شرح زاد المستقنع باب الصداق [1]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله تعالى: [ باب الصداق ]

الصداق: قيل: هو المهر، وسمي بذلك؛ لأن الرجل يظهر به صدق الرغبة في المرأة، ويسمى: الصداق والمهر والفريضة والحباء والمتعة، وهذه كلها من أسماء الصداق، وهذا الباب من الأبواب المهمة المتعلقة بالنكاح؛ لأن الله سبحانه وتعالى فرض على الأزواج أن يعطوا الزوجات حقوقهن في المهر، والعلماء من المحدثين والفقهاء رحمهم الله يعتنون بهذا الباب، ويذكرون النصوص الشرعية وما اشتملت عليه من الأحكام في بابه: باب الصداق والمهر.

يقول رحمه الله: (باب الصداق) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بمهور النساء وصداقهن، والأصل في مشروعيته قوله تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، وثبتت السنة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، فقال عليه الصلاة والسلام: (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) وكذلك أصدق عليه الصلاة والسلام نساءه، وجعل عتق صفية صداقاً لها ومهراً، وكذلك سأل عبد الرحمن بن عوف (ما أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب) كل هذا ثابت، السنة القولية كقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) والفعلية: أنه أعتق صفية ، والتقريرية: في حديث عبد الرحمن بن عوف، فهذه ثلاثة أنواع من السنة: القولية، والفعلية، والتقريرية، وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الصداق وأنه مما يشرع في النكاح.

مشروعية تخفيف الصداق

[ يسن تخفيفه ]

يسن تخفيف الصداق وعدم المغالاة فيه؛ لما فيها من الأضرار والمفاسد العظيمة؛ فالمغالاة في المهور تؤخر الزواج وتعطله، وتكثر من العوانس بين الناس الأمر الذي يفضي للفتنة والشر المستطير، فالسنة تخفيفه تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك خفف في مهور نسائه، فدل هذا على أن المهر ليس بمحل للمزايدة والمغالاة، وأجمع العلماء رحمهم الله على كراهية المغالاة في المهور، ونص بعض العلماء على أنه يوجب الإثم إذا وصل إلى حد الإضرار بحيث يقول: لا أزوج ابنتي إلا بمائة ألف، وهو يعلم أن هذه المائة ألف قد تكون سبباً في عدم زواج ابنته، ولربما عنست وكبرت ولم تتزوج فإنه يبوء بإثمها والعياذ بالله.

فالمغالاة في المهور مجمع على كراهتها، وقال المصنف: [ يسن تخفيفه ] لأن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التخفيف؛ ولأن الحكمة تقتضي هذا، فإن الرجل إذا دفع مهراً كثيراً في المرأة، فإن هذا سيضر بالمرأة أثناء عشرتها، فهو يظن كأنه اشتراها، فإذا رأى منها أقل خطأ، عظم هذا الخطأ، ورأى أنه كبيرة لا تغتفر، وحينئذٍ تحدث المشاكل، وينتقم منها ويضر بها، وربما أجحف بها حتى تخالعه وترد له المال الذي دفعه، إضافة إلى أنه إذا غالى الناس في المهور، فإنه سيتحمل الزوج أعباء هذه المهور المبالغ فيها، فلربما وقع في وطأة الدين، فيدخل إلى بيت الزوجية مهموماً مغموماً، فتنعكس الآثار على نفسيته وعلى زوجته حتى لربما عاش عيشة منغصة مليئة بالمشاكل والأضرار بسبب المغالاة في المهور.

فلا خير في المغالاة في المهور، والسنة التخفيف تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جاء حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (خير النساء -وفي رواية: أبرك النساء- أيسرهن مئونة) فالتيسير في مئونة النكاح والتخفيف هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف الصالح والتابعين لهم بإحسان رحمة الله على الجميع.

تسمية المهر في العقد ومقداره

[ وتسميته في العقد ]

ويسمى المهر في العقد فيقول مثلاً: زوجتك موليتي فلانة بعشرة آلاف.. فيسمى ويذكر؛ لأن هذا أولى وأحرى في قطع النزاع وقطع الخصومة، وكذلك يرجع إليه عند الاختلاف، ولربما مات الزوج وماتت الزوجة ومات الولي والشهود، والزوج والزوجة والولي ممن يعلم بقدر المهر، فيضيع حق المرأة، فالتسمية تدفع كثيراً من المشاكل التي تقع في المستقبل، ولذلك قال العلماء: شرع الله الكتابة للديون والحقوق؛ لأجل أن لا يظلم الناس بعضهم بعضاً، ولأجل أن تصل الحقوق إلى أصحابها.

[ من أربعمائة درهم إلى خمسمائة ]

لأن هذا الحد -من أربعمائة درهم إلى خمسمائة- هو الحد الذي جاء في رواية السير في صداق أم حبيبة بنت أبي سفيان حينما أصدقها النجاشي لزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر مطلق، أي: الأمر في هذا واسع لا يقيد بقيد معين ولا يحدد بحد، ويختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، والضابط فيه أن يكون فيه يسر لا عسر، واليسر والعسر يختلفان، فمثلاً: قبل أربعين سنة ربما لو تزوج بريالين أو ثلاثة ريالات لكانت شيئاً كثيراً، والآن لو تزوج بثلاثة آلاف أو أربعة آلاف لكان شيئاً يسيراً، فهذا أمر يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.

والذهب والفضة هما من الأثمان التي جعلها الله سبحانه وتعالى قيماً تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فيصعب وضع حد معين، ولذلك ليس لليسر في المهر حد لا في الكثرة ولا في القلة وإنما يرجع فيه إلى العرف.

ما يصح مهراً وما لا يصح

قال رحمه الله: [ وكل ما صح ثمناً أو أجرة صح مهراً وإن قل ]

قوله: (وكل ما صح ثمناً) أي: في البيع مثل الذهب والفضة، فلو قال لها: أصدقتكِ ألف ريال من فضة أو قال: أصدقتكِ مائة جنيه من ذهب، أو أي شيء يمكن أن يكون ثمناً وقيمة للأشياء، حتى ولو كان من المثمونات مثل أن يقول: صداقي لكِ هذه السيارة، صداقي لكِ مزرعتي هذه، ولو حتى ثوبه إذا كان عنده غيره مما يستره، فيقول: هذا الثوب صداق لكِ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال ذاك الرجل: (ليس معي إلا إزاري) لم يعتب عليه الإزار، وإنما عتب عليه أنه لا يجد غيره وأنه عرضة للانكشاف.

فالمقصود: أنه يجوز أن يكون الصداق كل ما يجوز ثمناً، ومعنى هذا أن ما لا يجوز أن يكون ثمناً وعوضاً في البيع لا يجوز أن يكون عوضاً في النكاح ولا مهراً، فلا يجوز أن يجعل مهرها كلباً ولا خنزيراً ولا خمراً ولا شيئاً مما يحرم بيعه.

قوله رحمه الله: (أو أجرة) كما في قصة موسى: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27] فجعل الإجارة لقاء النكاح مهراً وعوضاً، قالوا: وفي هذه الحالة تكون أُجرة الإجارة قائمة مقام المهر نفسه، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه.

[ وإن أصدقها تعليم قرآن لم يصح بل فقه وأدب وشعر مباح معلوم ]

هذا على القول بعدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وهذا -كما ذكرنا- أنه مذهب الحنابلة والحنفية رحمة الله عليهم، وسنفصل هذه المسألة إن شاء الله في كتاب الإجارة من شرح الزاد.

أما من حيث تعليم القرآن فعلى القول بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن يجوز أن يكون صداقاً، والدليل على ذلك حديث الواهبة نفسها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم سورة كذا وكذا، قال: أنكحتك هذه بما معك من القرآن) قالوا: فدل هذا على جواز جعل تعليم القرآن صداقاً كما يقول المالكية والشافعية رحمة الله عليهم والظاهرية وطائفة من أهل الحديث، من أنه يجوز أن يجعل تعليم القرآن صداقاً للمرأة، وإذا جعل تعليم القرآن صداقاً، فلابد أن يحدد السور التي تكون مهراً، ويحدد كذلك الطريقة التي يمكن أن ينضبط بها التعليم؛ لأن الإجارة على الشيء تستلزم أن تكون إجارة شرعية ولا تكون بمجهول، فلابد أن يحدد ويبين الشيء الذي يعلم وقدره ومدة التعليم حتى تخرج الإجارة عن الإجارة بالمجهول المحرمة، وقال الحنابلة معتذرين عن هذا الحديث: بأن قضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم، فرأوا أن حديث الواهبة خاص ولا يصلح دليلاً للعموم.

[ بل فقه ]

فإذا علمها الفقه حدد الأبواب، فإذا علمها مثلاً جزءاً من كتاب الطهارة حدده، فإذا قال: أعلمها شيئاً من كتاب الطهارة، لم يصح حتى يبين قدره، فيقول مثلاً: أعلمها باب الوضوء، أعلمها باب الحيض، أعلمها باب الغسل، أعلمها باب الوضوء ومسح الخفين، أعلمها باب التيمم، فيحدد الأبواب التي سيعلمها، فلابد أن تكون الإجارة على شيء معلوم لا على شيء مجهول.

[ وأدب ]

كان الناس يتعلمون الأدب، وفي الأدب عدة فوائد:

أولاً: الأدب الإسلامي أدب رفيع ويشتمل على مغازٍ ومقاصد عظيمة، فهو يشتمل على جملة من الشعر والنثر الذي تكون فيه مكارم الأخلاق ويتحدث عن محاسن العادات وكرائم الخلال وحميد الخصال، كل ذلك يعتبر من الأدب، فكانوا يحفظونهم الأشعار التي فيها الشجاعة وفيها الكرم وفيها الحمية والغيرة وفيها النخوة وفيها المعاني السامية، هذا هو الأدب، وما سمي أدباً إلا لاشتماله على تأديب النفوس، وليس كل شيء يقال له: أدب، وإنما الأدب ما حمل النفوس على مكارم الأخلاق، أما المجون الساقط والدعوة إلى العنف والفساد، فهذا شر ورذيلة وليس هو بالأدب.

فالغاية من الأدب أن يحمل على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وله باب مستقل عند المتقدمين والعلماء الأوائل، وفيه كتب مشهورة تعتني بذكر القصص، وهناك كتب في الأدب مثل: عيون الأخبار لـابن قتيبة ، فهذا الكتاب النفيس فيه جملة من الأدب، يتحدث مثلاً: عن الأدب مع الخاصة، إذا جالست العظماء والكبراء فكيف تجالسهم؟ وكيف تحادثهم؟ وكيف تخاطبهم؟ وما هي صفاتهم؟ وكيف تأمن شرهم وتطلب خيرهم؟ وكيف تعاملهم في حالة غضبهم وفي حالة رضاهم؟ كذلك أيضاً أدب الإخوان، فهناك كتاب خاص يسمى: كتاب الإخوان، في الأدب، كيف تعاشر الناس؟ من هو الصديق الذي تختاره؟ وما هي صفاته التي ينبغي أن تتوفر فيه؟ وكيف تعامله إذا أساء؟ وكيف تعامله إذا أحسن؟.

كل هذا يأتيك عن طريق القصص، فيكون إيحاءً غير مباشر، فهو: يأتيك بقصص، وعندما تقرأ القصة تلو القصة تتأثر، مثلما أن القرآن ذكر الحكم والفضائل في القصص: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120]، فالقصص تثبت في النفوس المعاني، فإن كانت ساقطة أسقطت النفوس وإن كانت كاملة رفيعة حملت النفوس على مكارم الأخلاق، وسمت بها من حضيض الرذيلة إلى عُلا الفضيلة، وجعلت الإنسان يحدث نفسه أن يكون مثل فلان أو يكون له مثل ما لفلان، فالنفوس الطيبة حين تقرأ الشيء وتحبه تتأثر به، وتحب أن يكون لها مثل ما له، فهذا هو الأدب.

فالأدب جملة من المنثورات والأشعار تدور حول مغازٍ، وفيها ما هو كتاب يتعلق بالعشرة حتى العشرة الخاصة عشرة النساء، فتقرأ في الأدب صفات المرأة محاسنها ومساوئها، وكيف كانوا يتعاملون مع المرأة السيئة؟ وكيف كانوا يتعاملون مع المرأة الطيبة؟ تجد فيها كل شيء مما يتصل بك مع الناس، وأيضاً فيها كتاب خاص لمعاملة الناس في حال الغضب وفي حال الإساءة، حال الإساءة باللسان، وحال الإساءة بالسنان، فهذا هو الأدب.

الأدب الإسلامي كان يشتمل على جملة من الكتب والأبواب، فهناك مثلاً كتاب السؤدد، فيقول الرجل عند عقد النكاح: أعلمها -مثلاً- كتاب السؤدد، وهذا الكتاب يدور حول المعاني التي تسموا بالإنسان إلى السؤدد والشرف، ويمكن أن يعلمها كتاباً معيناً من كتب الأدب، حتى لو يرويها الشعر كأن يرويها المعلقات، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر بتعليم الشعر الجاهلي حتى يُعْلَم الكتاب، وكان يمدح قصيدة زهير بن أبي سلمى ولما سُئل عن أشعر العرب وأحكم العرب قال: الذي يقول: ومن ومن، يعني: معلقة زهير بن أبي سلمى ؛ لأنها اشتملت على الحكم.

ومن محاسن العلماء الأولين من الأدباء أنهم لما أرادوا نفع المتأخرين صنفوا هذه الكتب، فاختاروا أحسن ما يقال، ولذلك ليس الأدب كما ذكرنا لكل ما هب ودب، ولما سُئل بعض الحكماء العقلاء العلماء: من هو الأديب؟ قال رحمه الله كلمة بديعة جميلة قال: (الأديب هو الذي يقرأ أحسن ما يوجد)، فلا يقرأ كل شيء بل يقرأ أحسن ما يوجد (ويكتب أحسن ما يقرأ)، فلا يكتب كل ما هب ودب وإنما يختار، ويسمونها المختارات، ولذلك تجد مختارات فلان يعني: اختار عيون الشعر وعيون الحكم، فيقرأ أحسن ما يجد ويكتب أحسن ما يقرأ (ويحفظ أحسن ما يكتب)، فالذي يحفظه ويدخله إلى ذاكرته هو أفضل وأحسن ما يكتب من الحكم والمنثورات أو الأشعار التي ينبغي أن يعتنى بمثلها، ثم قال رحمه الله: (ويحدث بأحسن ما يحفظ)، أي أنه عندما يحدث الناس يحدثهم بأحسن محفوظاته؛ فهذا هو الأديب الرفيع المستوى الذي هو في أعلى مكان، وهذا هو الأدب الحقيقي، أما الأدب الأجوف الذي هو دعوى بدون حقيقة؛ فلا يمكن أن يكون الأدب أدباً إلا إذا كان رفيع المستوى، بأن يقرأ أحسن ما يوجد؛ لأن فكره ووقته وانشغال هذه الطاقة الفكرية لا يكون إلا لشيء يستحق أن ينشغل به، ثانياً: أن يكتب من هذا الذي قرأه أحسنه، كأنه في جنة وبستان فينتقي أطايبها، فإذا انتقى أطايب ما يقرأ كتبه، وإذا كتبه نظر فيه فأحسن الاختيار لحفظه، فحفظ أحسن ما كتب، ثم إذا جالس الناس وحدثهم انتقى لهم أحسن ما يحفظ، فهناك كلام يقال في الخاصة، وهناك كلام يقال في العامة.

فعلم الأدب علم مستقل، وإذا قيل: يعلمها الأدب، فليس المراد المحرم، فينتبه لهذا، وهذا الذي دعانا أن نتطرق لهذه القضية؛ لأنها حاصلة معنا، فلو أنه قصد من تعليمها الأدب: المجون والحرام؛ فهذا عقد على حرام مثل: أشعار الغزل التي فيها حرمة، أما أشعار الغزل التي لا تقصد للإغراء بالفاحشة، وإنما تقصد لمعانٍ أخر مما جرت به عادة أهل الجاهلية، فهذا شيء أقره النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال كعب : بانت سعاد، الأبيات المشهورة، فالمقصود من هذا: علوم الأدب التي لا تضر بالدين ولا تسيء إلى الدين، ولا تحمل على مساوئ الأخلاق.

وكتب الأدب كثيرة، وفيها كتب نفيسة؛ مثل عيون الأخبار لـابن قتيبة ، وهناك أيضاً كتاب الحصري أدب الكاتب، وكتب الأدب منها ما هو متقدم ومنها ما يكون متأخراً، فمما يعتني بالنقل عن المتقدمين مثل: كتاب عيون الأخبار، وهناك كتاب مثل: العقد الفريد، لكن فيه تشيع، وفيه نقول جيدة، وفيه كلام نفيس لكن صاحبه فيه تشيع.

وأما الأدب بالنسبة لعصور بني العباس فما بعدهم فهو الذي يسمونه: الأدب الرفيع، الذي يحكي قصص الخاصة وما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في معاملة الناس الخاصين، فهذا من أنفس ما كتب فيه: مشوار المحاضرة للتنوخي ، وأما كتب الأدب الموسعة فنهاية الأرب وصبح الأعشى للقلقشندي ونحوها من الكتب المطولة، فهذه يمكن لطلاب العلم أن يستفيدوا منها ويأخذوا منها ما صفا ويدعوا ما كدر، وإلا فهي كثيرة سواء للمتقدمين أو للمتأخرين، لكن يمكن أن يستفيد طالب العلم منها مثل: أن يقرأ المعلقات وما كتب من أشعار في دواوين خاصة، مثل: ديوان الحماسة لـأبي تمام ، ومختارات الحماسة، والفروسية، والشجاعة التي تعتني بذكر الأشعار في الشجاعة والكرم والتضحية والجود والسخاء ونحوها من المعاني الطيبة، وهناك كتب نفيسة كثيرة في الأدب، وأياً ما كان فهو علم يقصد منه تهذيب النفوس وتعويدها على مكارم الأخلاق.

[ وشعر مباح معلوم ]

إذا قال: أعلمكِ الشعر، فيمكن أن يعلمها علم الشعر، ويعلمها كيفية وزن الشعر، ويحدد علم الأدب الذي يريد أن يعلمها ويبين ذلك ثم بعد ذلك يتفقان عليه مهراً للمرأة.

استحقاق المرأة لمهر مثلها إذا بطل ما سماه لها مهراً

[ وإن أصدقها طلاق ضرتها لم يصح ولها مهر مثلها ]

قوله: (وإن أصدقها طلاق ضرتها) هذا لا يجوز؛ لأنه محرم، فإذا قال لها: أتزوجك على أن أطلق فلانة، فقالت: إذا طلقت فلانة فهو مهري، فهذا لا شك أنه ضرر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار).

قوله: (لم يصح ولها مهر مثلها) أي: لم يصح المسمى لأن يكون مهراً، ويبقي زوجته ثم يعطيها مهر مثلها إن دخل بها.

[ ومتى بطل المسمى وجب مهر المثل ]

قوله: (ومتى بطل المسمى) يعني: كان باطلاً لا يقره الشرع والنكاح صحيح (وجب مهر المثل) لأن مهر المثل لا وكس ولا شطط، ولذلك قضى به ابن مسعود رضي الله عنه في قصته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة المفوضة التي توفي عنها زوجها قال: (أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان، لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط وعليها العدة -يعني عليها الحداد- فقال رجل: والله لقد قضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا، فقال: الحمد لله)، فحمد الله أن وافق قضاؤه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم التردد في قيمة الصداق

قال رحمه الله تعالى: [ فصل: وإن أصدقها ألفاً إن كان أبوها حياً وألفين إن كان ميتاً وجب مهر المثل ]

إذا قال: إن كان أبوها حياً فلها ألف وإن كان ميتاً فلها ألفان أو العكس فهذا صداق مجهول؛ لأنه يغرر بها، فقد تطمع به؛ لأنها تظن أن لها الألفين على أن أباها ميت فيتبين أنه حي، ففي هذه الحالة لا يصح؛ لأنه غرر، وقد ذكرنا هذا في البيوع: التغرير بالقيمة المترددة، وذكرنا أنه من الغرر المنهي عنه شرعاً.

[ وعلى إن كانت لي زوجة بألفين أو لم تكن بألفٍ يصح بالمسمى ]

إن كان لي زوجة فألفان؛ لأن الضرر أعظم، وإن كان لا زوجة لي فألف؛ لأن الضرر أخف، فخففوا في هذا فقالوا: إن هذا ليس بالمتردد وإنما هو لخوف الضرر، فالضرر مصحوب بالحقيقة؛ فإن كان له زوجة دفعت ضررها بالألف الثانية، وإن كان ليس له زوجة ففي هذه الحالة تبقى على الأصل الذي هو الألف، وليس في هذا تردد يوجب الغرر والإضرار، بخلاف ما إذا قال لها: إذا كان حياً أو ميتاً، فهذا ليس بمرتبط بمصلحة أو درء مفسدة، ففرق بين المسألتين من هذا الوجه.

تأجيل الصداق

[ وإذا أُجل الصداق كله أو بعضه صح ]

يؤجلانه ولا يدخل بها حتى يعجل لها بعضاً من الصداق.

[ فإن عين أجلاً وإلا فمحله الفرقة ]

إن عين أجلاً، قال لها: أصدقكِ عشرة آلاف إلى نهاية هذه السنة، أعطيكِ إياها نهاية السنة، فهذا مؤجل، فإذا قال لها: صداقكِ عشرة آلاف فأجله إلى الفرقة، ويلزم بدفعه عند الفرقة، ويبقى ذلك موسعاً فيه إلى أن يفارقها.

[ وإن أصدقها مالاً مغصوباً أو خنزيراً ونحوه وجب مهر المثل ]

(وإن أصدقها مالاً مغصوباً) لأنه لا يملكه (أو خنزيراً) لأنه محرم أو خمراً فإنه محرم (وجب مهر المثل) يبطل المسمى ولها مهر المثل؛ لأن الخنزير والخمر كلها ليست من جنس ما يباح أن يكون صداقاً.

حكم العيب في الصداق

[ وإن وجدت المباح معيباً خُيرت بين أرشه وقيمته ]

هذه مسألة جديدة، فبعد أن ذكر أحكام الصداق السابقة، شرع في مسألة العيب في الصداق، وتقدم العيب الكلي: المغصوب، والخمر، والخنزير، أن المسمى يلغى ويكون لها مهر المثل، لكن لو كان العيب في البعض، كأن يكون قسم منه معيب وقسم منه صالح، مثلاً قال لها: مزرعتي لكِ، ثم بان أن المزرعة فيها عيب ينقص قيمتها وهي كانت تظنها أنها كاملة، أو قال: سيارتي هذه صداق لكِ، قالت: قبلت، وتم النكاح ثم تبين أن في السيارة عيباً، فنقول لها: أنتِ بالخيار بين أمرين: أن يبقى ويدفع لها أرش العيب.

قوله: (خيرت بين الأرش ومهر المثل) يعني: إن شاءت أخذت الأرش وإن شاءت أخذت مهر المثل.

حكم الحباء للأب

[ وإن تزوجها على ألف لها وألف لأبيها صحت التسمية ]

وإن تزوجها على أن لها ألفاً وألفاً لأبيها صحت، وحينئذٍ تكون الألف للأب؛ لأن البنت بضعة منه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) فهذا يسمى حباءً إذا كان هناك حباء للأب.

[ فلو طلق قبل الدخول وبعد القبض رجع بالألف ولا شيء على الأب لهما ]

(رجع بالألف ولا شيء على الأب لهما) إذا طلقها يصير له نصف المهر، فهل يأخذ الألف الذي هو نصف الألفين وتكون خمسمائة للمرأة وخمسمائة لأبيها، فيأخذ نصف المهر ونصف الحباء أم أن الذي يتنصف المهر وحده؟

الجواب: الذي يتنصف المهر وحده، ولذلك لا يملك إلا المهر، والحباء كان محض هبة وتبرع للأب، والأب يملك عن ابنته، فمن حقه أن يأخذ حباءً في زواج ابنته وجرى على ذلك عمل السلف رحمهم الله، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك على وجه الإضرار، لكن لو حصل خلع فإنه لا يطالب برد الحباء.

ومن أكبر الخطأ أن النساء إذا خالعن بلغ ببعضهم أن يلزمهن برد قيمة الزواج، وهذا ليس في دين الله عز وجل وليس من دين الله في شيء كما سيأتي إن شاء الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ما قال لها: ردي عليه كلفة الزواج، ولا قال لها: قولي لأبيكِ يرد الحباء، ولا سأله هل حبوت أباها شيئاً؟ فهذا كله نص صريح واضح جداً على أن المرأة إذا خالعت ترد نفس المهر، وفي الطلاق قبل الدخول لا ترد إلا نصف المهر.

وحينئذٍ يشطر المهر فقط، أما أن يأتي الرجل وينكح المرأة ويدفع في وليمة النكاح قرابة خمسين ألفاً، ثم يقال: هذا ضرر، وما دام أنها ما تريده فإنها ترد عليه الخمسين ألفاً فهذا خطأ كبير؛ لأنه من المعروف والمعهود والمشاهد أنه يفعل الوليمة بخمسين ألفاً فيأتيه من الناس في بعض الأحيان مائة ألف بسبب هذه الوليمة، فيأخذ من الناس مائته ويأخذ من الزوجة الخمسين ويرهق كاهلها، وتمنع مما أباح الله لها من الخلع، فهذا كله مما يخالف شرع الله عز وجل، ولا نحفظ هذا لا في نص الكتاب ولا في نص السنة، إنما ترد له نفس المال في هذه المسألة ولا تطالب برد الحباء الذي يكون للأب، ومن باب أولى كلفة الزواج.

[ ولو شرط ذلك لغير الأب فكل المسمى لها ]

لأنه ليس هناك وجه للغير أن يأخذ، فالأولياء الباقون ليس من حقهم هذا فكله لها، وفي الرد يكون حكمه حكم المهر.

حكم تزويج البنت بأقل من مهر المثل

[ومن زوج ابنته ولو ثيباً بدون مهر مثلها صح]

لأن الأب قد يفعل هذا لمصالح، فقد يخشى على ابنته، وقد يخشى أنها لا يأتيها أحد، وقد يريد أن يستعجل في زواجها لمقاصد، وقد يعوضها بالزوج الكريم، فالأب فيه من الشفقة ما يمنع أن يؤذي ابنته، فلا يفعل مثل هذا الإضرار إلا وله مقصد ومصلحة أعظم، ولذلك يقبل من الأب ما لا يقبل من غيره، فقد زوج أبو بكر رضي الله عنه عائشة رضي الله عنها قبل بلوغها، وهذا يدل على قوة سلطة الأب أكثر من غيره من الأولياء.

[ وإن زوجها به ولي غيره بإذنها صح وإن لم تأذن فمهر المثل ]

إذا زوج غير الأب المرأة بأقل من مهر المثل رجع الأمر إلى المرأة، إن رضيت وأذنت أو أقرت فلا إشكال، أما إن قالت: لا، فإن هذا الولي يصير قد تعدى وقصر في ولايته فلا يصح ذلك؛ لأن هذا يعتبر من الظلم أن يكون مهر مثلها عشرين ألفاً، وفيأتي ويمهرها خمسة آلاف ريال، وهذا مما وقع فيه بعض الصالحين بحسن نية، فيكون أبوه متوفى فيأتي إلى صديق له فيزوجه أخته ويقول: ادفع ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف، فلا يجوز ذلك إلا برضا الأخت، فإذا رضيت الأخت وتنازلت عن حقوقها صح، ولا شك أنها مأجورة وهو مأجور، ويفعل هذا من فيه صلاح من باب الخير، لكن ينبغي رد الحقوق إلى أهلها.

فالمهر حق من حقوق المرأة لا يجوز لأحد أن يتدخل في هذا المهر، إلا الأب فله سلطة وولاية، أما غيره فلا، والمرأة هي التي لها الحق في المهر، تقدره بما تراه بشرط أن لا يكون ذلك على طريقة فيها نوع من الأذية للأولياء، كأن تماطل في زواجها وتتخذ من المهر ذريعة للمماطلة، فإذا زوجها وليها بمهر مثلها فحينئذٍ زواجها صحيح ومعتبر.

تزويج الأب لابنه بأكثر من مهر المثل

[ وإن زوج ابنه الصغير بمهر المثل أو أكثر صح في ذمة الزوج ]

الأب عنده من العاطفة والشفقة ما لا يتهم معه، فإذا زوج ابنه بمهر المثل أو أكثر صح ذلك، كأن تكون الزوجة مثلها تأخذ ثلاثين ألفاً فزوجه بأربعين، فلما بلغ الابن قال: لا أرضى بذلك، فنقول: صح العقد وتضمن المهر؛ لأن ولاية الأب تلزمه في هذه الحالة، ويكون الحكم على حسب العقد الذي أبرمه، فلا يأتي بعد بلوغه ويقول: لا؛ لأن فائدة ولاية الأب عليه في حالة صباه أنه يبت بما فيه مصلحته، فلما اجتهد في مصلحته وبت ذلك ألزم الابن بعد بلوغه بالدفع.

[ وإن كان معسراً لم يضمنه الأب ]

مثلاً إذا زوجه بأربعين ألفاً فالابن يضمن، فإذا كان الابن معسراً هل نرجع على الأب ونقول: أنت السبب فتدفع؟ الجواب: لا، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] ولا يرجع إلى الأب، وإنما يبقى في ذمة الابن الصغير حتى يفتح الله عليه وهو خير الفاتحين.

[ يسن تخفيفه ]

يسن تخفيف الصداق وعدم المغالاة فيه؛ لما فيها من الأضرار والمفاسد العظيمة؛ فالمغالاة في المهور تؤخر الزواج وتعطله، وتكثر من العوانس بين الناس الأمر الذي يفضي للفتنة والشر المستطير، فالسنة تخفيفه تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك خفف في مهور نسائه، فدل هذا على أن المهر ليس بمحل للمزايدة والمغالاة، وأجمع العلماء رحمهم الله على كراهية المغالاة في المهور، ونص بعض العلماء على أنه يوجب الإثم إذا وصل إلى حد الإضرار بحيث يقول: لا أزوج ابنتي إلا بمائة ألف، وهو يعلم أن هذه المائة ألف قد تكون سبباً في عدم زواج ابنته، ولربما عنست وكبرت ولم تتزوج فإنه يبوء بإثمها والعياذ بالله.

فالمغالاة في المهور مجمع على كراهتها، وقال المصنف: [ يسن تخفيفه ] لأن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التخفيف؛ ولأن الحكمة تقتضي هذا، فإن الرجل إذا دفع مهراً كثيراً في المرأة، فإن هذا سيضر بالمرأة أثناء عشرتها، فهو يظن كأنه اشتراها، فإذا رأى منها أقل خطأ، عظم هذا الخطأ، ورأى أنه كبيرة لا تغتفر، وحينئذٍ تحدث المشاكل، وينتقم منها ويضر بها، وربما أجحف بها حتى تخالعه وترد له المال الذي دفعه، إضافة إلى أنه إذا غالى الناس في المهور، فإنه سيتحمل الزوج أعباء هذه المهور المبالغ فيها، فلربما وقع في وطأة الدين، فيدخل إلى بيت الزوجية مهموماً مغموماً، فتنعكس الآثار على نفسيته وعلى زوجته حتى لربما عاش عيشة منغصة مليئة بالمشاكل والأضرار بسبب المغالاة في المهور.

فلا خير في المغالاة في المهور، والسنة التخفيف تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جاء حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (خير النساء -وفي رواية: أبرك النساء- أيسرهن مئونة) فالتيسير في مئونة النكاح والتخفيف هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف الصالح والتابعين لهم بإحسان رحمة الله على الجميع.

[ وتسميته في العقد ]

ويسمى المهر في العقد فيقول مثلاً: زوجتك موليتي فلانة بعشرة آلاف.. فيسمى ويذكر؛ لأن هذا أولى وأحرى في قطع النزاع وقطع الخصومة، وكذلك يرجع إليه عند الاختلاف، ولربما مات الزوج وماتت الزوجة ومات الولي والشهود، والزوج والزوجة والولي ممن يعلم بقدر المهر، فيضيع حق المرأة، فالتسمية تدفع كثيراً من المشاكل التي تقع في المستقبل، ولذلك قال العلماء: شرع الله الكتابة للديون والحقوق؛ لأجل أن لا يظلم الناس بعضهم بعضاً، ولأجل أن تصل الحقوق إلى أصحابها.

[ من أربعمائة درهم إلى خمسمائة ]

لأن هذا الحد -من أربعمائة درهم إلى خمسمائة- هو الحد الذي جاء في رواية السير في صداق أم حبيبة بنت أبي سفيان حينما أصدقها النجاشي لزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر مطلق، أي: الأمر في هذا واسع لا يقيد بقيد معين ولا يحدد بحد، ويختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، والضابط فيه أن يكون فيه يسر لا عسر، واليسر والعسر يختلفان، فمثلاً: قبل أربعين سنة ربما لو تزوج بريالين أو ثلاثة ريالات لكانت شيئاً كثيراً، والآن لو تزوج بثلاثة آلاف أو أربعة آلاف لكان شيئاً يسيراً، فهذا أمر يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.

والذهب والفضة هما من الأثمان التي جعلها الله سبحانه وتعالى قيماً تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فيصعب وضع حد معين، ولذلك ليس لليسر في المهر حد لا في الكثرة ولا في القلة وإنما يرجع فيه إلى العرف.