شرح زاد المستقنع باب الغصب [6]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ وما تلف أو تغيب من مغصوب مثلي غرم مثله إذاً، وإلا قيمته يوم تعذره ].

شرع المصنف -رحمه الله- في هذه المسألة في بيان ضمان المغصوب إذا تلف أو تغيب وكان له مثلي، والمغصوب الذي له مثلي يكون من المكيلات ويكون من الموزونات، فلو أن شخصاً أخذ طعاماً كالأرز -مثلاً- أخذه غصباً من شخص وأتلف هذا الأرز فإنه يجب عليه أن يغرم له مثله، وهكذا لو اغتصب شيئاً فتغيب الشيء كما هو الحال في الدواب، فلو اغتصب ناقةً ففرت الناقة وغابت ولم يدر أين ذهبت، فإنه باغتصابه لهذه الناقة والدابة تكون يده يد ضمان، فيجب عليه أن يضمن مثلها.

ضمان المثلي بمثله

إذاً: مراد المصنف: أن الضمان للمثليات يكون بالمثل، والمثليات كالمكيلات والموزونات، وقد تكون المثليات من العدد كما هو موجود في زماننا كالسيارات ونحوها فيضمن مثلها، وللعلماء في هذه المسألة قولان:

بعض العلماء يقول: أي شيء يغصب ويتلف يجب على غاصبه أن يدفع القيمة، ولا يرى أنه يدفع المثلي.

وذهب طائفة من العلماء إلى أنه إذا كان الشيء المغصوب له مثل فإنه يجب عليه أن يضمن المثل، وهذا هو الذي درج عليه المصنف وهو مذهب الحنابلة -رحمةُ الله عليهم- في المشهور.

فمن اغتصب شيئاً وهذا الشيء تلف وله مثلي، فإنه يجب عليه أن يرد لصاحبه المثل، ولا ننتقل إلى القيمة متى أمكن رد مثل الشيء الذي أتلفه، والدليل على ذلك: ما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أُتي بطعام من صفية رضي الله عنها وأرضاها، وكانت عنده أم المؤمنين عائشة وكانت صفية رضي الله عنها تحسن الطعام. ومن الجبلة والفطرة أن الإنسان ربما يغار، وخاصةً إذا كان مع أهل الفضل، فنساء النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهن الغيرة، وهذا قد يكون -في بعض الأحوال- من أصالة المرأة؛ لأنها إذا كملت محبتها لزوجها تفانت في هذه المحبة إلى درجة أنها تغار.

فلما أُتي بالطعام غارت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فضربت القصعة فكسرتها وسقط الطعام، حتى ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يقول: (غارت أمكم، غارت أمكم، غارت أمكم) رضي الله عنها وأرضها، ومن الذي لا يغار على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

فلما كُسر الإناء وذهب الطعام ندمت عائشة رضي الله عنها، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يضيع سعي العبد إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ما صنعت، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضمان، وقال: (إناءٌ كإناء، وطعام كطعام) أي: اضمني إناءً مثل الإناء الذي كسرتيه، واضمني طعاماً مثل الطعام الذي أتلفتيه فدل هذا الحديث على أن الإتلاف والغصب يُبتدأ في ضمانه بالمثل، وأن من أتلف شيئاً نأمره أن ينظر إلى مثل ذلك الشيء إن وجد، وأننا لا ننتقل إلى القيمة متى أمكن وجود المثل، وهذا الأصل دلّت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ودلّ عليه صريح القرآن؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]، وقال سبحانه وتعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، فقوله: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا سمى ضمان الشيء ورد الشيء بمثله سيئة، وهذا ليس المراد منه أنها سيئة حقيقة؛ لأنه لو أساء إليك شخص فرددت إساءته بمثلها فلست بمسيء، فاستشكل العلماء -رحمهم الله- المثلية هنا، فقالوا: لأن الإنسان إذا أراد أن يرد سيئة ربما أخذته الحمية غالباً فزاد وجار، ولذلك قال: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، والغالب أن الإنسان لا يحتمل نفسه ولا يستطيع أن يأخذ القصاص مثلاً بمثل؛ لأن الحمق والغيظ يدفعه إلى الزيادة، الشاهد في قوله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ [النحل:126]، فوجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نعاقب بالمثل، ومن أتلف شيئاً فإنه يجب علينا أن نعاقبه على ذلك الإتلاف فنأمره بمثله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ ، فإذا كسر إناءً عاقبناه بالمثل وقلنا له: أحضر إناءً مثل الإناء الذي كسرته، ولو أخذ سيارة غصباً فأتلفها قلنا له: ائت بسيارة مثل تلك السيارة وأعطها لصاحبها، فتلك عقوبة بالمثل وامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى في كتابه.

وفي هذه الجملة دليل على أننا نضمن بالمثل، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء؛ لظاهر القرآن وظاهر السنة، وهو مذهب الجمهور -رحمةُ الله عليهم- خلافاً للشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد .

والسبب الذي جعل القائلين بأنه يضمن بالقيمة: أنهم استدلوا بحديث في الصحيحين في عتق الشرك: (أن من أعتق شركاً -يعني: نصيباً له في عبد- قوّم له قيمة عدل) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضمان نصيب الآخر، بتقويم نصيب ذلك الآخر وإعطائه القيمة، ومثال ذلك: لو كان هناك عبد قيمته خمسة آلاف، وكان فيه شريكان، فأعتق أحد الشريكين نصيبه سرى العتاق، وحينئذٍ يضمن للشريك الآخر نصيبه بالقيمة على ظاهر الحديث.

