شرح زاد المستقنع باب المحرمات في النكاح [2]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله: [ فصل: وتحرم إلى أمد].

قوله: (وتحرم إلى أمد) هذا النوع الثاني من المحرمات وهو التحريم إلى أمد.

فبعد أن بين رحمه الله المحرمات إلى الأبد شرع في بيان المحرمات إلى أمد، وهذا نوع من النسوة يحرمن مؤقتاً، مثلاً: عندنا المرأة المحرمة لا يجوز لك أن تتزوجها حتى تحل من إحرامها، وكذلك المرأة الزانية لا يجوز نكاحها حتى تتوب وتستبرئ من زناها، كذلك المرأة الكافرة لا يجوز نكاحها إلا ما استثناه الشرع من الكتابيات على التفصيل الذي سنذكره، لكن إذا أسلمت يجوز، إذاً معنى ذلك أن هؤلاء النسوة تحريمهن من جهة العوارض والأسباب، ويزول التحريم بزوال سببه.

من المحرمات إلى أمد أخت الزوجة

قال رحمه الله: [أخت معتدته].

قوله: (أخت معتدته)، أي: أخت الزوجة، وهي محرمة عليك سواء كانت الزوجة في عصمتك أو كانت في حال العدة، فهو قال: (أخت معتدته) حتى يُعْلَمَ أنها إذا كانت باقية في عصمته فهي محرمة من باب أولى وأحرى، وهذا النوع من النساء يدخل تحت مانع الجمع. فالموانع عدة وهي: مانع النسب، ومانع المصاهرة، ومانع الرضاع، ومانع اللعان، هذه أربعة موانع تقدمت، ثم نشرع الآن في مانع الجمع، وهو الجمع بين الأختين، والمرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، هذا بالنسبة لمانع الجمع.

فابتدأ بالأخت وعادة العلماء يقولون: تحرم أخت الزوجة ما دامت الزوجة في العصمة أو كانت في عدتها، فإذا طلقت وخرجت من عدتها حلت أختها. دليل هذا النوع من التحريم قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23]، (إلا ما قد سلف) أي: ولا ما قد سلف -كما ذكرنا-، فينبغي فراقهن، فيكون على العطف تشبيك الحكم، ومن حكمة الله عز وجل أنه حرم على الرجل أن يتزوج أخت زوجته في حال بقاء أختها في عصمته؛ لما في ذلك من قطع الأرحام، وظهور الحقد بين الأخوات، وقد جاء في الحديث الآخر في الرواية: (إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) ، فهذا يدل على أن العلة خوف قطيعة الرحم، ومن هنا يقول العلماء: إن التحريم هنا درء لمفسدة قطيعة الرحم، وأجمع العلماء على عدم جواز الجمع بين المرأة وأختها.

لكن هذا النوع من الموانع الذي هو مانع الجمع لا يوجب المحرمية كما ذكرنا، ويخطئ بعض الناس عندما يجلس مع أخت زوجته، فإذا قيل له: لماذا؟ يقول: هذه محرمة فهي كالأم والبنت، وهذا خطأ، فإنها محرمة إلى أمد، والمحرمة إلى أمد لا تأخذ حكم المحرمة إلى الأبد. والأخت تشمل أخت الزوجة الشقيقة، وأخت الزوجة لأب، وأخت الزوجة لأم، فالحكم هنا عام، وألحقت بها الأخت من الرضاعة، فإنه لا يجمع بين المرأة وبين أختها من الرضاعة. وعليه فلا يجمع بين المرأة وبين أختها من النسب، ولا أختها من الرضاعة.

قال: [وأخت زوجته]

قوله: (وأخت زوجته) أخت معتدته، هي أخت زوجته، يعني: كأنه يقول: إن أخت الزوجة محرمة إلى أن تطلق وتخرج من عدة الطلاق، لكن ما دامت في عدة الطلاق لا، ومن هنا يلغزون ويقولون: رجل يعتد، وهو الذي يريد الزواج من أخت الزوجة، ومن كان عنده أربع نسوة وأراد أن يتزوج بامرأة خامسة لا يحل، فنقول له: فارق واحدة وتزوج الخامسة، فإذا طلق الواحدة لا يحل له أن يعقد على الخامسة حتى تخرج هذه من عدتها؛ لأنه لو أبحنا له أن ينكح الخامسة قبل أن تخرج الرابعة من عدته ومات، يكون قد مات وفي عصمته خمس من النسوة بحكم الشريعة؛ لأن المرأة في العدة آخذة حكم المرأة، ولذلك قالوا: إنه لابد من خروجه من العدة في قول جماهير السلف رحمة الله عليهم، وقضى به بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وعليه قالوا: لو ألغز يقال: رجل يعتد، بينما الأصل أن العدة تكون للمرأة، يقولون: هو الرجل الذي يريد الخامسة، فإنه إذا طلق الرابعة يعتد، يعني: لا يتزوج حتى تخرج الرابعة من عدتها، وهكذا لو طلق الزوجة وأراد أن ينكح أختها فإنه ينتظر إلى خروجها من العدة، لكن لو أن أختها ماتت، جاز له مباشرة أن ينكح أختها، في هذه الحالة ليست هناك عدة، فبمجرد موتها يحل له نكاح أختها.

حكم الجمع بين المرأة وبنت أختها أو عمتها أو خالتها

قال رحمه الله: [ وبنتاهما وعمتاهما وخالتاهما].

قوله: (وبنتاهما) فلا يجوز أن يجمع بين المرأة وبنت أختها؛ لأنه جمع بين المرأة وخالتها، ومعلوم أنه لا يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها.

قوله: (وعمتاهما وخالتاهما)

لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها) ، ومن هنا يعتبر العلماء: أن السنة تزيد على القرآن في الحكم، وهذا خلاف لبعض أصحاب الرأي الذين يقولون: إن السنة لا تزيد على القرآن، فهنا زاد التحريم الجمع بين المرأة وعمتها، فإن ظاهر القرآن يبيح؛ لأن الله يقول: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23] ، والله تعالى حرم المحرمات ثم قال بعد ذلك: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] ، فالأصل يقتضي أن التحريم يختص بالجمع بين الأختين، مفهوم ذلك: أن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها جائز بحكم القرآن؛ لكن جاء النص من السنة بالزيادة، وهذا مما يذكره العلماء: أن السنة تزيد على القرآن، بخلاف من يقول: إن السنة مفسرة مقيدة لمطلق القرآن، مخصصة للعموم إلى آخره، وهذا ليس على كل حال، بل السنة تزيد على القرآن، وتأتي بأحكام زائدة على القرآن، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا ألفين أحدكم جالساً على أريكته شبعان ريان يبلغه الحديث عني فيقول: ما وجدت هذا في كتاب الله، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه)، ولقد صدق بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فكم من جالس على أريكته أشر بطر كفر نعمة الله عز وجل، ورد سنة النبي صلى الله عليه وسلم مدعياً أنه لا يجد ذلك في كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم غنية عنه وعن أمثاله.

