شرح زاد المستقنع كتاب النكاح [5]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: الثالث: الولي]

الشرط الثالث من شروط صحة عقد النكاح: الولي، والولاية على الشيء القيام بأمره، وقد تقدم معنا شرط الولاية، والولاية تكون خاصة وعامة، فيشترط لصحة عقد النكاح الولي، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس وأبي هريرة وغيرهما رضي الله عنهم: (لا نكاح إلا بولي) فهذا نص، وأصل التقدير: لا نكاح صحيح إلا بولي، أو لا نكاح معتبر إلا بولي، وفي قوله عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة رضي الله عنها وغيرها: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل! باطل! باطل -وفي رواية: فنكاحها باطل! فنكاحها باطل! فنكاحها باطل-) وفي حديث أبي هريرة : (البغي -وفي رواية-: الزانية هي التي تزوج نفسها).

فالمرأة لابد من أن يلي عقدها الرجل، وهذا هو الولي الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إلا بولي) فلا يصح النكاح إلا بالولي، ويتفرع على هذا أن المرأة لا تزوج نفسها ولا توكل رجلاً بتزويجها؛ لأن الأصل لا تملكه فمن باب أولى فرعه، فلو قالت: يا فلان! زوجني من فلان، لم يصح؛ لأن الأصل الذي وكل ليس له حق الولاية على نفسه فضلاً عن أن يوكل غيره، كذلك أيضاً كما لا يصح أنها هي بنفسها تلي عقد النكاح لنفسها لا يصح أن تكون ولياً لغيرها، فلو أن امرأة زوجت بناتها لم يصح، فلو قالت: يا فلان! زوجتك بنتي فلانة، لم يصح؛ لأنها لا تملك الولاية على نفسها فمن باب أولى أنها لا تملكها على غيرها.

السبب في هذا: نحن قدمنا أن هناك جانباً للنساء وجانباً للرجال، فجانب الرجال اعتبرته الشريعة، ومن الأدلة على اعتبار جانب الرجال حديث الولي في النكاح، والسبب في هذا: أن الرجال أعرف بالرجال، والمرأة لا تعرف الرجل خاصة إذا كانت بكراً، فالرجل هو الذي يعرف الرجل، ولربما خُدعت المرأة بالرجل ولربما كذب عليها، وهذا يقع في المجتمعات التي هي غير مسلمة، وتجد فيها المرأة يمكن أن تزوج نفسها، فتجد الرجال يتلاعبون بالنساء كما يشاءون، وممكن أن يأتيها في أحسن حالة في هيئته الظاهرة، فيظهر لها أنه غني وأنه ثري ويخدعها بسيارة غيره، وعمارة غيره، ويمكن أن تنخدع وتنجر معه، وفي النهاية يتبين أنه فقير لا مال عنده، وأن هذه الأشياء كلها مستأجرة، لكن من يستطيع أن يعرف حقيقة هذا الرجل في وضعه وفي غناه وفقره، وفي قوة وضعف شخصيته، وفي كذبه وصدقه، وفي أمانته وخيانته، وفي ظاهره وباطنه.. وفي جميع شئونه؟ لا يستطيع أن يعلم ذلك إلا رجل مثله، يدخل مدخله ويخرج مخرجه، ويمكنه أن يسأل من تحت يده ومن فوقه، ومن يتعامل معه، وقرابته حتى يستجلي حقيقة أمره.

إذاً: أعطي الأولياء حظ النظر للجوانب التي لا يمكن للنساء أن يطلعن عليها.

فولاية الرجل تقوم على جوانب، أول شيء منها وأهمها: اختيار الكفء الكريم، سواء تقدم الكفء طالباً أو بحث عنه الولي بنفسه، فإن الولي الصادق الذي يريد الخير لبناته وأخواته إذا تأخر زواجهن وتأخر من يتقدم لهن تأخذه الحمية والغيرة وحب الخير حتى ربما عرض بنته من أجل أن يحفظ دينها وأمانتها وعرضها، وهذا فعله من هو خير منا، كـعمر رضي الله عنه وأرضاه وغيره من الصحابة والأفاضل خوفاً على مولياتهم، كل ذلك من تمام الولاية.

إذا ثبت هذا فالرجل ينظر في كفاءة الرجل ويستلزم هذا جوانب مهمة؛ يستلزم النظر في صفات الرجل الخلقية والخُلقية والدينية والدنيوية، فيأخذ صورة كاملة عن شخصية الرجل وطبيعته، ولذلك لما جاءت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: (إن أبا الجهم رجل لا يضع العصا عن عاتقه، ومعاوية صعلوك لا مال له) فنظر إلى وضعه الدنيوي، (صعلوك لا مال له)، ونظر إلى شخصيته الذاتية من حيث سرعة الغضب والعصبية (لا يضع العصا عن عاتقه) معنى ذلك أنه شديد على أهل بيته، فقال لها بعد ذلك: (انكحي أسامة).

فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر لها حظ الرجال، ووجَّهها أيضاً إلى طرف ثالث، فكل هذا من باب نظر الأولياء أو نظر من يستشار فينزل منزلة الأولياء في النظر في مصلحة المرأة.

التكليف

قال رحمه الله: [ وشروطه: التكليف ]:

لماذا يدرس طالب العلم شروط الولي؟

أولاً: لكي تعرف أن الولي شرطٌ في صحة عقد النكاح، فلو سألك سائل: زوَّج فلانٌ فلاناً بنته هل يصح النكاح؟ تعرف أن من شروطه الولاية، فهل فلان هذا الذي زوج هذه المرأة ولي لها أو لا؟ وإذا كان ولياً لها فهل الشروط المعتبرة في الولي متوفرة فيه أو لا؟

فنبحث الشروط التي سيذكرها المصنف رحمه الله، فلا يمكن لنا أن نقول لكل شخص: تعال ولياً للزواج، ولا يمكن أن نقبل كل شخص للولاية في النكاح، فهناك نواقض من ناحية الدين ومن ناحية الأمانة من ناحية الصفات في الرجل ذاته، فلابد من توافر شروط لكي نحكم بصحة الولاية.

إذاً: عندنا جانبان:

أولاً: نثبت شرط الولاية، وقد بينا دليله من السنة.

ثانياً: ما هي صفات الولي أو الشروط المعتبرة في الولي؟

جمهور العلماء على اشتراط الولي، وخالف الإمام أبو حنيفة النعمان عليه من الله الرحمة والرضوان فقال: يجوز للمرأة أن تزوج نفسها، واستدل بقوله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232] فقال: أسند النكاح إلى النساء وقال: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232] وهذا ضعيف، ولذلك يقول الإمام الشافعي : إن هذه الآية حجة لإثبات الولي أكثر من أنها حجة لإلغاء الولي؛ لأن الله خاطب الأولياء فقال: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232] فدل على أن المرأة إذا كان من حقها ورأت أنه صالح لها لو كانت تلي نفسها لكان أباح الله لها أن تتزوج؛ لكن لما وقف الأمر على مخاطبة الأولياء: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232] دل على أن النظر للأولياء، وأن الذي يلي عقد النكاح إنما هم الأولياء وليس النساء.

ومما يدل عليه كذلك: قوله تعالى: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221] فوجه الخطاب للأولياء، وهذا يدل على اشتراط الولاية، ناهيك عن صريح السنة فيما ذكرناه من حديث ابن عباس رضي الله عنه وعائشة وأبي هريرة رضي الله عن الجميع كما تقدم.

قوله: [ التكليف ]: والتكليف بينا أنه يكون بالعقل والبلوغ

وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل

وبينا هذا، فإذا قيل: التكليف، فلابد من شرطين:

البلوغ: فلا يصح أن يكون الولي صغير السن صبياً، فلو أن امرأة لديها أخ عمره اثنتا عشرة سنة ولم يبلغ، وليس عندها أب ولا أولياء أقرب من الأخ الشقيق، فجاء أخوها الشقيق وزوجها من رجل، فإن هذا النكاح لا يصح؛ لأن الولاية شرط في صحة عقد النكاح وهذا الصغير ليس بولي؛ لأن من شرط صحة عقد النكاح التكليف، والصبي غير مكلف.

وهكذا المجنون، فالتكليف شرطه البلوغ والعقل، فلو كان مجنوناً لا يصح أن يلي عقد النكاح، ولو كان سكراناً؛ فمن شرب الخمر أو تعاطى المخدرات، وأثناء تعاطيه للمخدرات زوَّج أخته أو زوَّج بنته وقال: يا فلان! زوجتك بنتي فلانة، لم يصح؛ لأننا قلنا: شرطه العقل، فمثل هذا لا يصح إنكاحه وتزويجه.

الذكورية

قال: [والذكورية]:

لأن المرأة لا تزوج نفسها ولا تزوج غيرها، ولذلك اشتُرِطت الولاية؛ لأنها متصلة بالرجال، فقوله: (لا نكاح إلا بولي) يدل على أن المرأة لا تزوج نفسها ولا تزوج غيرها.

الحرية

قال: [ والحرية ]:

لأن الرقيق بحكم الشرع لا يملك نفسه فكيف يملك غيره؟ ولذلك جماهير السلف والخلف رحمهم الله على أن الرقيق لا يملك؛ لأن الرقيق تحت ضغط سيده وربما تنازل عن حقوق المرأة وأضر بمصالحها وليس كالحر.

الرشد في العقد

قال: [ والرُّشد في العقد ]

الرُّشد يستخدم لمعانٍ، فعندنا رشد الدين وعندنا رشد الدنيا، أما رشد الدين فمنه قوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256] فالرُّشد هنا: الإسلام والهداية، وضده الغيِّ الذي هو الكفر، ويطلق الرُّشد بمعنى صلاح النظر في الدنيا، تقول: فلان رشيد، إذا كان يحسن التجارة ويحسن الأخذ لنفسه والإعطاء لغيره، مثل الشخص الذي يحسن البيع فإنه يعلم كيف يبيع ويشتري، فإذا أحسن النظر في أمواله قالوا: فلان رشيد.

ومنه قوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، قوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا) يعني: إحساناً للتصرف في المال، وهذا هو النوع الثاني من الرُّشد.

هناك نوع ثالث من الرُّشد، وهو رشد الولاية في النكاح، ورشد الولاية في النكاح أن يحسن الولي النظر لموليته، فيكون إنساناً عاقلاً يعرف الرجال ولا يخدع، ولا يكون ساذجاً يضحك عليه أو فيه غفلة أو تسرع في الأمور، كل من جاءه يقول له: زوجني بنتك يقول: زوجتك، فبعض الناس عنده نوع من الغفلة والتسرع، يعني لو كنا في مجلس وجاء رجل لأول مرة وقال لشخص: يا فلان! إني أحبك، قال: وأنا أحبك، قال: زوجني بنتك قال: زوجتك بنتي، هذا ليس من الرُّشد وليس من العقل.

ومن هنا ندرك أن الشريعة ما جعلت الولاية للرجال يتصرفون فيها كيف شاءوا، فالولاية على النساء من الرجال مبنية على خوف من الله عز وجل وتقوى وورع، وإنصاف وعدل، وبحث عن مصالح وبحث عن كيفية الخروج من الموقف بين يدي الله عز وجل، يقول له: لمن زوجت بنتك؟ ولمن زوجت أختك؟ فيقول: لفلان الذي يُرضى في دينه وخلقه وعقيدته وسلوكه وجميع ما يكون من شئونه وأحواله، هذا هو الرُّشد، فكأنه إذا أحسن النظر للمرأة التي يلي عليها فقد رشد بنفسه ورشد بغيره، وأصاب الرُّشد، يعني: أصاب الحق والصواب والسنن فيما ولاه الله عز وجل وفيما أنيط به من أمانة.

اتفاق الدين

قال: [واتفاق الدين سوى ما يذكر]

قوله: (واتفاق الدين) يعني: المسلم لا يلي الكافرة، والكافر لا يلي المسلمة، فلو كان والدها كافراً تسقط ولايته، وتنتقل الولاية إلى من هو أقرب كأخيها الشقيق، فلو أن امرأة مسلمة كان أبوها وأخوها وعمها وأبناء عمومتها كفاراً إلا ابن ابن عم مسلم يلغى هؤلاء الأولياء كلهم وتنتقل الولاية إلى ابن ابن عمها المسلم؛ لأن أهل الإسلام بعضهم أولى ببعض، وأما الكافر فلا ولاية له على المسلمة، قال تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] فلو قلنا: إن والدها الكافر هو الذي يزوجها فقد جعلنا لكافر على مؤمن سبيلاً.

وقوله: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] يقول العلماء: خبر بمعنى الإنشاء، وهذا من أساليب القرآن، يعني: أن الله سبحانه وتعالى في حكمه وشرعه لا يجعل الكافر على المسلم، فلا يمكن بالولاية عليه، ولأنه لو كان وليها كافراً لربما زوجها من كافر، ولأن وليها إذا كان كافراً قد يضرها، ولذلك تجد في بعض الأحيان إذا كان الوالد فاسداً والبنت صالحة قد يضرها ويزوجها -والعياذ بالله- نقمة منها على صلاحها -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا من أسوأ ما يكون، يراها دينة صالحة فيوقعها في رجل شرير انتقاماً من صلاحها، فكيف إذا كان كافراً؟ من باب أولى وأحرى، ولذلك يقرر العلماء هذا الشرط، يقولون: لأن الكفر يحمل على الأذية وفيه عداوة دينية وهي أشد من عداوة الدنيا، ولذلك لا يلي الكافر عقد المسلمة، وتنتقل ولايتها إلى من هو أقرب فأقرب.

قال: [سوى ما يذكر]

هناك خلاف: هل يزوج اليهودي إذا كانت بنته نصرانية والعكس؟ يعني: اليهود والنصارى أهل كتاب وهم في ترتيب الشريعة أقرب من غيرهم من الكفار، ولذلك قال الله عز وجل في سورة الروم: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:1-3]، ثم قال: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم:4-5] فجعل نصر أهل الكتاب نصراً من الله عز وجل؛ لأنهم أهل دين سماوي بخلاف المجوس والمشركين وعبدة الأوثان ونحوهم، فهؤلاء أبعد في كفرهم؛ لأن الله عدل، ومن عدله سبحانه وحكمة هذه الشريعة أنها جعلت لكل شيء حظه وقدره، فالكفار ولو كانوا كفاراً فإن الله تعالى يقول: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام:132] فالكفر له مرتبته، فاختلفوا في اليهود والنصارى فهم أهل كتاب.

هناك خلاف مطرد في أبواب الفقه وسيتكرر معنا، وقد يأتينا في بعض الأبواب الآتية، فبعض العلماء يرى أن اليهود والنصارى في حكم الملة الواحدة، فتسري عليهم أحكام الملة الواحدة، وعلى هذا القول يزوج اليهودي النصرانية ويزوج النصراني اليهودية.

فائدة الخلاف: إذا كانوا تحت المسلمين وارتفع إلى القاضي المسلم أن يهودياً زوج بنته النصرانية، فهل يحكم بصحة النكاح أو لا؟

فعلى القول بأن الولاية تقع مع اختلاف الدين -كما سيأتي- يصح، وعلى القول بأن اختلاف الدين مؤثر يسقط ولايته.

العدالة

قال: [والعدالة]

العدالة: الاستقامة، والعدل: الوسط، والوسط هو العدل أيضاً، ومنه قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: عدولاً خياراً، وقالوا: إن الشيء عدل؛ لأن ضد العدل المعوج، وإذا اعوج إما أن يذهب إلى اليمين أو يذهب إلى الشمال، فإذا اعتدل قالوا: عدل، ولما كان طرفا النقيض هما الضرر -الإفراط والتفريط- جاء العدل بينهما، ولذلك قالوا: العدل -الشخص العدل- هنا ليس المراد به الوسطية المطلقة يعني: مثلاً عندنا فاجر بلغ نهاية الفجور، وفاجر في بداية الفجور، فهل نقول: هذا وسط بين الاثنين، لا. الوسط هنا أن الحق نفسه وسط؛ لأن الحق يأتي دائماً بين الإفراط وبين التفريط: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، يأتي دائماً وسطاً.

فالعدل يوصف به الشخص، والعدل هو الذي يجتنب الكبائر ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم:

العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر

إذاً له وصفان:

الوصف الأول: أن لا يقع في كبائر الذنوب وهي المحرمات الكبيرة كالقتل وعقوق الوالدين.. ونحوها من المحرمات، هذه الكبائر إذا فعلها سقطت عدالته.

الوصف الثاني: أن يجتنب في أغلب أحواله الصغائر، وهي صغائر الذنوب، يعني: تنظر في أغلب أحواله أنه على الطاعة والخير والاستقامة ولا يفعل المحرمات، لكن لا يوجد أحد يسلم من صغائر الذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما) فاللمم وصغار الذنوب لا يسلم منها أحد، ولذلك قال تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32] فاللمم لا يسلم منه أحد، لكن يُنظر إلى غالب حاله، فإن كان غالب حاله أنه يتقي الصغائر فهو عدل.

فلابد وأن يكون وليها عدلاً؛ لأن ضد العدل الفاسق، والفاسق: من فسق الرطب إذا خرجت عن قشرها، ويقولون: الفاسق هو الذي خرج عن طاعة الله عز وجل، ويخرج بارتكاب الكبائر كما ذكرنا أو الإصرار على الصغائر، فلا يلي الفاسق الولاية في قول طائفة من العلماء، قالوا: لأن الفاسق فيه جرأة على حدود الله عز وجل، وإذا كان جريئاً على حدود الله وضيع حق الله فمن باب أولى أن يضيع حقوق عباده، ولكن في المسألة تفصيل، فبعض العلماء يقول: الفاسق يلي عقد النكاح، ويمكن أن يزوج بنته بشرط أن يكون فسقه بعيداً عن الولاية، قالوا: فإننا وجدنا الرجل تقع منه محرمات مثل القذف، فلو أنه قذف يحكم بفسقه، ومن قذف رجلاً أو قذف امرأة فإنه فاسق، لكن تجده من أعدل الناس في أموره الأخرى، ولا يمكن أن يتنازل، ولا يمكن أن يخون أمانة، وتجده من أوفى الناس في أمانته، لكن هل كونه فقط قذف لا يقبل منه شيء نهائياً؟

قالوا: لا. ما دام أنه فسق خارج عن الولاية وليس له تأثير في الولاية نقبله، لكن إذا كان فاسقاً وفسقه يسري إلى الولاية، وهذا يرجع إلى النظر، فإننا نجد بعض الآباء وبعض الأولياء عندهم تقصير، ولكنه إذا جاء يلي أمور أبنائه وبناته يليها في بعض الأحيان أفضل من غيره ممن هو دين ومطيع، وهذا مجرب وموجود، فتجده ينصح، ويذهب ويسأل عن الرجل ويتحرى عنه، وعنده حمية وعنده فطرة ومحبة للخير لأبنائه، فمثل هذا لا يضره فسقه على نفسه، وشره على نفسه لا يتعدى إلى الولاية، فمثل هذا يقبل ولياً ولا يضر ولا يؤثر.

لكن إذا كان شخصاً معروفاً بالتهتك وبالجرأة وبالإضرار بمصالح أولاده، ولربما يغيب عن بيته الزمن الطويل، يعني: مثلاً إذا ثبت عند القاضي أن هذا الرجل يغيب بالثلاثة أشهر والأربعة أشهر عن بيته ويتركهم بلا طعام وشراب، هل مثل هذا يؤمن على تزويج بنته؟ إذا كان ترك البيت بكامله وضيع حقوقه بكامله أفلا يضيع حق امرأة؟ يمكن أن يجامل شخصاً شريراً مثله فيزوجه بنته، فمثل هذا لا يقبل ولياً؛ لأن فسقه سارٍ إلى الولاية، فإذاً: لابد من التفصيل، وهذا أمر يرجع إلى القضاة، ومنهم النظر -كما ذكر العلماء رحمهم الله- فيمن تقبل ولايته ومن لا تقبل.

فائدة الخلاف: لماذا يشترطون العدالة وعدمها؟ يعني لو فرض مثلاً: أن ولي امرأة كانت فيه هذه الملاحظات وأراد أن يزوج بنته من رجل لا يصلح، وعلم أخوها الشقيق أو علم عمها الشقيق الذي هو وليها من بعده، فذهب إلى القاضي وقال: فلان يزوج بنته من فلان، وفلان معروف بالفسق وكذا.. وأيضاً يضيع حق هذه البنت، فإن الرجل الذي اختاره ليس بكفء، فإذا ثبت عند القاضي هذا نزع ولايته، ونقلها إلى من هو أولى منه بالولاية ممن توفرت فيه الشروط.

