خطب ومحاضرات
أولئك هم الصابرون
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام الصابرين وقدوة الخلق أجمعين عليه صلوات الله تعالى وسلامه إلى يوم الدين، وعلى آله وأزواجه وأصحابه وأتباعه إنه تعالى جواد كريم بر رءوف رحيم.
ثم أما بعــد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته:-
أيها الإخوة والأخوات عامة! ويا أهل البكيرية خاصة! إني والله لأحبكم في الله، وأحب ذكركم وزيارتكم ومجالستكم ومحادثتكم، وأفرح بسماع أخباركم وأخبار بلدكم الطيب المبارك هذا، فالحمد لله تعالى الذي جمعنا في هذا المكان الذي هو أطيب وأحب البقاع إلى الله تعالى، في هذا المسجد العامر المبارك، العامر بذكر الله تعالى ودعائه واستغفاره، ثم الحمد لله أيضا على أن جعل في بلاد الإسلام أمثال هذه البلاد المباركة، البلاد الودود الولود التي تأتي بالأكابر الأفاضل الكرام البررة الأخيار في كل ميدان وفي كل مجال.
فأسأل الله تعالى أن يجعلكم وسائر بلاد المسلمين جميعاً بلاداً عامرة بالإيمان والتقوى، وأسأل الله تعالى أن يجمع القلوب على طاعته، ثم إن حديثي إليكم هذه الليلة هو بعنوان: أولئك هم الصابرون وهو درس ضمن سلسلة الدروس العلمية العامة، رقمه سبع وتسعون، في هذه الليلة ليلة الإثنين الثالث عشر من شهر ربيع الأول من سنة (1414هـ) في هذا المسجد العامر الجامع الكبير بـالبكيرية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]. كيف يُحتاج التواصي بالصبر بعد هذا البيان الرباني العظيم، كيف يحتاج إلى تسويغ أو تدليل، وهل نفتقر بعد هذا إلى ذكر أسباب أو دوافع تدعو إلى طرق هذا الحديث، أو الكلام عنه، أو التفصيل فيه، كلا، إن الحياة كلها لا تقوم إلا على الصبر، وإن المشكلات كافة لا دواء لها إلا بالصبر.
صبر أهل الكهف
وهؤلاء قوم ناضلوا في دنياهم وكابدوا وجاهدوا فاحتاجوا بعد ذلك إلى صبر يتمنطقون به ويعتصمون به حتى يستمروا على طريقهم الطويل.
ضرورة صبر الداعية إلى الله
صبر المرأة في بيت زوجها
صبر الرجل على زوجته
إن حياة الفرد في مجتمعه، وحياة الزوج مع زوجه رجلاً أو امرأة، وحياة الولد مع أبيه، وحياة الداعية، والعالم، والمجاهد، وحياة الإنسان، بل وحياة التاجر والمدير والأمير والكبير والصغير، إنه لا نجاح لهذه الحياة إلا بالصبر، وقديماً قال الإمام الكبير عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [[وجدنا خير عيشنا بالصبر]].
هؤلاء فتية آمنوا بربهم وزادهم الله تعالى هدى، فرفعوا رءوسهم وقالوا: هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّن [الكهف:15] فسلطت عليهم ألوان العذاب والنكال، وأوذوا في سبيل الله تعالى وطردوا وشردوا فوق كل أرض وتحت كل سماء، فهذا قتيل يتشحط بدمه، وهذا جريح، وهذا شريد، وهذا طريد، وهذا كسير، وهذا أسير، وهذا فقير، وهذا وهذا...، مالهم بعد الله تعالى إلا الصبر؛ به يعتصمون، وإليه يلجئون، ومنه ينطلقون.
وهؤلاء قوم ناضلوا في دنياهم وكابدوا وجاهدوا فاحتاجوا بعد ذلك إلى صبر يتمنطقون به ويعتصمون به حتى يستمروا على طريقهم الطويل.