جواز التزوج ببنت أخت المرأة وعمتها وخالتها بعد انتهاء عدتها

قال رحمه الله: [ فإن طلقت وفرغت العدة أبحن ].

قوله: (فإن طلقت وانتهت العدة) هذان شرطان. إذاً: لابد من الأمرين: الطلاق، وانتهاء العدة، لكن لو ماتت فإنها تحل.

قال: [ وإن تزوجهما في عقد أو عقدين معاً بطلا ]

يا إخوان! الحقيقة أن متون الفقه ومتون العلم ألَّفها علماء أجلاء، ومن الخطأ أن يظن الظان أن أهل العلم المعروفين بالورع والصلاح يأتون بشيء من عندهم، فالبعض يقول: هذه آراء واجتهادات، العلماء عندما يأتون بهذه المسائل الغريبة فهي منبنية على الأصول، ولو تأملت الآن المتون الفقهية وأمعنت النظر فيها، وركزت في الأدلة المستنبطة منها هذه الأحكام، لوجدت أنها لا تخرج عن أصل صحيح شرعي، لكن تختلف الأنظار هل هذا الأصل أولى أو ذاك؟

فهم الآن حينما يتكلمون على مانع الجمع، فإن القرآن فيه نهي عن الجمع، لكن قد يرد السؤال: لو أن رجلاً جمع بين أختين -والعياذ بالله- معاً، وهذا الرجل جاهل بحكم الشريعة، كأن يكون أسلم حديثاً، ثم جاء وتزوج أختين مع بعض، وقيل له: هذا لا يحل، فما الحكم: هل نلغي النكاحين؟ أم نبقي النكاحين؟ أم نلغي أحدهما ونبقي الآخر؟ هذا فيه تفصيل:

إن كانت إحداهما سابقة للأخرى بطل نكاح الأخيرة، وبقي نكاح الأولى على ما هو عليه؛ لأن الإخلال جاء من إدخال عقد الثانية على الأولى، فالأصل في عقد الأولى أنه صحيح وأصله مستصحب، ونلغي الثاني فكان وجود العقد وعدمه سواء، فنقول له: فارق الأخت الثانية، ويلزمك مفارقتها ويبقى عقد الأولى على ما هو عليه.

لكن لو تزوجهما معاً، دخل بهما معاً وعقد بهما معاً، فما الحكم؟

نقول: بطل نكاحهما معاً؛ لأنه مبني على أصلٍ فاسد، لا يصح النكاح على هذا الوجه، إذا لم تسبق إحداهما الأخرى وعقد عليهما معاً، يقع صورة هذه المسألة: ككفار أسلموا وهم حديثو عهد بالإسلام فقال أحدهما للآخر: يا فلان! زوجتك أختين لي، قال: قبلت، فقد وقع العقد على الاثنتين، نعم تزوج أختين مع بعض، فحينئذٍ جمع بين الأختين في عقد واحد، فيلغى عقد الأولى والثانية.

قال: [ فإن تأخر أحدهما أو وقع في عدة الأخرى وهي بائن أو رجعية بطل ]

قوله: (فإن تأخر أحدهما) ما رأيكم تأخرت إحداهما، أو تأخر أحدهما؟ تأخر أحدهما بالتذكير التفاتاً للعقد، أي: فإن تأخر عقد إحداهما عن عقد الأخرى بطل نكاح الثانية دون نكاح الأولى كما ذكرنا، وهكذا لو وقع في عدتها فإنه يبطل نكاح الثانية، يستوي أن يقع في عدتها أو يقع في حال العصمة كما ذكرنا.

من المحرمات إلى أمد المحصنة والمعتدة

قال رحمه الله: [ وتحرم المعتدة والمحصنة].

قوله: (وتحرم المعتدة) قال تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235] ، فالمرأة المعتدة من طلاق تنتظر حتى تتم عدتها، وبعد ذلك تحل للأزواج، فلا يجوز أن ينكحها في حال عدتها، وقد حرم الله عز وجل المرأة المحصنة والمعتدة، وهذا مانع جديد غير المانع السابق.

قوله: (والمحصنة) هذا مانع الزوجية. وضابط الزوجية: أن تكون المرأة في عصمة الغير، والدليل على ذلك في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] عطف المحصنات من النساء على قوله: (حرمت)، أي: حرمت عليكم المحصنات من النساء، والمحصنة: هي المرأة المزوجة؛ لأن الإحصان يطلق على الزواج، فيقال: أحصن الرجل إذا تزوج: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25] ، فهنا الإحصان الأول بمعنى الزواج، ويطلق الإحصان بمعنى العفة:

حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

ومنه قوله تعالى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ [النساء:25] يعني: عفيفات غير زانيات، قوله: (مسافحات) يعني: زانيات، والسفاح هو الزنا، وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَان [النساء:25] يعني: متخذات أصدقاء مثلما يقع عند أهل البغي والفجور.

فالمقصود: أن المرأة المحصنة في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ [النساء:24] من المحرمات إلى أمد، وهي: كل امرأة في عصمة الغير، فلا يجوز للرجل أن يتزوج منكوحة غيره، وإذا تزوج منكوحة غيره فهو زانٍ، هذا إذا كان يعلم أنها منكوحة لغيره، ويعلم بالتحريم، فحكم هذا أن يرجم إن كان محصناً. والمرأة التي هي الزوجة إن رضيت به، أو كذبت وقالت: ما لي زوج ولها زوج، وتزوجت بزوج ثان عالمة بالحكم فهي زانية وترجم بزناها، هذا إذا ثبت عند القاضي أنها فعلت ذلك توصلاً إلى وطئه، ويكون حينئذٍ طلباً للزنا؛ لأن العقد باطل، فكأنها تبيح له ما حرم الله عز وجل دون إذنٍ شرعي فهو زنا.

فالمقصود: أن المرأة المحصنة لا يحل نكاحها، ودليل ذلك قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ [النساء:24] ، ويتبع ذلك المعتدة، فالشريعة حكمت بأن المعتدات في حكم الزوجات، وفائدة العدة أن يقوم الزوج بردها؛ وذلك لقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228] فجعل المرأة المعتدة تابعة لبعلها، فقال: (وبعولتهن) وهذا يدل على أنها لا تنكح، ولا يجوز للغير أن يدخل على زوجة الأول إلا بعد خروجها من العدة.

عدم جواز وطء المسبية إلا بعد استبرائها

قال رحمه الله: [والمستبرأة من غيره].

قوله: (والمستبرأة من غيره) المستبرأة من البراءة، وهي: التي تطلب براءة الرحم، مستبرأة من غيره مثلما يقع في الإماء، يقول الله تعالى : وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] لا يحل للمسلم أن يطأ أو يتزوج امرأة مزوجة بغيره، إلا في حالة واحدة وهي: أن تكون كافرة، وتؤخذ أسيرة، وكانت زوجة لكافر قبل أن تسبى وتسترق، فإذا أخذت بالسبي يلغى نكاح الكفار، ويصير لها بحكم السبي حكم جديد، ولذلك قال الله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] ، فالسبي والنساء المسترقات في السبي يجوز وطؤهن، ولو كن زوجات للكفار قبل القتال وقبل الجهاد، فبالجهاد نشأ حكم جديد، فألغي زواجهن الأول وأصبحن ملكاً؛ لأنه لو لم يكن هذا لما وقع شيء اسمه ملك يمين، فقال الله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] فاستثنى الله عز وجل الوطء بملك اليمين للمحصنة، لكنها تُسْتَبْرَأُ فلا يجوز وطؤها قبل الاستبراء؛ لأنه إذا وطأها ولم يستبرئها فإنه يدخل ماءه على ماء الكافر قبله، وهكذا لو كانت المرأة منكوحة لغيره ووقع الوطء شبهة، لا بد أن يستبرئها إذا كانت موطوءة من غيره، وسنتكلم إن شاء الله على العدد وأحكام الاستبراء في بابها إن شاء الله، والدليل على أن المستبرأة لا توطأ حديث سبي أوطاس، وذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يريد أن يلم بالمسبية، يعني: يطأها، هذه المرأة المسبية كانت فراشاً للذي قبل، وفيها حمل بيّن، والمفروض أنه ينتظر حتى تضع حملها، وحينئذٍ يستبرئ الرحم، ويصبح خلواً له، فيطأ بملك اليمين، لكن ما يجوز أن يأتي بمسبية حامل ويطأها؛ لأن هذا يدخل ماءه على ماء غيره، فقال صلى الله عليه وسلم -لما رآه على باب الخيمة وهو يلم بها-: (أيلم بها، أيغذوه في سمعه وبصره -يعني: لو وطأها وهي حامل لانتشى ولد غيره بمائه- لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره) ، وفي هذا يقول بعض العلماء: إن هذا يدل على عظم أمر الزنا؛ لأنه إذا زنى وأدخل على أهله ولداً ليس منهم، وأغذاه في سمعه وبصره -والعياذ بالله- وأدخل من يطعم من طعام قوم لا يحل له أن يطعم، ويشرب من شراب قوم لا يحل له أن يشرب، وأن ينظر إلى نسائهم وهم ليسوا بمحارم، فكل هذا من الآثار المترتبة على اختلاط الماء، ولذلك قال: (أيغذوه في سمعه وبصره، لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره) ، فهذا يدل على أنه لا يجوز الوطء للمرأة التي علق ماؤها من الغير، وكذلك لا يجوز وطء معتدة غيره وامرأة غيره بعد فراقهما إلا بعد استبرائهما.

من المحرمات إلى أمد الزانية

قال رحمه الله: [ والزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها ].

ولا يجوز نكاح الزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها، هذان شرطان: الشرط الأول: يتعلق بصلاحها واستقامتها وتوبتها من الزنا. والشرط الثاني: يتعلق بطهارة فرجها ورحمها، فأما بالنسبة للدليل على تحريم نكاح الزانية فقوله تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3] قيل: إن هذه الآية نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه وقد أراد أن ينكح عناقاً ، ونكاح الرجل للمرأة الزانية يدخل الضرر على أولاده وذريته ونسله، وتختلط الأنساب، ولا يأمن منها أن تدنس فراشه، وتلوث نسبه والعياذ بالله! فتدخل عليه من الشر والبلاء، وتدخل على جماعته وجيرانه من السوء ما الله به عليم، فإن المرأة الزانية مشئومة وفيها من الشؤم والبلاء ما قد يكون سبباً في الضرر على غيرها، فكم أفسدت وأهلكت من بيوت وأسرٍ، ودمرت من أناسٍ بسبب ما يكون منها من الزنا نسأل الله السلامة والعافية!

فالزانية شر عظيم، ولذلك حرم الله نكاح الزانيات، فقال تعالى: وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3] ، وعلى الصحيح من قولي العلماء: أن الزنا يمنع النكاح، فيحرم على المسلم أن ينكح الزانية، وهذا مانع آخر، فقد ذكرنا قبلاً مانع الجمع، ومانع الزوجية، ومانع العدة، والعدة في حكم الزوجية، وذكرنا بعد ذلك الاستبراء، ثم هانحن نذكر مانع الزنا، هذا المانع الرابع من موانع المحرمات إلى أمد، وتستطيع أن تجعل المستبرأة في حكم ذات الزوج؛ لأنها تابعة لماء الأول، وتجعل هذا مانعاً ثالثاً مؤقتاً، وهو مانع الزنا، والصحيح من أقوال العلماء: أن الزنا يمنع من النكاح ويحرم.

وعليه فلا يجوز أن ينكح المسلم الزانية إلا بشرطين: الشرط الأول: أن تتوب، وتوبتها تكون بما يظهر من صلاح حالها واستقامتها وبعدها عن الحرام. وقال بعض العلماء: لا توبة لها إلا إذا اختبرت وظهرت براءتها، وقالوا: اختبارها أن تراود على الزنا فلا تعود، وهذا شرط صعب، فإن المرأة قد تتوب توبة نصوحاً، ولكنها إذا ذكرت بماضيها ربما ضعفت، ولذلك أمر التوبة في هذا من الصعوبة بمكان؛ لكن ظواهر الحال والقرائن الظاهرة إن شاء الله كافية. بعض العلماء يعتبرون بصلاح الحال أغلب الحول، أي: أنه إذا مضى عليها أغلب الحول وهي مستقيمة طائعة نادمة على ما فات، وظهر من أحوالها التوبة صح منها ذلك، مثال ذلك: أنها كانت تخرج فصارت تقر في بيتها، وكانت تتصل بالناس فقطعت صلتها بالناس، فظهرت أمارات ودلائل وآثار تدل على صدق توبتها، حينها نحكم بتوبتها، فإذا حكمنا بتوبتها وظهر ما يدل على صلاحها واستقامتها، فإنه يستبرئ ما يكون منها، فلا يجوز له أن يطأها قبل أن تستبرئ من وطء الزنا؛ لأن هذا يوجب خلط الأنساب.

لكن لو كان الذي زنى -والعياذ بالله- يريد كما يقولون: أن يستر الزانية، فيتزوجها بعد أن خدع المرأة وأصابها فوجدها بكراً فيطمع فيها.

فمذهب طائفة من السلف: أنه يجوز له أن يتزوجها ويسترها.

وقال بعض الصحابة: أوله حرام وآخره حلال، وأوله سفاح وآخره نكاح، فخففوا في ذلك، وقال به بعض الأئمة.

وذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله، وهو الأقوى والصحيح: أنه لا يجوز له أن يعقد عليها حتى تتوب توبة نصوحاً، وتستبرئ من الحرام، حيث لا يجوز إدخال الحلال على الحرام، والسنة قاضية على أنه يجب التفريق بين الحلال والحرام، وذلك في حديث وطء المسبية فإنه يدل على أنه لا يجوز، وكما هو معلوم فإن عندنا نصاً يدل على أن ماء الزنا حرام، وليس للرجل فيه حق: (الولد للفراش) ، فكيف نقول: يتزوجها من أجل أن يسترها، فحينئذٍ إن سترها ضيّع حق الولد فإنه يدخل ولداً على ذريته ليس منهم؛ ولذلك نص عليه الصلاة والسلام بقوله: (الولد للفراش) ، فهذا يدل دلالة واضحة على أن هذا الولد ليس من حقه، فهو يتذرع بأن هذا الولد ولده، ويريد أن يبقيها في عصمته من أجل هذا الولد، والواقع أنه ليس بولده، وهذا الولد لابد وأن يأخذ حكمه الشرعي في كونه ولد سفاح، فإذا جاء يقول: أنا أسترها، إنما سترها بمحرم، وأدخل السفاح على النكاح، فأدخل ولداً ينسب إليه، ويقارن بأبنائه وبناته، يشاركهم ويزاحمهم في الإرث هو وذريته وذرية ذريته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إن بقي نسله، وكل ذلك مما ليس له أصل شرعي.

صحيح أن ستر المرأة مشروع، وأن الزاني يستر غيره ويستر نفسه فهذا لا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه ماعز قال له: (ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه) لكن أن يدخل الحلال على الحرام فلا؛ لأنه سيضر بحقوق الورثة، وهذا الولد ليس له حق؛ لأن هذا الماء الذي وطِئَ وأُنجب منه، واغتذى به الفرج، وحصل منه الإنجاب، ماء لا حرمة له، فهو بهذا الستر يدخل الحرمة، وبالإجماع على أنه يشرع الستر ما لم يتضمن إضراراً بالغير، وفواتاً لحقه، لو أن الرجل توفي وليس له ولد إلا هذا الولد الذي من الزنا، وفرضنا أنه طلق أم هذا الولد وتزوج زوجة ثانية وليس له إلا هذا الولد الذي من الزنا والعياذ بالله! ففي هذه الحالة تنتقل المرأة من إرثها من الربع إلى إرثها من الثمن، بسبب ولد الزنا؛ لأن هذا الولد يحجبها، ثم إن العصبة الذين هم قرابته أحق بميراثه، فيأتي ابن الزنا -والعياذ بالله- ويأخذ الميراث منهم تعصيباً.

فالمسألة ليست مسألة عاطفة، المسألة مسألة أحكام، ولذلك فإن قول من قال: لا يدخل الحرام على الحلال ولا يدخل الحلال على الحرام أقوى، والأصول شاهدة له، والسنة دالة عليه.

والذي تطمئن إليه النفس أنه لا يصح هذا، وهو اختيار جمع من العلماء وطائفة من مشايخنا رحمة الله عليهم، وهو أولى بالصواب إن شاء الله تعالى؛ لدلالة النصوص والأصول الشرعية عليه.

من المحرمات إلى أمد المطلقة ثلاثاً

قال رحمه الله: [ ومطلقته ثلاثاً حتى يطأها زوج غيره ]

قوله: (ومطلقته ثلاثاً) إذا احتسبنا المستبرأة داخلة تحت المعتدة، فالنوع الرابع مطلقته ثلاثاً لقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا -أي: الطلقة الثالثة- فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] فهذا نص على أن المرأة المطلقة ثلاثاً لا تحل حتى تنكح زوجاً غيره، وجاءت السنة بزيادة شرط فإن ظاهر القرآن: حَتَّى تَنكِحَ [البقرة:230] ظاهره العقد، وأنه إذا عقد عليها زوج حلت للأول الذي طلقها ثلاثاً إن طلقها الثاني أو بانت منه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن في حديث امرأة رفاعة بن رافع القرظي رضي الله عن الجميع حينما بانت من رفاعة وتزوجت عبد الرحمن بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه، وجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت، وقالت حينما نكحت عبد الرحمن بن الزبير : (إنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب، فقال صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ فقال: لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) ، فهي لما طلقها رفاعة الطلقة الثالثة بانت منه، وبت طلاقها وتزوجت عبد الرحمن بن الزبير فأرادت أن ترجع إلى رفاعة ، وقيل: أن ما اتهمت به عبد الرحمن بن الزبير ليس بصحيح؛ لأنها لما جاءت تشتكي ابن الزبير كان معه ولد، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أهذا ولدك؟ قال: نعم) فعلم كذبها، وأنها تريد أن ترجع إلى الأول، ففطن صلى الله عليه وسلم لذلك، وعلى هذا ينبغي على القاضي والمفتي أن يكون ذا فطنة وذا علم وبصيرة، وأن ينتبه إلى ما يدعيه المدعي، وأن تكون عنده من الفراسة ما يمكنه من معرفة الكلام الذي يقال، والدعوة التي تذكر من الخصمين.

الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردها إلى رفاعة إلا بعد أن يذوق الثاني العسيلة، وهذا مكنىً به عن الجماع، ولذلك أجمع العلماء على أنها لا تحل للأول إلا بعد وطء الثاني لها، ويكون ذلك بإيلاج الحشفة أو قدرها إن كانت مقطوعة، وحصول الإيلاج في الفرج أمر شرعي معتبر، ثم إن أراد أن يطلقها بعد ذلك فإنه جائز؛ لكن بشرط ألا يكون نكاح محلل، فإذا وقع ذلك وطلقت ورجعت إلى الأول حلّت له، وسيأتي إن شاء الله بيانه في مسائل الطلاق، هل تحل له بثلاث طلقات جديدة، أو تحل له بطلقة واحدة على تفصيل عند العلماء رحمهم الله، هذا مانع التطليق ثلاثاً، وهو من الموانع المؤقتة، لأنها إذا نكحت زوجاً غيره مطلقها حلّت للذي قبل.

من المحرمات إلى أمد المحرِمة

قال رحمه الله: [ والمحرمة حتى تحل ].

مانع الإحرام مانع مؤقت، وقد بيّنا مانع الإحرام في كتاب المناسك، وبيّنا أن الصحيح من مذهب الجمهور: أن المحرم لا ينكح ولا يُنكح ولا يخطب، وبيّنا صريح السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدل على رجحان هذا القول، وأجبنا عن أجوبة المخالفين، وأنه لا يحل نكاح المرأة المحرمة حتى تتحلل من إحرامها، ولا يجوز للرجل المحرم أن ينكح، ولو كانت المنكوحة حلالاً فلا يجوز نكاح المحرمين، ولا نكاح محرمة من حلال، ولا نكاح حلال من امرأة محرمة، ولا محرم من امرأة حلال، لا يجوز هذا سواء كان الاثنان محرمين، أو كان أحدهما محرماً، والآخر حلالاً، فلا يجوز النكاح على هذا الوجه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ينكح المحرم -إذا كان زوجاً رجلاً- ولا يُنكح -إذا كان امرأة-) ، فجمع بين الاثنين، ودل على تحريم النكاح بالإحرام.

قال رحمه الله: [أخت معتدته].

قوله: (أخت معتدته)، أي: أخت الزوجة، وهي محرمة عليك سواء كانت الزوجة في عصمتك أو كانت في حال العدة، فهو قال: (أخت معتدته) حتى يُعْلَمَ أنها إذا كانت باقية في عصمته فهي محرمة من باب أولى وأحرى، وهذا النوع من النساء يدخل تحت مانع الجمع. فالموانع عدة وهي: مانع النسب، ومانع المصاهرة، ومانع الرضاع، ومانع اللعان، هذه أربعة موانع تقدمت، ثم نشرع الآن في مانع الجمع، وهو الجمع بين الأختين، والمرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، هذا بالنسبة لمانع الجمع.

فابتدأ بالأخت وعادة العلماء يقولون: تحرم أخت الزوجة ما دامت الزوجة في العصمة أو كانت في عدتها، فإذا طلقت وخرجت من عدتها حلت أختها. دليل هذا النوع من التحريم قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23]، (إلا ما قد سلف) أي: ولا ما قد سلف -كما ذكرنا-، فينبغي فراقهن، فيكون على العطف تشبيك الحكم، ومن حكمة الله عز وجل أنه حرم على الرجل أن يتزوج أخت زوجته في حال بقاء أختها في عصمته؛ لما في ذلك من قطع الأرحام، وظهور الحقد بين الأخوات، وقد جاء في الحديث الآخر في الرواية: (إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) ، فهذا يدل على أن العلة خوف قطيعة الرحم، ومن هنا يقول العلماء: إن التحريم هنا درء لمفسدة قطيعة الرحم، وأجمع العلماء على عدم جواز الجمع بين المرأة وأختها.

لكن هذا النوع من الموانع الذي هو مانع الجمع لا يوجب المحرمية كما ذكرنا، ويخطئ بعض الناس عندما يجلس مع أخت زوجته، فإذا قيل له: لماذا؟ يقول: هذه محرمة فهي كالأم والبنت، وهذا خطأ، فإنها محرمة إلى أمد، والمحرمة إلى أمد لا تأخذ حكم المحرمة إلى الأبد. والأخت تشمل أخت الزوجة الشقيقة، وأخت الزوجة لأب، وأخت الزوجة لأم، فالحكم هنا عام، وألحقت بها الأخت من الرضاعة، فإنه لا يجمع بين المرأة وبين أختها من الرضاعة. وعليه فلا يجمع بين المرأة وبين أختها من النسب، ولا أختها من الرضاعة.

قال: [وأخت زوجته]

قوله: (وأخت زوجته) أخت معتدته، هي أخت زوجته، يعني: كأنه يقول: إن أخت الزوجة محرمة إلى أن تطلق وتخرج من عدة الطلاق، لكن ما دامت في عدة الطلاق لا، ومن هنا يلغزون ويقولون: رجل يعتد، وهو الذي يريد الزواج من أخت الزوجة، ومن كان عنده أربع نسوة وأراد أن يتزوج بامرأة خامسة لا يحل، فنقول له: فارق واحدة وتزوج الخامسة، فإذا طلق الواحدة لا يحل له أن يعقد على الخامسة حتى تخرج هذه من عدتها؛ لأنه لو أبحنا له أن ينكح الخامسة قبل أن تخرج الرابعة من عدته ومات، يكون قد مات وفي عصمته خمس من النسوة بحكم الشريعة؛ لأن المرأة في العدة آخذة حكم المرأة، ولذلك قالوا: إنه لابد من خروجه من العدة في قول جماهير السلف رحمة الله عليهم، وقضى به بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وعليه قالوا: لو ألغز يقال: رجل يعتد، بينما الأصل أن العدة تكون للمرأة، يقولون: هو الرجل الذي يريد الخامسة، فإنه إذا طلق الرابعة يعتد، يعني: لا يتزوج حتى تخرج الرابعة من عدتها، وهكذا لو طلق الزوجة وأراد أن ينكح أختها فإنه ينتظر إلى خروجها من العدة، لكن لو أن أختها ماتت، جاز له مباشرة أن ينكح أختها، في هذه الحالة ليست هناك عدة، فبمجرد موتها يحل له نكاح أختها.

قال رحمه الله: [ وبنتاهما وعمتاهما وخالتاهما].

قوله: (وبنتاهما) فلا يجوز أن يجمع بين المرأة وبنت أختها؛ لأنه جمع بين المرأة وخالتها، ومعلوم أنه لا يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها.

قوله: (وعمتاهما وخالتاهما)

لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها) ، ومن هنا يعتبر العلماء: أن السنة تزيد على القرآن في الحكم، وهذا خلاف لبعض أصحاب الرأي الذين يقولون: إن السنة لا تزيد على القرآن، فهنا زاد التحريم الجمع بين المرأة وعمتها، فإن ظاهر القرآن يبيح؛ لأن الله يقول: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23] ، والله تعالى حرم المحرمات ثم قال بعد ذلك: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] ، فالأصل يقتضي أن التحريم يختص بالجمع بين الأختين، مفهوم ذلك: أن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها جائز بحكم القرآن؛ لكن جاء النص من السنة بالزيادة، وهذا مما يذكره العلماء: أن السنة تزيد على القرآن، بخلاف من يقول: إن السنة مفسرة مقيدة لمطلق القرآن، مخصصة للعموم إلى آخره، وهذا ليس على كل حال، بل السنة تزيد على القرآن، وتأتي بأحكام زائدة على القرآن، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا ألفين أحدكم جالساً على أريكته شبعان ريان يبلغه الحديث عني فيقول: ما وجدت هذا في كتاب الله، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه)، ولقد صدق بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فكم من جالس على أريكته أشر بطر كفر نعمة الله عز وجل، ورد سنة النبي صلى الله عليه وسلم مدعياً أنه لا يجد ذلك في كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم غنية عنه وعن أمثاله.

قال رحمه الله: [ فإن طلقت وفرغت العدة أبحن ].

قوله: (فإن طلقت وانتهت العدة) هذان شرطان. إذاً: لابد من الأمرين: الطلاق، وانتهاء العدة، لكن لو ماتت فإنها تحل.

