شرح زاد المستقنع باب الصلح [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد تقدم معنا في المجلس الماضي بيان المقدمات المتعلقة بباب الصلح، وذكرنا حقيقة الصلح في لغة العرب، وحقيقته عند العلماء رحمهم الله، وكذلك بيّنا دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على مشروعية الصلح، وأنه من أحب الأعمال إلى الله عز وجل خاصة إذا كان بين الأقرباء، واشتمل على صلة الرحم ونحو ذلك من المصالح العظيمة التي قصد الشرع تحقيقها.

وبيّنا في المجلس الماضي ما ينبغي على من أراد أن يدخل في الصلح من مراعاة حال الخصمين وإنصافهما، وحث صاحب الحق على التنازل عن حقه شريطة أن لا يوجد شيء من الإحراج والإضرار به.

وبعد هذا ينبغي بيان جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بهذا الباب الذي يحتاجه الناس في كثيرٍ من أحوالهم وشئونهم، والفقهاء رحمهم الله اعتنوا ببيان المسائل المتعلقة بالصلح؛ لأن الكتاب والسنة اعتنى كل منهما ببيان الأصول العامة، وفرّع الفقهاء والعلماء على هذه الأصول المسائل والأحكام.

وعند النظر في الصلح ينبغي أن ينتبه إلى أن الصلح في الأصل إنما يقوم على الخصومة، وبناءً على ذلك فلا بد من وجود طرفين، أحدهما: مدعٍ، والثاني: مدعى عليه، وتقع الخصومة في شيء من الحقوق، وقد تكون من الحقوق الحسية المادية، كالحقوق المتعلقة بالأموال، وقد تكون الخصومة في أمور اعتبارية كحقوق الأعراض ونحوها.

وإذا ثبت هذا فمعناه أنه لا بد من وجود دعوى بين الطرفين، وهذا ما يقع في حال الخصومة، فقسّم العلماء رحمهم الله باب الصلح إلى جزئيتين تعتبران بمثابة نوعين للصلح: الجزئية الأولى تتعلق بالإقرار، والصلح في حال الإقرار، والجزئية الثانية تتعلق بالصلح في حال الإنكار.

وبعض العلماء إذا قسم الصلح إلى هذين القسمين يُلحق بالقسم الثاني الصلح مع السكوت حيث لا إقرار ولا إنكار.

فإذا أراد طالب العلم أن ينظر إلى هذه المسائل يمكن أن يقسِّمها إلى هذين القسمين أو إلى ثلاثة أقسام، فإن قسّمها إلى قسمين، فالقسم الأول: الصلح مع الإقرار، والقسم الثاني: الصلح مع الإنكار أو السكوت.

أما إذا أراد أن يقسمها إلى ثلاثة أقسام فالأمر واضح.

صلحٌ مع الإقرار.

وصلحٌ مع الإنكار.

وصلحٌ مع السكوت.

ولمّا كانت أحكام السكوت تتفرّع على أحكام الإنكار؛ ألحق العلماء الذين يقولون بالنوعين النوع الثالث بالنوع الثاني كما ذكرنا.

فما معنى صلح إقرار؟ وما معنى صلح إنكار؟ وما معنى صلح السكوت؟

صلح الإقرار

صلح الإقرار: أن يختصم الرجلان عند القاضي، فيقول أحدهما: لي على محمد ألف ريال، فيتوجه القاضي بالسؤال للخصم الحاضر وهو محمد: ماذا تقول؟ أو: هل لفلان عليك ألف؟ فيقول: نعم.

إذاً: معناه أن الخصم يُقر لخصمه بالحق.

ففي حال إقرار الخصم بالحق وثبوت الدعوى عليه، تأتي مسائل الصلح وتنبني على هذه الحال، هذا معنى قولهم: صلح مع الإقرار، وله فروع سنذكرها إن شاء الله.

الصلح مع الإنكار

والصلح مع الإنكار:

قال زيد: لي على محمد ألف ريال ديناً عليه، فسأل القاضي محمداً: يا محمد! هل لزيد عليك ألف؟ قال: لا. فأنكر.

فيُطالب القاضي المدَّعِي بالبينة، فإن قال: ليس عندي بينة، وجه اليمين على من أنكر، فقبل توجيه اليمين، ثم يتلافى الخصم توجيه اليمين، يكون عنده ورع وخوف من الله عز وجل، وهو يعلم أنه مقِر، لكن لا يحب أن يحلف اليمين، وهذا يقع فيه بعض الناس، وقد تحاشى ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، فيحدُث الصلح بينهما في هذه المرحلة.

ولذلك بعض العلماء يرى أن الصلح في هذه الحالة -أي في حالة الإنكار- يدفع اليمين عن الخصم، وقد وقع هذا لبعض الصحابة رضي الله عنه، وأُثر عن عثمان رضي الله عنه أنه اندفعت عنه اليمين بالصلح في حال المخاصمة، وسيأتي إن شاء الله بيان أحكام هذا النوع.

الصلح مع السكوت

النوع الثالث: أن يقول الخصم: لي على محمد ألف، فسأل القاضي محمداً: هل لزيد عليك ألف؟ فسكت ولم يقل (نعم) فيُقر، ولم يقل (لا) فيُنكر، فلا ندري أهو منكر أو مقر، وهل يُعتبر مَن سكت مُقِراً أو لا؟

والقاعدة عند العلماء: (لا يُنسب لساكت قول) إلا أن هناك مسائل ذكرها العلماء رحمهم الله ونصّت الشريعة على اعتبار السكوت فيها بمثابة الرضا، مثل سكوت الأبكار ونحو ذلك.

لكن في هذه الحالة الرجل لم يُقر ولم يُنكر، فإن حصل الصلح قبل حدوث الإقرار أو الإنكار اصطلح الخصمان في هذه الحالة.

إذاً: للصلح ثلاثة أحوال: الصلح حال الإقرار، والصلح حال الإنكار، والصلح حال السكوت حيث لا إنكار ولا إقرار.

صلح الإقرار: أن يختصم الرجلان عند القاضي، فيقول أحدهما: لي على محمد ألف ريال، فيتوجه القاضي بالسؤال للخصم الحاضر وهو محمد: ماذا تقول؟ أو: هل لفلان عليك ألف؟ فيقول: نعم.

إذاً: معناه أن الخصم يُقر لخصمه بالحق.

ففي حال إقرار الخصم بالحق وثبوت الدعوى عليه، تأتي مسائل الصلح وتنبني على هذه الحال، هذا معنى قولهم: صلح مع الإقرار، وله فروع سنذكرها إن شاء الله.

والصلح مع الإنكار:

قال زيد: لي على محمد ألف ريال ديناً عليه، فسأل القاضي محمداً: يا محمد! هل لزيد عليك ألف؟ قال: لا. فأنكر.

فيُطالب القاضي المدَّعِي بالبينة، فإن قال: ليس عندي بينة، وجه اليمين على من أنكر، فقبل توجيه اليمين، ثم يتلافى الخصم توجيه اليمين، يكون عنده ورع وخوف من الله عز وجل، وهو يعلم أنه مقِر، لكن لا يحب أن يحلف اليمين، وهذا يقع فيه بعض الناس، وقد تحاشى ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، فيحدُث الصلح بينهما في هذه المرحلة.

ولذلك بعض العلماء يرى أن الصلح في هذه الحالة -أي في حالة الإنكار- يدفع اليمين عن الخصم، وقد وقع هذا لبعض الصحابة رضي الله عنه، وأُثر عن عثمان رضي الله عنه أنه اندفعت عنه اليمين بالصلح في حال المخاصمة، وسيأتي إن شاء الله بيان أحكام هذا النوع.

النوع الثالث: أن يقول الخصم: لي على محمد ألف، فسأل القاضي محمداً: هل لزيد عليك ألف؟ فسكت ولم يقل (نعم) فيُقر، ولم يقل (لا) فيُنكر، فلا ندري أهو منكر أو مقر، وهل يُعتبر مَن سكت مُقِراً أو لا؟

والقاعدة عند العلماء: (لا يُنسب لساكت قول) إلا أن هناك مسائل ذكرها العلماء رحمهم الله ونصّت الشريعة على اعتبار السكوت فيها بمثابة الرضا، مثل سكوت الأبكار ونحو ذلك.

لكن في هذه الحالة الرجل لم يُقر ولم يُنكر، فإن حصل الصلح قبل حدوث الإقرار أو الإنكار اصطلح الخصمان في هذه الحالة.

إذاً: للصلح ثلاثة أحوال: الصلح حال الإقرار، والصلح حال الإنكار، والصلح حال السكوت حيث لا إنكار ولا إقرار.

الحالة الأولى: الصلح مع الإقرار.

الإقرار: أصله من قَرَّ الشيء إذا ثبت، والإقرار في عرف العلماء: الاعتراف، ويعتبر هذا النوع من أقوى الحجج القضائية والتي يسميها العلماء (حجة الإقرار)، والسبب في ذلك أنه شهادة من الإنسان على نفسه، والإنسان بحكم ما أودع الله فيه من نور العقل لا يشهد على نفسه بالضرر.

وليس هناك إنسان أعطاه الله عقلاً، وهو في عقله وإدراكه على ما يظهر لنا من حاله يشهد بالضرر على نفسه، فإذا شهد على نفسه بحق فقيل له: هل لفلان عليك ألف؟ فقال: نعم، له علي ألف؛ فالأصل أنه صادق، وكما يقول بعض المعاصرين: (الإقرار سيد الأدلة).

فإذا وقع الإقرار والاعتراف من الخصم لخصمه، فقال: لزيدٍ علي ألف، ففي هذه الحالة نحكم بثبوت الألف، والألف كما هو معلوم حقٌ مالي لشخص معيّن وهو المدَّعِي زيد.

لكن السؤال الآن: إذا وقع الإقرار وثبت أن لزيد على عمرو ألفاً؛ فماذا يقع؟ لا يخلو الأمر من صور:

الصورة الأولى: أن يتنازل المدعي عن حقه

الصورة الأولى: أن يتنازل زيد عن حقه، وهي صورة الإسقاط، فيقول ما دمت قد أقررت بحقِّي فأنا مسامحك، أو أنا متنازل عن حقي، أو نحو ذلك من ألفاظ الهبة أو الصدقة.

الصورة الثانية: مطالبة المدعي بحقه كاملاً

الصورة الثانية: إذا سأل القاضي محمداً: هل لزيد عندك ألف، فقال: نعم؛ فحينئذ يُطالب القاضي الخصم أن يطالب خصمه بدفعها، فيقول: مادام أن محمداً قد اعترف بألفِي فأرجو من القاضي أن يُطالبه بدفعها، فيطالِب وهذه الحالة عكس الحالة الأولى فإنه في هذه الحالة -الثانية- يقول: أريد حقي كاملاً وهو الألف الذي على محمد.

ففي الحالة الأولى إذا قال: نعم. لزيد علي ألف، فقال زيد: أبرأته وسامحته، أو: هي صدقة مني عليه، أو: هي هبة مني له، فلا إشكال بإجماع العلماء، وقد تقدّم معنا في باب القرض وغيره أن صاحب الحق إذا تنازل عن حقه فلا إشكال فيه.

أي أنه من حقك إذا كان لك دين على أحد أن تُسقط كل المال، كما أن من حقك أن تأخذ هذا المال وتتصدق به، سواءً أسقطته بطريق الصدقة كقولك له: هو صدقة مني عليك، أو أسقطته عن طريق الهبة فقلت: هو هبة مني لك، لكن إن أسقطته على سبيل الصدقة فحكمه حكم الصدقات، كما سيأتي إن شاء الله، وإن أسقطته على سبيل الهبة فقلت: وهبتك هذا المال، فحكمه حكم الهبة، وتسري عليه جميع أحكام الهبات.

لكن أنبه أن باب الصلح في ظاهره صلح، لكن أهم ما فيه من المسائل أنك تنتقل من باب الصلح إلى أبواب أُخر، فقد تنتقل إلى باب البيع، وقد تنتقل إلى باب الإجارة، وقد تنتقل إلى باب الصدقة أو باب الهبة.

فإذا كان الشخص قد أسقط حقه الذي على خصمه بطيب نفس منه ناوياً الصدقة فصدقة، وإن كان بقصد الهبة فهو هبة... إلخ.

فهذه الحالة لا إشكال فيها.. أن يتنازل عن جميع حقه فتُسمى حالة: الإسقاط أو الإبراء.

والحالة الثانية: أن يطالب بجميع حقه، ولا إشكال فيها أيضاً؛ لأنه إذا ثبت في مجلس القاضي وحكم القاضي بإقرار الخصم أن عليه للمدعي هذا المال؛ فالواجب شرعاً أن يطالب المدين بسداد دينه الذي عليه، ويُطالب من حمل الحق بأدائه والوفاء به لصاحبه، هذا في حالة ما إذا طالبت بحقك كاملاً.

الصورة الثالثة: أن يصطلح الخصمان على المعاوضة بعين أو منفعة

مسألة الصلح.. أن يقع بين الطرفين صلح يتفقان عن طريقه بإسقاط الخصومة ورفع المطالبة، فيقع بينهما هذا الصلح على صور:

الصورة الأولى: أن يكون بالمعاوضة عن الدين والحق.

الصورة الثانية: أن يكون جامعاً بين المقابلة والمسامحة.

فالصورة الأولى: صلح المعاوضة: إذا كان على سبيل المقابلة، فإنهما يصطلحان على مقابلة المال بشيءٍ آخر، إما أن يكون عيناً أو منفعة، ففي هذه الصورة يتفق الطرفان على أن هذه الألف -مثلاً- سيُدفع في مقابلها شيء تنتهي بسببه الخصومة، وهذا الشيء الذي يُدفع في مقابل الألف، إما أن يكون من الأعيان، وإما أن يكون من المنافع.

فيكون من الأعيان كأن يقول الشخص الذي لك عليه ألف: أُعطيك في مقابل الألف سيارة، أو أعطيك في مقابل الألف أرضاً، أو أعطيك في مقابلها كتباً، أو غيرها، فيعطيك عيناً من الأعيان، والمعاوضة على الأعيان تكون بيعاً، فإذا قال لك: أُعطيك في مقابل الألف سيارةً أو أرضاً أو عمارةً أو مزرعة، فينتقل الأمر إلى حُكم البيع، وفي هذه الحالة يصبح الصلح صلح معاوضة على عين تسري عليها أحكام البيع.

الصورة الثانية: أن يُعطيه في مقابل الحق منفعة، أي: يعاوضه ويقابله بمنفعة، فيقول له: هذه الألف التي لك علي، ما رأيك لو أنك سكنت في شقتي شهراً، أو سنة، أو نصف سنة، فأعطاه منفعة السكنى في شقته أو عمارته أوبيته سنة أو شهراً أو يوماً أو ما اتفقا عليه.

ففي حالة الصلح بالمعاوضة، إن أعطاه عيناً عِوضاً عن حقه فحكمه حكم البيع؛ لأن فائدة ذكر العلماء لمسألة بذل العين لقاء الحق في الصلح هو التنبيه على انتقال الحكم إلى مسألة البيع، وعلى هذا فلو قال له: أُعطيك في مقابل الألف سيارة وسكت؛ لم يصح حتى يُبين ما نوع السيارة وما صفاتها على الشروط المعتبرة في البيع.

ولو قال له: هذه الألف سأعطيك بدلاً عنها مائة دولار، فحينئذٍ يصبح الحكم حكم صرف (صرف الريالات بالدولارات) فتنتقل إلى باب الصرف، فتقول يَصِح إذا كان في مجلس العقد، وأعطاه إياها في مجلس العقد، فإن أخّر كان نسيئة.

فلو قال له: هذه الألف أعطيك بدلاً عنها طعاماً، ولم يبيِّن نوع الطعام لم يصح؛ لأنها بيع لمجهول، وبيع المجهول لا يصح؛ لأنه قد يتفقان على الطعام وهو يظنه جيداً فيظهر رديئاً، أو يظنه من نوع يحبه فإذا به من نوعٍ لا يحبه، فننتقل من باب الصلح في النوع الأول الذي يحصل فيه الإقرار بحال المعاوضة إلى باب البيع، ونطبق جميع مسائل البيع.

فلو أنه قال له: أعطيك في مقابل هذه الألف مائة دولار، فقال: قبلت، وسأحضرها لك غدا، أو قال: بعد ساعة، وافترقا قبل التقابض، فإن ذلك يلغى وتبطل المعاوضة، ولا نحكم بصحة المعاوضة؛ لأن الشرع لا يجيز النسيئة في مثل هذه المعاوضة، بل لا بد أن يكون يداً بيد، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح حديث ابن عمر : (كنت أبيع بالدراهم، وأقتضي بالدنانير، قال: لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء).

إذاً: لا بد وأن يكون يداً بيد حالاً في مجلس العقد، فلو قال له: أعطيك بدل هذه الألف خمسمائة ريال، وأعطيك بدل الخمسمائة الثانية -مثلاً- طعاماً، لم يصح لمسألة مد عجوة ودرهم بدرهمين، وهي مسألة الذرائع التي سبق بيانها معنا في باب الصلح.

إذاً: فائدة ذكر العلماء لهذا أن باب الصلح ينتقل به العقد من مسألة التراضي إلى مسألة ما انبنى عليه التراضي، فإن كان معاوضة على الأعيان وقع بيعاً وحكمه حكم البيع، فلو أنه باعه أو تعاقد معه على المعاوضة بشيءٍ محرّم، كما تقدم معنا.. كالميتة، أو الخمر، أو الخنزير فلا يصح البيع لحديث جابر بن عبد الله في الصحيحين: (إن الله ورسوله حرما بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام). فلو قال له: أُعطيك بدل الألف ميتةً أو خمراً أو خنزيراً أو أصناماً أو نحو ذلك من محرمات البيع لم يصح.

الصورة الثانية في حال المعاوضة: أن تكون المعاوضة بالمنافع، كأن يقول له: هذه الألف التي لك عليّ سأعطيك بدلها سكنى داري شهراً أو سنةً، فيقول: قبلت.

أو قال له: هذه ألف ثبتت لي عليك، أجِّرني بها دارك، أو أجِّرني بها عمارتك، فيقول: قبلت، فإنه يصح ذلك؛ لأنها إجارة على منفعة مباحة.

وأجمع العلماء على جواز المعاوضة على المنافع المباحة، لكنه في هذه الحالة وهي الحالة الثانية ينتقل إلى باب الإجارة، وتكون الإجارة على المنافع.. والمنافع مثل: السكنى، الركوب، الزراعة، الحدادة، النجارة ونحوها.

وإن قال له: هذه الألف التي لي عليك أريد في مقابلها أن توصلني إلى مكة، أو أحُج معك في سيارتك هذا العام، فإن قال: قبلت، تمّت إجارة على النقل.. أو يقول له: هذه الألف تنقل لي بها بضاعتي من المدينة إلى جدة، صحَّت؛ لأنها إجارة، ويجوز للمسلم أن يتعاقد على نقل بضاعته من بلد إلى آخر، وهذا بإجماع العلماء.

إذاً: تسري عليها أحكام الإجارات، وتأخذ حكم باب الإجارة.

والصورتان اللتان وقعت فيها المقابلة بالأعيان والمنافع، يسميها العلماء: صلح المعاوضة.

فإذا سُئِلت عن صلح المعاوضة تقول: أن يدفع العِوض لقاء الحق، ويكون هذا العوض على صورتين، إما أن يكون من الأعيان، وإما أن يكون من المنافع، فإن كان من الأعيان فحكمه حكم البيع، ويشترط في صحته ما يُشترط في صحة البيع، وإن كان على المنافع فحكمه حكم الإجارة، ويشترط فيه ما يُشترط في الإجارة الشرعية.

الصورة الرابعة: صلح الحطيطة

إذا كان الصلح على مقابلة مشتملة على معاوضة ومسامحة، فهذا النوع يسميه العلماء رحمهم الله بـصلح الحطيطة.

والحطيطة مأخوذة من حَطَّ الشيء، والمراد بحط الشيء: أن يُسقِطَ الدائن شيئاً من الدين.

وقد تقدَّم معنا أنه لو قال الخصم لخصمه: سامحتك عن جميع المال، فهذه حطيطة بكل المال ولا إشكال فيها، فإما أن تكون هبة فحكمها حكم الهبات، وإما أن تكون صدقة فحكمها حكم الصدقات.

لكن صلح الحطيطة الذي ذكره العلماء هو أن يحُط بعض المبلغ ويُبقي بعضه، كأن يكون الحق ألف ريال، فيتنازل عن خمسمائة -أي النصف- أو يتنازل عن مائتين وخمسين -أي: الربع- أو يتنازل عن سبعمائة وخمسين -أي: ثلاثة أرباع- فيتنازل عمّا بعض الدين قليلاً كان أو كثيراً، يقول: سامحتك في النصف والنصف الباقي أعاوضك عليه، فيعاوضه عليه بنفس الصور المتقدمة معنا، فإما أن يعاوضه على عين فبيع، وإما أن يعاوضه على منفعة فإجارة.

هذا بالنسبة للصلح الذي جمع بين المعاوضة والمسامحة، وهو الذي يسميه العلماء رحمهم الله بصلح الحطيطة، في جميع هذه الأحوال.. وجماهير العلماء والفقهاء رحمهم الله على جواز هذه الصور، والدليل على ذلك ما ثبت من الأدلة الشرعية التي سبق بيانها:

فمن الكتاب كقوله: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالاً أو أحل حراماً)، وفي هذا الحديث دليل على أن ما اصطلح عليه الطرفان وتراضيا عليه دون أن يكون فيه تحليل لما حرّم الله، أو تحريم لما أحلّ الله؛ فإنه جائز ومشروع.

ومن النظر: أن هذا النوع من الصلح الذي ذكرناه إذا كان بمعاوضة وكان في حكم البيع فالبيع جائز، وإن كان في حكم الإجارة فالإجارة جائزة، وإن كان جمعاً بين المسامحة وبين المعاوضة بإجارة أو بيع، فكل ذلك مما أذن الله به، وأذن به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس على المسلم حرج في جميع هذا.

هذا بالنسبة للصلح مع الإقرار، وقد استفتح المصنف رحمه الله باب الصلح بهذا النوع، فبيَّن النوع الأول بقوله رحمه الله: [إذا أقر له بدينٍ أو عينٍ فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي، صحّ إن لم يكن شرطاه]

بدين: مثلما ذكرنا، يقول للقاضي: لي على محمد ألف ريالٍ أعطيته إياها قرضاً، لأنه لا بد أن تكون الدعوى مستوفية للشروط، وسنبين هذا إن شاء الله في باب القضاء، فإذا كانت الدعوى مستوفية للشروط قال القاضي لخصمه: هل له عليك ألف؟ فإذا أقرّ أقر بدين، وفي هذا الحالة يكون الخصم قد أقر بدين.

الصلح على المعاوضة عن عين

والإقرار بعين: كأن يرفعه إلى القاضي، ويقول: إن محمداً قد أخذ سيارتي من نوع كذا وكذا، في يوم كذا وكذا، ولم يردها، فأنا أطالب القاضي أن يرد لي حقي، فالقاضي يسأل الخصم: هل أخذت يا محمد سيارته؟ فإن قال: نعم. فقد أقر بعين، فهناك أقر بدين وهنا أقر بعين.

وفي حال الإقرار بالدين والعين، يثبت الحق؛ لأنه إذا ثبت في العين وجب ردُّها، وإذا ثبت في الدين وجب رده.

فإذا كان عيناً مثلما: إذا قال زيد: لي على محمدٍ كتابٌ بداية المجتهد، أو صحيح البخاري.. صحيح مسلم، من طبعة كذا، ومن نوع كذا، ويذكر الصفات.

فسأل القاضي محمداً، فقال: نعم. وأقر به.

بعد أن ثبت أن لزيدٍ على محمد كتاباً بهذه الصفات التي وردت في الدعوى، قال محمد: أُعطيك بدلاً عنه نسخة من صحيح البخاري، أو نسخة من صحيح مسلم، فإذا قال زيد: قبلت، فحينئذٍ تكون معاوضة لقاء عين (عين بعين).

أو قال له: كتابك الذي لك علي أُعطيك بدله منفعة: كأن يقضي له حاجة، أو أن يحمل متاعه وبضاعته أو غير ذلك من المنافع التي لها قيمة، فيتراضيا على ذلك.

أو يقول: أجِّرني دارك شهراً في مقابلة الكتاب الذي عندك، فإن قال: قبلت، فإنه يجوز؛ لأن الكتاب له قيمة، وكأنه دفع قيمة الكتاب لقاء المنفعة، فيكون صلحاً ومعاوضة على منفعة.

وأما من ناحية الإسقاط: إسقاط البعض والرضا بالبعض، كأن يقول له: لي على محمد نسختان من بداية المجتهد، أو ثلاث نسخ، أو مائة نسخة من بداية المجتهد -كما يقع بين أصحاب المكتبات- فإن ثبت أن له عليه مائة نسخة من بداية المجتهد فقال: أعطيك بدلاً عنها مائة من صحيح البخاري، فإن قال: قبلت جاز، وإن قال له: أعطيك مائة من كتب منوعة، وقال: قبلت. فلا يصح حتى يبيِّن أنواع هذه الكتب.

فإذا قال: بعد أن بيّن أنواع الكتب أنا أتنازل لك عن نصفها، وأعطني نصفها، فهذا صلح الحطيطة، في حال المعاوضة على الأعيان.

والشاهد أنه أقر بعينٍ فأسقط البعض، ومن حقك أنه لو كان لك على شخص ألف ريال وأردت أن تسامحه عن الألف كلها جاز لك ذلك، فمن باب أولى أن يجوز إذا أسقطت بعض الدين.

الصورة الأولى: أن يتنازل زيد عن حقه، وهي صورة الإسقاط، فيقول ما دمت قد أقررت بحقِّي فأنا مسامحك، أو أنا متنازل عن حقي، أو نحو ذلك من ألفاظ الهبة أو الصدقة.

الصورة الثانية: إذا سأل القاضي محمداً: هل لزيد عندك ألف، فقال: نعم؛ فحينئذ يُطالب القاضي الخصم أن يطالب خصمه بدفعها، فيقول: مادام أن محمداً قد اعترف بألفِي فأرجو من القاضي أن يُطالبه بدفعها، فيطالِب وهذه الحالة عكس الحالة الأولى فإنه في هذه الحالة -الثانية- يقول: أريد حقي كاملاً وهو الألف الذي على محمد.

ففي الحالة الأولى إذا قال: نعم. لزيد علي ألف، فقال زيد: أبرأته وسامحته، أو: هي صدقة مني عليه، أو: هي هبة مني له، فلا إشكال بإجماع العلماء، وقد تقدّم معنا في باب القرض وغيره أن صاحب الحق إذا تنازل عن حقه فلا إشكال فيه.

أي أنه من حقك إذا كان لك دين على أحد أن تُسقط كل المال، كما أن من حقك أن تأخذ هذا المال وتتصدق به، سواءً أسقطته بطريق الصدقة كقولك له: هو صدقة مني عليك، أو أسقطته عن طريق الهبة فقلت: هو هبة مني لك، لكن إن أسقطته على سبيل الصدقة فحكمه حكم الصدقات، كما سيأتي إن شاء الله، وإن أسقطته على سبيل الهبة فقلت: وهبتك هذا المال، فحكمه حكم الهبة، وتسري عليه جميع أحكام الهبات.

لكن أنبه أن باب الصلح في ظاهره صلح، لكن أهم ما فيه من المسائل أنك تنتقل من باب الصلح إلى أبواب أُخر، فقد تنتقل إلى باب البيع، وقد تنتقل إلى باب الإجارة، وقد تنتقل إلى باب الصدقة أو باب الهبة.

فإذا كان الشخص قد أسقط حقه الذي على خصمه بطيب نفس منه ناوياً الصدقة فصدقة، وإن كان بقصد الهبة فهو هبة... إلخ.

فهذه الحالة لا إشكال فيها.. أن يتنازل عن جميع حقه فتُسمى حالة: الإسقاط أو الإبراء.

والحالة الثانية: أن يطالب بجميع حقه، ولا إشكال فيها أيضاً؛ لأنه إذا ثبت في مجلس القاضي وحكم القاضي بإقرار الخصم أن عليه للمدعي هذا المال؛ فالواجب شرعاً أن يطالب المدين بسداد دينه الذي عليه، ويُطالب من حمل الحق بأدائه والوفاء به لصاحبه، هذا في حالة ما إذا طالبت بحقك كاملاً.