وهذا داعية إلى الله تعالى دعا قومه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، وسلك كل سبيل، وطرق كل جادة، واستخدم كل أسلوب فربما أبطأ عنه النصر، وربما تأخرت الإجابة؛ فهو محتاج إلى الصبر ليعلم أنه لا نجاح لدعوته ولا قبول لندائه إلا بصبر في هذا السبيل: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ [الروم:4-5]
وهذه امرأة في عقر بيتها تجد زوجاً تقدم إليه الجميل فيقدم لها ضد ذلك، وتطلب منه اليسير فيعاملها بغير ما أمر الله تعالى وغير ما شرع، فتبحث عن علاج أو حل هنا أو هناك، وتمارس كل أسلوب وطريقة وسبيل، لكنها لا تجد إلا أبواباً مغلقة، فتشتكي إلى الله تعالى؛ والله تعالى يسمع تحاورهما إن الله سميع بصير، فما بقي لها بعد الله تعالى إلا الصبر تزين به حياتها، وتجمل به علاقتها بزوجها.
وهذا أيضاً رجل ابتلي بزوجة نغصت عليه عيشه، وكدرت عليه حياته. وقلبتها إلى جحيم لا يطاق إلا بصبر يلين كل شديد، ويسهل كل عسير، ويقرب كل بعيد.
إن حياة الفرد في مجتمعه، وحياة الزوج مع زوجه رجلاً أو امرأة، وحياة الولد مع أبيه، وحياة الداعية، والعالم، والمجاهد، وحياة الإنسان، بل وحياة التاجر والمدير والأمير والكبير والصغير، إنه لا نجاح لهذه الحياة إلا بالصبر، وقديماً قال الإمام الكبير عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [[وجدنا خير عيشنا بالصبر]].
الوقفة الثانية: جولة قرآنية.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "ذكر الله تعالى الصبر في تسعين موضعاً"، قال ابن القيم في مدارج السالكين: "وهو مذكور في القرآن على ستة عشر نوعاً"، ثم أوصلها في عدة الصابرين إلى اثنين وعشرين نوعاً، ومن هذه الأوجه والأنواع التي جاء ذكر الصبر فيها في القرآن والسنة، منها على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل:-
الأمر بالصبر: كما قال الله تعالى: (فَاصْبِرْ) في مواضع كثيرة والنهي عن ضده، وما هو ضد الصبر؟ الجزع ضد الصبر: إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22].
إن الاستعجال ضد الصبر، قال الله تعالى: اصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35] فاستعجال الخطوات، والطريق، والعذاب الذي ينـزل بالكافرين كل ذلك نقيض الصبر، والله تعالى أمر رسله الكرام بالصبر ونهاهم عن الاستعجال، ولهذا جاء في الصحيحين أن الصحابة رضي الله عنهم اشتكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقالوا: {ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال لهم عليه الصلاة والسلام إن من كان قبلكم كان يحفر له في الأرض فيوضع فيها، ثم يمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يثنيه ذلك عن دينه، ويشق نصفان لا يصده ذلك عنه دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون} فالاستعجال نقيض الصبر.
واليأس نقيض الصبر: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87] أما المؤمن فصبور مؤمن بوعد الله تعالى لا يجد اليأس إلى قلبه سبيلاً.
والاستخفاف نقيض الصبر،قال الله تعالى: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60].
وكذلك الاستفزاز قال الله: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ [الإسراء:76].
والفتنة عن المنهج والطريق قال الله: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء:73].
أما الصبور فهو لا يراوح في مكانه، صابر يموت مثلما تموت الشجرة، بقوتها وقامتها وصبرها وثباتها تواجه الرياح والعواصف والأعاصير والرمال والنكبات، وهي ذات جذع غليظ ضارب في التربة راسخ لا يتزعزع ولا يتزلزل، ولا تنكفئ به الرياح ذات اليمين وذات الشمال. فهو لا يجزع؛ إن مسه الخير صبر وشكر، وإن مسه الشر صبر وثبت، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {عجباً لأمرالمؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له}.
ولذلك جاء في الأثر [[إن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر]] فالصبر في الضراء والشكر في السراء، قال عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه: [[لو أن الصبر والشكر كانا جملين ما أبالي أيهما ركبت]] إما أن يبتلى فيصبر أو أن ينعم عليه فيشكر.
فالمؤمن لا يجزع ولا يستعجل الخطوات، ولا يستبطئ النصر، ولا ييأس من روح الله، ولا يستخفه الذين لا يوقنون فيحملونه على أن يترك منهجه، أو ييأس من طريقه، أو يشكك في دعوته، أو تأتيه الظنون وتراوح به الخواطر في قلبه، فيشك فيما وعد الله، وما وعد الله تعالى حق وصدق: ولَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22].
ولا يستفز المؤمن فيستعجل طريقه، أو يبطئ في خطواته، أو يترك منهجه، أو يفتن عن شيء منه.
ومن الصور الواردة في القرآن الكريم، أن الله تعالى علق الإمامة في الدين بالصبر واليقين، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] قال سفيان: [[بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين]] وكذلك علق الله تعالى به الفلاح، وأخبر أنه يحب الصابرين، وأنه مع الصابرين، وأنه تعالى جعل الصبر عوناً وعدة، وأمر بالاستعانة به في كل نازلة تنـزل بالعبد، مصيبة دنيوية أو دينية، أو هم أو غم أو كرب أو حزن، كما قال الله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45-46].
وبين سبحانه أن الصبر مع التقوى سبب للنصر والثبات، كما قال سبحانه: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيئَاً [آل عمران:120] وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {واعلم أن النصر مع الصبر} وأخبر أن الصبر جنة عظيمة من كيد العدو، كما قال الله فيما سبق: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ [آل عمران:120] فلم يتوقف كيدهم ساعة من نهار.
اليهود والنصارى والمشركون والوثنيون، وسائر أعداء الدين ما فتئوا يكيدون لهذا الدين ويحاربون أهله، ويرسمون الخطط سراً وجهارا بالتكفير والتضليل والتجويع والتفريق بين المؤمنين، لكن الله تعالى جعل الجنة والعصمة للصابرين المتقين، وأخبر أن ما حصل للأمم السابقة من التمكين والنصر والتثبيت في الأرض إنما هو بصبرهم، كما قال سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137].
فهؤلاء الطغاة الذين كادوا ودبروا وصنعوا وتآمروا دمر الله تعالى عليهم تدميراً، وللكافرين أمثالها: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ [الأعراف:137] وعلى غيرهم من الأمم المؤمنة بما صبروا، فنصرهم الله تعالى ومكن لهم في الأرض، وجعل الله تعالى ما حصل لنبيه يوسف عليه الصلاة والسلام من العز والتمكين في الأرض بعد البلاء والغربة وما جرى له في قصر العزيز إنما هو بصبره وتقواه: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فإن اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].
وجمع للصابرين من الأمور ما لم يجمع لغيرهم، قال سبحانه: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45-46] أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157] ثم أخبر عن مضاعفة الأجور للصابرين وأنهم يجزون بأحسن أعمالهم: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:96].
ورتب الأجر الكبير والمغفرة على الصبر والعمل الصالح: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [هود:11] وأخبر سبحانه أن الملائكة تدخل عليهم يوم القيامة من كل باب تسلم عليهم، وتهنيهم بالأجر العظيم والثواب الجزيل الذي حصل لهم بصبرهم: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24].
وجعل الصبر على المصائب من عزائم الأمور الذي ينبغي على كل امرئ مسلم رجلاً أو امرأة كبيراً أو صغيراً أن يلجأ إليه ويسعى له: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى:43] كما أخبر أن خصال الخير والحظوظ العالية لا يلقاها إلا الصابرون: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت:35] كما أخبر سبحانه أن خصال الخير كما ذكرت إنما ينالها الصابرون وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].
وذكر أن الذين ينتفعون بالآيات ويعتبرون هم أهل الصبر والشكر: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان:31] ثم اثنى على بعض عباده بالصبر؛ كما اثنى على أيوب: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً [ص:44] وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: {وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر} وقال عليه الصلاة والسلام: {ومن يتصبر يصبره الله} وقال في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري: {والصبر ضياء} ضياء ينير لك الظلام، ويمهد لك الطريق، ويفتح لك السدد والأبواب بإذن الحي القيوم الوهاب.
ثالثاً: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2].
قال الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً [الحديد:20] ولهذا تجد أن الكافر الذي كان في الدنيا منتهى قصده وغاية مراده ومطمح نظره، أن يعب من اللذات ما استطاع لأنها فرصته الوحيدة، فيسكر بخمر اللذة والشهوة، ثم يسكر وهو ينادي:
سمعت صوتاً هاتفاً في السحر نادى من الغيب رفات البشر هبوا املئوا كأس الطلا قبل أن تملأ كأس العمر كف القدر أفق وهات الكأس أنعم بها واكسب خفايا النفس من حجبها وروي أوصالي بها قبل ما يصاغ دن الخمر من تربها |
ويفرق الكافر من البلاء والعناء، ويضيق بكل مصيبة تنـزل به فتمتلئ نفسه كآبة وحسرة ويمتلئ قلبه هماً وغماً وندماً، وتنتهي حياته نهاية بائسة محطمة أليمة دون أن يدري لماذا ابتدأت؟
ولا لماذا تنتهي؟
فأنت تجد الكافر هلوعاً جزوعاً منوعاً، ربما غابت عنه صديقته أو حبيبته أو ذهبت إلى عشيق آخر فلا يجد مخلصاً إلا أن ينتحر أو ينهي حياته بشر حال؛ لأنه جعل الحياة كلها ملخصة مقتصرة بهذه العشيقة أو الكأس أو الصفقة أو هذا المنصب أو الكرسي، فهو يقول:
أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور فحياة فخلود أم ثناء ودثور أكلام الناس صدق أم كلام الناس زور أصحيح أن بعض الناس يدري؟ لست أدري |
أما المؤمن فنظرته الصادقة الملتزمة المتزنة تؤكد له ألاَّ يجزع عند مصيبة، ولا ييأس عند ضائقة، ولا يبطر عند نعمة، وأن يقتصر من متاع الدنيا على المباح طلباً للمتعة الكاملة عند الله تعالى في الدار الآخرة.
قرب لـعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو من أثرياء الصحابة وأغنيائهم، وأصحاب الملايين منهم، قرب له طعام فلما نظر إليه تذكر ماضي حياته، فبكى ثم بكى ثم بكى، وأمر بالخوان فرفع، قيل له: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: [[كنت مع أخي
إن التصور بين المؤمن والكافر كبير، والمنهج والطريق متباعد، ولهذا صارت الحياة صراعاً بين المؤمنين والكافرين بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال، بين أهل الدنيا وأهل الآخرة، فيبتلي الله تعالى بعض الخلق ببعض، يبتلي المؤمن بالكافر، كما يبتلي الكافر بالمؤمن، وهذا النوع من الابتلاء هو قاسم مشترك بينهم جميعاً، قال الله تعالى: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4] وقال: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253] وقال سبحانه في الحديث القدسي الذي رواه مسلم، قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: {إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك} فالله تعالى يداول الأيام بين الناس، يديل للمؤمنين من الكفار تارة، ويديل للكفار من المؤمنين تارة، ويجعل الكفار تحت سلطة المؤمنين وقهرهم أحياناً، كما جرى ذلك عبر أكثر من عشرة قرون؛ حيث كان اليهود والنصارى تحت سلطة المسلمين، كأهل ذمة أو أهل عهد أو مقهورين مأسورين محاربين يشرد بهم المؤمنون من خلفهم في كل مكان.
وأحياناً يجعل الله المؤمنين تحت قهر الكفار أو المنافقين وتسلطهم، والدهر هكذا لا يدوم على حال له شأن، كما قال الشاعر:
وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان |
وهذا البلاء الذي يلقاه المؤمن في سبيل الدين أثر من آثار الاستقامة على المنهج، فإذا أصابه في سبيل دينه ما أصابه من أذى سواء كان هذا الأذى من قريب، من والد أو زوج أو أخ أو صديق، أو من المجتمع كله، من أسرة، دولة، أمة، من جهة، فإن هذا البلاء يجعل المؤمن بين موقفين لا ثالث لهما:
الموقف الأول: النكوص والتراجع عن هذا الطريق الذي سبب له الآلام وعرضه للمحن، وهذا حال صنف من الناس وصفهم الله تعالى في كتابه فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] وقال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج:11] أي: على طرف أو على حال معينة، يعبد الله على حال السراء فقط، أما إذا جاءت الضراء تغيرت عبادته وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فإن أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]. جاء في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه: [[أن الرجل من الأعراب كان يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ولد له بعد الإسلام غلام، ونتجت خيله وكثر ماله، قال: هذا دين حسن، هذا دين جيد فآمن وثبت، أما إذا لم يولد له غلام، ولم تنتج خيله، ولم يكثر ماله، أو أصابه قحط، أو جدب، قال: هذا دين سيئ ثم خرج من دينه وتركه إلى كفره وعناده]].
وبعض الناس يقول: لو كان هذا الدين خيراً ما تسبب في حرماني من وظيفتي -مثلاً- أو حرماني من الترفيع والعلاوة، أو مصادرة حريتي، أو كساد تجارتي، أو فراق زوجتي، أو إيذائي، أو قحط أرضي، فيفرق فيترك الطريق.
أما الموقف الثاني: فهو موقف الصبر والإصرار، والثبات مهما تطلب الصبر من الجهود والتضحيات، ومضاعفة الصبر كلما تضاعف الألم، والاستمرار على الصبر مهما طال الطريق، ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا [آل عمران:200] فأمر بالصبر، ثم قال: وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200] فهي أربعة أمور:
الأول: (اصْبِرُوا): وهذا أمر بالصبر، ثم ترقى بعد ذلك فقال: (وَصَابِرُوا) أي: إذا واجهتم قوماً صبروا كما صبرتم، لأن الكافر يصبر أيضاً في سبيل دينه.
إذاً المؤمن لا يكفي منه الصبر، بل لا بد أن يصابر حتى يتغلب على الكافر، ثم قال: (وَرَابِطُوا) أي: استمروا على المصابرة، فإن الكافر أيضاً قد يصابر ولكنه لا يرابط، فيصابر ساعة أو ساعتين أو يوماً أو يومين ثم يزول بعد ذلك، ولهذا قال الله عز وجل: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فإنهم يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104].
وأخيراً: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فإنه لا بد مع الصبر من تقوى، وبعض الناس قد يكون عنده صبر، ولكن ليس عنده تقوى كما سوف يأتي، وهذا هو موقف المؤمنين الصادقين في عقد الإيمان، الذين لا تزيدهم المحن إلا إيماناً بالله وتسليماً وتصديقاً بوعده ووعد رسوله عليه الصلاة والسلام، كما حصل للمؤمنين يوم الأحزاب، وذلك لتميز مدعي الإيمان من الصادقين في إيمانهم، كما سمى الله عز وجل الابتلاء فتنة، لأنه يمحص الصادق من الكاذب، ويبين للإنسان قوته من ضعفه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} وقال الله تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
ومن رحمة الله بعباده المؤمنين أن الله تعالى يسلط عليهم البلاء، ليربيهم به، ويرقيهم به شيئاً فشيئاً، ثم يرزقهم الثبات عليه لينالوا عنده عظيم الأجر وجزيل الثواب، فيربيهم بالمحن والشدائد، ويصفي قلوبهم من الدخل والدغل والغش والريبة والنفاق والضعف، وكلما خرجوا من محنة أو فتنة بالصبر والثبات والإصرار قيض لهم أخرى أشد منها وأقوى، بعد أن وعوا درس المحنة الأولى، وارتقى مستوى إيمانهم ويقينهم، ولهذا جاء في حديث سعد بن أبي وقاص، الذي رواه أهل السنن وهو صحيح أنه قال: {يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه؛ وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي في الأرض ما عليه خطيئة}.