الشاهد: أنه أمر بالضمان بالقيمة، ولم يأمر بالضمان بالمثل، يعني: أمر أن يضمن نصيب صاحبه بالقيمة، وهذا كالإتلاف؛ لأنه فوت نصيب صاحبه بالعتق؛ ولا يمكننا هنا أن نأتي بالمثل؛ لأن هناك شراكة فلا نستطيع أن نذهب ونأخذ عبداً ونأتي بشخص ونقول له: شارك هذا الشخص حتى تتحقق المثلية، فحينئذٍ نقول: هذا الحديث نجيب عليه من وجوه:

الوجه الأول: أن نقول: لا تعارض بين عامٍ وخاص، فالأصل في الضمانات المثلية إلا في مسألة عتق العبد فيضمن بالقيمة، فيصبح الحديث خاصاً في مسألة العتق، والضمان الأصل فيه عام، وهو: أنه يضمن بالمثل، هذا الوجه الأول، حيث تجعل الأصل عاماً وتجعل الحديث خاصاً، ولا تعارض بين عام وخاص.

ثانياً: أن تقول: إن الأصل الذي يقتضي الضمان بالمثلية هو فيما يمكن فيه المثلية وأن يأتي بمثل ما أتلف، والحديث الذي معنا متعلق بالعتق ولا يمكن فيه الضمان بالمثل فانتقل للقيمة، وهذا من أقوى الوجوه وهو الوجه الثاني الذي يجاب به عن هذا الحديث.

ضمان قيمة المغصوب عند تعذر وجود مثله

وقوله: [ وإلا فقيمته يوم تعذره ].

(وإلا) يعني: وإن لم يتمكن من وجود المثل لزمه أن يضمن حق أخيه المسلم بالقيمة، إذاً: القاعدة في الضمان: المثلية إن كان له مثل، فإذا لم يكن له مثل أو كان له مثل ولكن تعذر وجوده فحينئذٍ نقول له: اضمن قيمته، فالضمان يكون -أولاً- بالمثلية، فإن تعذرت المثلية انتقلنا إلى القيمة، والقيمة: أن نقوِّم هذا الشيء الذي أتلفه الغاصب، كشخص -مثلاً- أتلف سيارة غيره، سواءً كان متعمداً أو مخطئاً، فجئنا نطالبه بضمان ما جنته يداه من الإتلاف فقلنا له: ائت بسيارةٍ مثل هذه السيارة، فبحثنا ولم نجد، فحينئذٍ نقول: تقوّم هذه السيارة التي أتلفت ويطالب بدفع القيمة للمالك لها، فلو أتلف سيارةً وتعذر وجود مثلها أو لم يكن لها مثل فحينئذٍ نسأل أهل الخبرة: كم قيمة هذه السيارة؟ قالوا: قيمتها يوم تعذر وجود مثلها عشرة آلاف، نقول: يجب عليك الضمان بالقيمة لتعذر المثلي، فيرفع عشرة آلاف ريال لمالكها.

وقوله: [ وما تلف أو تغيب من مغصوبٍ مثلي غرم مثله إذاً، وإلا فقيمته يوم تعذره ].

فقوله: (غرم مثله إذاً): التنوين هنا تنوين عوض، وهو عوض عن حرف وعوض عن جملة (فقيمته إذاً) أي: فقيمته في الحين الذي تعذر؛ لأن التنوين هنا عوض عن جملة كما قال تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ [الزلزلة:1-4] فالتقدير يوم تزلزل الأرض زلزالها وتخرج أثقالها ويقول الإنسان: ما لها تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4]، فهنا التنوين تنوين عوض عن جملة، فقوله: (قيمته إذاً) أي: في الحين إذا تعذر، وهذه مسألة خلافية.

فائدة التنبيه على أن القيمة تكون حين التعذر: أنه ربما أتلف سيارةً في شهر محرم، وكانت قيمة السيارة في شهر محرم عشرة آلاف ريال، ثم بحثنا وكان للسيارة مثل، فجعلنا نبحث عن مثل هذه السيارة مدة أسبوع فنزلت قيمتها -مثلاً- إلى سبعة آلاف ريال، وتعذر وجودها، فالقيمة يوم التعذر سبعة آلاف والقيمة يوم التلف عشرة آلاف، ولربما تكون القيمة يوم الشراء عشرين ألفاً، فحينئذٍ العبرة بوقت التلف، وبعض الشراح يفهم من جملة (قيمته إذاً) أنه يجب حينئذٍ أن يضمن القيمة، وليس المراد يوم التعذر، فعلى هذا القول: يكون الضمان يوم التلف وليس يوم التعذر، (فقيمته إذاً) إشارة إلى الاستحقاق، أي: تلزمه القيمة بسبب عدم وجود المثل، والحقيقة كلا القولين له وجه وإن كان الثاني أظهر.

قال رحمه الله: [ ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه ].

كانوا في القديم يصنعون أشياء لا يمكن أن يصنع مثلها من كل وجه، مثلاً: الأواني في زماننا يمكن إيجاد المثلي؛ لكن في القديم لا يمكن؛ لأنه إذا صنع الحداد إناء ربما وسع فيه وربما ضيق، ولم يكن هناك -مثل زماننا الآن- صبُّ الآنية بطريقة نظامية تعرف فيها أطوالها وتعرف فيها مقاساتها بشكل دقيق يمكن أن يوجد فيه المثل، فكانوا في القديم يمثلون بالأواني؛ لأن الغالب عدم انضباطها، فما كان من المغصوبات لا مثلي له، فحينئذٍ يجب ضمانه بالقيمة.

