابقين، الوجهين هنا فيما يتعلق بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر الشيخ أن الوجه الأول هو طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة بأن يدعو بمنفعة عاجلة أو آجلة، بمعنى أن من الشفاعة المشروعة في حق النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب منه الدعاء وهو حي، سواء حياته في الدنيا أو في الآخرة كما سيأتي.

فهذا طلب منه أن يشفع على طريقة شرعية يأذن الله له بها.

أما النوع الثاني فهو: أن يطلب المستشفع من الله عز وجل أن يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيه حينما يدعو له، وهذه الصورة فيها نوع غموض وتعقيد، والغموض فيها هو الذي جعل كثيراً من أهل الأهواء يلتبس عليهم الأمر، ويستدلون بحديث الأعمى على الشفاعة الممنوعة.

هذه الصورة قد تحدث مفصلة وقد تحدث مختصرة، فهذه هي الصورة التي أشكلت على كثير من أهل الأهواء ولم يفقهوها، ولا تعرف جيداً إلا من خلاصة الجمع بين روايات الحديث؛ هذا من ناحية.

ومن خلال تطبيق أو عمل الصحابة بهذه الشفاعة فيما بعد؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لما مات النبي صلى الله عليه وسلم انقطع عملهم بهذه الوسيلة؛ لأنهم يعرفون أنه لا يمكن عملها إلا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الوجه الذي تمت به لا يمكن الخروج عن حدوده الشرعية؛ لأن الخروج عن حدوده الشرعية ربما يؤدي إلى التوسل البدعي.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن هذا الباب قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقت الاستسقاء كما تقدم، فإن عمر والمسلمين توسلوا بدعاء العباس ، وسألوا الله تعالى مع دعاء العباس ، فإنهم استشفعوا جميعاً، ولم يكن العباس وحده هو الذي دعا لهم؛ فصار التوسل بطاعته والتوسل بشفاعته كل منهما يكون مع دعاء المتوسل وسؤاله، ولا يكون بدون ذلك؛ فهذه أربعة أنواع كلها مشروعة، لا ينازع في واحد منها أحد من أهل العلم والإيمان.. ].

هذه الأنواع الأربعة التي ذكرها الشيخ ملخصها كالتالي:

أولاً: التوسل بالإيمان والعمل الصالح في إجابة الدعاء، أو جلب منفعة أو دفع مضرة، كقصة أصحاب الغار.

والثاني: التوسل بالعبادة، بمعنى: التعبد لله عز وجل بما شرع لطلب الثواب والأجر ورضا الله عز وجل.

الثالث: طلب الدعاء من الغير، كطلبه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من غيره من الصالحين، بأن تقول: ادع الله لي.

الرابع: التوسل إلى الله بإجابة دعاء من يشفع أو يتوسل، كما في قصة الأعمى.

فهذه أنواع أربعة كلها مشروعة، وهي على الترتيب: الأول والثاني هما الأصل، والثالث يجوز بشروط، والرابع يجوز بشروط أكثر؛ لأن الرابع فيه التواء، وفيه مراتب في الدعاء، وهو ما ذكرناه في النوع الثاني من التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بغيره، بمعنى أن تطلب من شخص أن يدعو لك، ثم تدعو الله أن يجيب دعاءه فيك، هذه صورة صحيحة، لكن لا ينبغي للإنسان أن يكثر منها ويعتمد عليها؛ لأنها لا تنبغي إلا في حالات يضطر إليها الإنسان.

ثم الشيخ الآن سيؤصل المسألة من حيث الدليل الشرعي.

قال رحمه الله تعالى: [ ودين الإسلام مبني على أصلين، وهما: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

وأول ذلك: أن لا تجعل مع الله إلهاً آخر، فلا تحب مخلوقاً كما تحب الله، ولا ترجوه كما ترجو الله، ولا تخشاه كما تخشى الله، ومن سوى بين المخلوق والخالق في شيء من ذلك؛ فقد عدل بالله، وهو من الذين بربهم يعدلون، وقد جعل مع الله إلهاً آخر، وإن كان مع ذلك يعتقد أن الله وحده خلق السموات والأرض.

فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السموات والأرض، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ[لقمان:25]، وكانوا مع ذلك مشركين يجعلون مع الله آلهة أخرى، قال تعالى: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ[الأنعام:19]، وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ[البقرة:165].

فصاروا مشركين لأنهم أحبوهم كحبه، لا أنهم قالوا: إن آلهتهم خلقوا كخلقه، كما قال تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ[الرعد:16].

وهذا استفهام إنكار بمعنى النفي، أي: ما جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، فإنهم مقرون أن آلهتهم لم يخلقوا كخلقه، وإنما كانوا يجعلونهم شفعاء ووسائط، قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[يونس:18]، وقال صاحب يس: وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:22-25].

الأصل الثاني: أن نعبده بما شرع على ألسن رسله، لا نعبده إلا بواجب أو مستحب، والمباح إذا قصد به الطاعة دخل في ذلك، والدعاء من جملة العبادات، فمن دعا المخلوقين من الموتى والغائبين واستغاث بهم -مع أن هذا أمر لم يأمر به الله ولا رسوله أمر إيجاب ولا استحباب- كان مبتدعاً في الدين، مشركاً برب العالمين، متبعاً غير سبيل المؤمنين.

ومن سأل الله تعالى بالمخلوقين، أو أقسم عليه بالمخلوقين كان مبتدعاً بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فإن ذم من خالفه وسعى في عقوبته؛ كان ظالماً جاهلاً معتدياً، وإن حكم بذلك فقد حكم بغير ما أنزل الله، وكان حكمه منقوضاً بإجماع المسلمين، وكان إلى أن يستتاب من هذا الحكم ويعاقب عليه أحوج منه إلى أن ينفذ له هذا الحكم ويعان عليه، وهذا كله مجمع عليه بين المسلمين، ليس فيه خلاف لا بين الأئمة الأربعة ولا غيرهم.. ].

لعل الشيخ يشير بهذا إلى ما حدث من خصوم السلف في وقته، أما أن الشيخ رحمه الله رفع راية إنكار البدع والمحدثات في الدين، وصار يجادل أهل التصوف وأهل الكلام وأهل التوسل البدعي والمقابريين، وأهل السنة الذين اعتزوا برايته صاروا يجالدون أهل الأهواء باللسان والكتابة وبكل وسيلة، فأدى هذا إلى تكتل أهل الأهواء في ذلك الوقت، واستعداء السلاطين على أهل السنة، خاصة على الشيخ.

فهو يشير بذلك إلى أن هؤلاء الذين استعدوا السلاطين، والذين ضيقوا على أهل السنة وشنعوا عليهم هم أولى بالتأديب شرعاً، فهو يشير بكلام هذا إلى مسألة الصراع الذي حدث بين أهل السنة وخصومهم بعد ما رفع الشيخ رحمه الله الراية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد بسط الكلام على هذه الأمور في مجلدات، من جملتها مصنف ذكرنا فيه قواعد تتعلق بحكم الحكام، وما يجوز لهم الحكم فيه وما لا يجوز، وهو مؤلف مفرد يتعلق بأحكام هذا الباب، لا يحسن إيراد شيء من فصوله ها هنا؛ لإفراد الكلام في هذا الموضع على قواعد التوحيد ومتعلقاته، وسيأتي إيراد ما اختصر منه، وحررت فصوله في ضمن أوراق مفردة يقف عليها المتأمل؛ لمزيد الفائدة ومسيس الحاجة إلى معرفة هذا الأمر المهم.

وبالله التوفيق ].

قال رحمه الله تعالى: [ وكنت وأنا بالديار المصرية في سنة إحدى عشرة وسبعمائة قد استُفتيت عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكتبت في ذلك جواباً مبسوطاً، وقد أحببت إيراده هنا؛ لما في ذلك من مزيد الفائدة، فإن هذه القواعد -المتعلقة بتقرير التوحيد، وحسم مادة الشرك والغلو- كلما تنوع بيانها، ووضحت عبارتها؛ كان ذلك نوراً على نور، والله المستعان.

وصورة السؤال: المسئول من السادة العلماء أئمة الدين، أن يبينوا ما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين ].

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وعظم قدره

قال رحمه الله تعالى: [ وصورة الجواب: الحمد لله رب العالمين.

أجمع المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة.

ثم إن أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، واستفاضت به السنن، من أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضاً لعموم الخلق.

فله صلى الله عليه وسلم شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات يشركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين، لكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأكرمهم على ربه عز وجل، وله من الفضائل التي ميزه الله بها على سائر النبيين ما يضيق هذا الموضع عن بسطه:

من ذلك: المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون.

وأحاديث الشفاعة كثيرة متواترة، منها في الصحيحين أحاديث متعددة، وفي السنن والمسانيد مما يكثر عدده.

وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، فزعموا أن الشفاعة إنما هي للمؤمنين خاصة في رفع الدرجات، وبعضهم أنكر الشفاعة مطلقاً ].

العبارة كأن فيها بعض اللبس، أعني قوله: (فزعموا أن الشفاعة إنما هي للمؤمنين خاصة)، وهي فعلاً إنما هي للمؤمنين، أما الكفار فلا تنفعهم شفاعة الشافعين، لكن الشيخ قصد أنهم حصروا الشفاعة للمؤمنين في رفع الدرجات، وفي غير مسألة الشفاعة لأهل الكبائر، أو الشفاعة لخروج عصاة المؤمنين من النار، فهو هنا يقصد أنهم لم يعترفوا بجميع شفاعات المؤمنين، أما حصر الشفاعة في المؤمنين فلا شك أن هذا حق، لكن كونهم ضيقوا نطاق الشفاعة حتى لم يقروا إلا بالشفاعات التي هي أقل في دلالاتها في النصوص، وأنكروا الشفاعات المتواترة، مثل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، فإنهم بذلك خالفوا السنة، وأنكروا الشفاعة التي هي المقصودة عند الإطلاق، بعد المقام المحمود، وهي الشفاعة لأهل الكبائر، وقد تواترت بذلك النصوص.

توسل الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته

قال رحمه الله تعالى: [ وأجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به ويتوسلون به في حياته بحضرته، كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بـالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا؛ فيسقون.

وفي البخاري أيضاً عن ابن عمر أنه قال: ربما ذكرت قول الشاعر -وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل ]

طبعاً يقصد بقوله: (ثمال اليتامى): أي مغيث اليتامى، وعصمة، أي: كافل.

قال رحمه الله تعالى: [ والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكره عمر بن الخطاب قد جاء مفسراً في سائر أحاديث الاستسقاء، وهو من جنس الاستشفاع به، وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته، ونحن نقدمه بين أيدينا شافعاً وسائلاً لنا بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك معاوية بن أبي سفيان -لما أجدب الناس بالشام- استسقى بـيزيد بن الأسود الجرشي فقال: اللهم إنا نستشفع ونتوسل بخيارنا، يا يزيد ! ارفع يديك، فرفع يديه ودعا، ودعا الناس حتى سقوا.

ولهذا قال العلماء: يستحب أن يستسقى بأهل الدين والصلاح، وإذا كانوا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أحسن.

وهذا الاستشفاع والتوسل حقيقته التوسل بدعائه، فإنه كان يدعو للمتوسل به المستشفع به والناس يدعون معه، كما أن المسلمين لما أجدبوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه أعرابي، فقال: (يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، وما في السماء قزعة؛ فنشأت سحابة من جهة البحر، فمطروا أسبوعاً لا يرون فيه الشمس، حتى دخل عليهم الأعرابي -أو غيره- فقال: يا رسول الله! انقطعت السبل، وتهدم البنيان؛ فادع الله يكشفها عنا، فرفع يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا.. اللهم على الآكام والظراب ومنابت الشجر وبطون الأودية، فانجابت عن المدينة كما ينجاب الثوب)، والحديث مشهور في الصحيحين وغيرهما ].

معنى حديث: (نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك)

قال رحمه الله تعالى: [ وفي حديث آخر في سنن أبي داود وغيره: (أن رجلاً قال له: إنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك؛ فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رئي ذلك في وجوه أصحابه، وقال: ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك).

وهذا يبين أن معنى الاستشفاع بالشخص في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو استشفاع بدعائه وشفاعته، ليس هو السؤال بذاته، فإنه لو كان هذا السؤال بذاته لكان سؤال الخلق بالله تعالى أولى من سؤال الله بالخلق، ولكن لما كان معناه هو الأول، أنكر النبي صلى الله عليه وسلم قوله: نستشفع بالله عليك، ولم ينكر قوله: نستشفع بك على الله؛ لأن الشفيع يسأل المشفوع إليه أن يقضي حاجة الطالب، والله تعالى لا يسأل أحداً من عباده أن يقضي حوائج خلقه.

وإن كان بعض الشعراء ذكر استشفاعه بالله تعالى في مثل قوله:

شفيعي إليك الله لا رب غيره وليس إلى رد الشفيع سبيل

فهذا كلام منكر لم يتكلم به عالم.

وكذلك بعض الاتحادية ذكر أنه استشفع بالله سبحانه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلاهما خطأ وضلال، بل هو سبحانه المسئول المدعو الذي يسأله كل من في السماوات والأرض، ولكن هو تبارك وتعالى يأمر عباده فيطيعونه، وكل من وجبت طاعته من المخلوقين؛ فإنما وجبت لأن ذلك طاعة لله تعالى، فالرسل يبلغون عن الله أمره، فمن أطاعهم فقد أطاع الله، ومن بايعهم فقد بايع الله، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64]، وقال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80].

وأولو الأمر من أهل العلم وأهل الإمارة إنما تجب طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه، ما لم يؤمر بمعصية الله، فإذا أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).

وأما الشافع فسائل لا تجب طاعته في الشفاعة وإن كان عظيماً، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سأل بريرة أن تمسك زوجها ولا تفارقه لما أعتقت، وخيرها النبي صلى الله عليه وسلم فاختارت فراقه، وكان زوجها يحبها فجعل يبكي، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم أن تمسكه، فقالت: أتأمرني؟ فقال: لا، إنما أنا شافع).

وإنما قالت: (أتأمرني؟) وقال: (إنما أنا شافع)؛ لما استقر عند المسلمين أن طاعة أمره واجبة بخلاف شفاعته، فإنه لا يجب قبول شفاعته، ولهذا لم يلمها النبي صلى الله عليه وسلم على ترك قبول شفاعته، فشفاعة غيره من الخلق أولى ألا يجب قبولها.

والخالق جل جلاله أمره أعلى وأجل من أن يكون شافعاً إلى مخلوق، بل هو سبحانه أعلى شأناً من أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه، قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:26-29] ].

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال رحمه الله تعالى: [ وصورة الجواب: الحمد لله رب العالمين.

أجمع المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة.

ثم إن أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، واستفاضت به السنن، من أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضاً لعموم الخلق.

فله صلى الله عليه وسلم شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات يشركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين، لكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأكرمهم على ربه عز وجل، وله من الفضائل التي ميزه الله بها على سائر النبيين ما يضيق هذا الموضع عن بسطه:

من ذلك: المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون.

وأحاديث الشفاعة كثيرة متواترة، منها في الصحيحين أحاديث متعددة، وفي السنن والمسانيد مما يكثر عدده.

وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، فزعموا أن الشفاعة إنما هي للمؤمنين خاصة في رفع الدرجات، وبعضهم أنكر الشفاعة مطلقاً ].

العبارة كأن فيها بعض اللبس، أعني قوله: (فزعموا أن الشفاعة إنما هي للمؤمنين خاصة)، وهي فعلاً إنما هي للمؤمنين، أما الكفار فلا تنفعهم شفاعة الشافعين، لكن الشيخ قصد أنهم حصروا الشفاعة للمؤمنين في رفع الدرجات، وفي غير مسألة الشفاعة لأهل الكبائر، أو الشفاعة لخروج عصاة المؤمنين من النار، فهو هنا يقصد أنهم لم يعترفوا بجميع شفاعات المؤمنين، أما حصر الشفاعة في المؤمنين فلا شك أن هذا حق، لكن كونهم ضيقوا نطاق الشفاعة حتى لم يقروا إلا بالشفاعات التي هي أقل في دلالاتها في النصوص، وأنكروا الشفاعات المتواترة، مثل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، فإنهم بذلك خالفوا السنة، وأنكروا الشفاعة التي هي المقصودة عند الإطلاق، بعد المقام المحمود، وهي الشفاعة لأهل الكبائر، وقد تواترت بذلك النصوص.