ما بين يوليو ويناير
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
رغم أن ما يسمى بثورة يوليو لم يكن لها نفس العمق ولا الحراك الشعبي الذي حظيت به ثورة الخامس والعشرين من يناير إلا أننا للأسف نستطيع إلى حد كبير أن نقول: إن تأثير الأولى لم يزل أكبر بكثير من الثانية.
انقلاب يوليو (وهو المصطلح الذي استعمله بعض قادته في مذكراتهم) استطاع في مدة يسيرة جدًّا أن يستقطب إليه فئات الشعب الكادحة والتي تشكل القطاع الأكبر من الأمة وتمكَّن من استمالة الفقراء بدرجة كبيرة وخصوصًا في بداياتها.
لقد تمكن الانقلاب من الوصول إلى عمق شعبي بسرعة وبقرارات مؤثرة وملحوظة في حياة الأفراد جعلتهم فعلاً يصدقون أنها ثورة وينسون أو يتناسون أنها كانت في حقيقتها انقلابًا عسكريًّا وحسب، وبالطبع لم تتمكن ثورة يناير من المثل ولم تكتسب على المدى البعيد نفس العمق الشعبي، رغم أنها على المدى القصير كانت تملكه وبشكل واضح رغم كل التشويه الذي ناله من إعلام الرئيس الساقط في الثمانية عشر الأول.
لكن لكي لا تظلم ثورة يناير ولا من قامت على أكتافهم حين تقارن بحركة يوليو؛ ينبغي أن نبين أن هناك أسبابًا تنقض المقارنة من أصلها وكثير منها خارج عن إرادة الثورة والثوار الذين قاموا في يناير.
أهم تلك الأسباب في تقديري أن ثورة يوليو حكمت فعليًّا، أما ثورة يناير فظلت 18 شهرًا بعيدة عن سدة الحكم، ووكلت أو وكل بالحكم عسكر لم يقوموا بها حق القيام بل على العكس ربما قصدوا إضرارها، وهذا بلا شك فارق جوهري، ثورة لم تحكم؛ كيف يُطلب منها أن تؤثر في حياة المواطن اليومية وتغيرها للأفضل؟! أما من قاموا بانقلاب يوليو فقد تمكنوا بسرعة من السيطرة على مقاليد الحكم وبالتالي استطاعوا أن يتخذوا قرارات استمالت نحوهم جموع الجماهير.
اتخذ الضباط بعد يوليو قرارات لمست حياة الفلاح والعامل والموظف وحسنت في البداية وضعهم المادي والاجتماعي إلى حد ما، فتلقاها الشعب أو جزء كبير منه بالقبول والانحياز، أما في يناير فقد فعل الضباط العكس وليست النائحة الثكلى كالمستأجرة، وما حك جلدك مثل ظفرك كما يقولون, وبدلاً من أن يشعر البسطاء أن الثورة غيَّرت حياتهم للأفضل ماديًّا واجتماعيًّا حدث العكس، وأدت الأزمات المتتالية المصطنعة والمقصودة إلى شعور المواطن بالعكس, وبالطبع صارت الشماعة التي يعلق عليها كل شر وكل غلاء وفقر وكل انفلات ونقص هي ثورة يناير، فكرهها قطاع كبير ممن لا تعنيهم احتياجات الحرية وقدر ما يعنيهم الخبز.
أما الفارق الثاني والجوهري بين يوليو ويناير؛ فكان في الاستئناس الذي تمتعت به الثانية بينما افتقدته الأولى في التعامل مع الخصوم والأعداء، فبينما تعامل الضباط بعد يوليو بحسم شديد مع المخالف وليس فقط الخصم أو العدو، تعاملت يناير مع الخصم ببرود شديد أدى تدريجيًّا لاستفحال خطره واستحقت عن جدارة لقب "الثورة الأليفة أو المستأنسة".
لقد تركت ثورة يناير لأعدائها الحبل على الغارب بحجة الرقي والثورة البيضاء الطيبة حتى سيطر أعداؤها تدريجيًّا أو استعادوا السيطرة تقريبًا على أهم سلاح يجلدها......
الإعلام.
لقد تمكن أعداء الثورة نتيجة التسامح المفرط -الاضطراري في الحقيقة- من السيطرة على عقول قطاع عريض من الناس حتى كادت المصيبة أن تحدث ويصل ألد أعدائها إلى الحكم لولا أن الله سلَّم.
لا أقول بأنه كان المفترض أن تقام المشانق والمقاصل كما حدث في جل الثورات التي قامت في العالم ولكن ليس أقل من أن تعزل الثورة رؤوس الفساد الذي قامت ضده، ليس أقل من أن تستأصل الخلايا السرطانية من جسد الأمة وتبتعد عن أهم مفاصله ومنابع حيويته، وهكذا الثورات وإلا فلا.
لقد ظلت الثورة تتمايع طويلاً لدرجة التباطؤ في إصدار أبسط حقوقها وهو قانون العزل والذي لما صدر أخيرًا كان تأخره سببًا في أن أصبح "زي قلته" وأبطلت ثوريته ترهات دستورية من محكمة عُيِّن أفرادها تعيينًا خصم تلك الثورة القابع في سجنه, أما في يوليو فكان الاتهام بعداوة الثورة أسبق من التفاهم والنقاش وكان كفيلاً أن يذهب بذلك المتهم إلى مكان جديد لأول مرة يظهر على كوكب الأرض وهو مكان كان يسمى في ذلك الحين بما وراء الشمس حيث لا يعرف "الذباب الأزرق" له طريق جرة.
ورغم ما في ذلك من قمع واستبداد مرفوض، إلا أنه في إطار التحليل الذي نقوم به كان نقطة تفوق واضحة سهَّلت كثيرًا مهمة الضباط فيما بعد يوليو.
لقد تمكنت حركة يوليو من إزاحة كل صوت يخالفها وقمعته وشوَّهته ونسبته للرجعية والتخلف وفي نفس الوقت سخَّرت كل إنجاز يقع في الأمة لمصلحتها ونسبته لرجالها ورموزها، فكان الطبيعي أن يتعلق الشعب بها وبهم.
بينما أبقت ثورة يناير على ألد أعدائها يتحكمون في أدق مفاصل الدولة وأشدها حساسية وينعقون في الإعلام ناسبين كل فشل وكل فقر وأزمة لمن "وقَّفوا حال البلد" فكان أن حدثت تلك الكراهية أو الانعزال من قطاع كبير من الشعب عن تلك الثورة (الشعبية سابقًا).
ببساطة بدأت يناير ثورة شعبية وآلت إلى هوجة وحركة متهمة من الناس منعزلة تدريجيًّا داخل إطار نخبوي، بينما بدأت يوليو حركة وانقلابًا وآلت إلى تصديق من الشعب أنها ثورة، والفارق ببساطة فيمن حَكَم.
زد على ذلك نزق بعض الثوار وتنازعهم وتراشقهم وبأسهم الذي ظل طويلاً شديدًا بينهم، فظهروا بمظهر أغرى عدوهم ونفَّر محبهم.
لأجل كل ذلك أقول: فعلاً يوليو كانت أكثر تأثيرًا في المواطن المصري وما يشغل باله، بينما لم تزل يناير تبتعد عن هذا المواطن بعوامل أكثرها خارجة عنها.
لهذا أرى المقارنة للأسف ظالمة ولا تقبل إلا في حالة واحدة إن حكم الثوار فعلاً وتوغلوا في كل مفاصل الدولة، واستطاعوا من خلال ذلك صنع التأثير المطلوب في حياة البسطاء جنبًا إلى جنب، مع التحجيم لأعداء تلك الثورة ومحاربيها.
حينئذٍ تكون حقًّا ثورة وليست مجرد هوجة، وعسى أن يكون قريبًا إن شاء الله.
الدكتور محمد علي يوسف
الاثنين 23 يوليو 2012 م