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك تصيبه الحمى، ويشتد عليه الوعك والبلاء، قال: فوضعت يدي عليه فوجدت حره في يدي من فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله! ما أشدها عليك؟ قال: نعم إنا كذلك يضاعف لنا البلاء ويضاعف لنا الأجر قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً، قال: {الأنبياء} قلت: ثم من؟ قال: ثم الصالحون، وإن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء}.
الحديث رواه ابن ماجة والحاكم والبيهقي وغيرهم وهو حديث صحيح، ومثله أيضاً حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إني أوعك كما يوعك رجلان منكم قال: ذلك يا رسول الله أن لك أجرين؟ قال: أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى؛ شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها} والحديث رواه الشيخان وغيرهما.
وحديث
أبي عبيدة بن حذيفة
أمر بسقاء فعلق بشجرة، ثم اضطجع تحته فجعل يقطر على فؤاده وهو يقول: إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل}.إذاً: هي سنة نتلقاها عن أنبياء الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام، فلو أن العبد وجد الروح والسكينة والطمأنينة طيلة عمره، لا بلاء، ولا أذى، ولا مرض، ولا شكوى، ولا موت صديق، ولا إصابة في مال أو في أهل أو في زوج، فإن الإنسان حينئذٍ يراجع إيمانه ويشك في صدقه مع الله تعالى، لأنه طريق موصوف لنا أن فيه الأشواك والصعاب والمصائب الكبار، فإذا لم يجدها الإنسان فإنه يراجع طريقه ويتأكد من مسيره.
الرابعة: صور الفتنة.
إن الفتنة تأخذ صوراً شتى، منها:
أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله، ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويساعده ولا القوة التي يواجه بها الأذى والطغيان من أعداء الله تعالى ورسله.
ومنها: فتنة الأهل والأحباب الذين يخشى عليهم الإنسان أن يصيبهم بسببه أذى وهو لا يملك لهم دفعاً، وقد يهتفون به ليسالم أو يستسلم أو يحفظهم في قرابتهم.
ومنها: فتنة إقبال الدنيا على أهل الباطل وأهل الكفر، وتعظيم الناس لهم وهم ملء سمع الدنيا وملء بصرها، وهو مهمل منكر لا يحس به أحد ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليل.
ومنها: فتنة الغربة، غربة الإنسان في بيته، استيحاشه في عقيدته حين ينظر المؤمن فيرى ما حوله غارقاً في الضلالة وهو وحده موحش غريب طريد.
ومنها: فتنة ظهور الأمم الكافرة المنحلة الغارقة في الرذيلة ورقيها في مجالات الحضارة المادية رقياً هائلاً، وهي مع ذلك محادة لله تعالى.
ومنها: فتنة إبطاء النصر عن المؤمنين وتعرضهم للأذى والضرب والتنكيل والقتل والتشريد على أيدي أعداء الله تعالى وأعداء رسله.
ومنها: فتنة فتح الدنيا على الإنسان بالمال، أو الجاه، أو الوظيفة، أو المنصب، كما قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فيما رواه أهل السنن وهو صحيح، قال: [[ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر]].
إذاً: هي فتن عظيمة، منها فتن الدنيا، وفتن الدين، وفتنة السراء والضراء، وفتنة الأهل والمال والولد، والمجتمع، وفتنة موت الأقارب والأحبة، والأصحاب، وفوات المال والفقر والجوع، كما قال الله تعالى: وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [البقرة:155].
ومنها فتنة ضعف الإنسان وقلته وذلته وعدم وجود الناصر والمعين، ولا بد للعبد أن يصبر على هذا كما يصبر على ذاك.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5155 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |