خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
شرح زاد المستقنع باب الهبة والعطية [3]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: يجب التعديل في عطية أولاده على قدر إرثهم].
شرع المصنف رحمه الله في بيان الأحكام المتعلقة بعطية الأولاد، وقد وردت نصوص الشريعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام عطية الأولاد، وهذه المسألة تعتبر من أهم المسائل نظراً لعموم البلوى بها، وكثرة حاجة الناس إلى معرفة أحكامها، وقد جرت عادة العلماء والأئمة والفقهاء أن يذكروا أحكام هذه المسألة في كتب الحديث والفقه؛ ففي كتب الحديث تُذكر في باب الهبة، ويعتني العلماء رحمهم الله ببيان مسائلها في أحاديث الهبات، كما هو صنيع أئمة الحديث وأصحاب السنن رحمهم الله، وأما الفقهاء فإنهم يذكرون أحكامها ومسائلها في باب العطية والهبة.
أدلة وجوب التسوية في العطية بين الأولاد
بين رحمه الله في هذه الجملة أنه يجب على الوالد أن يسوي ويعدل في عطيته لأولاده.
قوله: (ويجب) الواجب: ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه.
وبناءً على هذه العبارة فإنه يلزم الوالد إذا أعطى أحد أولاده أن يعطي البقية، والدليل على ذلك عدة نصوص وردت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبسبب هذه النصوص ذهب طائفة من العلماء كما هو مذهب الإمام أحمد في رواية عنه، وكذلك داود الظاهري وإسحاق بن راهويه وطاوس بن كيسان وغيرهم من أئمة السلف رحمهم الله برحمته الواسعة إلى أنه على الوالد والوالدة أن يعدلوا بين أولادهم، ولا يفضلوا بعض الأولاد على بعض، إلا في أحوالٍ مستثناة ومسائل معينة سنذكرها إن شاء الله تعالى.
والجمهور يقولون: لا يجب، إنما يستحب، والأفضل والأكمل إذا كان لك أولاد أن تسوي بينهم في العطية، لكنه ليس بلازم عليك.
واستدل من قال بالوجوب بدليل الكتاب والسنة: أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النحل:90]، والعدل يكون في رعية الإنسان، والأبناء والبنات رعية كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فيجب على الوالد أن يعدل بينهم؛ لأن الله أمر بهذا العدل، فلو فضل الوالد أحد أولاده على غيره من إخوانه وأخواته، فإن هذا ليس بالعدل.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير قال: (إني لا أشهد على جور)، فجعل تفضيل بعض الولد على بعض من الجور، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النحل:90]، فإذا كان العدل واجباً مأموراً به فضده الجور والظلم، وهو منهي عنه شرعاً، فإذا دلت السنة على أن تفضيل بعض الولد على بعض ليس من العدل؛ كان ذلك دليلاً على أنه تجب المساواة في العطية بين الأولاد، كما هو مذهب من ذكرنا من العلماء رحمهم الله.
أما الدليل الثاني: فحديث النعمان بن بشير رضي الله عنها، وله قصة ثابتة في الصحيحين؛ (أن أمه
ومن خلال هذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم قال هؤلاء الأئمة: يجب على الوالد أن يعدل، فهو واجب وفرض عليه، ثم إن العقل يدل على ما دل عليه النقل، فإن الشريعة قامت على جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد شرعت العطية زيادة في المحبة وطلباً للقربة والمودة، فإذا كانت العطية لبعض الولد دون بعض توجب الشحناء والبغضاء وإغارة صدور بعضهم على بعض، كان هذا من أعظم المفاسد والشرور؛ لأن من أعظم ما يكون من الشر قطيعة الرحم، وهي بذلك تقطع أواصر المحبة بين أولى الناس بالمحبة، فغن أولى الناس بالمحبة والألفة هم الإخوة والأخوات.
وتشهد بهذا أيضاً أصول الشريعة، كما في قصة يوسف عليه السلام مع إخوته الأسباط قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:8]، ولذلك قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى [يوسف:111]، فالله عز وجل جعلها عبرة لكل والد مع ولده؛ نبهه بها على مشاعر أولاده، ونبهه على ما يكون في نفس ولده من الألم والشجى والحزن إذا فضل أخاه عليه، أو فضل أخته عليه.
ومن هنا نقول: إن النقل والعقل دالان على وجوب التعديل وعدم جواز التفضيل، إلا إذا وجد المبرر الشرعي لذلك التفضيل.
وذهب الجمهور إلى أنه ليس بواجب، فهم يقولون: نحن نسلم بهذا الحديث، ونسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا)، وهذا أمر، والأمر للوجوب، لكن لما جاءت زيادة في الرواية وهي ثابتة وصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ناقش بشيراً فقال له: (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟) أي: هل يسرك أن يكونوا بارين لك براً واحداً، فلا يمتنع بعضهم عن البر؟ قالوا: فالسؤال بمثابة التنبيه على العلة والتي من أجلها أمر بالمساواة، فالعلة هي كما أنه يحب أن يكونوا له في البر سواء، فينبغي أن تكون عطيته لهم سواء، وألا يفضل بعضهم على بعض، قالوا: فنصرف النص من ظاهره الموجب للوجوب إلى الندب والاستحباب.
والقول بالوجوب -كما اختاره المصنف رحمه الله- هو أولى القولين بالصواب إن شاء الله تعالى، فيجب على الوالد والوالدة أن يسووا بين أولادهم في العطية، وألا يفضلوا أحداً على أحد، حتى كان السلف الصالح رحمهم الله من أشد الناس في هذا، فقد كانوا يسوون بين الأولاد حتى في القُبلة، فلو قَبَّل ولداً بجوار أخيه قبل أخاه معه، ولا يفضل ولداً على ولد، خشية أن يقع بينهم ما يكون موجباً لدخول الشيطان على القلوب فيفسدها ويقطع أواصر المحبة بين الأقارب.
حكم مساواة الذكر والأنثى في العطية
وقوله: (في عطية أولاده) الأولاد هنا يشمل الذكر والأنثى، فيسوي بين الذكر والأنثى، فكما أعطى الذكر يعطي الأنثى، لكن هناك فرق بين التسوية في مطلق العطية وبين التسوية في قدر العطية، فكما أعطى الذكر يعطي الأنثى، لكن القدر الذي أعطاه للذكر يكون مثل حظ الأنثيين؛ لأنها قسمة الله من فوق سبع سموات.
ولذلك قال رحمه الله: (على قدر إرثهم)، فجعل للذكر ضعف ما للأنثى، وهذا استحبه جماهير العلماء رحمهم الله والأئمة والسلف، ومنهم من قال: إنه هو الأصل؛ لأن العدل الذي قامت عليه السموات والأرض قسمة الله التي تولاها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبهديه، وهو هنا تفضيل الذكر على الأنثى، ونصوص الكتاب والسنة كلها دالة على هذا.
ولا يستطيع أحد أن يرد شيئاً حكم الله به من فوق سبع سموات، فقد خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم خلق حواء من بعد ذلك من آدم، وفرَق بين تكريم آدم بالنفخ بالروح وسجود الملائكة له وتشريفه وتكريمه بهذا الفضل العظيم، ثم جعل خلق الأنثى تبعاً للذكر بقوله سبحانه: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، فهي تبع للرجل، وهي نصوص لا يمكن للإنسان أن يرد فيها حكم الله أو أمر الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات، فلا يستطيع الفقير أن يقول: لم جعلني ربي فقيراً؟ ولا يستطيع الغني أن يقول: لم جعلني ربي أتعذب بغناي؟ فإن هذا حكم الله وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].
فلذلك وجد التفضيل من حيث الخلق والقدرة وصفة الخلق، وكذلك من حيث التكاليف الشرعية، حتى جعل النبوة في الرجال ولم يجعلها في النساء، فالتفضيل من حيث الحقوق والواجبات والتكاليف لا يمكن لأحد أن يكابر فيها، والنصوص الشرعية واضحة فيه.
وإذا ثبت هذا فالعدل أن يجعل ما للذكر ضعف ما للأنثى، هذا هو حكم الله سبحانه وتعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الأنثى تستحق أكثر مما أعطاها الله سبحانه وتعالى؛ فهذه قسمة الله من فوق سبع سموات، وهذا حكمه، وهذا شرعه وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41] ولا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء:23] سبحانه وتعالى علواً عظيماً.
فقوله رحمه الله: (على قدر إرثهم) إشارة إلى ما ذكرناه من أنه يجعل للذكر ضعف ما للأنثى.
الواجب على من فضل بعض أولاده على بعض في العطية
الفاء للتفريع، فإذا علمت أنه يجب على الوالد أن يسوي بين أولاده في عطيتهم، فيعطي للذكر ضعف ما يعطيه للأنثى، فإنه إذا اختل ذلك فإنه يجب عليه أن يرجع إلى الأصل، فلو أعطى بعضهم ولم يعط البعض الآخر، قلنا له: يجب عليك أن تعطي من حرمت؛ لأن الله عز وجل أوجب عليك العدل، فإما أن تعطي المحروم أو ترجع عن عطيتك لذلك الولد.
مثال ذلك: رجل له ثلاثة من الأولاد، فأعطى أحدهم ولم يعط الآخرَين، ولم تكن العطية لسبب خاص كما سيأتي، فأعطى أحدهم سيارة وهناك أخوان لم يعطهما شيئاً، فنقول له: إما أن تعطي الأخوين سيارة مثل هذه السيارة في قيمتها وقدرها وصفاتها وفضلها، وإما أن تسحب السيارة التي أعطيتها لهذا المفضَّل، فإما أن تعطيهم جميعاً أو تحرمهم جميعاً.
هذا هو ما نص عليه رحمه الله تحقيقاً للأصل الذي أمر الله عز وجل به من العدل؛ لأن العدل لا يتحقق إلا بهذا، إما أن يعطيهم جميعاً فيعدل ويسوي، أو يحرمهم جميعاً فيعدل ويسوي.
حكم إنفاذ عطية من لم يعدل إذا مات
أي: فإن مات قبل أن يرجع، مثال ذلك: لو أن رجلاً أعطى أحد أبنائه الذكور أرضاً، ثم توفي قبل أن يعطي أخويه الباقيين مثلما أعطى أخاهم، فتوفي قبل أن يرجع وقبل أن يسوي ويعطي الآخرين مثله، فالسؤال حينئذٍ: إذا كان الذي أعطيت له الأرض قبضها وحازها وتمت الهبة؛ فحينئذٍ تثبت هذه الهبة، ويلقى هذا الوالد ربه بمظلمة الأخوين، فيلقى الله سبحانه وتعالى بهذا، فإن سامحه ولداه فهما مجزيان خيراً، والله يخلفهما خيراً، وإن أرادا حقهما؛ فإنه مسئول عن هذا الحق، إما أن يعطيهم جميعاً أو يحرمهم جميعاً.
فإذا أدركته ساعته وقبضت روحه -نسأل الله السلامة والعافية- قبل العدل وقبل الرجوع، فإنه حينئذٍ تثبت العطية، ويملك هذا الولد ما أعطاه والده، والأفضل براً لوالده وإدراكاً لحق أخويه أن يستسمح أخويه أو يرضيهما حتى لا تكون على والده تبعة ومسئولية مما فعل.
حكم رجوع الواهب عن هبته
يحرم على من وهب غيره أن يرجع في تلك الهبة، أما الدليل على التحريم فما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يأكل قيئه)، وعند علماء الأصول رحمهم الله قواعد أو أسباب يستدل بها على التحريم، قالوا: ومما يدل على تحريم الشيء وصفه بأشنع الصفات التي لا تجيزها الشريعة ولا ترضى بها، فضرب المثل بالكلب -والعياذ بالله- من أسوأ ما يكون، وإذا كان ليس لنا مثل السوء فمعناه: أن من فعل هذا الفعل فليس على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وليس على شريعته، وليس على سنته صلوات الله وسلامه عليه، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن أكثر من خرج عن هديه وسنته بهذا الأسلوب، فهو بدل أن يقول: يحرم الرجوع في العطية، جاء بهذه الكلمات: (ليس لنا مثل السوء).
وهذا -كما يسميه العلماء- من الأساليب المؤثرة، وينبغي للداعية والواعظ والمعلم والموجه والمربي أن يختار بعض الكلمات المؤثرة، شريطة ألا تشتمل على الغرور، وألا تشتمل على الخروج عن السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما كان يقول: أيها الناس! لا يجوز الرجوع في الهبة، أو يحرم الرجوع في الهبة، لكنه جاء بهذا الأسلوب النبوي الكريم: (ليس لنا مثل السوء)، فاقشعرت الأبدان ووجلت القلوب.. ما هو مثل السوء الذي سيذكر؟ وما هو الفعل الذي استوجب أن يوصف بهذه الصفة المذمومة الممقوتة التي تنفر منها النفوس، ولا ترضاها الطباع السليمة؟ قال: (العائد في هبته كالكلب)، فشبهه بالكلب، ثم قال: (يقيء ثم يأكل قيئه)، فوصفه بهذه الصفة، يقول بعض العلماء: نستدل بصدر هذا الحديث على تحريم الرجوع، ونستدل بالتمثيل بقوله: (كالكلب يقيء ثم يأكل قيئه) وأكل الإنسان لقيئه فضلاً عن الكلب محرم عليه؛ لأن القيء نجس، فإذا كان نجساً فمعناه: أن الرجوع اشتمل على محرم، وعلى هذا قالوا: لا يجوز للمسلم أن يرجع في هبته.
ويرد السؤال: ما هي الحكم التي يمكن أن تستفاد من هذا التحريم؟
يقال: إن هناك حكماً عظيمة؛ لأن الشريعة شرعت الهبة كسباً لمودة القلوب، وإذا أعطى الهبة والعطية والهدية ورجع فيها؛ كان هذا من أبلغ ما يكون جرحاً للنفوس وإيلاماً لها، فإن الإنسان إذا فرح بالعطية ثم يفاجئ بصاحبها يقول: أعطني ما وهبتك؛ فقد أذله وأهانه، وربما أشعره أن قلبه قد تغير عليه بهذا، وأن منزلته قد سقطت، وأن هناك أمراً ما قد بلغه عنه استوجب تغيير الإحسان إلى الإساءة بأخذ هذه الهبة والعطية التي أعطاه إياها.
ثم إن هذه الصفة ليست من صفات الكرام؛ بل هي من صفات اللئام، فإن اللئيم -والعياذ بالله- هو الذي يرجع في هبته؛ لأن الكريم لا يرجع في هبته أبداً، ويختار أن يموت ولا أن يقول لرجل: أعطني ما وهبتك، فالكريم لا يرضى بهذا؛ لأن النفوس الطيبة والمعادن الكريمة الأصيلة مجبولة على الرحمة، وإذا نظر إلى أن أخذ هذه الهبة سيجرح أخاه ويؤلمه؛ اختار أن يُجرح بما ينـزل عليه من المصائب والمتاعب، ولا أن يمس مشاعر أخيه، فيوصف بكونه راجعاً في هبته وعطيته.
وللسلف الصالح رحمهم الله قصص عجيبة في هذا، وللفضلاء والأخيار على مر العصور والدهور مواقف كريمة في هذا، فلا يرجع الكريم في عطيته، ولا يرجع في هبته، والمسلم الصالح إذا حدثته نفسه بالرجوع وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم منعه من ذلك وبيّن له أنه لا يجوز؛ فإنه لن يرجع مهما كلفه ذلك الأمر، ثم يرضى بالله عز وجل عوضاً عن كل فائت.
فمن استغنى بالله عز وجل ورضي بحكم الله واطمأن أن الله سيخلف عليه؛ فإن الله سيعود عليه بكل خير، وقد حدّث بعض العلماء رحمهم الله فقال: ما وجدت أعجب من موقف أحسن فيه بصدقة أو هبة أو هدية، فيحدث عندي الظرف القاهر المؤلم، يقول: حتى لولدي، مع أنه يحل للوالد أن يرجع في هبته لولده، ولكنه يقول: مع ذلك كان من أعظم وأصعب المواقف عليّ، فأمتنع من الرجوع إلا وجدت خلف الله عليّ بأحسن الخلف، مما يعوضه عليَّ في ديني أو دنياي أو أهلي أو مالي أو ولدي.
فلذلك ينبغي على المسلم دائماً أن يسمو بنفسه إلى الكمالات، وأن يربأ بنفسه عن هذه الأمور التي نفر منها النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منها، وبيّن أنها ليست على سنته وهديه.
وقد بيّن المصنف رحمه الله أنه لا يجوز الرجوع في الهبة ما لم يقبض الموهوب له الهبة، وقد بينّا هذا بحيث لو قلت لشخص: سأعطيك عشرة أو مائة، وطرأت عندك ظروف جعلتك لا تستطيع أن تعطيه، وقد تقول له: إن شاء الله في السنة القادمة إذا أتيت إلي سأحل لك هذا الموضوع، وأنت تظن أن الأمور والأحوال طيبة، وقدر الله عز وجل أن تغيرت الظروف، فتشرح له ظروفك، والله عز وجل يقول: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91]، فإذا طرأت عليك الظروف القاهرة التي لا تستطيع أن تمضي هبتك وهديتك، فما دام أنه لم يقبض؛ فمن حقك أن ترجع، ولا يملك هو الهبة إلا بقبضها، أما وقد قبض الهبة وأخذها؛ فإنه يحرم عليك الرجوع؛ لأنه يملكها بالقبض، كما قدمنا وبينّا.
حكم رجوع الأب عن هبته لولده
أي: إلا الأب فإن له الرجوع في عطيته لولده من ابن أو بنت، فلو أعطى الوالد ابنه سيارة ثم رجع عنها، أو أعطاه -مثلاً- أرضاً ثم رجع عنها؛ كان من حقه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث السنن: (لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها، إلا الوالد مع ولده)، وفي رواية (إلا الأب مع ولده)، وهذا الحديث حسنه غير واحد من العلماء، وهو حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل على أن من حق الوالد أن يرجع في عطيته مع أولاده.
لكن ينبغي التنبيه على مسألة وهي: أن الوالد يجوز له الرجوع في عطيته لولده لعدة أمور:
أولاً: أن الولد مع الوالد كالشيء الواحد، وقد بيّن هذا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين لما بلغه أن علياً يريد أن يتزوج ابنة أبي جهل ، وفهم عليه الصلاة والسلام أن هذا الأمر فيه نوع من الإغاضة والأذية لبنته وله عليه الصلاة والسلام، فرقى المنبر وقال: (والله لا آذن، والله لا آذن، والله لا آذن، إنما
فالشاهد في قوله: (إنما
ثانياً: أن المحبة التي يكنها الابن لأبيه والبنت لأبيها لا يمكن أن تغيرها مثل هذه الأمور الدنيوية، خاصة مع عظيم الإحسان والفضل في سالف الزمن من الوالدين على الولد من النعمة العظيمة والمنة الجليلة الكريمة، التي لا يمكن أن يدخل معها الشك وسوء الظن، فانظر إلى حكمة الشريعة حينما تحرم الشيء لأسباب، فإذا زالت الأسباب؛ حكمت بحله.
ولذلك قال العلماء رحمهم الله: يجوز للأب أن يرجع في عطيته لابنه وبنته، ويكاد يكون الإجماع بين العلماء على ذلك.
وهناك قول ضعيف وشاذ -خاصة أنه يخالف السنة، والحديث واضح في هذا- يقول: ليس من حق الوالد أن يرجع في عطيته لولده، ويفصل في المنع، لكن الصحيح ما ذكرناه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الرجوع، لكن السؤال: هل الجد والأم ينزلان منـزلة الأب؟ من حيث الأم فوجهان:
الوجه الأول: بعض العلماء يقول: إن الأم تنـزل منـزلة الأب؛ لأن المعاني الموجودة في الأب موجودة في الأم، والمفاسد التي تخشى من الرجوع مدفوعة في الأم أكثر منها في الأب؛ لأن إحسان الأم أعظم من إحسان الأب، ولذلك بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها الأحق بحسن الصحبة، وحقها آكد وأوجب.
الوجه الثاني: قال بعض العلماء: الأم ليست كالأب، كما هو رواية عن الإمام أحمد ، ولذلك لما سئل عن هذه المسألة فرق بين الأب والأم، وبيّن أن للأب ولاية على ولده، والأم ليست لها ولاية على الولد، والفرق بين الوالد والوالدة في بعض الأمور التي نص الشرع على التفريق فيها بين الأب والأم يؤكد على أنه يملك الأب الرجوع دون الأم. ولكن من جهة النظر والمعنى يقوى قول من قال: إن الأم تنـزل منـزلة الأب.
أما الجد فقد سماه الله أباً فقال: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78]، وقال: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي [يوسف:38]، فسمى الجد أباً، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحسن : (إن ابني هذا سيد)، وهو ابن بنته، وهو عليه الصلاة والسلام جد له، فالجد ينزل منزلة الأب في كثير من أحكام الشريعة.
وبناءً على ذلك قال طائفة من العلماء رحمهم الله: الجد له الرجوع كما للأب أن يرجع.
حكم أخذ الوالد من مال ولده
قوله: (وله) أي: للأب.
وقوله: (أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه)، أما من حيث الحكم بجواز الأخذ من أموال الأولاد فالسنة ثابتة في هذا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه من حديث عائشة في السنن أنه قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، وفي حديث جابر -وقد اختلف في سنده وحسنه بعض العلماء- في قصة الولد مع والده في قضاء الدين قال: (أنت ومالك لأبيك)، ونظراً لورود السنة بهذا؛ قالوا: للوالد أن يأخذ ويتملك من مال ولده، لكن بشرط ألا يكون هذا الأخذ فيه ضرر على الولد، وألا يكون الولد محتاجاً لهذا المال المأخوذ.
فالزائد عن حاجة الولد لا بأس للوالد بأخذه، فلو كان الولد عنده خمسون ريالاً هي مصاريفه لطعامه وولده، وجاء الوالد يريد أن يأخذها، والولد محتاج إليها، فلا يقال: إن من حق الوالد أن يأخذها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك وبمن تعول)، وقد جعل إعالته لنفسه في هذا مقدمة على إعالة الغير.
فإذا ثبت هذا فلا يأخذ ما يضره ويحتاج إليه، ويكون أخذ الوالد بالمعروف، فإذا قلنا: إنه يجوز للوالد أن يأخذ من مال ولده، فيأخذ بالمعروف، وهذا أصل في الشريعة أنها إذا أجازت أخذ الحق، فأخذه يكون بالمعروف، ولذلك هند رضي الله عنها لما اشتكت زوجها أنه قصر في نفقتها كما في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فللوالد أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره وما لا يحتاج إليه.
ومن الأسباب التي يضع الله بها البركة في مال الإنسان، وليس هناك سبب بعد طاعة الله عز وجل وأداء حق المال من الزكوات والصدقات، ليس هناك أعظم من بر الوالدين، فالله يضع به البركة في المال، ويجعله سبباً في حسن عاقبة الإنسان في ماله، ولا يأخذ الوالد من مال ولده إلا تأذن الله لذلك الولد بالخير والحسنى في ماله، مع ما ينتظره عند الله من عظيم الأجر.
والقصص في هذا كثيرة، وقد ذكر عن بعض من نعرف من المتأخرين أنه كان من أغنى الناس، وكان إذا اشترى أرضاً أو داراً أو شيئاً وأعجب والده، جاء والده وقال: يا بني! اكتب هذا باسمي، فلا يمكن أن يراجعه بكلمة، بل يكتبه مباشرة باسمه، حتى وضع الله له البركة والخير، فأقر الله عينه في المال والولد، فما من شيء يبارك الله فيه مثل بر الوالدين.
والأحوال في الإحسان للوالدين مختلفة، فالذي يعطي والديه قبل أن يسألاه، والذي يعطي الوالدين في أحلك وأشد الظروف، والذي يراقب الوالدين بحيث لا يجعلهما في حاجة إلى أحد بعد الله سبحانه وتعالى غيره، ويبادلهما بالعطية قبل أن يسألاه، فهذا من خير المنازل عند الله عز وجل، ولا يوفق لذلك إلا الموفق، حتى إن الإنسان يصل رحمه فينسأ له في أثره، ويزاد له في عمره، وهذا في الرحم، فما بالك ببر الوالدين!
وقد ذكروا عن بعضهم أنه عمر فوق المائة والثلاثين سنة، حتى سقط حاجباه وهو متماسك ويمشي بقوته، لكنه لا يصبح حتى يذهب إلى آخر خيمة من قرابته ورحمه، وقبل أن يفطر الناس يسقيهم اللبن، فكان يقول: ما زالت الصدقة تبارك لنا في أعمارنا حتى مللنا العيش. فكيف ببر الوالدين! خاصة في حاجتهم إلى الطعام أو الكساء أو الدابة والسيارة والركوب، أو الخدمة أو العلاج والدواء، أو الحاجة إلى السفر لمصلحة ولقضاء حاجة، فلا يستوجب الإنسان الرحمة والخير من الله سبحانه وتعالى بشيء بعد توحيده مثل بر الوالدين.
فإذا ثبت هذا فعلى الإنسان دائماً أن يحرص على الكمالات، وأن يعلم أنه لا خير في هذا المال ما لم يتق الله عز وجل فيه، ومهما أعطي من الأموال فإن المال لا قيمة له إلا أن يكون في طاعة الله عز وجل، فيكون سبباً في سعادة العبد، ومن ظن أن المال المحض سبب في سعادته حتى يمنع والده منه، ويصبح المال أعز عليه من والده؛ فهذا من شر المنازل عند الله، ولو كان المال سبباً في السعادة لكان أسعد الناس قارون، الذي أوتي الكنوز التي كانت تنوء العصبة أولو القوة بحمل مفاتيح الخزائن التي كان فيها هذا المال والخير، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
فالمال لا يأتي بالسعادة إلا إذا ابتغي به وجه الله، فيأتي بسعادة الدين والدنيا والآخرة، فيتأذن الله سبحانه وتعالى لصاحبه برضاه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصدقة والإحسان بالمال يحجب العبد عن سيئته المتقدمة والمتأخرة، ففي الصحيحين أنه قام عليه الصلاة والسلام في غزوة العسرة، فسأل الناس أن ينفقوا في سبيل الله، فجاء عثمان رضي الله عنه وصب الذهب، ثم قام عليه الصلاة والسلام مرة ثانية، فذهب عثمان مرة ثانية وصب الفضة في حجره، فأخذ عليه الصلاة والسلام يقلب الذهب والفضة ويقول: (ما ضر
فانظر كيف وهب الله لـعثمان المال فكان سبباً في سعادته في الإنفاق في الجهاد، والجهاد بعد بر الوالدين، فإذا كان عثمان قد أنفق هذا المال في الجهاد وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ضر
فإذا أنفق ماله في بر والديه فأجره أعظم، ولا شك أن الوالد إذا نظرت ولمست منه الحاجة إلى المال والمساعدة والمعونة، فلا تقف مكتوف اليد، ومن أسوأ ما يكون أن الوالد يحتاج ويقف في مواقف عصيبة، فيأتي لولده ويذل نفسه لولده ويقول: يا بني! أنا محتاج إلى مال، أحتاج إلى كذا وكذا، فيقول: والله ما عندي يا أبت، والله يشهد من فوق سبع سموات أن عنده المال، وأن المال زائد عن حاجته.
فهذا والله إذا أردت أن ترى محروماً؛ فانظر إلى هذا المحروم من بر والديه، وهذا من العقوق.. إنسان قادر على أن يفرج كربة والده -بعد الله سبحانه وتعالى- أو والدته ويقف مكتوف اليد تحت إغراء نفس أمارة بالسوء، وشيطان يعده الفقر ويأمره بالفحشاء والمنكر، وزوجة تثبطه عن بر الوالدين وتخذله، وولد مجبنة مبخلة، يؤثر بذلك كله على الإحسان الوالدين وإسداء المعروف إليها، مع أن لهم على الإنسان ديناً ما وفاه، وجميلاً ما كافأه، فلا شك أن هذا من أعظم الحرمان.
فالإنسان يحرص إذا كان يريد مراتب الكمالات أن يجعل لوالديه حظاً من راتبه، ويجعل لوالديه حظاً من الخير الذي يأتيه إذا جاءه، وقد كان البعض إذا جاءته أي هدية أول من يأخذ وأول من يقسم له وأول من يستمتع بهذه الهدية والداه، وهذا لا شك أنه من أعظم التوفيق من الله سبحانه وتعالى للعبد، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.
قال المصنف رحمه الله: (يجب التعديل في عطية أولاده)
بين رحمه الله في هذه الجملة أنه يجب على الوالد أن يسوي ويعدل في عطيته لأولاده.
قوله: (ويجب) الواجب: ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه.
وبناءً على هذه العبارة فإنه يلزم الوالد إذا أعطى أحد أولاده أن يعطي البقية، والدليل على ذلك عدة نصوص وردت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبسبب هذه النصوص ذهب طائفة من العلماء كما هو مذهب الإمام أحمد في رواية عنه، وكذلك داود الظاهري وإسحاق بن راهويه وطاوس بن كيسان وغيرهم من أئمة السلف رحمهم الله برحمته الواسعة إلى أنه على الوالد والوالدة أن يعدلوا بين أولادهم، ولا يفضلوا بعض الأولاد على بعض، إلا في أحوالٍ مستثناة ومسائل معينة سنذكرها إن شاء الله تعالى.
والجمهور يقولون: لا يجب، إنما يستحب، والأفضل والأكمل إذا كان لك أولاد أن تسوي بينهم في العطية، لكنه ليس بلازم عليك.
واستدل من قال بالوجوب بدليل الكتاب والسنة: أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النحل:90]، والعدل يكون في رعية الإنسان، والأبناء والبنات رعية كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فيجب على الوالد أن يعدل بينهم؛ لأن الله أمر بهذا العدل، فلو فضل الوالد أحد أولاده على غيره من إخوانه وأخواته، فإن هذا ليس بالعدل.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير قال: (إني لا أشهد على جور)، فجعل تفضيل بعض الولد على بعض من الجور، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النحل:90]، فإذا كان العدل واجباً مأموراً به فضده الجور والظلم، وهو منهي عنه شرعاً، فإذا دلت السنة على أن تفضيل بعض الولد على بعض ليس من العدل؛ كان ذلك دليلاً على أنه تجب المساواة في العطية بين الأولاد، كما هو مذهب من ذكرنا من العلماء رحمهم الله.
أما الدليل الثاني: فحديث النعمان بن بشير رضي الله عنها، وله قصة ثابتة في الصحيحين؛ (أن أمه
ومن خلال هذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم قال هؤلاء الأئمة: يجب على الوالد أن يعدل، فهو واجب وفرض عليه، ثم إن العقل يدل على ما دل عليه النقل، فإن الشريعة قامت على جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد شرعت العطية زيادة في المحبة وطلباً للقربة والمودة، فإذا كانت العطية لبعض الولد دون بعض توجب الشحناء والبغضاء وإغارة صدور بعضهم على بعض، كان هذا من أعظم المفاسد والشرور؛ لأن من أعظم ما يكون من الشر قطيعة الرحم، وهي بذلك تقطع أواصر المحبة بين أولى الناس بالمحبة، فغن أولى الناس بالمحبة والألفة هم الإخوة والأخوات.
وتشهد بهذا أيضاً أصول الشريعة، كما في قصة يوسف عليه السلام مع إخوته الأسباط قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:8]، ولذلك قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى [يوسف:111]، فالله عز وجل جعلها عبرة لكل والد مع ولده؛ نبهه بها على مشاعر أولاده، ونبهه على ما يكون في نفس ولده من الألم والشجى والحزن إذا فضل أخاه عليه، أو فضل أخته عليه.
ومن هنا نقول: إن النقل والعقل دالان على وجوب التعديل وعدم جواز التفضيل، إلا إذا وجد المبرر الشرعي لذلك التفضيل.
وذهب الجمهور إلى أنه ليس بواجب، فهم يقولون: نحن نسلم بهذا الحديث، ونسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا)، وهذا أمر، والأمر للوجوب، لكن لما جاءت زيادة في الرواية وهي ثابتة وصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ناقش بشيراً فقال له: (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟) أي: هل يسرك أن يكونوا بارين لك براً واحداً، فلا يمتنع بعضهم عن البر؟ قالوا: فالسؤال بمثابة التنبيه على العلة والتي من أجلها أمر بالمساواة، فالعلة هي كما أنه يحب أن يكونوا له في البر سواء، فينبغي أن تكون عطيته لهم سواء، وألا يفضل بعضهم على بعض، قالوا: فنصرف النص من ظاهره الموجب للوجوب إلى الندب والاستحباب.
والقول بالوجوب -كما اختاره المصنف رحمه الله- هو أولى القولين بالصواب إن شاء الله تعالى، فيجب على الوالد والوالدة أن يسووا بين أولادهم في العطية، وألا يفضلوا أحداً على أحد، حتى كان السلف الصالح رحمهم الله من أشد الناس في هذا، فقد كانوا يسوون بين الأولاد حتى في القُبلة، فلو قَبَّل ولداً بجوار أخيه قبل أخاه معه، ولا يفضل ولداً على ولد، خشية أن يقع بينهم ما يكون موجباً لدخول الشيطان على القلوب فيفسدها ويقطع أواصر المحبة بين الأقارب.