شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [9]


الحلقة مفرغة

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ وإذا لم يشرع دعاء الملائكة لم يشرع دعاء من مات من الأنبياء والصالحين، ولا أن نطلب منهم الدعاء والشفاعة وإن كانوا يدعون ويشفعون ].

أي: وإذا لم يشرع دعاء الملائكة وهم أحياء فغيرهم ممن مات من الأنبياء والصالحين من باب أولى.

قال رحمه الله تعالى: [ لوجهين: أحدهما: أن ما أمر الله به من ذلك هم يفعلونه وإن لم يطلب منهم، وما لم يؤمروا به لا يفعلونه ولو طلب منهم، فلا فائدة في الطلب منهم.

الثاني: أن دعاءهم وطلب الشفاعة منهم في هذه الحال يفضي إلى الشرك بهم، ففيه هذه المفسدة ].

قوله: (في هذه الحال) يعني: في حال موتهم.

قوله: (الثاني: أن دعاءهم) أي: دعاء الأنبياء والصالحين من الأموات.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فلو قدر أن فيه مصلحة لكانت هذه المفسدة راجحة، فكيف ولا مصلحة فيه، بخلاف الطلب منهم في حياتهم وحضورهم فإنه لا مفسدة فيه، فإنهم ينهون عن الشرك بهم بل فيه منفعة، وهو أنهم يثابون ويؤجرون على ما يفعلونه حينئذ من نفع الخلق كلهم؛ فإنهم في دار العمل والتكليف، وشفاعتهم في الآخرة فيها إظهار كرامة الله لهم يوم القيامة ].

في المقطع التالي سيتكلم الشيخ في صفحتين أو ثلاث عن أنواع السؤال، وسأنبهكم الآن أو أملي عليكم الفقرات الرئيسية في هذه الأنواع حتى يتضح الكلام القادم بدل أن نقف عند كل مسألة، فالشيخ في المقطع التالي في قوله: (وأصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية) وما بعد هذا الكلام سيذكر أنواع السؤال الممنوعة والمشروعة والمباحة، فالممنوع هو سؤال الخلق ما ليس في مقدورهم، وسؤال الأموات.

ثم ذكر أن المشروع نوعين، سؤال الله عز وجل، وهذا هو الواجب على كل العباد، وهذا هو مقتضى العبادة، ونوع ثان من المشروع هو سؤال الحي القادر فيما يقدر عليه.

وهو يتفاوت، فمنه المكروه، ومنه المحرم لأمر عارض، ومنه الواجب، ومنه الجائز.

ونوع ثالث من السؤال المشروع وهو سؤال من يريد أن يتعلم، هذا أيضاً منه ما هو واجب وهو ما يتوقف عليه الدين، ومنه ما هو جائز وهو سؤال الاستزادة من العلم إذا لم يكن من المستحبات أو الواجبات، وكذلك من هذا النوع من السؤال ما قد يكون حراماً كالسؤال عن أمور القدر المعضلة أمام الملأ، أو السؤال عن أمر يدخل عليهم الشكوك إلى آخره، الشاهد أن هذا سؤال مشروع مباح، وأحياناً يكون واجباً.

النوع الرابع: وهو المطلق، وهو أن الأصل في السؤال الإباحة إذا توافرت فيه الشروط، فسؤال الخلق ما هو بمقدورهم الأصل فيه الإباحة.

هذا أمر، الأمر الآخر: سيبين الشيخ الفروق بين الحد المباح والحد المشروع والحد الممنوع، وسيركز على أن سؤال الخلق في الأمور المباحة من الأمور العادية وليس من أمور العبادات، ليقطع على المبتدعة حجتهم في أن الناس كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة متعددة في أمور دينهم ودنياهم، فيقول: إن هذا من الأمور المباحة وليس من باب العبادات، فالناس لم يتعبدوا بأن يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلا في أمر الدين، أما في أمور الدنيا فغاية ما يقال: إن السؤال مباح، ومع ذلك قد يحرم أحياناً وقد يستحب أحياناً إلى آخره.

المخلوق مأمور بسؤال الله والرغبة إليه

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية التي لا يجب عليهم فعلها ليس واجباً على السائل ولا مستحباً، بل المأمور به سؤال الله تعالى والرغبة إليه والتوكل عليه.

وسؤال الخلق في الأصل محرم لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله أفضل، قال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8] أي: ارغب إلى الله تعالى لا إلى غيره.

وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59]، فجعل الإيتاء لله والرسول، لقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فأمرهم بإرضاء الله ورسوله.

وأما في الحسب فأمرهم أن يقولوا: حسبنا الله، لا يقولوا: حسبنا الله ورسوله ].

الحسب هنا المقصود به التوكل والاعتماد، والتوكل لا يكون إلا على الله عز وجل، وكذا الاعتماد، وهذا يندرج على سائر الأعمال القلبية، فلا تصرف إلا إلى الله عز وجل وإن كان بعضها قد يختلط بأعمال الجوارح العادية، وذلك مثل الاستعانة، فهي من الأمور التي لابد فيها من التفصيل لأن لها وجوهاً: فالاستعانة القلبية في أمر يتعلق بمستقبل الإنسان نوع من التوكل لا يجوز إلا على الله؛ لكن الاستعانة في الأمر العادي يجوز أن تكون بالمخلوق فيما يقدر عليه.

وكثير من الناس يخلط في الاستعانة، حتى أن بعض أهل العلم يضرب مثلاً يقول: لا يجوز لمسلم أن يستعين ولا يستغيث بغير الله عز وجل، ومن فعل ذلك فقد أشرك، وهو يقصد الاستغاثة القلبية التي هي تمام التوكل والاعتماد والحسب الذي لا يكون إلا على الله عز وجل، وصرفه لغير الله شرك، لكن الجانب الآخر وهو الاستعانة بالبشر فيما يقدرون عليه أمر آخر.

فالقلب يجب ألا يتعلق إلا بالله عز وجل، وألا يتوجه إلا إلى الله؛ لأن الأعمال القلبية أقرب إلى العبادة البحتة، أما أعمال الجوارح فهي في الغالب لا تدخل فيها العبادة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويقولون: إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59]، لم يأمرهم أن يقولوا: إنا لله ورسوله راغبون، فالرغبة إلى الله وحده كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:52] فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس رضي الله عنهما: (يا غلام! إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما أنت لاق، فلو جهدت الخليقة على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً). وهذا الحديث معروف مشهور، ولكن قد يروى مختصراً ].

الحديث صحيح صححه الألباني وغيره من أئمة أهل العلم، ولكن الذي صححوه لا يدخل فيه قوله: (فإن استطعت أن تعمل لله.. إلى آخره) فهذا لفظ زائد في هذا النص، أما ما قبل ذلك فقد صححوه بألفاظ متعددة ومختلفة، وبعضه مختصر كما قال الشيخ وبعضه مطول.

التعلق بالله وحده وعدم التطلع إلى سؤال غيره من أسباب دخول الجنة بغير حساب

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، هو من أصح ما روي عنه، وفي المسند لـأحمد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه، ويقول: إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئاً.

وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك (أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع طائفة من أصحابه وأسر إليهم كلمة خفية: ألا تسألوا الناس شيئاً، قال عوف : فقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه).

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب)، وقال: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)، فمدح هؤلاء بأنهم لا يسترقون، أي: لا يطلبون من أحد أن يرقيهم، والرقية من جنس الدعاء فلا يطلبون من أحد ذلك ].

على أي حال هذا الحديث كثيراً ما يتكلم عنه الناس قديماً وحديثاً ويخوضون في معنى: (لا يسترقون)، وهل من طلب الرقية يخرج من هذه الأوصاف، وكيف يكون عدم طلب الرقية؟

ولأهل العلم كلام غالبه وجيه؛ لكن من أوجه ما قرأت أن هذا الصنف من قوة توكلهم على الله عز وجل لا تتطلع نفوسهم إلى طلب الرقية، لا أنهم يتصبرون عن طلب الرقية، بل قوة تعلقهم بالله عز وجل وصلتهم به تجعلهم لا يتطلعون إلى طلب الرقية، فهم كلما أحسوا بالألم تعلقت قلوبهم بالله ورجوا من الله عز وجل أن يشفيهم ورقوا أنفسهم، ثم إنهم يعلمون أن الرقية حق وشفاء، فلا يحتاجون إلى أن يرقيهم غيرهم وهم يملكون أن يرقوا أنفسهم فيرقوا أنفسهم.

ولذلك ينبغي تنبيه الناس على أن الرقية من الشخص لنفسه أنفع من أن يرقيه غيره، لكن قد يتخلف أثر الرقية لأسباب عارضة، وإلا فالإنسان المسلم مهما كان عنده شيء من التقصير والإعراض فإن رقيته لنفسه أفضل وأرجى من رقية غيره، ومن هذا الجانب كان هذا الصنف من السبعين ألفاً، فقد أدركوا أنهم لا يحتاجون إلى أن يطلبوا السبب من غيرهم والسبب معهم، إضافة إلى ما ذكرته من قوة اعتمادهم على الله عز وجل ومن قوة تعلقهم به، لا أنهم لا يستبيحون الرقية أو لا يجيزونها؛ لأنها مشروعة، وليس من الفضل للإنسان أن يحرم على نفسه المشروع، لكنهم بقوة توكلهم نسوا أنهم يحتاجون إلى الرقية من الغير.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد روي فيه (ولا يرقون) وهو غلط، فإن رقياهم لغيرهم ولأنفسهم حسنة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقي نفسه وغيره ولم يكن يسترقي، فإن رقيته نفسه وغيره من جنس الدعاء لنفسه ولغيره، وهذا مأمور به ].

أيضاً هنا مسألة مهمة سمعت السؤال عنها أكثر من مرة، وهي أن بعض الناس يكون عنده شيء من التورع أو طلب هذه الخصلة، فلا يأذن لأحد بأن يرقيه، ولا أظن هذا وارداً؛ لأن الوارد أن الإنسان لا يطلب، لكن لو يسر الله له من يرقيه دون طلب منه فهذا فضل من الله عز وجل ينبغي ألا يرده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل، وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ وتنفث في يديه كما كان يفعل حال صحته، وتمسح بهما جسمه ووجهه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقيه غيره لكنه لم يطلب الرقية، وكذلك كثير من الصالحين الذين عرفناهم وسمعنا بهم كانوا لا يطلبون الرقية طلباً لهذه المنزلة، وإذا رقاهم غيرهم لم يمنعوا ذلك، بل بعضهم يفرح؛ لأنها نعمة من الله عز وجل وهدية أسديت إليه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية التي لا يجب عليهم فعلها ليس واجباً على السائل ولا مستحباً، بل المأمور به سؤال الله تعالى والرغبة إليه والتوكل عليه.

وسؤال الخلق في الأصل محرم لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله أفضل، قال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8] أي: ارغب إلى الله تعالى لا إلى غيره.

وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59]، فجعل الإيتاء لله والرسول، لقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فأمرهم بإرضاء الله ورسوله.

وأما في الحسب فأمرهم أن يقولوا: حسبنا الله، لا يقولوا: حسبنا الله ورسوله ].

الحسب هنا المقصود به التوكل والاعتماد، والتوكل لا يكون إلا على الله عز وجل، وكذا الاعتماد، وهذا يندرج على سائر الأعمال القلبية، فلا تصرف إلا إلى الله عز وجل وإن كان بعضها قد يختلط بأعمال الجوارح العادية، وذلك مثل الاستعانة، فهي من الأمور التي لابد فيها من التفصيل لأن لها وجوهاً: فالاستعانة القلبية في أمر يتعلق بمستقبل الإنسان نوع من التوكل لا يجوز إلا على الله؛ لكن الاستعانة في الأمر العادي يجوز أن تكون بالمخلوق فيما يقدر عليه.

وكثير من الناس يخلط في الاستعانة، حتى أن بعض أهل العلم يضرب مثلاً يقول: لا يجوز لمسلم أن يستعين ولا يستغيث بغير الله عز وجل، ومن فعل ذلك فقد أشرك، وهو يقصد الاستغاثة القلبية التي هي تمام التوكل والاعتماد والحسب الذي لا يكون إلا على الله عز وجل، وصرفه لغير الله شرك، لكن الجانب الآخر وهو الاستعانة بالبشر فيما يقدرون عليه أمر آخر.

فالقلب يجب ألا يتعلق إلا بالله عز وجل، وألا يتوجه إلا إلى الله؛ لأن الأعمال القلبية أقرب إلى العبادة البحتة، أما أعمال الجوارح فهي في الغالب لا تدخل فيها العبادة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويقولون: إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59]، لم يأمرهم أن يقولوا: إنا لله ورسوله راغبون، فالرغبة إلى الله وحده كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:52] فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس رضي الله عنهما: (يا غلام! إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما أنت لاق، فلو جهدت الخليقة على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً). وهذا الحديث معروف مشهور، ولكن قد يروى مختصراً ].

الحديث صحيح صححه الألباني وغيره من أئمة أهل العلم، ولكن الذي صححوه لا يدخل فيه قوله: (فإن استطعت أن تعمل لله.. إلى آخره) فهذا لفظ زائد في هذا النص، أما ما قبل ذلك فقد صححوه بألفاظ متعددة ومختلفة، وبعضه مختصر كما قال الشيخ وبعضه مطول.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، هو من أصح ما روي عنه، وفي المسند لـأحمد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه، ويقول: إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئاً.

وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك (أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع طائفة من أصحابه وأسر إليهم كلمة خفية: ألا تسألوا الناس شيئاً، قال عوف : فقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه).

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب)، وقال: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)، فمدح هؤلاء بأنهم لا يسترقون، أي: لا يطلبون من أحد أن يرقيهم، والرقية من جنس الدعاء فلا يطلبون من أحد ذلك ].

على أي حال هذا الحديث كثيراً ما يتكلم عنه الناس قديماً وحديثاً ويخوضون في معنى: (لا يسترقون)، وهل من طلب الرقية يخرج من هذه الأوصاف، وكيف يكون عدم طلب الرقية؟

ولأهل العلم كلام غالبه وجيه؛ لكن من أوجه ما قرأت أن هذا الصنف من قوة توكلهم على الله عز وجل لا تتطلع نفوسهم إلى طلب الرقية، لا أنهم يتصبرون عن طلب الرقية، بل قوة تعلقهم بالله عز وجل وصلتهم به تجعلهم لا يتطلعون إلى طلب الرقية، فهم كلما أحسوا بالألم تعلقت قلوبهم بالله ورجوا من الله عز وجل أن يشفيهم ورقوا أنفسهم، ثم إنهم يعلمون أن الرقية حق وشفاء، فلا يحتاجون إلى أن يرقيهم غيرهم وهم يملكون أن يرقوا أنفسهم فيرقوا أنفسهم.

ولذلك ينبغي تنبيه الناس على أن الرقية من الشخص لنفسه أنفع من أن يرقيه غيره، لكن قد يتخلف أثر الرقية لأسباب عارضة، وإلا فالإنسان المسلم مهما كان عنده شيء من التقصير والإعراض فإن رقيته لنفسه أفضل وأرجى من رقية غيره، ومن هذا الجانب كان هذا الصنف من السبعين ألفاً، فقد أدركوا أنهم لا يحتاجون إلى أن يطلبوا السبب من غيرهم والسبب معهم، إضافة إلى ما ذكرته من قوة اعتمادهم على الله عز وجل ومن قوة تعلقهم به، لا أنهم لا يستبيحون الرقية أو لا يجيزونها؛ لأنها مشروعة، وليس من الفضل للإنسان أن يحرم على نفسه المشروع، لكنهم بقوة توكلهم نسوا أنهم يحتاجون إلى الرقية من الغير.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد روي فيه (ولا يرقون) وهو غلط، فإن رقياهم لغيرهم ولأنفسهم حسنة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقي نفسه وغيره ولم يكن يسترقي، فإن رقيته نفسه وغيره من جنس الدعاء لنفسه ولغيره، وهذا مأمور به ].

أيضاً هنا مسألة مهمة سمعت السؤال عنها أكثر من مرة، وهي أن بعض الناس يكون عنده شيء من التورع أو طلب هذه الخصلة، فلا يأذن لأحد بأن يرقيه، ولا أظن هذا وارداً؛ لأن الوارد أن الإنسان لا يطلب، لكن لو يسر الله له من يرقيه دون طلب منه فهذا فضل من الله عز وجل ينبغي ألا يرده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل، وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ وتنفث في يديه كما كان يفعل حال صحته، وتمسح بهما جسمه ووجهه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقيه غيره لكنه لم يطلب الرقية، وكذلك كثير من الصالحين الذين عرفناهم وسمعنا بهم كانوا لا يطلبون الرقية طلباً لهذه المنزلة، وإذا رقاهم غيرهم لم يمنعوا ذلك، بل بعضهم يفرح؛ لأنها نعمة من الله عز وجل وهدية أسديت إليه.