أرشيف المقالات

بين البداية والنهاية

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
بين البداية والنهاية

الحمد لله رب المشارق والمغارب، خلق الإنسان من طين لازب، ثم جعله نطفة بين الصلب والترائب، خلق منه زوجه وجعل منهما الأبناء والأقارب، تلطف به فنوع له المطاعم والمشارب، وحمله في البر على الدواب وفي البحر على القوارب، نحمده - تبارك وتعالى - حمد الطامع في المزيد والطالب ونعوذ بنور وجهه الكريم من شر العواقب وندعوه دعاء المستغفر الوجل التائب، أن يحفظنا من شر كل حاضر أو غائب.

أما بعد..

فالحديث عن الساعة ومشاهد آخر الزمان يأخذ بلباب العقول؛ لأنه حديث عن مجهول ليس باستطاعة عقل أن يكتنهه أو يتخيله؛ لما فيه من عجائب الأمور التي لا يألفها الناس ولا عهد لهم بها من قبل، كظهور الدجال، وخروج الدابة التي تكلم الناس، وطلوع الشمس من المغرب، وخروج يأجوج ومأجوج وما يتبع ذلك من فتن وملاحم، إذا وقعت دل ذلك على قرب الساعة ودنوها.

وقد اقتضت حكمة الله - جل وعلا - أن تتقدم تلك العجائب والغرائب ذلك اليوم المشهود كعلامات وأمارات تدل على قربه وتؤذن بدنوه، حتى إذا وقعت كلها لم يكن ذلك اليوم منها ببعيد.

ومع إشراقة كل يوم تتجدد الأحداث وتتلاحق لتنسج خيوط النهاية المنتظرة لهذا الوجود؛ فشمس تشرق مع أول خيط للنهار، وتسير مع هذا الخيط ما شاء الله لها أن تسير، حتى إذا ما غربت انقطع الخيط وأعلنت قدوم الظلام.
وهكذا كل يوم، مع الشروق حياة كبرى تمضي على ما قدر الله لها، ومع الغروب موتة صغرى يبقى معها أثر من آثار الحياة.
وبين الشروق والغروب تسجل أحداث عظام ومشاهد جسام تقود إلى النهاية، التي برزت الخيوط الصغرى منها وبانت ملامحها، ولم يبق إلا الخيوط الكبرى التي ليس بعدها إلا النهاية، وينقلب على إثرها الكون بما فيه.

إن الموضوع الذي نطرحه لهو أمارة عظيمة أخذت موقعها بين البداية والنهاية، فهي من البداية حديث قوم عفت آثارهم ولم يبق لنا ما يثبتها أو يدل عليه إلا آيات بينات تتلى آناء الليل وأطراف النهار.
وهي من النهاية خطوة في خطواتها، وسطر عظيم من سطورها، بل خيط بارز ظاهر من نسيجها.

في البداية، أقصد بداية الخلق، اتصلت الأرض بأسباب السماء، وتسلل إليها نورها، منذ بدء الخليقة، ليؤكد الصلة ويوثّق العرى، فنهل البشر من هذا النور الذي حمله إليهم رسل السماء، فتبدد به ما تراكم فيهم من الظلمات الأرضية، والظلامات النفسية، وظل البشر ينهلون وينهلون، على حين غفلة من الشيطان عدوهم اللدود الذي لا يهدأ ولا يسكن، حتى يقطّع ما بينهم وبين السماء من أسباب ويوصد ما تفتح لهم منها من أبواب.

تلكم كانت البداية، نور يتوهج وينبثّ في كل شيء على الوجود، ويعلن عن نفسه فيغشى البشر، فيدركون من أول وهلة أن لهذا الكون الفسيح إلهًا، لا يغيب عنه مثقال ذرة في السماء والأرض، ويظل هذا النور يغمر الأرض بضيائه عشرة قرون منذ أن هبط آدم إلى الأرض.

لكن هيهات هيهات أن يدوم الحال على هذه الغاية من الكمال، فأتى على البشر حين من الدهر، ركبوا فيه بحرًا لجيًّا ظلماته بعضها فوق بعض، وعم الأرض ظلام لم يكن لها عهد به، ووهت الصلات النوارنية التي تأنس بها؛ إذ تخلى البشر عن عبادة الله الواحد القهار، ورغبوا عنه إلى حجر أصمّ يقدسونه ويسبحون بحمده، ويتوجهون إليه بالدعاء وأنى له أن يسمعهم؟! ويطلبون منه النفع وما يملك لهم نفعًا ولا ضرًّا.

وأبى الله إلا أن يتم نوره، فأرسل نوحًا بقبس منه، فأعلنها مدوية، كما سيعلنها من بعده: إني لكم رسول أمين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون.
وصاح القوم: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، وتقاسموا فيما بينهم أن يقفوا في وجه نوح ودعوته.

وما كان الله ليترك فئة كافرة تبغي الفساد في الأرض تستمر على كفرها وغيها، فأمر نبيه بصنع سفينة تقله هو ومن معه من المؤمنين؛ ليكونوا بمنجاة عما سيحدث لهؤلاء القوم، وأخبره أنهم: "عما قليل ليصبحن نادمين".


وجاء الوعد الحق، فزمجرت السماء، معلنة عن غضبها، وفتحت أبوابها بماء منهمر وأرعد السحاب فبكى كمدًا على ما كان منهم، وصاحت الأرض بالويل والثبور لكل من أراد أن يلوث الفطرة السوية، وتفجرت عيونًا وفار التنور، وقيل بعدًا للقوم الظالمين.


وتستمر قافلة الدعوة، لا تلوي على شيء ولا يثنيها تكذيب المكذبين ولا إرجاف المبطلين، وتتوالى الأمم والقافلة على الدرب تسير، لكن "كلما جاءت أمة رسولها كذبوه"، فجاءت الرسل تترى، تحمل بين يديها جذوة من النور الإلهي، تنير به ما غشي الأرض من ظلام، وأبى قوم أن ينهلوا من هذا النور، فانقلبت عليهم بالإغراق تارة، والإحراق تارة أخرى، وبالخسف حينًا، والنسف أحيانًا أخر، لتطهر ما على صعيدها ونجدها من الكفار والعصاة وأرباب الضلال والهوى، ولتقل من جديد جيلاً يؤمن بما جاء من وحي السماء ويعيد للأسباب والصلات بين الأرض والسماء قوتها، ويأبى الشيطان إلا أن يستديم للبشر ما أرادهم الله لهم، فيتواتر كيده ويأمرهم بالفحشاء والمنكر، فيحيدون عن الطريق ويعودون إلى سالف ما كانوا عليه من ضلال وظلام، وتشمئز الأرض من هذا الجيل، وتئنّ من معاصيه وشروره، فتلفظه كما لفظت غيره، بالعاقبة نفسها التي أخذ بها سابقه وإن اختلف الأسلوب والطريقة، وتظل الأرض تتعاورها أمم من بعدها أمم، بالإيمان مرة والتكذيب مرات، وتمتد السنوات وتمضي الأيام ثقيلات الخطى والدأب هو هو، إيمان هنا، وكفر هناك، ورسول يبعث هنا، ونذير يظهر هناك، وخلال ذلك، تفتح الحياة بين الحين والآخر بابًا لقوم لينجوا منه، وتوصده في وجوه قوم آخرين، تعنتوا ولجوا في طغيانهم يعمهون، وبين الفتح والإغلاق تدوّن آيات ومعجزات تنبئ بصدق الرسل، وتسطر أحداث ووقائع تشهد على تاريخ البشر المؤسف.


ويظل الحال على ذلك كما تقتضي سنة الله في خلقه، إلى أن يجيء الوعد الحق بغتة، ويرجع الخلق إلى الطور الأول الذي خلقوا منه، فكما بدءوا يعودون، وينقلبوا إلى علام الغيوب ليعرفوا ما لهم وما عليهم، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [السجدة: 25].

إلا أن هذه الرجعة تتقدمها حوادث عظام ووقائع جسام، منها ما قد وقع ومنها مالم يقع بعدُ، وهذه الحوادث تعرف بعلامات الساعة وأشراطها، يراها البشر وتتحقق بينهم فيعلموا أن الساعة قد قربت، والقيامة قد دنت، ونهاية الحياة قد بدأت، وتقرأ السطور الأخيرة في كتاب الحياة، بين السطر والسطر من الزمان ما لا يعلمه إلا الله، قال تعالى: ﴿ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ﴾ [محمد: 18].
 
ولقد جاء الوحي الإلهي بسيناريو مفصل لأحداث النهاية، علمت مشاهده مشهدًا مشهدًا، وعرفت شخوصه شخصًا شخصًا، وحدد مكان الأحداث تحديدًا لا تبقى معه ريبة لمرتاب؛ لأنه وحي من علام الغيوب.


ولم يكن الله ليترك عباده يرسفون في غيهم وضلالهم، ويفجأهم بهول القيامة وفزعها حتى يضع بين يديها علامات عليها تنبئ بقربها ودلائل إليها تمهد لوقوعها، وتوقظهم من غفلتهم وتنبههم لعظم هذا الحدث الجليل، إلا أن هذه العلامات وتلك الشرائط لا تنفي بعد وقوعها بغتة الساعة وفجأتها؛ لأنها مجرد نذير مبين، ينبه على دنوها؛ للتجهز لها وإعداد العدة التي تقي شرها وهولها، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1، 2].

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الساعة تفجأ الناس، فالرجل يصلح موضعه، والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقوم بسلعة سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه".

وقال - أيضًا: "والذي نفس محمد بيده لتقومن الساعة وإن الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه حتى تحول الساعة بينه وبين ذلك".

ومن يتصفح القرآن ويتدبره حق التدبر، سيجد القرآن بأسلوبه البديع الذي تأخذ كل كلمة فيه، بل كل حرف فيه موقعه في الكلام، بحيث لا يغني عنه غيره ولا يسد مسده، سيجد الآيات التي تتحدث عن أمارات الساعة وعلاماتها، مصدرة بما يدل على أن هذه الأحداث ممهدة للنهاية، فإذا استعرضنا هذه الآيات وأعدنا قراءتها من جديد، سنقف على تلك الحقيقة.

قال تعالى عن خروج الدابة: ﴿ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ﴾ [النمل: 82].

فالآية تبدأ بالفعل الماضي المسبوق بـ(إذا) التي هي للتحقيق، فانقلب الوقوع من الماضي إلى الاستقبال، أي: أشرف وقت الوقوع وقرب.
يقول الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير: والآية تشير إلى شيء من أشراط حلول الوعيد الذي أنذروا به وهو الوعيد الأكبر يعني وعيد البعث، فتشير إلى شيء من أشراط الساعة وهو من خوارق العادات.
والتعبير عن وقوعه بصيغة الماضي لتقريب زمن الحال من المضي، أي أشرف وقوعه، على أن فعل المضي مع (إذا) ينقلب إلى الاستقبال.
التحرير والتنوير 10/328.

وقال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 96، 97].

فهذه العلامة وهي خروج يأجوج ومأجوج تسبق الساعة وتتقدمها، وليس أدل على ذلك من ذكر الفعل "اقترب" في الآية الثانية.

يقول ابن كثير: "قوله: ﴿ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ﴾ يعني: يوم القيامة، إذا وُجدت هذه الأهوال والزلازل والبلابل، أزفت الساعة واقتربت".

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