لكن لو أن شخصاً أتلف مغصوباً لا مثلي له، وقلنا له: يجب عليك أن تدفع القيمة، فرضي صاحب المغصوب، وقال: أنا أرضى بالقيمة ما دام أنه ليس له مثل ثم قال: أنا اشتريته بعشرة آلاف، ونظرنا في الشيء المغصوب وجدنا أن صاحبه استخدمه سنتين كسيارة -مثلاً- فأصبحت قيمتها ثمانية آلاف، فهل العبرة بقيمتها يوم اشتراها، أم العبرة بقيمتها يوم أتلفها أم العبرة بقيمتها يوم اغتصبها؟

وفائدة ذلك: قد تكون قيمتها يوم الشراء غالية، وقيمتها يوم الاغتصاب دونها في الغلاء، وقيمتها يوم التلف أقل قيمة، فتكون القيمة بالشراء -مثلاً- عشرين ألفاً، فاغتصبها منه في شهر محرم وقيمتها عشرة آلاف، ثم بقيت مغصوبةً نصف سنة مثلاً، فأصبحت قيمتها خمسة آلاف عندما أتلفها، فهل يدفع عشرين ألفاً أو عشرة آلاف أو خمسة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة، والأقوى في هذه المسألة قولان:

القول الأول يقول: قيمتها يوم اغتصبها، والقول الثاني يقول: قيمتها يوم أتلفها، وهناك قول ثالث يقول: ننظر أغلى القيمتين؛ لأنه ربما كانت يوم التلف أغلى منها يوم الغصب وهذا قد يقع، ربما قد تكون قديمة فلما أتلفت أصحبت قيمتها أكثر أو ارتفع سوقها مثل: المجوهرات ونحوها، فاليوم الذي أتلفها فيه شاء الله أن قيمتها غالية، أو اغتصب بيتاً وهدمه، وقيمته يوم اغتصبه يعادل مائة ألف، ويوم أتلفه غلت قيمة المواد البنائية، فأصبحت قيمة بنائه خمسمائة ألف، فبعض العلماء يقول: نعتبر القيمة باليوم الذي اغتصب فيه الشيء، فإنه قد أصبح في ذمته ذلك الشيء، فنحن نوجب عليه ضمان القيمة بيوم الغصب.

ومنهم من قال: لا. هو أخذ البيت الذي هو العقار، أو أخذ السيارة أو أخذ الدابة، ولكنه كان ملزماً بردها؛ لأنها موجودة، ولم يخاطب شرعاً بالضمان إلا بالتلف؛ لأن التلف هو الذي أوجب علينا أن نخاطبه بالضمان، وإلا لو كانت غير تالفة لردها، فأصبحت ذمته مشغولةً بالقيمة يوم التلف.

وهذا القول من أقوى الأقوال: أن ضمانها يكون بقيمتها يوم تلفت، وإن كان الاحتياط بالنظر إلى أغلى القيم لا شك أنه أقوى، خاصةً وأن فيه نوعاً من التعزير، وهذا مقصود شرعاً للغاصب فيغرم أعلى القيمتين، وهذا على خلاف الشرع من حيث الأصل ولكن براءة لذمته، وبالاعتداء والغصب صار الأمر مختلفاً.

الخلاصة: أننا نطالبه بالضمان بقيمة العين التالفة المغصوبة يوم تلفت ولا ينظر إلى قيمتها يوم اشتريت، ولا ينظر إلى قيمتها يوم اغتصبت، فيلزم بضمانها يوم تلفت؛ لأنه كان مغتصباً للعين مخاطباً بردها ولم يخاطب بالقيمة إلا لما أتلف، فأصبحت ذمته مشغولةً بالقيمة في يوم التلف وليس قبله؛ فلذلك نقول: يجب عليك دفع قيمتها يوم تلفت.

كيفية ضمان القيمة في حال تعذر المثلي

وقوله: [ وإن تخمر عصير فالمثل، فإن انقلب خلاً دفعه ومعه نقص قيمته عصيراً ].

فقوله: (وإن تخمر عصير فالمثل).

إن اغتصب عصيراً فبقي العصير عنده حتى صار خمراً، فحينئذٍ يتعذر ردّ المثل، وهذا يدل على دقة العلماء رحمهم الله، فهم أعطوك القاعدة وهي: أنه يجب عليك أن تحكم بضمان المغصوب بمثله، وإن تعذر المثل تنتقل إلى القيمة.

يرد السؤال: هل هناك صور يمكن أن توجد فيها العين المغصوبة ولا يطالب بردها، ويجب عليه ضمان مثلها، قالوا: نعم، إن أخذ العصير واغتصبه عصيراً وتحول هذا العصير إلى خمر، كعصير تفاح؛ لأن العصير إذا مكث مدة يتخمر، فأخذ عصير تفاح أو عنب فبقي عنده مدة يوم أو يومين فتخمر، فحينئذٍ لا يمكن رده؛ لأنه يجب إتلافه كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أبا طلحة رضي الله عنه أن يهريق الخمر وأن يكسر الإناء -وهو وعاء الخمر- فدلّ هذا على أنه يجب إتلاف الخمر.

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المزادتين: (أن الرجل لما أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم المزادتين وحرم عليه بيعهما فتح المزادتين وسكبهما على الأرض)، وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أنه لما نزل تحريم الخمر جرت بها سكك المدينة عندما أهريقت وأتلفت، فالأصل أن الخمر تتلف، فلو أنه اغتصب عصيراً ثم تحول هذا العصير إلى خمر نقول: يد الغاصب يد ضمان، فيجب عليه أن يتلف هذا الخمر، وأن يرد لصاحب العصير مثله، وذلك لأن العصير يكون مثلياً فيجب عليه الضمان بالمثل، وقد يتحول الخمر إلى خل بطريقتين:

الطريقة الأولى: أن يتحول بنفسه، وجمهرة أهل العلم: أن الخل إذا تحول بنفسه صار حلالاً طاهراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح: (نعم الإدام الخل)، والخل لا يمكن أن يصير خلاً إلا بعد أن يكون خمراً، وهذا المراد به: إذا تخلل بنفسه، والدليل على أنه يحل إذا تخلل بنفسه حديث أبي طلحة رضي الله عنه حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن خمر الأيتام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يريق الخمر، فلو كان يجوز تخليل الخمر لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها، فدل على أنه لا يجوز لمالك الخمر أن يخللها بنفسه، ولكن إن تخللت بنفسها فإنه يجوز وتكون طاهرةً حينئذٍ، فلو أنه اغتصب عصيراً فبقي العصير عنده مدةً من الزمان، فتحول فيها هذا العصير إلى خمر ثم صار خلاً، فإذا صار خلاً فالعين يمكن ردها إلى صاحبها، فنقول له: ردّ هذا الخل إلى صاحبه؛ لأن الخل فرعٌ عن العصير، والفرع تابعٌ لأصله، فالمال مال المغصوب منه، فيجب عليك رد الخل، ثم ننظر: هل اختلفت قيمة الخل والعصير، فلا تخلو من ثلاث صور:

الصورة الأولى: أن تتفق القيمتان، كأن تكون قيمة العصير مائة ريال، فعندما غصبه كمية من العصير تخمرت ثم تخللت، فصارت قيمته خلاً بمائة ريال، فحينئذٍ يرده خلاً ولا إشكال.

الحالة الثانية: أن تكون القيمة ناقصة بعد أن صار خلاً.

الحالة الثالثة: أن تكون القيمة أغلى إذا صار خلاً.

فإذا تخلل وصارت قيمته أقل، قلنا له: ردّ الخل وادفع الفرق، وقد بينا دليل هذه المسألة وأقوال العلماء فيها، وقررنا أن من اغتصب شيئاً وأمسك ذلك الشيء حتى نقصت قيمته فإنه يجب عليه الضمان، واستثنينا مسألة غلاء السوق ويكاد يكون إجماع أهل العلم عليها إلا قول أبي ثور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي رحمه الله الذي قال: تضمن قيمة غلاء السوق.

أما إذا كان الأمر بالعكس فتكون قيمة الخل أغلى، كأن يغتصب عصيراً قيمته مائة فأصبحت قيمته خلاً مائتين، فحينئذٍ يرد الخل ولا ضمان عليه.

إذاً: مراد المصنف: أن الضمان للمثليات يكون بالمثل، والمثليات كالمكيلات والموزونات، وقد تكون المثليات من العدد كما هو موجود في زماننا كالسيارات ونحوها فيضمن مثلها، وللعلماء في هذه المسألة قولان:

بعض العلماء يقول: أي شيء يغصب ويتلف يجب على غاصبه أن يدفع القيمة، ولا يرى أنه يدفع المثلي.

وذهب طائفة من العلماء إلى أنه إذا كان الشيء المغصوب له مثل فإنه يجب عليه أن يضمن المثل، وهذا هو الذي درج عليه المصنف وهو مذهب الحنابلة -رحمةُ الله عليهم- في المشهور.

فمن اغتصب شيئاً وهذا الشيء تلف وله مثلي، فإنه يجب عليه أن يرد لصاحبه المثل، ولا ننتقل إلى القيمة متى أمكن رد مثل الشيء الذي أتلفه، والدليل على ذلك: ما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أُتي بطعام من صفية رضي الله عنها وأرضاها، وكانت عنده أم المؤمنين عائشة وكانت صفية رضي الله عنها تحسن الطعام. ومن الجبلة والفطرة أن الإنسان ربما يغار، وخاصةً إذا كان مع أهل الفضل، فنساء النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهن الغيرة، وهذا قد يكون -في بعض الأحوال- من أصالة المرأة؛ لأنها إذا كملت محبتها لزوجها تفانت في هذه المحبة إلى درجة أنها تغار.

فلما أُتي بالطعام غارت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فضربت القصعة فكسرتها وسقط الطعام، حتى ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يقول: (غارت أمكم، غارت أمكم، غارت أمكم) رضي الله عنها وأرضها، ومن الذي لا يغار على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

فلما كُسر الإناء وذهب الطعام ندمت عائشة رضي الله عنها، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يضيع سعي العبد إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ما صنعت، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضمان، وقال: (إناءٌ كإناء، وطعام كطعام) أي: اضمني إناءً مثل الإناء الذي كسرتيه، واضمني طعاماً مثل الطعام الذي أتلفتيه فدل هذا الحديث على أن الإتلاف والغصب يُبتدأ في ضمانه بالمثل، وأن من أتلف شيئاً نأمره أن ينظر إلى مثل ذلك الشيء إن وجد، وأننا لا ننتقل إلى القيمة متى أمكن وجود المثل، وهذا الأصل دلّت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ودلّ عليه صريح القرآن؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]، وقال سبحانه وتعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، فقوله: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا سمى ضمان الشيء ورد الشيء بمثله سيئة، وهذا ليس المراد منه أنها سيئة حقيقة؛ لأنه لو أساء إليك شخص فرددت إساءته بمثلها فلست بمسيء، فاستشكل العلماء -رحمهم الله- المثلية هنا، فقالوا: لأن الإنسان إذا أراد أن يرد سيئة ربما أخذته الحمية غالباً فزاد وجار، ولذلك قال: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، والغالب أن الإنسان لا يحتمل نفسه ولا يستطيع أن يأخذ القصاص مثلاً بمثل؛ لأن الحمق والغيظ يدفعه إلى الزيادة، الشاهد في قوله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ [النحل:126]، فوجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نعاقب بالمثل، ومن أتلف شيئاً فإنه يجب علينا أن نعاقبه على ذلك الإتلاف فنأمره بمثله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ ، فإذا كسر إناءً عاقبناه بالمثل وقلنا له: أحضر إناءً مثل الإناء الذي كسرته، ولو أخذ سيارة غصباً فأتلفها قلنا له: ائت بسيارة مثل تلك السيارة وأعطها لصاحبها، فتلك عقوبة بالمثل وامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى في كتابه.

وفي هذه الجملة دليل على أننا نضمن بالمثل، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء؛ لظاهر القرآن وظاهر السنة، وهو مذهب الجمهور -رحمةُ الله عليهم- خلافاً للشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد .

والسبب الذي جعل القائلين بأنه يضمن بالقيمة: أنهم استدلوا بحديث في الصحيحين في عتق الشرك: (أن من أعتق شركاً -يعني: نصيباً له في عبد- قوّم له قيمة عدل) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضمان نصيب الآخر، بتقويم نصيب ذلك الآخر وإعطائه القيمة، ومثال ذلك: لو كان هناك عبد قيمته خمسة آلاف، وكان فيه شريكان، فأعتق أحد الشريكين نصيبه سرى العتاق، وحينئذٍ يضمن للشريك الآخر نصيبه بالقيمة على ظاهر الحديث.

الشاهد: أنه أمر بالضمان بالقيمة، ولم يأمر بالضمان بالمثل، يعني: أمر أن يضمن نصيب صاحبه بالقيمة، وهذا كالإتلاف؛ لأنه فوت نصيب صاحبه بالعتق؛ ولا يمكننا هنا أن نأتي بالمثل؛ لأن هناك شراكة فلا نستطيع أن نذهب ونأخذ عبداً ونأتي بشخص ونقول له: شارك هذا الشخص حتى تتحقق المثلية، فحينئذٍ نقول: هذا الحديث نجيب عليه من وجوه:

الوجه الأول: أن نقول: لا تعارض بين عامٍ وخاص، فالأصل في الضمانات المثلية إلا في مسألة عتق العبد فيضمن بالقيمة، فيصبح الحديث خاصاً في مسألة العتق، والضمان الأصل فيه عام، وهو: أنه يضمن بالمثل، هذا الوجه الأول، حيث تجعل الأصل عاماً وتجعل الحديث خاصاً، ولا تعارض بين عام وخاص.

ثانياً: أن تقول: إن الأصل الذي يقتضي الضمان بالمثلية هو فيما يمكن فيه المثلية وأن يأتي بمثل ما أتلف، والحديث الذي معنا متعلق بالعتق ولا يمكن فيه الضمان بالمثل فانتقل للقيمة، وهذا من أقوى الوجوه وهو الوجه الثاني الذي يجاب به عن هذا الحديث.

وقوله: [ وإلا فقيمته يوم تعذره ].

(وإلا) يعني: وإن لم يتمكن من وجود المثل لزمه أن يضمن حق أخيه المسلم بالقيمة، إذاً: القاعدة في الضمان: المثلية إن كان له مثل، فإذا لم يكن له مثل أو كان له مثل ولكن تعذر وجوده فحينئذٍ نقول له: اضمن قيمته، فالضمان يكون -أولاً- بالمثلية، فإن تعذرت المثلية انتقلنا إلى القيمة، والقيمة: أن نقوِّم هذا الشيء الذي أتلفه الغاصب، كشخص -مثلاً- أتلف سيارة غيره، سواءً كان متعمداً أو مخطئاً، فجئنا نطالبه بضمان ما جنته يداه من الإتلاف فقلنا له: ائت بسيارةٍ مثل هذه السيارة، فبحثنا ولم نجد، فحينئذٍ نقول: تقوّم هذه السيارة التي أتلفت ويطالب بدفع القيمة للمالك لها، فلو أتلف سيارةً وتعذر وجود مثلها أو لم يكن لها مثل فحينئذٍ نسأل أهل الخبرة: كم قيمة هذه السيارة؟ قالوا: قيمتها يوم تعذر وجود مثلها عشرة آلاف، نقول: يجب عليك الضمان بالقيمة لتعذر المثلي، فيرفع عشرة آلاف ريال لمالكها.

وقوله: [ وما تلف أو تغيب من مغصوبٍ مثلي غرم مثله إذاً، وإلا فقيمته يوم تعذره ].

فقوله: (غرم مثله إذاً): التنوين هنا تنوين عوض، وهو عوض عن حرف وعوض عن جملة (فقيمته إذاً) أي: فقيمته في الحين الذي تعذر؛ لأن التنوين هنا عوض عن جملة كما قال تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ [الزلزلة:1-4] فالتقدير يوم تزلزل الأرض زلزالها وتخرج أثقالها ويقول الإنسان: ما لها تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4]، فهنا التنوين تنوين عوض عن جملة، فقوله: (قيمته إذاً) أي: في الحين إذا تعذر، وهذه مسألة خلافية.

فائدة التنبيه على أن القيمة تكون حين التعذر: أنه ربما أتلف سيارةً في شهر محرم، وكانت قيمة السيارة في شهر محرم عشرة آلاف ريال، ثم بحثنا وكان للسيارة مثل، فجعلنا نبحث عن مثل هذه السيارة مدة أسبوع فنزلت قيمتها -مثلاً- إلى سبعة آلاف ريال، وتعذر وجودها، فالقيمة يوم التعذر سبعة آلاف والقيمة يوم التلف عشرة آلاف، ولربما تكون القيمة يوم الشراء عشرين ألفاً، فحينئذٍ العبرة بوقت التلف، وبعض الشراح يفهم من جملة (قيمته إذاً) أنه يجب حينئذٍ أن يضمن القيمة، وليس المراد يوم التعذر، فعلى هذا القول: يكون الضمان يوم التلف وليس يوم التعذر، (فقيمته إذاً) إشارة إلى الاستحقاق، أي: تلزمه القيمة بسبب عدم وجود المثل، والحقيقة كلا القولين له وجه وإن كان الثاني أظهر.

قال رحمه الله: [ ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه ].

كانوا في القديم يصنعون أشياء لا يمكن أن يصنع مثلها من كل وجه، مثلاً: الأواني في زماننا يمكن إيجاد المثلي؛ لكن في القديم لا يمكن؛ لأنه إذا صنع الحداد إناء ربما وسع فيه وربما ضيق، ولم يكن هناك -مثل زماننا الآن- صبُّ الآنية بطريقة نظامية تعرف فيها أطوالها وتعرف فيها مقاساتها بشكل دقيق يمكن أن يوجد فيه المثل، فكانوا في القديم يمثلون بالأواني؛ لأن الغالب عدم انضباطها، فما كان من المغصوبات لا مثلي له، فحينئذٍ يجب ضمانه بالقيمة.

لكن لو أن شخصاً أتلف مغصوباً لا مثلي له، وقلنا له: يجب عليك أن تدفع القيمة، فرضي صاحب المغصوب، وقال: أنا أرضى بالقيمة ما دام أنه ليس له مثل ثم قال: أنا اشتريته بعشرة آلاف، ونظرنا في الشيء المغصوب وجدنا أن صاحبه استخدمه سنتين كسيارة -مثلاً- فأصبحت قيمتها ثمانية آلاف، فهل العبرة بقيمتها يوم اشتراها، أم العبرة بقيمتها يوم أتلفها أم العبرة بقيمتها يوم اغتصبها؟

وفائدة ذلك: قد تكون قيمتها يوم الشراء غالية، وقيمتها يوم الاغتصاب دونها في الغلاء، وقيمتها يوم التلف أقل قيمة، فتكون القيمة بالشراء -مثلاً- عشرين ألفاً، فاغتصبها منه في شهر محرم وقيمتها عشرة آلاف، ثم بقيت مغصوبةً نصف سنة مثلاً، فأصبحت قيمتها خمسة آلاف عندما أتلفها، فهل يدفع عشرين ألفاً أو عشرة آلاف أو خمسة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة، والأقوى في هذه المسألة قولان:

القول الأول يقول: قيمتها يوم اغتصبها، والقول الثاني يقول: قيمتها يوم أتلفها، وهناك قول ثالث يقول: ننظر أغلى القيمتين؛ لأنه ربما كانت يوم التلف أغلى منها يوم الغصب وهذا قد يقع، ربما قد تكون قديمة فلما أتلفت أصحبت قيمتها أكثر أو ارتفع سوقها مثل: المجوهرات ونحوها، فاليوم الذي أتلفها فيه شاء الله أن قيمتها غالية، أو اغتصب بيتاً وهدمه، وقيمته يوم اغتصبه يعادل مائة ألف، ويوم أتلفه غلت قيمة المواد البنائية، فأصبحت قيمة بنائه خمسمائة ألف، فبعض العلماء يقول: نعتبر القيمة باليوم الذي اغتصب فيه الشيء، فإنه قد أصبح في ذمته ذلك الشيء، فنحن نوجب عليه ضمان القيمة بيوم الغصب.

ومنهم من قال: لا. هو أخذ البيت الذي هو العقار، أو أخذ السيارة أو أخذ الدابة، ولكنه كان ملزماً بردها؛ لأنها موجودة، ولم يخاطب شرعاً بالضمان إلا بالتلف؛ لأن التلف هو الذي أوجب علينا أن نخاطبه بالضمان، وإلا لو كانت غير تالفة لردها، فأصبحت ذمته مشغولةً بالقيمة يوم التلف.

وهذا القول من أقوى الأقوال: أن ضمانها يكون بقيمتها يوم تلفت، وإن كان الاحتياط بالنظر إلى أغلى القيم لا شك أنه أقوى، خاصةً وأن فيه نوعاً من التعزير، وهذا مقصود شرعاً للغاصب فيغرم أعلى القيمتين، وهذا على خلاف الشرع من حيث الأصل ولكن براءة لذمته، وبالاعتداء والغصب صار الأمر مختلفاً.

الخلاصة: أننا نطالبه بالضمان بقيمة العين التالفة المغصوبة يوم تلفت ولا ينظر إلى قيمتها يوم اشتريت، ولا ينظر إلى قيمتها يوم اغتصبت، فيلزم بضمانها يوم تلفت؛ لأنه كان مغتصباً للعين مخاطباً بردها ولم يخاطب بالقيمة إلا لما أتلف، فأصبحت ذمته مشغولةً بالقيمة في يوم التلف وليس قبله؛ فلذلك نقول: يجب عليك دفع قيمتها يوم تلفت.

وقوله: [ وإن تخمر عصير فالمثل، فإن انقلب خلاً دفعه ومعه نقص قيمته عصيراً ].

فقوله: (وإن تخمر عصير فالمثل).

إن اغتصب عصيراً فبقي العصير عنده حتى صار خمراً، فحينئذٍ يتعذر ردّ المثل، وهذا يدل على دقة العلماء رحمهم الله، فهم أعطوك القاعدة وهي: أنه يجب عليك أن تحكم بضمان المغصوب بمثله، وإن تعذر المثل تنتقل إلى القيمة.

يرد السؤال: هل هناك صور يمكن أن توجد فيها العين المغصوبة ولا يطالب بردها، ويجب عليه ضمان مثلها، قالوا: نعم، إن أخذ العصير واغتصبه عصيراً وتحول هذا العصير إلى خمر، كعصير تفاح؛ لأن العصير إذا مكث مدة يتخمر، فأخذ عصير تفاح أو عنب فبقي عنده مدة يوم أو يومين فتخمر، فحينئذٍ لا يمكن رده؛ لأنه يجب إتلافه كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أبا طلحة رضي الله عنه أن يهريق الخمر وأن يكسر الإناء -وهو وعاء الخمر- فدلّ هذا على أنه يجب إتلاف الخمر.

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المزادتين: (أن الرجل لما أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم المزادتين وحرم عليه بيعهما فتح المزادتين وسكبهما على الأرض)، وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أنه لما نزل تحريم الخمر جرت بها سكك المدينة عندما أهريقت وأتلفت، فالأصل أن الخمر تتلف، فلو أنه اغتصب عصيراً ثم تحول هذا العصير إلى خمر نقول: يد الغاصب يد ضمان، فيجب عليه أن يتلف هذا الخمر، وأن يرد لصاحب العصير مثله، وذلك لأن العصير يكون مثلياً فيجب عليه الضمان بالمثل، وقد يتحول الخمر إلى خل بطريقتين:

الطريقة الأولى: أن يتحول بنفسه، وجمهرة أهل العلم: أن الخل إذا تحول بنفسه صار حلالاً طاهراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح: (نعم الإدام الخل)، والخل لا يمكن أن يصير خلاً إلا بعد أن يكون خمراً، وهذا المراد به: إذا تخلل بنفسه، والدليل على أنه يحل إذا تخلل بنفسه حديث أبي طلحة رضي الله عنه حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن خمر الأيتام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يريق الخمر، فلو كان يجوز تخليل الخمر لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها، فدل على أنه لا يجوز لمالك الخمر أن يخللها بنفسه، ولكن إن تخللت بنفسها فإنه يجوز وتكون طاهرةً حينئذٍ، فلو أنه اغتصب عصيراً فبقي العصير عنده مدةً من الزمان، فتحول فيها هذا العصير إلى خمر ثم صار خلاً، فإذا صار خلاً فالعين يمكن ردها إلى صاحبها، فنقول له: ردّ هذا الخل إلى صاحبه؛ لأن الخل فرعٌ عن العصير، والفرع تابعٌ لأصله، فالمال مال المغصوب منه، فيجب عليك رد الخل، ثم ننظر: هل اختلفت قيمة الخل والعصير، فلا تخلو من ثلاث صور:

الصورة الأولى: أن تتفق القيمتان، كأن تكون قيمة العصير مائة ريال، فعندما غصبه كمية من العصير تخمرت ثم تخللت، فصارت قيمته خلاً بمائة ريال، فحينئذٍ يرده خلاً ولا إشكال.

الحالة الثانية: أن تكون القيمة ناقصة بعد أن صار خلاً.

الحالة الثالثة: أن تكون القيمة أغلى إذا صار خلاً.

فإذا تخلل وصارت قيمته أقل، قلنا له: ردّ الخل وادفع الفرق، وقد بينا دليل هذه المسألة وأقوال العلماء فيها، وقررنا أن من اغتصب شيئاً وأمسك ذلك الشيء حتى نقصت قيمته فإنه يجب عليه الضمان، واستثنينا مسألة غلاء السوق ويكاد يكون إجماع أهل العلم عليها إلا قول أبي ثور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي رحمه الله الذي قال: تضمن قيمة غلاء السوق.

أما إذا كان الأمر بالعكس فتكون قيمة الخل أغلى، كأن يغتصب عصيراً قيمته مائة فأصبحت قيمته خلاً مائتين، فحينئذٍ يرد الخل ولا ضمان عليه.

قال رحمه الله: [ فصل: وتصرفات الغاصب الحكمية باطلة ].

(تصرفات الغاصب): هذا الموضع والمسائل التي ذكرها المصنف رحمه الله في بداية هذا الفصل تتعلق بالتصرفات في العقود من بيعٍ وهبةٍ ووقفٍ وغير ذلك، فبعد أن بيّن لنا تصرفات الغاصب الفعلية شرع في تصرفاته الحكمية ببيع المغصوب، و(الحكمية): أي: الحكم على الشيء من حيث الصحة والفساد، تصرفات الغاصب الحكمية المعنوية باطلةٌ، هذا أصل، والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس لعرق ظالمٍ حق)، وقد حرم الله عز وجل أموال المسلمين، وجعل حُرمة المال كحرمة الدم، وإذا كان المال محرماً على الإنسان فتصرف فيه بدون ملكية وبدون إذنٍ وبدون ولايةٍ فتصرفه باطل؛ لأن المال ليس ملكاً له، فلو أن شخصاً جاء واغتصب سيارتك ثم باعها، فنحكم على البيع الثاني بالبطلان، ولو أخذ سيارتك ووهبها إلى شخص فإننا نحكم على هذه الهبة بأنها باطلة ويجب رد السيارة إلى مالكها.

فقوله: (باطلة): الباطل لا تترتب عليه الأحكام الشرعية بحيث لا يحكم بصحة البيع ولا بصحة الهبة، ولا يحكم بالآثار المترتبة عليه، فمثلاً: لو أنه اغتصب جاريةً ثم وطئها، فإن هذا الوطء يعتبر وطء زنا بالنسبة له، وبالنسبة للجارية: إذا أكرهت على جماعه وعلى استمتاعه كان حكمها حكم الإكراه على الزنا وسيأتي -إن شاء الله- في باب الحدود، فإذا وطئها وهو غاصب لها، فإنه لا يجوز لها أن تمكنه من نفسها، فهذا التصرف بالوطء نعتبره زنا، فإذا كان متزوجاً فإنه يرجم وحينئذٍ نعتبره متعدياً لحد الله عز وجل مرتكباً للزنا؛ لأنه يعلم أن هذه الجارية لا تحل له، وعلى هذا: فإذا وطئها يكون حكمه حكم الزنا ولا إشكال في ذلك.

لكن لو تصرف بالبيع أو تصرف بالهبة فيكون الضمان للعين ويجب عليه ردّ العين، وأما بالنسبة لما يترتب على الآثار المترتبة على هذا البيع وعلى الهبة؛ فإنه لا تترتب آثار شرعية، فكل ما بُني على هذا البيع فهو باطل.

فلو باع سيارةً لإنسان بعشرة آلاف، والسيارة مغصوبةٌ ثم قام الثاني ببيعها لشخص آخر ثم بيعت إلى ثالث أو رابعٍ فجميع البيوع باطلة؛ لأن ما بني على باطل فهو باطل، والقاعدة: أن الفرع آخذ حكم أصله، فالبيع الثاني فرعٌ عن البيع الأول؛ لأن البائع في البيع الثاني باع بملكية يدعيها من البيع الأول وبناها عليه، فإذا أسقطت البيع الأول أسقطت ما بعده من البيوعات، ثم لو أن الأخير الذي اشترى وهب السيارة أو تصدق بها حكمنا ببطلان البيع والهبة والصدقة؛ لأن جميع ما بني على باطل يحكم ببطلانه ويجب رد هذه السيارة إلى صاحبها وضمانها.

قال رحمه الله: [ والقول في قيمة التالف أو قدره أو صفته قوله ].

إذا كان الغاصب يجب عليه أن يدفع القيمة، فيبقى السؤال:

إذا اختلف الغاصب والمالك، نحن علمنا: أنه إذا أتلف الغاصب شيئاً ألزمناه بالقيمة، وأن هذه القيمة تقدر بيوم التلف، وبينا أن سبب ذلك: أن ذمته تشغل بضمان القيمة يوم التلف، فإذا ثبت هذا: فما الحكم إذا اختلف الغاصب مع صاحب العين، فقال صاحب العين: قيمتها مائة ألف ريال، وقال الغاصب: بل قيمتها تسعون ألفاً، فهل نصدق المالك ونقول للغاصب: ادفع مائة ألف، أو نصدق الغاصب ونقول له: ادفع تسعين ألفاً؟

الجواب: أن القول قول الغاصب إلا إذا قامت البينة على صدق المغصوب منه والمالك، وهذا مبني على أنه: إذا اختلف الاثنان في القيمة، فقال الغاصب: قيمتها تسعون ألفاً، وقال المالك: بل مائة ألف، فتجزم بأن التسعين ألفاً هي القيمة أي اليقين: أن التسعين ألفاً هي القيمة؛ لأنه لما قال الغاصب تسعين، وقال المالك: مائة، اتفقوا على أنها بلغت تسعين واختلفوا في العشرة آلاف الزائدة التي ما بين المائة والتسعين فهل نصدق المالك أو الغاصب؟

فتقول: التسعين لا إشكال أنها ثابتة، فيبقى السؤال في العشرة آلاف التي يدعيها المالك على الغاصب، وكل من ادعى شيئاً، فالقول بخلافه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناسٌ دماء أقوام وأموالهم ولكن اليمين على من أنكر)، فبين عليه الصلاة والسلام: أن المدعي للزائد يطالب بالبينة، وعلى هذا نقول: يجب على مالك السيارة أن يثبت بشهادة الشهود أو شهادة أهل الخبرة أن السيارة يوم التلف تستحق مائة ألف وإلا أخذ التسعين، وإذا أنكر الغاصب فإنه يحلف اليمين، وهذا هو معنى قولهم: (فالقول قوله مع يمينه) وعلى هذا: إذا ذهب الاثنان إلى القاضي، فسيقول القاضي للغاصب: كم قيمتها؟ يقول: قيمتها تسعون. ويقول للمالك: كم قيمتها؟ يقول: مائة. فيسأل المالك صاحب العين المغصوبة: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة. يقول له: ليس لك إلا يمينه. فيحلف الغاصب ويقول: والله إن قيمتها يوم التلف تسعون ألفاً، فإذا حلف برئ، وإلا ردت اليمين كما هو معلوم في القضاء.

وقوله: (أو قدره).

القدر يرجع إلى العدد، فإذا ادعى الغاصب أن له ثلاث سيارات، ثم قال المالك: بل أربع سيارات، واختلف في قدر المغصوب، هل هو ثلاث سيارات أو أربع سيارات؟ فنقول: القول قول الغاصب؛ لأن الغاصب يقول: ثلاث سيارات، والمالك يقول: أربع سيارات، فكلهم متفقون على ثلاث، والشك في الرابعة، والقاعدة: أن الغارم مدعىً عليه، وهذا عند بعض العلماء: أن كل من عليه الغرم يعتبر مدعىً عليه، فيكون القول قوله، فالغاصب الآن غارم، فإذا قلنا: إنه يقول له: بل أربع سيارات. فحينئذٍ القول قول الغاصب حتى يقيم المالك بينة وشهوداً على العدد الذي ادعاه فيكون القول قوله.

وقوله: (أو صفته قوله).

قال المالك للغاصب: إن السيارة التي أتلفتها من النوع الممتاز. قال الغاصب: لا. بل من النوع الرديء. كأن يكون هناك نوع من أغلى الأنواع الذي هو أجود أنواعها وفيها -مثلاً- أربعة أنواع، فقال له: إن الذي اغتصبته النوع الممتاز، وطبعاً سيقول المالك هذا؛ لأن هذا أحظ له وأكثر قيمة، قال الغاصب: أبداً، بل كانت السيارة من النوع الرديء، قال له: اغتصبت سيارة مكيفة، قال: لا. بل اغتصبت سيارة غير مكيفة، قال: اغتصبت إذاً سيارة أتوماتيكية، قال: لا. بل سيارة عادية، فهذه الأوصاف الموجودة التي تختلف من زمان إلى زمان ينظر فيها إلى القدر المشترك بين الطرفين، ونقول: اليقين أنها سيارة من نوع عادي، وأن أوصافها عادية حتى يثبت أنها من الأوصاف الممتازة، أو قال: أتلفت ساعةً من النوع الممتاز، وهو نوع كذا وكذا. قال: لا. بل أتلفت ساعة من نوع كذا وكذا، وهو نوع أردأ أو أقل، فنقول حينئذٍ: القول قول الغاصب حتى يثبت المالك أنها من النوع الممتاز أو الجيد، وهكذا في بقية الأمثلة، فالقول قوله، القاعدة هي هي، والمسألة هي هي، فنقول: القول قول الغاصب؛ لأنه غارم، وهذا وجه عند بعض العلماء، والغارم مدعى عليه، ولأنهما اتفقا على الرديء، وليس عندنا يقين على الجيد؛ ولأن الأصل هو براءة ذمته حتى يدل الدليل على شغلها، فلما أثبت أن المغصوب على هذه الصفة التي ذكرها من الرداءة، وقد أثبت للمغصوب المستحق صفةً يكون على مثلها، وادعى المالك ما هو زائد، فسيكون حينئذٍ مطالباً بالبينة والدليل، وكل هذه وجوه نخرج عليها هذا القول الذي اختاره المصنف وجماعة من أهل العلم رحمهم الله.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3712 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3626 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3448 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3380 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3342 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3323 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3282 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3232 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3192 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3176 استماع