قال رحمه الله: [ فلا تزوج امرأة نفسها ولا غيرها ]

الفاء للتفريق، ونحن دائماً نقول: الفقهاء يذكرون الشروط ثم يذكرون مفاهيم الشرط، فلا تزوج المرأة نفسها لما أثبت الولاية، فإذا ثبت أن الولي يلي عقد المرأة فمعنى ذلك أنها لا تزوج نفسها وأيضاً لا تزوج غيرها، فلا تلي عقد نفسها ولا تلي عقد غيرها.

قال رحمه الله: [ وشروطه: التكليف ]:

لماذا يدرس طالب العلم شروط الولي؟

أولاً: لكي تعرف أن الولي شرطٌ في صحة عقد النكاح، فلو سألك سائل: زوَّج فلانٌ فلاناً بنته هل يصح النكاح؟ تعرف أن من شروطه الولاية، فهل فلان هذا الذي زوج هذه المرأة ولي لها أو لا؟ وإذا كان ولياً لها فهل الشروط المعتبرة في الولي متوفرة فيه أو لا؟

فنبحث الشروط التي سيذكرها المصنف رحمه الله، فلا يمكن لنا أن نقول لكل شخص: تعال ولياً للزواج، ولا يمكن أن نقبل كل شخص للولاية في النكاح، فهناك نواقض من ناحية الدين ومن ناحية الأمانة من ناحية الصفات في الرجل ذاته، فلابد من توافر شروط لكي نحكم بصحة الولاية.

إذاً: عندنا جانبان:

أولاً: نثبت شرط الولاية، وقد بينا دليله من السنة.

ثانياً: ما هي صفات الولي أو الشروط المعتبرة في الولي؟

جمهور العلماء على اشتراط الولي، وخالف الإمام أبو حنيفة النعمان عليه من الله الرحمة والرضوان فقال: يجوز للمرأة أن تزوج نفسها، واستدل بقوله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232] فقال: أسند النكاح إلى النساء وقال: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232] وهذا ضعيف، ولذلك يقول الإمام الشافعي : إن هذه الآية حجة لإثبات الولي أكثر من أنها حجة لإلغاء الولي؛ لأن الله خاطب الأولياء فقال: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232] فدل على أن المرأة إذا كان من حقها ورأت أنه صالح لها لو كانت تلي نفسها لكان أباح الله لها أن تتزوج؛ لكن لما وقف الأمر على مخاطبة الأولياء: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232] دل على أن النظر للأولياء، وأن الذي يلي عقد النكاح إنما هم الأولياء وليس النساء.

ومما يدل عليه كذلك: قوله تعالى: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221] فوجه الخطاب للأولياء، وهذا يدل على اشتراط الولاية، ناهيك عن صريح السنة فيما ذكرناه من حديث ابن عباس رضي الله عنه وعائشة وأبي هريرة رضي الله عن الجميع كما تقدم.

قوله: [ التكليف ]: والتكليف بينا أنه يكون بالعقل والبلوغ

وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل

وبينا هذا، فإذا قيل: التكليف، فلابد من شرطين:

البلوغ: فلا يصح أن يكون الولي صغير السن صبياً، فلو أن امرأة لديها أخ عمره اثنتا عشرة سنة ولم يبلغ، وليس عندها أب ولا أولياء أقرب من الأخ الشقيق، فجاء أخوها الشقيق وزوجها من رجل، فإن هذا النكاح لا يصح؛ لأن الولاية شرط في صحة عقد النكاح وهذا الصغير ليس بولي؛ لأن من شرط صحة عقد النكاح التكليف، والصبي غير مكلف.

وهكذا المجنون، فالتكليف شرطه البلوغ والعقل، فلو كان مجنوناً لا يصح أن يلي عقد النكاح، ولو كان سكراناً؛ فمن شرب الخمر أو تعاطى المخدرات، وأثناء تعاطيه للمخدرات زوَّج أخته أو زوَّج بنته وقال: يا فلان! زوجتك بنتي فلانة، لم يصح؛ لأننا قلنا: شرطه العقل، فمثل هذا لا يصح إنكاحه وتزويجه.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع