خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع كتاب الوقف [5]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن من أهم الأحكام التي تتعلق بالوقف بيان لزومه، وأن من صدر منه الوقف على وجه صحيح معتبر شرعاً فإنه ملزم بهذا الوقف، ولا يجوز له الرجوع عن هذا الوقف، ومن هنا شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان حكم عقد الوقف، وقد تقدم أن العلماء رحمهم الله يبحثون في العقود مسألة نوعية العقد، فهناك عقود إذا صدرت من المكلف فإنه يُلزم بها شرعاً، وليس له الخيار في الرجوع إلا إذا رضي الطرف الثاني.
من أمثلة ذلك: البيع والإجارة، فإذا باع شيئاً وتم البيع على الوجه المعتبر، فليس من حق البائع أن يرجع، ولا من حق المشتري أن يرجع إلا إذا تراضى الطرفان، واتفقا على الرجوع برضاً منهما.
هذا النوع يوصف باللزوم، فحقيقة العقد اللازم عند العلماء: هو العقد الذي لا يملك فيه أحد الطرفين الرجوع عنه إلا برضا الطرف الثاني، وهناك نوعٌ من العقود جائز، ويمكن لكل واحدٍ من الطرفين أن يرجع ولو لم يرض الطرف الآخر، فلو نظرنا إلى بعض العقود التي سامحت فيها الشريعة كالهبة والعطية؛ فإنها ليست بلازمة ما لم تُقبض، فلو قال له: وهبتك سيارتي، فقال: قَبِلت، فهذا يُسمَّى عند العلماء عقد هبة، لكن إذا لم يعطه السيارة ولم يستلمها فله الحق في الرجوع، وسنبيِّن هذه المسألة إن شاء الله.
وفي الصدقة إذا قال: تصدقت عليك بمائة دينار، أو مائة ريال، أو بألف، وقال الآخر: قبلت. فهذا عقد صدقة، ولكن لو لم يُعطِه الصدقة، ولم يقبضها؛ فله الحق أن يرجع، وللطرف الثاني -المسكين، أو الموهوب له- الحق أن يقول: قبلت، ثم يقول: لا أريد، فليس بملزم بقبولها، ولا بقبول العطية. وهذا النوع يسمى: العقد الجائز، وجوازه للطرفين.
وهناك عقود وسط بين هذين النوعين، تَلزم أحد الطرفين ولا تلزم الطرف الآخر، كالجُعل، وتقدم معنا أن رجلاً لو قال: من وجد سيارتي الضائعة أعطيته ألف ريال، فإنه من حقه أن يرجع عن هذا الكلام الذي قاله، فلو قال شخص: قبلت فسأبحث لك عنها، فإن وجدتها فلي ألف ريال.
فاتفق الطرفان ثم رجع الرجل الأول، أو رجع الرجل الثاني، كلٌ منهما له حق الرجوع، ما لم يجد السيارة فيكون الطرف الجاعل مُلزماً بدفع الجُعل، فتلزم الجعالة الجاعل دون المجعول له، فلو قال شخص هذه المقالة: من وجد سيارتي، أو إذا عالجت لي هذا الممسوس، وقرأت عليه ورقيته أُعطيك ألفاً؛ فإن من حقه أن يرجع عن هذا الجعل إذا اتفقا.
لكن لو شرع الراقي وأمضى وقتاً أو جهداً كما تقدم معنا؛ فإنه لا يملك الجاعل الرجوع إلا برضا الثاني ما لم يعطه حقه واستحقاقه في تعبه في الوقت الذي فات عليه ما بين العقد وما بين الفسخ.
إذاً هناك عقود تلزم الطرفين، وعقود تلزم أحد الطرفين دون الآخر، وعقود لا تلزم الطرفين ألبتة.
هذا من حيث أنواع العقود.
الوقف من العقود التي تلزم الواقف ولا يملك الرجوع عنه، فلو قال: أوقفت داري هذه على المساكين، فإنه إذا صدر الوقف على الوجه المعتبر لم يملك الواقف الرجوع عن وقفه، وليس من حقه أن يُبطل هذا الوقف إذا تم صحيحاً معتبراً شرعاً.
ولذلك قال المصنف: [والوقف عقد لازم]
الوقف عقد، وقد تقدم أن العقد ربط أجزاء التصرف.
وربط أجزاء التصرف يكون بالإيجاب والقبول، مثل: أوقفت داري عليك، فقال: قبلت، فهذا عقد وقف، فإذا تم عقد الوقف على الوجه المعتبر شرعاً فإنه لازم، وقد أجمع العلماء من حيث الجملة على أن الوقف عقد لازم، والدليل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن أبيه -عمر بن الخطاب رضي الله عنه- في قصته حينما أوقف بستانه بخيبر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إن شئت حبّست الأصل، وتصدّقت بالثمرة، غير أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث).
فإذا تأملت قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث)؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه بالصدقة التي خرجت منه، ونقل ملكيتها عنه، بدليل أنه لم يصحِّح بيعها بعد ذلك، ولا هبتها ولا أي تصرف فيها، فقال: (غير أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث).
فقوله: (لا يباع ولا يوهب)، وهذا تصرُّف في الحياة، (ولا يورث) لما يكون بعد الموت، وبناءً على ذلك فإنه ألزمه بما يصدر منه من الوقفية، فدل على أن عقد الوقف لازم.
فالعلماء مجمعون على هذا، لكن هناك خلاف عند بعض أهل العلم رحمهم الله حيث قال: يجوز للواقف أن يرجع عن وقفه بشرطين:
الشرط الأول: ألا يقضي قاض بهذا الوقف.
والشرط الثاني: ألا يكون وصية بعد الموت.
فإذا أوقف داراً أو مزرعة ولم يجعلها كوصية، وقبل أن تُرفع إلى القاضي فيحكم بالوقفية، فإن من حقه أن يرجع، وهذا القول هو قول الإمام أبو حنيفة رحمه الله، ويحكيه العلماء -ولا أعرف له سنداً صحيحاً- عن علي ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع، لكن المشهور أن الذي خالف في هذه المسألة هو الإمام أبي حنيفة رحمه الله، أما جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله فإن الوقف عندهم لازم مطلقاً، لا يملك الواقف الرجوع عنه.
والذين قالوا: إنه من حقك أن ترجع عن الوقف ما لم يقض به القضاء، أو يكن وصية، استدلوا بحديث عبد الله بن زيد الأنصاري صاحب الأذان رضي الله عنه وأرضاه أنه تصدق ببستان، ثم جعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: جعل النظر فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رُفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء أبواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالا: يا رسول الله إنه لا مال لنا، أو لا طُعمة لنا إلا من هذا البستان، وقد تصدق به، فرد عليه الصلاة والسلام صدقته وجعلها لوالديه.
وهذا الحديث رواه المحاملي وغيره، ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل وقفية عبد الله بن زيد رضي الله عنه لمزرعته، فدل على أن الوقف ليس بلازم، وأن من حقك أن ترجع عن الوقف، ورد الجمهور بأن هذا الحديث على فرض صحته فيه إشكالان، الإشكال الأول أنه قال: تصدَّقَ، والرواية (جعله صدقة)، والصدقة غير الوقف؛ لأن الصدقة قد تكون من الإنسان تبرعاً لا يقصد به الوقفية بل يقصد فيه مطلق الهبة.
والإشكال الثاني وهو الأقوى في الجواب: أن الحديث نفسه فيه: (وجعل الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم) فمعناه أنه جعل إمضاء هذه الصدقة على هذا الوقف مشروطاً بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رُفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبتّه صدقة، ولم يبته وقفاً؛ لأنه معلق على رضاه، وحينما اشتكى له والداه صرفه عليه الصلاة والسلام إلى والديه، ولذلك وُرث البستان من بعد ذلك كما جاء في الرواية.
هناك أجوبة أخرى لكن في الحقيقة لا يقوى هذا الحديث على معارضة الحديث الذي معنا.
فإن قال قائل: إننا قدّمنا أن لفظ (تصدقت) يُعتبر من ألفاظ الوقف، فالجواب عنه: أن اللفظ جاء في الحديث وصفاً ولم يأت وقفية، ولذلك قال: (جعلها صدقة)، وفرق بين أن يكون من كلام عبد الله بن زيد (جعلتها صدقة) وبين أن يُحكى أنه تصدق بها، فهناك فرق بين اللفظين، ومن هنا يقوى مذهب جماهير السلف والخلف أن الوقف لا يملك صاحبه الرجوع عنه، وأنه إذا صدر على الوجه المعتبر شرعاً فإن العقد به لازم.
قال رحمه الله: [والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه]
فقوله رحمه الله: (لا يجوز فسخه) الفسخ: الإزالة، وقد تقدم معنا أن فسخ العقود إبطالٌ لها، وأننا إذا حكمنا بفسخ البيع فقد أبطلناه، وإذا أبطلناه أوجب هذا الحكم أن نرُد الثمن للمشتري، والمُثمن للبائع، هذا بيّناه فيما تقدم معنا في البيع.
ولذلك قال رحمه الله: (والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه): أي لا يجوز للقاضي أن يفسخ وقفاً إذا ثبت على الوجه المعتبر، ولا يجوز للشخص نفسه أن يحكم بأن وقفه باطل، وأنه لا يُعتد به، ما دام أن الوقف صحيح، ولا يجوز له أن يستحل من هذا الوقف ما لا يُستحل من الأوقاف باسم أنه مفسوخ أو أنه باطل، كأن يقول: هذا الوقف أبطلته أو فسخته، أو مزرعتي التي أوقفتها رجعت عن وقفيتها.. أو أبطلتُ وقفيتها.. أو فسخت وقفيتها.
وكل هذا شرطه أن يكون الوقف قد استجمع الصفات المعتبرة شرعاً للحكم بصحته ولزومه واعتباره شرعاً، كل هذا إذا ثبت في الوقف فلا يجوز فسخه، وإذا قيل: لا يجوز فسخه فمعناه أنه لو قضى قاض بأن هذا الوقف فاسد وفسخه، دون أن يكون عنده مبرر شرعي للفسخ؛ فإن قضاءه لاغٍ، والحكم به باطل ويأثم شرعاً.
وكذلك الواقف لو قال: مزرعتي التي أوقفتها أبطلت وقفيتها، فيا أبنائي خذوها أو اقسموها ميراثاً، فإنه قد انتهك حدود الله، واستحل ما حرّم الله عز وجل عليه، فقوله: (لا يجوز فسخه)، أي لا يجوز الفسخ لا من الواقف، ولا من أي شخص.
لكن هناك استثناءات في مسألة المناقلة في الوقف، وهذه مسألة مستثناة فنبين أن لها ضوابط، وأنها جائزة عند الضرورة والحاجة.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يباع إلا أن تتعطل منافعه]
قوله رحمه الله: (ولا يباع) أي: لا يجوز بيع الوقف، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمر رضي الله عنه: (غير أنه لا يباع)، وهذا الحديث نصٌ صريح في تحريم بيع الوقف، وأن الوقف مؤبّد لا يجوز لأحدٍ أن يبيعه بعد صدور الوقفية، لكن إذا وُجدت الحاجة والضرورة فهذه مسألة مستثناه، ولا تعارض هذا الأصل.
ولذلك كالميتة فإنها محرمة، لكن إذا وُجدت الضرورة حلّت، وإباحتها وحِلها عند الضرورة لا يقتضي أنها مباحة في الأصل.
فقوله: (لا يباع) أي: لا يجوز بيعه، فلا يجوز بيع الأوقاف بإجماع العلماء رحمهم الله كما جاء في الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غير أنه لا يباع)، وفي رواية: (ولا يبتاع)، أي لا تبيعه ولا تشتريه، إلا إذا قضى القاضي بجواز بيعه.
وما دمنا أننا قد عرفنا أن الأثر قد دل على أن الوقف لا يُباع، فما هو الدليل من جهة النظر ومن جهة الأصول؟ والجواب أن الوقف إذا حكمنا بصحته، فإنه تخلو يد الواقف عنه، أي: تزول ملكية الواقف له، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غير أنه لا يباع ولا ويوهب ولا يورث)، فجعل تصرفات المالك لاغية، فمعناه أنه لا يملك الوقف، وهذا مجمع عليه.
فإذا اثبت أن ملكية الواقف قد زالت عن الوقف؛ فالبيع يشترط فيه الملكية، ولا يمكن أن يبيع شيئاً لا يملكه، وأنت قد استدللت بالسنة على أن الواقف قد خلت يده من الملكية وعريت، وإذا كان الأمر كذلك؛ فإنه لا يصح أن يبيع الوقف، لكن يبيعه القاضي، وهذا الذي جعل العلماء دائماً يقولون: إن الأوقاف لا يصح بيعها إلا بقضاء القاضي؛ لأنها ليست مملكة لشخص بعينه بحيث يكون هو الذي يملك، فالواقف قد أخرجها عن ملكيته.
ولذلك يقولون: تخرج الملكية مؤبداً، أي: تخرج خروجاً مؤبداً، فلا يملك أن ترجع إليه بعد فترة، ولذلك ذكرنا أن من قال: أوقفت داري هذه سنة، أنه لا يصح؛ لأنه سيعيد ملكيتها إليه، والوقف يُخلي اليد عن الملكية ويعريها، فالسنة قاضية بهذا، فإذا أُثبت أن السنة أخلت يد الواقف عن ملكية الوقف، فإنه لا يصح أن يبيعه؛ لأن شرط صحة البيع أن يملك البائع التصرف في البيع بملك أو ولاية.
والسنة دلت على أن الواقف لا يملك، فصار بيع الوقف من الواقف دون وجه شرعي بيعاً باطلاً؛ لأنه بيعٌ لما لا يملكه، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم بن حزام في السنن: (لا تبع ما ليس عندك).
وعلى هذا قالوا: لا بد من أن يقضي القاضي؛ لأن القاضي جُعل في الشرع للنظر في الحقوق والأموال التي لا يُعرف مالكها، فهو يتصرف بولاية عامة؛ لأن ولي الأمر فوض له النظر في مثل ذلك، فإذا كان وقفاً لا مالك له، فإنه حينئذٍ يقضي بجواز بيعه بعد أن تتوفر الأسباب الداعية للحكم ببيعه.
وقد قال المصنف رحمه الله: [ ولا يجوز بيعه إلا أن تتعطل منافعه]
(إلا) استثناء، والاستثناء: إخراجٌ لبعض ما يتناوله اللفظ، فإذا كان الوقف لا يجوز بيعه؛ فهناك أحوالٌ مستثناة يجوز فيها بيع الوقف، فقال رحمه الله: (إلا أن تتعطل منافعه) أي: يجوز بيع الوقف بشرط أن تتعطل المنافع، والمنافع: جمع منفعة، ومنافع الوقف مثل: السكنى فيه، ومثل: الثمرة من البستان.
فتتعطل منفعة السكنى بأن تتهدم العمارة، وتتهدم الغرف الموقوفة للسكن بحيث تصبح غير صالحة للسكن ولا يمكن سكناها، أو تتعطل منافعها بأن يغرق المكان، ولا يمكن لأحد أن يسكن فيه، فحينئذٍ تعطلت المنافع، ولا يمكن أن ينتفع الموقوف عليه بهذا الوقف.
وتتعطل منافع المزرعة بأن ينضب الماء، أي: يكون فيها ماء ثم تجف عيونها أو آبارها، أو تنقطع الموارد التي تغذيها بالماء، فيموت النخل، فحينئذٍ تعطلت منفعة البستان.
فإذا تعطلت منافع الوقف دون أن يكون هناك تقصير أو تفريط من قبل الناظر، فالناظر للوقف مسئولٌ أمام الله عز وجل عن رعاية مصالح الوقف والنظر فيه، وكل هذا أمانة في عنقه يُحاسب عنها بين يدي الله عز وجل.
فالواجب عليه أن يبذل كل الأسباب لبقاء الوقف، وأن ينصح للوقف، وتكون نصيحته للواقف، خاصة إذا سبّله على وجوه الخير، وكان ميّتاً ينتظر الأجر والثواب، وينصح للموقوف عليهم كالفقراء والضعفاء والأيتام والأرامل والمحتاجين، وبالأخص إذا كانوا قرابة فإنهم أحوج إلى حصول هذه المنافع من الوقف.
فإذا تعطّلت المنافع دون تفريطٍ منه؛ اشتكى إلى القاضي، ورفع الأمر إليه أن هذا الوقف قد تعطلت منافعه، ويُخرج القاضي أناساً من أهل الخبرة، وذوي النظر للتأكد من صحة دعوى الناظر.
فإذا ثبت أن الوقف قد تعطلت منافعه، فيَنظُر: هل بالإمكان أن يتنازل عن جزء من هذا الوقف في مكان، بحيث يبيع قطعة منه ويُبقي الباقي وقفاً ويصلح به الباقي؛ فحينئذٍ يفعل، لأن بيع الجزء مقدمٌ على بيع الكل، وبيع الأقل مقدم على بيع الأكثر.
فالأصل عدم جواز بيع الوقف، فإذا أمكن أن يُبقي الوقف في مكان، كأن تجف عيون البستان، ولكن يقول أهل الخبرة: إن هذه الجهة غزيرة بالمياه، وهي غير الجهة التي كانت فيها آبار الوقف الأولى، وتحتاج إلى حفر آبار، والوقف معطلة منافعه، فيحتاج أن يبيع قطعة من الوقف من أجل أن يحفر بثمنها آباراً، ويغذِّي بها ما بقي من البستان، فيفعل ذلك، ولا يجوز أن يحكم مباشرة بالبيع؛ لأن ما جاز للضرورة والحاجة يُقدّر بقدرها.
فإذا أردنا أن نبيع الوقف ننظر: هل المصالح التي نريد تحقيقها وعَود الوقف ذا منفعة تتحقق ببيع الكل أو ببيع الجزء، فإن كان ببيع الجزء وجب على القاضي أن يحكم ببيع الجزء الذي تتحقق به المصلحة، وتندرئ به المفسدة، ولا يقضي القاضي ولا يفتي المفتي بجواز بيع الكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن بيعه فقال: (لا يباع)، فإذاً لا نبيع إلا إذا وجدت الحاجة، فلما كانت الحاجة يمكن تحقيقها ببيع الجزء لم نستبح بيع باقيه؛ لأنه باق على الأصل الموجب للتحريم.
وهذا أمر في الحقيقة مهم جداً، ولا يتساهل في كل دعوى من الناظر أنه يباع الوقف.
المسألة الثانية: إذا ادعى الناظر أنه يريد بيع الوقف؛ لأن المنفعة قليلة في هذا المكان، كثيرة في مكان آخر، فإذا كانت دعواه على هذا الوجه فإنه لا تُلبى حاجته، ولا يُجاب إلى طلبه ما دام الوقف له منفعة، ولو كانت المنفعة قليلة في زمان، فقد يأتي زمان تستعيد فيه هذه الأرض الموقوفة قيمتها ومنفعتها، فلا يجوز أن تباع؛ لأنه لو فُتح هذا الباب لتلاعب الناس في الأوقاف في كل زمان.
من أمثلة ذلك: لو قلنا إن قلة المنفعة مثلاً كانت عمائر تؤجر بمليون فأصبحت تؤجر بمائة ألف، لكن المائة ألف يمكن تحقيق الصدقات بها، وتطبيق الأمور التي اشترطها الواقف وذكرها، فنزلت المصلحة إلى العُشر، وما دام الوقف باقياً، ونزل إلى العشر فإنا نبقيه على حاله، ولا نفتي بجواز بيعه، ولا يقضي القاضي بجواز بيعه لغيره؛ لأنه لو فُتح هذا الباب؛ فيمكن أن يأتي شخص ويقول: إني ناظر على وقف فلان، أو مزرعة فلان، والتمر لا يأكله الناس اليوم، فأُريد -مثلاً- أن أُغير هذا الوقف بوقفٍ آخر لأن المنفعة أكثر؛ فليس للناظر أن يتدخل في مثل هذه المسائل، وليس لأحد أن يغير الوقف.
فإنه قد تكون المزرعة في زمان ليست فيها تلك المنفعة العظيمة، ولكنها في أغلب الأزمنة ذات منفعة، فلا يجوز العبث في الأوقاف ببيعها إلا عند الضرورة الحقيقية، ولا يجارى فيها بأهواء الناس، ولا بدعواهم، بل الواجب أن يُقتصر في هذه المسألة على الضرورة وعلى الحاجة، وأن يتحقق القاضي أن مصالح الوقف قد تعطلت، وأن هذا التعطُّل لا دخل للناظر فيه.
فإن كان له دخل بأن تلاعب في الوقف فعطل منافعه، أو فعل أشياء أو أضر بأشياء من أجل أن يدّعي أن الوقف قد تعطلت منافعه؛ فإنه يغرم ويلزمه ضمانها، ويعاد الوقف إلى حالته التي كان عليها، لأن يده على هذه الحال يد جناية.
فالمقصود أنه لا يحكم ولا يفتى ولا يقضى بجواز بيع الأوقاف إلا عند الضرورة والحاجة على التفصيل الذي ذكرناه.
قال المصنف رحمه الله: [ويصرف ثمنه في مثله]
أي: إذا حُكِم بجواز بيعه، وقد عرفنا أنه لا يجوز بيع الوقف إلا عند الضرورة والحاجة، والضرورة والحاجة تكون عند أن تتعطل منافعه، فإن تعطلت منافعه، وحكم القاضي ببيعه وبِيع؛ فإنه يصرف إلى مثله، فإن كانت مزرعة وجب على القاضي أن يشتري بثمنها مزرعة مثلها، وإذا كانت عمارةً أُوقفت رباطاً للسكن ونحو ذلك، فإنه حينئذ يحكم القاضي بالانتقال إلى سكن يماثل السكن الذي يتحقق به شرط الواقف، مثل الوقف الأول الذي حُكم بجواز بيعه.
قال المصنف رحمه الله: [ولو أنه مسجد وآلته وما فضل عن حالته، جاز صرفه إلى مسجد آخر والصدقة به على فقراء المسلمين]
قوله رحمه الله: [ولو أنه مسجد]
أي: ولو كان الوقف مسجداً. والمساجد أمرها عظيم، بل كل الأوقاف، بل ينبغي للمسلم وطالب العلم والعالم والمفتي والقاضي والناس جميعاً أن يتصوروا أن الواقف لم يوقف ولم يتخل عن ماله غالباً إلا وهو يرجو الثواب من الله سبحانه وتعالى، وكثيراً ما تكون الأوقاف من أموات هم أَحوج ما يكونون إلى الحسنة وإلى الثواب.
وكان بعض العلماء حينما يذكر العقوق بعد الموت، يقول: من العقوق بعد الموت تعطيل أوقاف الوالدين والتلاعب أو التقصير أو الإهمال فيها، والناظر قد يكون رجلاً صالحاً، ولكنه مهمل، يُهمل النظر في وقف والده الذي أوقفه على الضعفاء أو الفقراء، فالمسلم إذا تصدق بماله وقفاً؛ فالغالب أنه يرجو الثواب، وأنه يريد الأجر عند الله سبحانه وتعالى.
فالمساجد.. الحرص على الأجر فيها أكبر، ومن هنا لا يجوز أن يُضيَّق على الواقف في استحقاقه لهذا الأجر وطلبه له، ويتمثل ذلك في أمور: أولها أنه إذا بنى مسجداً ينبغي المحافظة على هذا المسجد وبقائه على حاله، خاصة إذا أمكن أن يصلي فيه المصلي وأن تتحقق المصلحة المطلوبة من بنائه.
والمسجد إن كان قوياً متماسكاً فلا يجوز لأحد أن يهدمه، ولا أن يفتي بتغييره حتى ولو وجد متبرع، إذا وجد المتبرع يصرف إلى مسجد آخر أحوج، وإلى مسجد لم يبن، كان العلماء رحمهم الله تحدث بينهم خلافات ونزاع، بل أعرف رسائل أُلِّفت واطلعت على بعضها تتكلم عن سقف مسجد هل يُبدل أو لا يُبدل، لوجود مضرة معينة في السقف.. فهل هذه المضرة ترخص تغيير السقف أو لا ترخص؟ حتى إن الذي أفتى بجواز كشف هذا السقف يُقيِّد أنه لا يجوز أن يُباع شيء من هذا الخشب، ولا أن يُتصرف فيه بالمناقلة إلا عند الضرورة والحاجة خوفاً من الله سبحانه وتعالى ومراقبة لله عز وجل.
فتجد المسجد مبنياً ولكن يقولون: مسجد قديم، وقد يكون مبنياً بناءً مسلحاً لكن يريدون أن يكون مبنياً بشكل فخم، وأن يكون مفروشاً بالفراش الوثير، وأن يكون وأن يكون، فيُهجم على حسنة الميت، وعلى حقه، ويهدم هذا المسجد ويبنى غيره.
فالمساجد أمرها عظيم، ولا يمكن لأحد أن يفتي بهدم مسجد، ولا يمكن لأحد أن يستحل هدم المسجد إلا بفتوى وقضاء شرعي، ولا يملك كل أحد أن يهدم، لأنها أُوقِفت وسُبِّلت، وخاصة إذا كان الذي أوقفها وبناها ميتاً.
ومن هنا حرم الشرع بناء مسجد جوار مسجد، وهو مسجد الضرار، وأفتى بعض العلماء أن الصلاة لا تصح في المسجد الثاني الذي يُضيَّق به على المسجد الأول، وإذا أردنا أن نبني مسجداً كبيراً للجمعة وتضرر الناس يوم الجمعة فإن أمكن توسيع هذا المسجد بهدم جداره الأخير والزيادة فيه من آخره فلا بأس، ويمنع هدمه كله وبناؤه من جديد.
كل هذا تعظيماً لحدود الله ومحارمه، ولذلك وصف الله عز وجل تهديم المساجد بأنه من أعظم ما يكون انتهاكاً لحرمته، فلا يجوز لأحد أن يُقْدِم على تغيير مسجد أو هدمه أو التصرف فيه إلا بنظر شرعي صحيح من فتوى أو قضاء، ولا يجوز للمفتي ولا للقاضي أن يُفتي أو يقضي إلا إذا وجدت الأسباب والضوابط الشرعية المعتبَرة للحكم بمثل هذا.
فإذاً: المسجد لا يُهدم ولا يُتصرف في شيء من أوقافه إلا في حدود الضرورة والحاجة بحكم القاضي أو من له الأمر والنظر في هذا المسجد.
وإذا كان المسجد ضيقاً يُوسّع، ثم إذا وُسِّع فلا يُهدم أولاً ثم يُوسَّع، بل من الممكن أن يُوسَّع بإضافة بناء لاحقٍ له، فالمساجد ليست محلاً للمفاخرة والمباهاة، بحيث لا بد أن تكون على الصورة الفلانية، أو الشكل الفلاني، بل إذا أُوقفت فيجب أن تبقى على بنائها القديم حسنة للميت، وثواباً للميت؛ لأنه حتى الرمل الذي وضعه، والمال الذي أنفقه على هذا الشيء الذي شيده يثاب عليه مدة بقائه.
وهذا أجر عظيم لا يرضى أن يُضيع عليه هذا الأجر، فلو كان ميتاً فإنه لا يرضى أن يأتي من يهدم مسجده، والحسنة جارية عليه من هذا المسجد.
فإذاً لا يُهدم، وإذا احتيج إلى توسعته يُفتى بقدر الضرورة والحاجة، مع الخوف من الله ومراقبة الله سبحانه وتعالى، والنظر الصحيح الذي ينبني على المصلحة.
ثم إذا احتيج إلى هدمه بالكلية فهذه مسألة، وإذا احتيج إلى بيعه مسألة أخرى، فإذا تعطل المسجد بأن تهدم ولم يمكن تجديد سقفه، فإن تهدم سقفُه وجدرانه مشيدة؛ فلا يجوز هدم جدرانه، وإن تهدم سقفه وأعمدته قائمة؛ لا يجوز هدم عموده؛ لأن هذا كله من الإفساد وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، وهذا من الإسراف، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة المباهاة بالمساجد، فتجد أهل الحي يرغبون أن يُجدد المسجد، وكأنهم ينافسون، وهذا حدث بسبب التساهل في الفتوى في هدم المسجد.
فلا يجوز التلاعب بحقوق الناس في أوقافهم، وبالأخص في المساجد، بل ينبغي أن يُقيد ذلك كما ذكرنا بالضرورة، فإن كان الضرر من سقفه، يغير السقف، إن كان تغيير السقف مع بقاء الأعمدة القديمة، فإنها تبقى وتُجدد ولا يُناقل بها، ولا يعوّض عنها؛ لأنها موقوفة مسبّلة على هذا المسجد، ليس ثم وجهٌ صحيح يجيز بيعها.
فإذاً لا يهدم سقفه ولا يهدم شيء منه فضلاً عن هدمه كله، إلا عند الضرورة والحاجة، فإن انهدم كله وتعطلت منفعة الصلاة فيه بالكلية واحتيج إلى بنائه؛ فإنه يُبنى على أرضه كاملة، ولا يجوز أن يُنتقص من هذه الأرض شيء لأنها موقوفة كلها مسجداً للصلاة فيه، فلا يجوز أن يُغيَّر فيه، ولا أن يبدل فيه؛ لأن الوقف للمسجد تام على الأرض كاملة، فينبغي أن تبقى وقفاً كاملة دون أن يؤخذ منها أَي شيء.
أما الإضافة إليها فهذا شيء آخر، أما أن يؤخذ منها فلا؛ لأن الميت حينما أوقف أوقف كامل هذه القطعة، وليس هناك قضاء شرعي، ولا نظر شرعي يُسوِّغ لأحد أن ينتقص من هذه القطعة شيئاً.
وهذه أمانة ومسئولية، والناظر إذا هدم المسجد فالواجب عليه أن يستكمل جميع قطعة المسجد وقفاً مسبَّلاً كما شاء واختار صاحب المسجد، ثم إذا بُنِيت وأعيدت فلا إشكال؛ لأن الأرض الموقوفة باقية كما هي، ولو أراد الزيادة فلا بأس، لكن لو كان المسجد في مكان واحتيج إلى بيع، فالسؤال: هل تحدث حاجة لبيع المسجد؟
الجواب: نعم، يمكن أن يقع هذا كما ذكره بعضٌ من أهل العلم رحمة الله عليهم، ومن أمثلته أن يكون المسجد في مكان، ويكون في هذا المكان أناس يرتحلون عنه، وهذا موجود حتى في زماننا، تكون هناك شركات تعمل في مكان، ثم فجأة تتغير أحوالها، وتصبح هذه الأمكنة مهجورة، وليس فيها من أحد، ولا يأتيها أحد، وفيها أرض موقوفة، فيرفع الناظر إلى القاضي، فيفتي القاضي ببيع هذه الأرض التي للمسجد، فتُباع، وإذا بيعت يُبحث عن مسجد يماثل هذا المسجد ويبنى، وتكون الأرض وقفاً لهذا المسجد.
وبعض العلماء يفصِّل، ويقول: حتى عند بيع الأرض، ينبغي أن تكون القيمة بكاملها للمسجد، فإذا بيعت الأرض الموقوفة مثلاً بخمسمائة ألف فيجب أن يبني مسجد بخمسمائة ألف.
وبعض العلماء يقول: إذا بِيع المسجد المعطل نظر: فإن كانت القيمة للبناء والأرض فتقسم للأرض الجديدة ما بين الأرض والبناء، لأن الوقفية موزعة عليهما، وإن كان المسجد قد تهدم فالوقفية للأرض، فيجوز أن نأخذ من الغير تبرعاً للبناء، فلا بأس بالمزاحمة.
فائدة الخلاف: لو كان لقريب لي مسجد، ورفع إلى القاضي بأن هذا المسجد تهدم، فحكم القاضي بجواز بيع أرضه، فالذي بيع هو الأرض فقط، بِيعت بنصف مليون مثلاً، فأردت أن أبني المسجد، فجاء شخص وقال: بدل أن تشتري أرضاً بمائتين وخمسين، وتبني بالمائتين وخمسين، اشتر أرضاً بالخمسمائة، وأنا أبني هذه الأرض مسجداً، قالوا: يجوز لأن الأصل هو الأرض، وسعة الأرض أعظم ثواباً للميت، وأعظم مصلحة ونصيحة له، ففي هذه الحالة تُشترى الأرض، ويُفضّل أن يوجد من يبنيها، ويكون الأجر للاثنين، لصاحب الأرض، ولصاحب البناء.
ثم إذا نظرنا إلى وقفية المسجد، فالمال الذي يُؤخذ من الأرض المباعة لا إشكال أنه يُشترى به ويبنى، لكن هنا مسألة وهي التي أشار إليها المصنف في مسألة أجزاء المسجد، حينما تُباع أرض الوقف فلا تباع عند انهدام المسجد بيعاً مجرّداً عن الأرض إذا وُجدت أنقاضٌ موقوفة على المسجد يمكن بيعها واستغلالها.
فمثلاً: لو كان المسجد قد تهدم، ولكن هناك أعمدة وهناك مواد خام موجودة في الهدم يمكن استخراجها وبيعها، فتباع الأرض على حدة، وتباع هذه المواد على حدة، ولا يُباع هكذا؛ لأن هذا يضيع حقوق الوقف، فإذا أفتي بجواز بيع الوقف لتعطُّل مصالحه؛ فينبغي أن يُنظر في جميع المال الموقوف، الأرض وما عليها، ولو كان البناء مهدماً ما دام أن هناك شيئاً يمكن بيعه واستغلال ثمنه في المسجد الجديد، أو البناء المعوَّض عن الوقف الأصلي.
بقي السؤال في مسألة التبرع لبناء المسجد: فالمال الذي يُدفع لبناء المسجد، إذا تبرع شخص فقال: هذا نصف مليون لبناء هذا المسجد، فبُنِي المسجد بأربعمائة ألف، أو بني المسجد وأُنفق عليه وكمُل تجهيزه بنصف المبلغ، فما حكم النصف الباقي؟
الحكم عند طائفة من العلماء رحمهم الله أنه يصرف إلى مثله، السؤال: كلمة (إلى مثله).
إذا كان المال مدفوعاً للبناء؛ يُبحث عن بناء مسجد، وإذا كان المال الزائد للتجهيز يُصرف في تجهيز المسجد بأن ينظر مسجد آخر محتاج إلى تجهيز، مثلاً: لو قال: هذا مليون لبناء مسجد، الخمسمائة ألف لبنائه وتشييده، والخمسمائة الباقية يصرف نصفها مثلاً لفراشه وإنارته وإضاءته .. إلخ، والنصف مثلاً للمكيفات، فالذي زاد كائن من النصف الذي يتعلق بالثلاجات والمكيفات التي وضعت لمصلحة الرفق بالمصلين، وما دام أن المتصدق جزأ نفقته على مثل هذا الوجه، فيُؤخذ هذا القدر الزائد، ويُصرف في مثله في مسجد آخر، فلا يُصرف في مسجدٍ آخر في بنائه؛ لأن مصلحة هذا المال الموقوف محبوسة وموقوفة على شيء معين فيُصرف إلى مثله من جنس المساجد.
وبناءً على ذلك، المناقلة يُشترط فيها المثلية، سواءً كانت مناقلة تامة كالانتقال من مسجد إلى مسجد، أو مناقلة غير تامة، وهي التي تكون في بعض أجزاء المسجد، فيتصرف الناظر في المال على هذا التفصيل، ويعطي كل جهة من المسجد، أو كل مصلحة من مصالح المسجد حقها تاماً كاملاً.
وقوله: (ولو أنه مسجد): لو إشارة إلى خلافٍ مذهبي.
ومما تتعطل مصالحه أيضاً الكتب، قد يوقف الميت مكتبة على طلاب العلم، وهذه المكتبة تعطّلت مصالحها، فيجوز أن تُباع، وإذا أمكن نقلها إلى موضع لا تتعطل فيه مصالحها، فإنها تنقل ما لم تكن مقيدة بموضع معين.
أما إذا تعطلت بعض مصالحها، وأمكن أن يُتصرف في المكتبة على وجه تعود به منفعة هذه الكتب لطلاب العلم، فالواجب على الناظر أن يفعل ذلك على التفصيل الذي ذكرناه في المسجد، فجميع الأوقاف التي تذكر سواءً كانت كتب علم، أو كانت مزارع، أو كانت دوراً -أربطة لسكن طلاب العلم- أو سكناً للأيتام، أو الأرامل، فإنه يفصل فيها بنفس التفصيل.
قال المصنف رحمه الله: [وآلته]
أي: آلة المسجد، ومصالح المسجد، وأيضاً الفراش الذي يفرش للمساجد، فإن أُوقف على مسجد فراشاً فلا يجوز أن يُخرج منه، إلا إذا تعطلت مصلحة هذا الفراش بحيث لا يمكن أن يُجلس عليه، وإذا تعفّن الفراش وأمكن غسله فإنه يُغسل ثم يُعاد للمسجد، فلا يُتساهل في مثل هذه الأمور.
ومن آلات المسجد: أجهزة التبريد وأجهزة الإضاءة، والصناديق التي تحفظ فيها كتب العلم أو المصاحف، والمصاحف نفسها لا يجوز إخراجها من المسجد إذا أُوقفت على مسجدٍ معين، ولا يجوز استبدالها بمصاحف أُخَر.
يأتي بعضهم بمصاحف جديدة فيأخذ الناس المصاحف القديمة أو يأخذ القيّم عن المسجد المصاحف المقطعة القديمة، ويأتي بهذه؛ لأن شكلها أجمل وأفضل، فيُسأل بين يدي الله عز وجل ويُحاسب أمام الله سبحانه وتعالى عن هذه الحسنات التي أَضاعها عن ميِّت سبّل -وهو أَحق- وسبق إلى ما لم يُسبق إليه، فبأي حق يُحال بينه وبين هذا الأجر.
فلا يجوز هذا ولا يجوز التساهل في مثل هذا، فالناس بسبب الجهل بهذه الأصول ضيّعوا كثيراً من هذه الحقوق، والواجب على طلاب العلم أن يعلموهم ويوجهوهم أن آلات المساجد، والكتب الموقوفة على المساجد، ونحوها مما يقصد منه الأجر والثواب، لا يجوز التصرف فيها إلا على وجه شرعي معتبر.
قال المصنف رحمه الله: [وما فضل عن حاجة المسجد]
ما فَضُل: يعني ما زاد، فما زاد عن حاجة المسجد فيه تفصيل، قد تكون الزيادة عن حاجة المسجد مؤقتة، مثلاً مسجد يُصلى فيه في يوم الجمعة، أُوقِفت عليه عشر مدّات من الفراش؛ لأنه في يوم الجمعة يزدحم الناس في خارج المسجد فتُفرش هذه المدّات، لكنها وقف على المسجد، فاضلة عن المسجد في أغلب الأيام، والمسجد يحتاجها في بعض الأيام، ويحتاجها في بعض المناسبات مثل الأعياد ونحوها، فهذه تترك كما هي، ما دام أنه أوقفها وقصد بها هذا المكان، فهي محبّسة مسبّلة، ينتفع بها عند ازدحام الناس.
فلا يأتي أحد إلى مسجد فيجد فيه صفّاً أو صفين، وينظر إلى أن الكراسي والمصاحف كثيرة في هذا المسجد فيأخذها إلى مسجد آخر، فهذا لا يجوز؛ لأن فضل الحاجة إذا كان مؤقتاً بوقت لا يجوز صرف هذا الوقف عنه، إنما المراد الفضل التام الذي يستغني المسجد فيه عن هذا الشيء استغناءً كاملاً، مثل: أن يكون المسجد طاقته مثلاً خمسة مكيفات، وعندنا عشرة مكيفات، فهذا استغناء تام لأن الخمسة الزائدة لا يُحتاج إليها، فحينئذ تُصرف إلى مسجد آخر.
مثلاً جاء شخص وقال: هذه عشرة مكيفات تأخذونها إلى مسجدكم وقفاً مني عليه.
ولما بُنِي المسجد وجدنا أنه يحتاج إلى ستة مكيفات، وفعلاً الأربعة مكيفات زائدة زيادة تامة كاملة، فحينئذ تُصرف إلى غيره.
قال المصنف رحمه الله: [جاز صرفه إلى مسجد آخر]
جاز صرف هذا الفضل الزائد إلى مسجد آخر، فهذه المناقلة، يناقل إلى المثل من مسجد آخر، حتى كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يتشدد في الفتوى في هذا، وكل هذا والله ليس بالتشدد؛ لأن المتشدد إذا كان على أصل شرعي ضيّق الشرع أَمره لم يُذم في تشدده؛ لأن تشدد الشرع رحمة.
ولذلك انظر إليه يتشدد ويقول: لا تُخرج هذا من المسجد، فهو يرحم الميت، ويرحم المُوقِف الذي أَوقف، فيراه الشخص في الظاهر متشدداً لكنه في الحقيقة راحم رحمة فيها خير كثير، ثم يرحم المساجد نفسها أن يُتلاعب بها، والناس إذا صدرت لهم هذه الفتاوى التي تلزمهم بالضرورة والحاجة يشعرون بهيبة المسجد، يشعرون بهيبة الأوقاف، ويشعرون بحرمتها، ويشعرون أنها ليست أموراً نهباً لكل أحد، أو محلاً لاجتهاد كل أحد.
فهذا أبلغ في تعظيم حدود الله، وتعظيم شعائر الله، وأبلغ في تقوى الله عز وجل، والله عز وجل يقول: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، ولذلك تجد كل من يضيق في مسائل الأوقاف ويعطيها حقها من التحرير والتثبت، تجد لفتواه من القبول والعمل ما لا تجد للمتهتك المتساهل في مثل هذا، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المصنف رحمه الله: [والصدقة به على فقراء المسلمين]
وكذلك الصدقة به على فقراء المسلمين، هذه مسائل ممكن أن يُصرف الوقف فيها إلى مصالح المسلمين مثلما ذكرنا فيما لو أوقف وقفاً باطلاً على جهة باطلة، مثل أن يُوقف على بدعة من البدع، فبعض العلماء يقول: قد خرج الشيء عن ملكيته بالوقف، ونبحث عن وجه من أوجه الصدقات، فنصرف هذا المال وهذه المنفعة إليه، مثال ذلك: لو أنه أوقف عمارة وخصّها بمذهب من المذاهب الفاسدة الهدامة، مثل مذاهب البدع، أو على طائفة من طوائف البدع، فحينئذٍ يقضي القاضي بأنها تُصرف لطلاب العلم؛ لأن الذي أوقف قصد جهة من جهات الخير يراد من ورائها الأجر، فأخطأ الجهة، فيُصرف إلى جهة أحق، فيَحصل مقصود الواقف، فحينئذ يبقى الوقف على ما هو عليه، وإعمال العقود أولى من إهمالها.
ولذلك يصرف إلى أشبه الأشياء كما ذكرنا في المناقلة.
الصفات الواجب توفرها في ناظر الوقف
الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
صفات الناظر تنقسم إلى قسمين، القسم الأول: أن يحدد الواقف صفات معينة، فيجب التقيّد بها على شرط الواقف، قال مثلاً: وأشترط أن يكون الناظر من ذريتي، وأن يكون أَرشد الذرية، أو يكون أفقههم، أو يكون أحفظهم لكتاب الله، أو أعلمهم بالسنة، فإذا اشترط فيه شروطاً، فنتقيّد بهذه الشروط، ويُلزم من يلي هذا الوقف -القاضي وغيره- أن يبحث عمن تتوفر فيه هذه الصفات، فهي صفات مقيدة من الواقف نفسه.
فإذاً: هذه الصفات يُزاد فيها وينقص منها على حسب اشتراط الواقف، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أوقف جعل النظارة لبنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها من بعده، فولي نظارة وقفه -بستانه بخيبر- في حياته، ثم صرف الوقفية من بعده إلى بنته، فهذا الصرف لم يشترط فيه ذكورة لأنها أنثى، وقيدها من بعده -لما صرف النظار من بعده إلى بنته- بشخصٍ معين، فيجب التقيُّد، وهذا عمل من أعمال السلف، وسنة راشدة من فعل عمر رضي الله عنه، وأخذ العلماء منها دليلاً على أن الواقف إذا اشترط شروطاً في الناظر يجب العمل بها، ولا تسلم النظارة إلا لمن توفرت فيه هذه الشروط.
أما إذا أطلق وقال: أوقفت هذه الدار للمساكين والفقراء، ولم يتكلم عن الناظر بأنه من ذريته أو من غيره، فحينئذ فالأصل حينئذ أن تكون النظارة للموقوف عليهم، وقد بيّنا أن نظارة الأوقاف للأشخاص الموقوف عليهم ما لم يكونوا جهات لا يمكن حصرها بحيث يتولون النظارة على الوقف.
ففي هذه الحالة إذا اشتجروا ونظر القاضي أن يكون الوقف عند بعضهم دون البعض، فيمكن أن يقيدها القاضي ببعضهم دون بعض، وتعتبر مسائل تعيين الناظر في الأوقاف من مهمة القاضي، ولذلك ذكر العلماء رحمهم الله في كتاب أدب القضاء أن القاضي إذا عُين في مكان فأول ما يبحث في الأوقاف، وينظر في النُّظَّار الذين عُيِّنوا.. ومن الذي يستحق أن يبقى في نظارته؟ لأنه ربما كان مستحقاً في أيام القاضي الأول، لكنه لا يستحق في أيام القاضي الثاني، فتجد مثلاً في كتاب أدب القاضي للإمام الماوردي ، وكذلك أدب القاضي للصدر الشهيد الخصاف مع شرحه، أدب القاضي للسمناني ، ونحوها من كتب القضاء كتبصرة الحكام لـابن فرحون ذكروا أن مسألة نُظَّار الأوقاف راجعة إلى القاضي، والقاضي ينظر إلى الأصلح فالأصلح.
ولا شك أنه لا بد أن يكون عدلاً مأموناً في دينه بحيث لا يكون معروفاً بالخيانة، ولا يكون معروفاً بالكذب، يكون ممن عرف بأمانته وديانته بعيداً عن الشدة في الوقف؛ لأن البعض يكون شديداً معروفاً بالبخل، فهذا البخل يضر الضعفاء، ويضر الفقراء، ولربما إذا جاء يصرف أموال الوقف أجحف بهم، ولا يكون عنيفاً يسب الناس ويشتمهم، فإذا كان الوقف على أيتام وأرامل وضعفة ربما نفَّرهم من الوقف، ونفّرهم من الوصول إلى حقوقهم.
ولا يكون معروفاً بالمماطلة والتسويف؛ لأن هذا يُؤخِّر عن أهل الحقوق حقوقهم، ولا يكون ضعيفاً بحيث إذا جاءت مصالح الوقف لا يستطيع أن يدافع عن الوقف، ولا أن ينتزع حقوق الوقف فيما إذا اعتدي على الوقف.
ولذلك كان عمر رضي الله عنه يشتكي إلى الله ويقول: اللهم إني أشتكي إليك ضعف الأمين وقوة الخائن. يعني إذا ولّيت إنساناً أميناً يكون ضعيفاً ومتساهلاً مع الناس، فكان يبعثهم من أجل جبي الزكاة، فالأمين المحافظ إذا ذهب وجاء أحد يشتكي له أَخَّر وسوّف، فتعطلت مصالح بيت المال، لكن إذا عين الشديد الذي ينتزع الأمور، ويحافظ على أخذها كاملة قد يكون خائناً.
فقال: أشكو إلى الله ضعف الأمين وقوة الخائن. ما يكون قوي إلا عنده نوع من التلاعب، وهذه من حكم الله سبحانه وتعالى، فلا كمال إلا له سبحانه وتعالى.
فالشاهد من هذا أن تعيين النظار مما يوكل أمره إلى القاضي، فهو الذي ينظر إلى صلاحه في دينه، وصلاحه في أمانته، ولا يقف الأمر على قضية العدالة والأمانة؛ لأن الوقف قد يحتاج إلى قوة الشخصية، قد تجد شخصاً قوياً، والوقف في أوضاع يفتقر فيها إلى مثل هذا الشخص، أو قد تجد شخصاً عملياً والوقف متهدم يحتاج إلى من يبنيه ويشيده.
هذه الأمور كلها ترجع إلى دقة نظر القاضي وحكمته، وبُعد نظره وحسن تصرفه، ولا شك أن القاضي الناصح لا يزال له معه من الله معين وظهير يسدده بإذن الله، ويوفقه، ويعينه على حسن الاختيار في مثل هذا، والله تعالى أعلم.
مسافر نوى العشاء قصراً ودخل مع جماعة يصلون المغرب في الركعة الثانية
الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فجمهور العلماء رحمهم الله -إلا وجهاً شاذاً ضعيفاً عند بعض أصحاب الشافعي - أنه لا تصح المغرب وراء العشاء، ولا العشاء وراء المغرب؛ لأن صورة الصلاتين مختلفة فلو كانت المغرب وراء العشاء فسيتعطل عن متابعة الإمام في الركعة الرابعة.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، وقال: (فلا تختلفوا عليه)، وقد خالف الإمام وخالف النص وعارضه من هذا الوجه.
أما لو كان مصلياً للعشاء وراء المغرب فسيستحل الجلوس بعد الركعة الثالثة للتشهد الأخير للإمام، وهو يقصد صلاةً رباعية، فإما أن يجلس فحينئذٍ يضيف جلوساً كاملاً في موضع لم يأذن له الشرع أن يجلس فيه؛ لأن الثالثة والرابعة من العشاء لا جلوس بينهما، وإما أن يفارق الإمام فيحدث ما ذكرناه من أنه مفارق.
ولذلك جمهور العلماء من السلف والخلف على عدم صحة اقتداء المغرب بالعشاء والعشاء بالمغرب، وعلى هذا فالصلاة باطلة والاقتداء غير صحيح ويلزم بإعادة الصلاة، والله تعالى أعلم.
حكم قراءة المسبوق في الركعة الأخيرة للتشهد الأخير مع الدعاء
الجواب: في هذه المسألة وجهان مشهوران عند العلماء رحمهم الله:
بعض العلماء يقول: إذا صلى المسبوق وراء الإمام اعتد بنفسه لا بالإمام؛ لأنه صلاته مع الإمام هي الأولى، وفي مثل هذه الحالة لا يتابعه في الباطن دون الظاهر، كالتشهد الكامل في الركعة الأخيرة لا يتابعه فيه كاملاً؛ لأنه مخالفة في الأركان والواجبات وهو لم يجب عليه التشهد الأخير لأنه ليس في التشهد الأخير الذي هو ركن، والله أوجب عليه التشهد ركناً واحداً في الصلاة، ولم يوجب عليه أكثر من تشهد؛ لأنك لو قلت إنه يلزمه لصار عنده ركنان من التشهد الأخير، وهذا لا يقول به أحد من حيث الأصل؛ لأن الله فرض عليه ركناً واحداً من التشهد الأخير ولم يجعله عليه مكرراً.
فيُتابِع الإمام في الصورة، فإذا انتهى من التشهد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً عبده ورسوله، سكت وانتظر سلام الإمام واغتُفِر ما بينهما، كما لو طول الإمام في الثالثة والرابعة من الرباعية في غير الظهر التي ورد فيها النص بقراءة سورة الإخلاص فإنه يقتصر على السكوت؛ لأنه ليس ثم ذكر شرعي له في هذا الموضع.
ومن أمثلتها أيضاً: لو أنه صلى الجنازة، فصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وطول الإمام في الصلاة فإنه يبقى ساكتاً، فالسكوت أولى من الزيادة؛ لأنه إذا سكت عند التشهد التزم الأصل؛ لأنه تَشهُّدٌ قبل التشهد الذي فيه السلام، وكل تشهُّد قبل التشهد الذي فيه السلام لا دعاء فيه.
هذا أصل شرعي أن التشهد الذي يسبق تشهد السلام لا دعاء فيه، فيبقى على هذا الأصل الشرعي، ويبقى ساكتاً متابعةً للإمام فلا يحكي التشهد كاملاً، هذا وجه لبعض العلماء للأدلة التي ذكرنا وهو أقوى الوجهين.
هناك وجه ثان يقول: يُتَابِع الإمام في حال المتابعة ظاهراً وباطناً ويخالفه عند المفارقة.
بناءً على هذا القول يقول التشهد كاملاً ويدعو وكأنه يريد أن يسلم، فإذا سلم الإمام توجه عليه الخطاب حينئذٍ بالانفصال، فصارت صلاته منفصلة حينئذٍ، لا قبل ذلك، فيلزمونه بالمتابعة في هذا.
وهذا فيه إشكال؛ لأن الإلزام بالمتابعة بينه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا)، فذكر الأركان والواجبات، ولم يذكر ما زاد عن الركن والواجب من السنن ونحوها، فحينئذٍ لا يُتَابع فيه.
ولا بأس بسكوته، ولذلك لو قال: ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض.. وقال الدعاء المأثور وطوّل الإمام فإنه يبقى ساكتاً، هذا كله سكوت لعذر، ولا يؤثر فيه شيء، ولذلك إذا سكت لم يُضر؛ لأنه ليس بملزم بذكر، وإذا تكلم فإنه يحتمل أن يكون زائداً على الأصل، واتقاء الزيادة أولى من الوقوع فيها إذا شُك في شرعيتها؛ لأن الاحتياط بها أولى، والله تعالى أعلم.
حكم من توضأ ثم رأى نجاسة تحت أظفاره
الجواب: بالنسبة للذي تحت الأظفار فيه تفصيل، إذا كان الموضع موضعاً مما يُغسل كما لو كان الجرم كبيراً وأخذ جزءاً من الإصبع المأمور بغسله، فهذا لم يصح وضوءه؛ لأنه مطالب بإزالة ذلك مثلما يقع في العوازل، من يأخذ العوازل وأظافره طويلة، فإن العوازل يبقى لها قدر تحت الأظفار يغطي جزءاً من رأس الإصبع المأمور بغسله كاملاً.. هذا يُؤثر في الوضوء كله، فيجب إزالة العازل والإعادة من الموضع الذي فيه العازل بشرط تحقق الموالاة.
أما إذا كان الظفر وما تحته من نجاسة لا يمنع محلاً للفرض فإن الوضوء صحيح؛ لأنه قد غسل ومسح ما أمر الله بغسلِه ومسحِه، فحينئذٍ يزيل النجاسة ويغسل موضعها؛ لأنها ليست مؤثرة في وضوئه، والله تعالى أعلم.
كيفية الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي ...) وأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
الجواب: هذا الحديث يرويه أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وأبو هريرة أسلم في أواخر السنة السادسة عند فتح خيبر وقصة إسلامه مشهورة، وإِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا [الفتح:1]، كانت بعد ذلك بزمان، فمن حيث الآية والحديث لا إشكال فيهما؛ لأنه حتى ولو فرض أن الحديث بعد إخباره، فالعلماء ذكروا أن الأحاديث التي ورد فيها سؤال المغفرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد منها تعليم الأمة، وبعضهم يقول: تكون درجة زائدةً له، لأنه إذا استغفر المستغفر ربه وقد غفر الله له وليست عنده ذنوب بُدِّل بالاستغفار درجات.
فالاستغفار على كل حال مثاب عليه، فليس في هذا إشكال أبداً، سواء كان قبل المغفرة أو بعد المغفرة، فهذا ليس بمؤثر لأن قصد التعليم موجود، وزيادة الدرجة موجود، وأياً ما كان فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكمل الخلق خوفاً من الله والتجاءً إلى الله واعتصاماً بالله سبحانه وتعالى.
و لو وقع مثل ذلك بعد مغفرة الله له فإنه تعليم لكل عبد صالح أن لا يغتر بصلاحه، وأن يكون واثقاً بالله سبحانه وتعالى كثير الذلة لله جل جلاله.
فإذا كان أكرم الخلق على الله عز وجل يسأل المغفرة، ويختار لصديق الأمة لما سأله دعاءً يدعو به في صلاته دعاء المغفرة فكيف بنا؟
وذلك لأنه إذا غفر الله للعبد ذنبه كفاه شر الدنيا والآخرة، كل البلاء من الذنب وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، فالشرور كلها من الذنوب، ولذلك لما وقف عليه الصلاة والسلام في الصلاة في هذا الحديث قال: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي)؛ لأنه يستقبل أعظم المواقف، وأجلها، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وهو موقف الصلاة.
فعلم الأمة أن تدعو بهذا الدعاء؛ لأنه ربما وقف العبد في صلاته فحال بينه وبين الخشوع ذنب من الذنوب، وربما حال بينه وبين قبول صلاته ذنب من الذنوب، وربما حال بينه وبين ساعة الإجابة وساعة القبول للصلاة ذنب من الذنوب، فيسأل الله أن يباعد بينه وبين أسباب الخذلان، ويسأل الله أن يباعد بينه وبين أسباب الحرمان، ويسأل الله أن يباعد بينه وبين سبب الذلة والقلة والفاقة ودمار الدين والدنيا والآخرة وكل ذلك من الذنوب.
فالذنب شره عظيم، وبلاؤه عظيم، ولما سأل صديق الأمة النبي عليه الصلاة والسلام أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته قال: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً..) فإذا كان صديق الأمة يقول: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) فما بالنا ونحن أرباب الخطايا والذنوب، اللهم ارحمنا برحمتك.
والإنسان إذا نظر إلى مثل هذه الأحاديث وجدها تحتاج إلى تأمل ووقفات، ودعاء الاستفتاح دعاء عظيم، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاحه، حتى في خطبة الحاجة كان يقول: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)، فاستعاذ بالله من سبب الحرمان والخيبة والبلاء وهو الذنب.
ونعوذ بالله: أي نلتجئ ونعتصم بالله عز وجل الذي لا عصمة ولا التجاء إلا إليه سبحانه وتعالى.
من شرور أنفسنا: فالذنب كله شر وبلاء، فدعاؤه عليه الصلاة والسلام بمغفرة الذنب وسؤاله لله عز وجل تعليم للأمة، وكأنه ينبه على خطر الذنب وأنه ينبغي للأمة دائماً أن تكون في استغفار، ومن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ومن كل بلاء عافية.
وقل أن تجد إنساناً يُكثر من الاستغفار إلا وجدته في رحمة، وإن كمُل استغفاره كملت رحمة ربه له، فالمستغفر بلسانه ليس كالمستغفر بلسانه وقلبه، والمستغفر بلسانه وقلبه مستشعراً لعظمة ربه ليس كالذي يستشعر عظمة الله مع استشعاره لعظيم التفريط في جنب الله عز وجل، فيستغفر وهو يحس أنه مذنب، ويحس أنه ما كان له أن يعصي ربه، وأنه ينبغي أن ينيب إلى الله عز وجل من الذنوب والعصيان، ويسأل الله عز وجل العفو والمغفرة.
فهذه كلها حالات من وفق لصلاح دينه ودنياه وآخرته، فهذا الدعاء دعاء عظيم (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)، والمشرق والمغرب لن يجتمعا، ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم بهما المثل.
فهذا الحديث كما ذكرنا إما أن يكون تعليماً للأمة، أو يكون استغفاراً حقيقياً، أو يجمع بين الأمرين: بين كونه عليه الصلاة والسلام تكون له بذلك درجة الاستغفار، ويكون تعليماً لأمته صلوات الله وسلامه عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] | 3705 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] | 3620 استماع |
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق | 3441 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] | 3374 استماع |
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة | 3339 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] | 3320 استماع |
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] | 3273 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] | 3228 استماع |
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص | 3186 استماع |
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] | 3169 استماع |