قال: [ وإن تزوجهما في عقد أو عقدين معاً بطلا ]

يا إخوان! الحقيقة أن متون الفقه ومتون العلم ألَّفها علماء أجلاء، ومن الخطأ أن يظن الظان أن أهل العلم المعروفين بالورع والصلاح يأتون بشيء من عندهم، فالبعض يقول: هذه آراء واجتهادات، العلماء عندما يأتون بهذه المسائل الغريبة فهي منبنية على الأصول، ولو تأملت الآن المتون الفقهية وأمعنت النظر فيها، وركزت في الأدلة المستنبطة منها هذه الأحكام، لوجدت أنها لا تخرج عن أصل صحيح شرعي، لكن تختلف الأنظار هل هذا الأصل أولى أو ذاك؟

فهم الآن حينما يتكلمون على مانع الجمع، فإن القرآن فيه نهي عن الجمع، لكن قد يرد السؤال: لو أن رجلاً جمع بين أختين -والعياذ بالله- معاً، وهذا الرجل جاهل بحكم الشريعة، كأن يكون أسلم حديثاً، ثم جاء وتزوج أختين مع بعض، وقيل له: هذا لا يحل، فما الحكم: هل نلغي النكاحين؟ أم نبقي النكاحين؟ أم نلغي أحدهما ونبقي الآخر؟ هذا فيه تفصيل:

إن كانت إحداهما سابقة للأخرى بطل نكاح الأخيرة، وبقي نكاح الأولى على ما هو عليه؛ لأن الإخلال جاء من إدخال عقد الثانية على الأولى، فالأصل في عقد الأولى أنه صحيح وأصله مستصحب، ونلغي الثاني فكان وجود العقد وعدمه سواء، فنقول له: فارق الأخت الثانية، ويلزمك مفارقتها ويبقى عقد الأولى على ما هو عليه.

لكن لو تزوجهما معاً، دخل بهما معاً وعقد بهما معاً، فما الحكم؟

نقول: بطل نكاحهما معاً؛ لأنه مبني على أصلٍ فاسد، لا يصح النكاح على هذا الوجه، إذا لم تسبق إحداهما الأخرى وعقد عليهما معاً، يقع صورة هذه المسألة: ككفار أسلموا وهم حديثو عهد بالإسلام فقال أحدهما للآخر: يا فلان! زوجتك أختين لي، قال: قبلت، فقد وقع العقد على الاثنتين، نعم تزوج أختين مع بعض، فحينئذٍ جمع بين الأختين في عقد واحد، فيلغى عقد الأولى والثانية.

قال: [ فإن تأخر أحدهما أو وقع في عدة الأخرى وهي بائن أو رجعية بطل ]

قوله: (فإن تأخر أحدهما) ما رأيكم تأخرت إحداهما، أو تأخر أحدهما؟ تأخر أحدهما بالتذكير التفاتاً للعقد، أي: فإن تأخر عقد إحداهما عن عقد الأخرى بطل نكاح الثانية دون نكاح الأولى كما ذكرنا، وهكذا لو وقع في عدتها فإنه يبطل نكاح الثانية، يستوي أن يقع في عدتها أو يقع في حال العصمة كما ذكرنا.

قال رحمه الله: [ وتحرم المعتدة والمحصنة].

قوله: (وتحرم المعتدة) قال تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235] ، فالمرأة المعتدة من طلاق تنتظر حتى تتم عدتها، وبعد ذلك تحل للأزواج، فلا يجوز أن ينكحها في حال عدتها، وقد حرم الله عز وجل المرأة المحصنة والمعتدة، وهذا مانع جديد غير المانع السابق.

قوله: (والمحصنة) هذا مانع الزوجية. وضابط الزوجية: أن تكون المرأة في عصمة الغير، والدليل على ذلك في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] عطف المحصنات من النساء على قوله: (حرمت)، أي: حرمت عليكم المحصنات من النساء، والمحصنة: هي المرأة المزوجة؛ لأن الإحصان يطلق على الزواج، فيقال: أحصن الرجل إذا تزوج: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25] ، فهنا الإحصان الأول بمعنى الزواج، ويطلق الإحصان بمعنى العفة:

حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

ومنه قوله تعالى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ [النساء:25] يعني: عفيفات غير زانيات، قوله: (مسافحات) يعني: زانيات، والسفاح هو الزنا، وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَان [النساء:25] يعني: متخذات أصدقاء مثلما يقع عند أهل البغي والفجور.

فالمقصود: أن المرأة المحصنة في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ [النساء:24] من المحرمات إلى أمد، وهي: كل امرأة في عصمة الغير، فلا يجوز للرجل أن يتزوج منكوحة غيره، وإذا تزوج منكوحة غيره فهو زانٍ، هذا إذا كان يعلم أنها منكوحة لغيره، ويعلم بالتحريم، فحكم هذا أن يرجم إن كان محصناً. والمرأة التي هي الزوجة إن رضيت به، أو كذبت وقالت: ما لي زوج ولها زوج، وتزوجت بزوج ثان عالمة بالحكم فهي زانية وترجم بزناها، هذا إذا ثبت عند القاضي أنها فعلت ذلك توصلاً إلى وطئه، ويكون حينئذٍ طلباً للزنا؛ لأن العقد باطل، فكأنها تبيح له ما حرم الله عز وجل دون إذنٍ شرعي فهو زنا.

فالمقصود: أن المرأة المحصنة لا يحل نكاحها، ودليل ذلك قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ [النساء:24] ، ويتبع ذلك المعتدة، فالشريعة حكمت بأن المعتدات في حكم الزوجات، وفائدة العدة أن يقوم الزوج بردها؛ وذلك لقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228] فجعل المرأة المعتدة تابعة لبعلها، فقال: (وبعولتهن) وهذا يدل على أنها لا تنكح، ولا يجوز للغير أن يدخل على زوجة الأول إلا بعد خروجها من العدة.

قال رحمه الله: [والمستبرأة من غيره].

قوله: (والمستبرأة من غيره) المستبرأة من البراءة، وهي: التي تطلب براءة الرحم، مستبرأة من غيره مثلما يقع في الإماء، يقول الله تعالى : وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] لا يحل للمسلم أن يطأ أو يتزوج امرأة مزوجة بغيره، إلا في حالة واحدة وهي: أن تكون كافرة، وتؤخذ أسيرة، وكانت زوجة لكافر قبل أن تسبى وتسترق، فإذا أخذت بالسبي يلغى نكاح الكفار، ويصير لها بحكم السبي حكم جديد، ولذلك قال الله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] ، فالسبي والنساء المسترقات في السبي يجوز وطؤهن، ولو كن زوجات للكفار قبل القتال وقبل الجهاد، فبالجهاد نشأ حكم جديد، فألغي زواجهن الأول وأصبحن ملكاً؛ لأنه لو لم يكن هذا لما وقع شيء اسمه ملك يمين، فقال الله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] فاستثنى الله عز وجل الوطء بملك اليمين للمحصنة، لكنها تُسْتَبْرَأُ فلا يجوز وطؤها قبل الاستبراء؛ لأنه إذا وطأها ولم يستبرئها فإنه يدخل ماءه على ماء الكافر قبله، وهكذا لو كانت المرأة منكوحة لغيره ووقع الوطء شبهة، لا بد أن يستبرئها إذا كانت موطوءة من غيره، وسنتكلم إن شاء الله على العدد وأحكام الاستبراء في بابها إن شاء الله، والدليل على أن المستبرأة لا توطأ حديث سبي أوطاس، وذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يريد أن يلم بالمسبية، يعني: يطأها، هذه المرأة المسبية كانت فراشاً للذي قبل، وفيها حمل بيّن، والمفروض أنه ينتظر حتى تضع حملها، وحينئذٍ يستبرئ الرحم، ويصبح خلواً له، فيطأ بملك اليمين، لكن ما يجوز أن يأتي بمسبية حامل ويطأها؛ لأن هذا يدخل ماءه على ماء غيره، فقال صلى الله عليه وسلم -لما رآه على باب الخيمة وهو يلم بها-: (أيلم بها، أيغذوه في سمعه وبصره -يعني: لو وطأها وهي حامل لانتشى ولد غيره بمائه- لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره) ، وفي هذا يقول بعض العلماء: إن هذا يدل على عظم أمر الزنا؛ لأنه إذا زنى وأدخل على أهله ولداً ليس منهم، وأغذاه في سمعه وبصره -والعياذ بالله- وأدخل من يطعم من طعام قوم لا يحل له أن يطعم، ويشرب من شراب قوم لا يحل له أن يشرب، وأن ينظر إلى نسائهم وهم ليسوا بمحارم، فكل هذا من الآثار المترتبة على اختلاط الماء، ولذلك قال: (أيغذوه في سمعه وبصره، لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره) ، فهذا يدل على أنه لا يجوز الوطء للمرأة التي علق ماؤها من الغير، وكذلك لا يجوز وطء معتدة غيره وامرأة غيره بعد فراقهما إلا بعد استبرائهما.

قال رحمه الله: [ والزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها ].

ولا يجوز نكاح الزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها، هذان شرطان: الشرط الأول: يتعلق بصلاحها واستقامتها وتوبتها من الزنا. والشرط الثاني: يتعلق بطهارة فرجها ورحمها، فأما بالنسبة للدليل على تحريم نكاح الزانية فقوله تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3] قيل: إن هذه الآية نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه وقد أراد أن ينكح عناقاً ، ونكاح الرجل للمرأة الزانية يدخل الضرر على أولاده وذريته ونسله، وتختلط الأنساب، ولا يأمن منها أن تدنس فراشه، وتلوث نسبه والعياذ بالله! فتدخل عليه من الشر والبلاء، وتدخل على جماعته وجيرانه من السوء ما الله به عليم، فإن المرأة الزانية مشئومة وفيها من الشؤم والبلاء ما قد يكون سبباً في الضرر على غيرها، فكم أفسدت وأهلكت من بيوت وأسرٍ، ودمرت من أناسٍ بسبب ما يكون منها من الزنا نسأل الله السلامة والعافية!

فالزانية شر عظيم، ولذلك حرم الله نكاح الزانيات، فقال تعالى: وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3] ، وعلى الصحيح من قولي العلماء: أن الزنا يمنع النكاح، فيحرم على المسلم أن ينكح الزانية، وهذا مانع آخر، فقد ذكرنا قبلاً مانع الجمع، ومانع الزوجية، ومانع العدة، والعدة في حكم الزوجية، وذكرنا بعد ذلك الاستبراء، ثم هانحن نذكر مانع الزنا، هذا المانع الرابع من موانع المحرمات إلى أمد، وتستطيع أن تجعل المستبرأة في حكم ذات الزوج؛ لأنها تابعة لماء الأول، وتجعل هذا مانعاً ثالثاً مؤقتاً، وهو مانع الزنا، والصحيح من أقوال العلماء: أن الزنا يمنع من النكاح ويحرم.

وعليه فلا يجوز أن ينكح المسلم الزانية إلا بشرطين: الشرط الأول: أن تتوب، وتوبتها تكون بما يظهر من صلاح حالها واستقامتها وبعدها عن الحرام. وقال بعض العلماء: لا توبة لها إلا إذا اختبرت وظهرت براءتها، وقالوا: اختبارها أن تراود على الزنا فلا تعود، وهذا شرط صعب، فإن المرأة قد تتوب توبة نصوحاً، ولكنها إذا ذكرت بماضيها ربما ضعفت، ولذلك أمر التوبة في هذا من الصعوبة بمكان؛ لكن ظواهر الحال والقرائن الظاهرة إن شاء الله كافية. بعض العلماء يعتبرون بصلاح الحال أغلب الحول، أي: أنه إذا مضى عليها أغلب الحول وهي مستقيمة طائعة نادمة على ما فات، وظهر من أحوالها التوبة صح منها ذلك، مثال ذلك: أنها كانت تخرج فصارت تقر في بيتها، وكانت تتصل بالناس فقطعت صلتها بالناس، فظهرت أمارات ودلائل وآثار تدل على صدق توبتها، حينها نحكم بتوبتها، فإذا حكمنا بتوبتها وظهر ما يدل على صلاحها واستقامتها، فإنه يستبرئ ما يكون منها، فلا يجوز له أن يطأها قبل أن تستبرئ من وطء الزنا؛ لأن هذا يوجب خلط الأنساب.

لكن لو كان الذي زنى -والعياذ بالله- يريد كما يقولون: أن يستر الزانية، فيتزوجها بعد أن خدع المرأة وأصابها فوجدها بكراً فيطمع فيها.

فمذهب طائفة من السلف: أنه يجوز له أن يتزوجها ويسترها.

وقال بعض الصحابة: أوله حرام وآخره حلال، وأوله سفاح وآخره نكاح، فخففوا في ذلك، وقال به بعض الأئمة.

وذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله، وهو الأقوى والصحيح: أنه لا يجوز له أن يعقد عليها حتى تتوب توبة نصوحاً، وتستبرئ من الحرام، حيث لا يجوز إدخال الحلال على الحرام، والسنة قاضية على أنه يجب التفريق بين الحلال والحرام، وذلك في حديث وطء المسبية فإنه يدل على أنه لا يجوز، وكما هو معلوم فإن عندنا نصاً يدل على أن ماء الزنا حرام، وليس للرجل فيه حق: (الولد للفراش) ، فكيف نقول: يتزوجها من أجل أن يسترها، فحينئذٍ إن سترها ضيّع حق الولد فإنه يدخل ولداً على ذريته ليس منهم؛ ولذلك نص عليه الصلاة والسلام بقوله: (الولد للفراش) ، فهذا يدل دلالة واضحة على أن هذا الولد ليس من حقه، فهو يتذرع بأن هذا الولد ولده، ويريد أن يبقيها في عصمته من أجل هذا الولد، والواقع أنه ليس بولده، وهذا الولد لابد وأن يأخذ حكمه الشرعي في كونه ولد سفاح، فإذا جاء يقول: أنا أسترها، إنما سترها بمحرم، وأدخل السفاح على النكاح، فأدخل ولداً ينسب إليه، ويقارن بأبنائه وبناته، يشاركهم ويزاحمهم في الإرث هو وذريته وذرية ذريته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إن بقي نسله، وكل ذلك مما ليس له أصل شرعي.

صحيح أن ستر المرأة مشروع، وأن الزاني يستر غيره ويستر نفسه فهذا لا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه ماعز قال له: (ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه) لكن أن يدخل الحلال على الحرام فلا؛ لأنه سيضر بحقوق الورثة، وهذا الولد ليس له حق؛ لأن هذا الماء الذي وطِئَ وأُنجب منه، واغتذى به الفرج، وحصل منه الإنجاب، ماء لا حرمة له، فهو بهذا الستر يدخل الحرمة، وبالإجماع على أنه يشرع الستر ما لم يتضمن إضراراً بالغير، وفواتاً لحقه، لو أن الرجل توفي وليس له ولد إلا هذا الولد الذي من الزنا، وفرضنا أنه طلق أم هذا الولد وتزوج زوجة ثانية وليس له إلا هذا الولد الذي من الزنا والعياذ بالله! ففي هذه الحالة تنتقل المرأة من إرثها من الربع إلى إرثها من الثمن، بسبب ولد الزنا؛ لأن هذا الولد يحجبها، ثم إن العصبة الذين هم قرابته أحق بميراثه، فيأتي ابن الزنا -والعياذ بالله- ويأخذ الميراث منهم تعصيباً.

فالمسألة ليست مسألة عاطفة، المسألة مسألة أحكام، ولذلك فإن قول من قال: لا يدخل الحرام على الحلال ولا يدخل الحلال على الحرام أقوى، والأصول شاهدة له، والسنة دالة عليه.

والذي تطمئن إليه النفس أنه لا يصح هذا، وهو اختيار جمع من العلماء وطائفة من مشايخنا رحمة الله عليهم، وهو أولى بالصواب إن شاء الله تعالى؛ لدلالة النصوص والأصول الشرعية عليه.

قال رحمه الله: [ ومطلقته ثلاثاً حتى يطأها زوج غيره ]

قوله: (ومطلقته ثلاثاً) إذا احتسبنا المستبرأة داخلة تحت المعتدة، فالنوع الرابع مطلقته ثلاثاً لقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا -أي: الطلقة الثالثة- فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] فهذا نص على أن المرأة المطلقة ثلاثاً لا تحل حتى تنكح زوجاً غيره، وجاءت السنة بزيادة شرط فإن ظاهر القرآن: حَتَّى تَنكِحَ [البقرة:230] ظاهره العقد، وأنه إذا عقد عليها زوج حلت للأول الذي طلقها ثلاثاً إن طلقها الثاني أو بانت منه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن في حديث امرأة رفاعة بن رافع القرظي رضي الله عن الجميع حينما بانت من رفاعة وتزوجت عبد الرحمن بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه، وجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت، وقالت حينما نكحت عبد الرحمن بن الزبير : (إنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب، فقال صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ فقال: لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) ، فهي لما طلقها رفاعة الطلقة الثالثة بانت منه، وبت طلاقها وتزوجت عبد الرحمن بن الزبير فأرادت أن ترجع إلى رفاعة ، وقيل: أن ما اتهمت به عبد الرحمن بن الزبير ليس بصحيح؛ لأنها لما جاءت تشتكي ابن الزبير كان معه ولد، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أهذا ولدك؟ قال: نعم) فعلم كذبها، وأنها تريد أن ترجع إلى الأول، ففطن صلى الله عليه وسلم لذلك، وعلى هذا ينبغي على القاضي والمفتي أن يكون ذا فطنة وذا علم وبصيرة، وأن ينتبه إلى ما يدعيه المدعي، وأن تكون عنده من الفراسة ما يمكنه من معرفة الكلام الذي يقال، والدعوة التي تذكر من الخصمين.

الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردها إلى رفاعة إلا بعد أن يذوق الثاني العسيلة، وهذا مكنىً به عن الجماع، ولذلك أجمع العلماء على أنها لا تحل للأول إلا بعد وطء الثاني لها، ويكون ذلك بإيلاج الحشفة أو قدرها إن كانت مقطوعة، وحصول الإيلاج في الفرج أمر شرعي معتبر، ثم إن أراد أن يطلقها بعد ذلك فإنه جائز؛ لكن بشرط ألا يكون نكاح محلل، فإذا وقع ذلك وطلقت ورجعت إلى الأول حلّت له، وسيأتي إن شاء الله بيانه في مسائل الطلاق، هل تحل له بثلاث طلقات جديدة، أو تحل له بطلقة واحدة على تفصيل عند العلماء رحمهم الله، هذا مانع التطليق ثلاثاً، وهو من الموانع المؤقتة، لأنها إذا نكحت زوجاً غيره مطلقها حلّت للذي قبل.

قال رحمه الله: [ والمحرمة حتى تحل ].

مانع الإحرام مانع مؤقت، وقد بيّنا مانع الإحرام في كتاب المناسك، وبيّنا أن الصحيح من مذهب الجمهور: أن المحرم لا ينكح ولا يُنكح ولا يخطب، وبيّنا صريح السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدل على رجحان هذا القول، وأجبنا عن أجوبة المخالفين، وأنه لا يحل نكاح المرأة المحرمة حتى تتحلل من إحرامها، ولا يجوز للرجل المحرم أن ينكح، ولو كانت المنكوحة حلالاً فلا يجوز نكاح المحرمين، ولا نكاح محرمة من حلال، ولا نكاح حلال من امرأة محرمة، ولا محرم من امرأة حلال، لا يجوز هذا سواء كان الاثنان محرمين، أو كان أحدهما محرماً، والآخر حلالاً، فلا يجوز النكاح على هذا الوجه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ينكح المحرم -إذا كان زوجاً رجلاً- ولا يُنكح -إذا كان امرأة-) ، فجمع بين الاثنين، ودل على تحريم النكاح بالإحرام.

قال رحمه الله:[ ولا ينكح كافر مسلمة ].

هذا مانع الكفر (لا ينكح كافر مسلمة)؛ لقوله تعالى: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221] ، فحرم الله عز وجل على الكافر أن ينكح المسلمة، وأباح للمسلم أن ينكح الكتابية مع أنها كافرة؛ وذلك لأن سلطان الرجل أقوى من سلطان المرأة، ولو أن الكافر تزوج المسلمة لأغواها، فإن المرأة أضعف من الرجل، وتسلط الرجل عليها أقوى، فجعل حق القوامة والعلو للإسلام لا للكفر، ولذلك لا يحل أن يكون الزوج كافراً، وقال تعالى: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة:10] إذا آمن الكافرات وهاجرن وثبت إيمانهن فلا يجوز أن نقوم بإرجاعهن إلى الكفار؛ لقوله: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10] فنص الله عز وجل على أنها حرام على الكافر في استدامة العقد، فمن باب أولى في إنشاء العقود، يعني: يستوي في ذلك أن تسلم فنمنعها من زوجها الكافر، أو يكون كافراً يريد أن يتزوج مسلمة، فلا يجوز للكافر أن يطأ المسلمة بالنكاح لا ابتداء بعقد نكاح ولا استدامة، فبمجرد إسلامها يفرق بينه وبينها.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3704 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3620 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3441 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3374 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3339 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3320 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3273 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3228 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3185 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3169 استماع