خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع باب الحوالة
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [باب الحوالة]
الحوالة: مأخوذة من التحول، وأصل مادة التحول في لغة العرب تطلق بمعنى الانتقال يقال: تحول إلى الشيء إذا انتقل إليه.
والحوالة تطلق بهذا المعنى في غالب الاستعمال، ولذلك قال بعض العلماء: سمي الحول حولاً؛ لأنه يتحول الإنسان فيه وينتقل، فإذا مر العام ومرت السنة على الإنسان تغيرت أخلاقه وأموره وأحواله، فقد يتغير من الخير إلى الشر وقد يتغير من الشر إلى الخير، ولذلك سمي الحول حولاً من التحول بمعنى الانتقال.
وهذا الباب -وهو باب الحوالة- يقصد العلماء رحمهم الله منه: نوع من المعاملات التي أباحها الله عز وجل لعباده، وهي من المعاملات المالية التي يقصد منها نقل الحق الثابت في ذمة الإنسان إلى شخص آخر.
ولذلك عرف العلماء رحمهم الله الحوالة اصطلاحاً بقولهم: الحوالة انتقـال الحق من ذمة إلى ذمـة.
انتقال الحق: والمراد بالحق هنا الدين المستقر في الذمة، انتقال الحق من ذمة إلى ذمة: إذا كان لإنسان عليك دين عشرة آلاف -مثلاً- فإما أن تقوم بسداده بنفسك وإما أن تحوله إلى شخص آخر لك عليه نفس المبلغ، وحينئذٍ إذا حولت هذا الدين من ذمتك إلى ذمة الآخر الذي لك عليه عشرة آلاف وصف هذا النوع من المعاملات بكونه حوالة، فهي حوالة شرعية ولها أحكام خاصة في الشريعة الإسلامية.
وهذا النوع من العقود يصفه العلماء رحمهم الله: بكونه عقد رفق واستيفاء، أي عقد قصد الشرع منه أن يرفق بالعباد، وذلك من جهة كون الإنسان بدل أن يتكلف بمطالبة من له عليه الدين أحال الشخص الذي له عليه دين إلى شخص آخر.
وهذا لا شك أن فيه رفقاً بالعباد، وفيه تيسير عليك وإبراء لذمتك، ووفاء وفكاك من الحقوق.
وبناءً على ذلك فهناك مناسبة بين المعنى الاصطلاحي والمعنى اللغوي، فالحوالة: معناها خاص في الاصطلاح وأما في اللغة فإن معناها عام؛ لأنها في الحقيقة اللغوية صادقة على كل انتقال، فكل انتقال يوصف بكونه حوالة ويوصف بكونه تحولاً، إلا أن الحوالة في الاصطلاح انتقال مخصوص على وجه مخصوص بكيفية مخصوصة.
وعلى هذا يرد السؤال: ما هو الدليل على مشروعية الحوالة؟
ثبتت مشروعية الحوالة بدليل السنة وإجماع الأمة:
أما دليل السنة: فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم على مليء فَلْيَتْبَعْ) وفي رواية: (فأتْبِعْهُ) .
هذا الحديث يدل دلالة واضحة على مشروعية الحوالة وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا أحيل أحدكم على مليء).
وقوله عليه الصلاة والسلام (إذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع) دل على مسائل:
المسألة الأولى: وهي مشروعية الحوالة، وأن الإنسان إذا كان له دين على غيره وأحال صاحب الدين على ذلك الغريم الذي له عليه حظ فإن ذلك مشروع وجائز.
وأما المسألة الثانية: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم المحال أن يقبل الحوالة في قوله: (فليتبع) فلو طالبك رجل بخمسة آلاف ريال، وقال لك: لي على فلان خمسة آلاف اذهب وخذها، فإنه حينئذٍ -على ظاهر هذا الحديث- يلزمك أن تتبع غريمك.
واختلف العلماء في هذا اللفظ وهو قوله: (فَلْيَتْبَعْ) وفي رواية لـابن ماجة : (فأتْبِعْهُ) هل هو على الوجوب أو على الجواز؟
جمهور العلماء: على أنه للجواز؛ لأنه أمر بعد حظر، ومذهب الظاهرية والحنابلة وطائفة من أصحاب الإمام الشافعي على أنه للوجوب.
وهذا هو الصحيح والأقوى أنك إذا أحلت على رجل مليء قادر ولك على إنسان دين فأحالك على ذلك المليء القادر فإنه يجب عليك أن تتبع المليء القادر.
كذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: (على مليء) صفة ومفهوم المخالفة في الصفة: أنك إذا أحلت على معسر أو أحلت على مماطل ومؤذٍ فإن من حقك أن تمتنع.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم) فالمماطلة تكون غير مشروعة إذا كان الإنسان قادراً على السداد؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني) أي: القادر أن يسددك.
وعلى هذا فلا يجوز للمسلم إذا كان عليه دين أن يماطل في السداد إذا حل الأجل، ولهذا قال بعض العلماء: إنه إذا ماطل في السداد ولو مرة واحدة وهو قادر فإنه يعتبر فاسقاً؛ لأنها كبيرة، ويوصف بكونه فاسقاً وتسقط عدالته وترد شهادته.
وقال بعض الجمهور رحمهم الله: إنه يشترط في الحكم بسقوط العدالة أن يتكرر مطله، فلا يكون مرتكباً للكبيرة في المرة الواحدة، بل لابد وأن يتكرر منه الامتناع والمماطلة.
فهذا الحديث دل على مشروعية الحوالة كما ذكرنا، ودل إجماع العلماء على مشروعية الحوالة أيضاً، فقد أجمع أهل العلم رحمهم الله على أن الحوالة مشروعة، وأنه إذا كان عليك دين ولك على شخص دين وأحببت أن تحيل من له عليك الدين على الشخص الآخر الذي تسأله حقك وهو حق متماثل -مستوفٍ للشروط التي سنذكرهـا في الحوالة- فإن ذلك جائز ومشروع.
وفي مشروعية الحوالة كما ذكرنا تيسير على العباد؛ لأن الحوالة تتضمن جلب المصلحة ودرء المفسدة، فجلبت المصلحة لك من جهة إبراء ذمتك، ودرأت المفسدة عنك من جهة أذية مطالبة الغير لك.
ذكر المصنف رحمه الله خمسة عقود أولها القرض ثم يليه الرهن ثم يليه الضمان والكفالة ثم بعد ذلك باب الحوالة، وجميع هذه العقود تسمى عقود الرفق، وبعضها يختلف عن بعض لكنها تشترك من جهة إبراء الذمم واستيفاء الحقوق، فأنت إذا نظرت إلى القرض فهو منشأ هذه الأبواب التي ذكرنا فغالباً ما يقع الضمان والكفالة -سواءً كانت كفالة حضور أو كفالة غرم- في الديون، والرهن يتركب على الدين، ثم الحوالة تكون في الديون، وهذه الأبواب كلها جاءت وراء بعضها لوجود المناسبة بينها.
ولما كان عقد الحوالة يقصد منه الرفق شابه الأصل وهو القرض، ويقصد منه استيفاء الحقوق أيضاً؛ لأنك لما تحيل على المديون الذي لك عليه دين قصدت أن يستوفي صاحبك حقه من ذلك الدين، فهي من عقود الاستيفاء كالرهن، فإنك إذا وضعت السيارة رهناً أو الأرض رهناً إنما قصدت إذا عجزت عن السداد أن يسدد حقه من تلك العين المرهونة.
فهذه الأبواب كلها المناسبة بينها واضحة، وآخرها باب الحوالة لاشتماله على الإبراء.
إلا أن باب الحوالة يختلف عن الكفالة -التي كنا فيها في آخر دروسنا- من جهة كون الحوالة ينتقل الحق منك إلى الشخص الذي أحلت عليه، وبناءً على ذلك لا يستحق أن يطالبك بعد الحوالة، لكن في الضمان والكفالة من حقه أن يطالبك أو يطالب من كفلك، ولذلك قلنا: وله مطالبة أيهما شاء. ففي الكفالة إما أن يطالبك أو يطالب من كفلك، وأما في الحوالة، فلا يستطيع، إنما يتوجه مباشرة إلى الشخص الذي لك عليه الحق.
وعلى هذا يختلف باب الكفالة عن باب الحوالة من هذا الوجه، وهو أن الحوالة توجب براءة الذمة، ولكن في الكفالة لا يبرأ المكفول إلا إذا أبرأه صاحب الدين على التفصيل الذي سبق بيانه والإشارة إليه.
يقول المصنف رحمه الله: [لا تصح إلا على دين مستقر].
الحوالة تتركب من أربعة أركان:
- الركن الأول: المحيل.
- والركن الثاني: المحال.
- والركن الثالث: المحال عليه.
- والركن الرابع: المحال به.
أربعة أشياء: أولاً: المحيل، ثم المحال، ثم المحال عليه، ثم الرابع المحال به.
فالحوالة تستلزم الأركان السابقة، فلو فرضنا أن لي عليك عشرة آلاف ريال، ولك على زيد عشر آلاف ريال، ففي الأصل أطالبك بالعشرة والدين الثاني مطالبتك لزيد بنفس العشرة.
فإذاً هناك ثلاثة رءوس:
من كان له الدين، ثم من عليه الدين، ثم هناك دين ثالث يتعلق به الرأس الثالث الذي قلنا هو زيد.
ففي الحوالة تحيلني بالدين الذي عليك -وهو العشرة آلاف- على زيد.
فإذاً أركان الحوالة أربعة هي:
- محيل وهو أنت.
- ومحال وهو أنا.
- ومحال عليه وهو زيد.
- ومحال به وهو العشرة آلاف.
هناك شروط لابد من توفرها للحكم بصحة هذه الحوالة:
أن تكون الحوالة على دين مستقر
الديون تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
- دين لازم ومستقر.
- وعكسه دين غير لازم وغير مستقر.
- ودين لازم غير مستقر.
النوع الأول من الديون: وهو الدين اللازم المستقر: مثلوا له بأروش الجنايات، وقيم المتلفات، وثمن المعاوضات في المبيع المقبوض، هذه ثلاثة أمثلة.
المثال الأول:
أروش الجنايات: يكون الدين فيها مستقراً؛ رجل اعتدى على رجل ولو كان خطأً، كأن يكون صدمه بسيارته أنه فتلفت رجله أو يده فانشلت، فثبت حكم القاضي بأن عليه نصف الدية، فإذاً يثبت للمجني عليه خمسون ألف ريال التي هي نصف الدية، فإذا حكم القاضي بذلك فمعناه أن المجني عليه يطالب الجاني بدين لازم مستقر.
لازم لأن الجناية ثابتة عليه، وهذا الأرش قد جعله الشرع مقابل الجناية.
فبوجود السبب ينشأ المسبب، فلا إشكال في ثبوت الجناية، وعليه لا إشكال في ثبوت الحق وهو نصف الدية، فإذاً أصبح لازماً؛ لأنه ليس من حق الجاني أن يقول: لا أعطيك، بل يلزمه ويطالب بها رغماً عن أنفه؛ لأن هذا من جناية يديه ومن كسبه وسعيه.
فإذاً أولاً: هو لازم ولا يملك أن يتصالح في الامتناع منه، وثانياً: مستقر لأنه لا يئول إلى السقوط، وليس بمتردد يحتمل أن يبقى ولا يبقى، فإذاً أروش الجنايات يكون الدين فيها لازماً ومستقراً.
المثال الثاني:
قيم المتلفات: لو أن رجلاً صدم سيارة رجل فأتلفها أو كسر بها شيئاً، فقدر أهل الخبرة ذلك الإتلاف بعشرة آلاف ريال.
فإذاً يُلزم بضمان هذا التلف الذي قدر أهل الخبرة أن قيمته عشرة آلاف ريال، فنقول: هذا الدين الذي تعلق بالذمة إذا قضى به القاضي لازم مستقر؛ لأنه ليس بالمتردد الذي يحتمل أن يبقى ويحتمل أن يلغى، فهو ثابت بثبوت الإتلاف، كما ذكرنا في الجنايات.
المثال الثالث:
كذلك أيضاً ثمن المعاوضات في المبيع المقبوض مثلاً: لو أن رجلاً اشترى منك سيارة بعشرين ألف ريال، قال لك: اشتريت سيارتك هذه بعشرين ألفاً، وقدمنا في البيع أن الإيجاب والقبول هو الصيغة للبيع، فإذا قال: قبلت لزمه البيع، فيبقى خيار المجلس إذا افترقتما وقبض السيارة لزمه أن يدفع ثمنها.
فإذاً صار عقداً لازماً لأن البيع لازم، وقد بينا أنه من العقود اللازمة، والعشرون ألفاً التي هي قيمة السيارة مستحقة بالقبض.
- أروش الجنايات.
- قيم المتلفات.
- ثمن المعاوضات في المبيع المقبوض.
النوع الثاني: الدين غير اللازم غير المستقر مثاله: كما ذكرنا في المكاتبة رجل قال لعبده: كاتبتك باثني عشر ألفاً تدفع كل شهر ألفاً، لكن الكتابة من حيث هي يحتمل أن يعجز العبد فيعود رقيقاً ويحتمل أن يقوى وتمضي الكتابة، فهي دين غير مستقر.
ولذلك يقولون: يشترط في صحة الحوالة أن تكون في الديون المستقرة، فالكتابة من حيث هي تعتبر من الديون غير المستقرة؛ وغير لازمة لأنه في هذه الحالة لو أن الرقيق قال: لا أريد، فإنه من حقه ولا يلزم بالكتابة.
كذلك الجعالة لو قال: من عثر على سيارتي فله عشرة آلاف، فقبل العثور على السيارة فإن هذه العشرة آلاف غير مستحقه، ويحتمل أن يعثر عليها فيثبت الدين ويحتمل ألا يعثر عليها فلا يثبت الدين، فهو دين غير مستقر.
وغير لازم لأن من حقه أن يفسخ الجعالة قبل، لو أنه قال: من وجد سيارة ضائعة أعطيه عشرة آلاف ثم قال: رجعت، فإن من حقه أن يرجع؛ لأنه عقد غير لازم، فإذاً غير لازم والدين أيضاً غير مستقر، فهذا النوع الثاني من الديون.
النوع الثالث: الديون غير اللازمة غير المستقرة، وذلك كما لو قال له: بعتك عمارتي بعشرة آلف على أن لكل واحد منا الخيار ثلاثة أيام، ففي مدة الخيار نقول: البيع لازم من حيث هو، والأصل أنه عقد شرعي صحيح وثابت لا إشكال فيه، ولكن بالنسبة لهذا الدين وهو قيمة العمارة يحتمل أن يرجع أحدهما في مدة الخيار ويحتمل أن لا يرجع، فهو دين غير مستقر.
وعلى هذا لما أجازت الشريعة هذه الأنواع الثلاثة من الديون فصّل العلماء رحمهم الله في الحوالة فقالوا: إنها لا تصح إلا في الديون المستقرة.
فلا تصح إلا على دين مستقر، فلا تصح بالمكاتبة، ولا تصح -مثلاً- بمؤخر مهر المرأة أو إذا كان قبل الدخول، فلو أن امرأة عقد عليها رجل بعشرة آلاف، فلها عليه عشرة آلاف، لكن إذا لم يدخل بها فهي لا تستحق العشرة آلاف، ولا تستحق المبلغ إلا إذا دخل بها.
فيحتمل أن يدخل بها وتستحق العشرة آلاف، ويحتمل أن لا يدخل بها، فلو أرادت أن تحيل على زوجها بهذا الدين لم يصح؛ لأنه في هذه الحالة لم يترك لها استحقاق العشرة آلاف أو استحقاق المبلغ الذي ذكرناه.
فإذاً الشرط الأول في صحة الحوالة: أن تكون بدين مستقر، وهذا الشرط راجع إلى الركن الثالث وهو المحال به، فإنه لا تقع الحوالة إلا في ديون مستقرة، فإن كان الدين غير مستقر لم تصح الحوالة.
قال رحمه الله: [ولا يعتبر استقرار المحال به]
(المحال به): وهو الدين الذي لك على الشخص وتريد أن تحيله على الغير، فمن حقك في هذه الحالة أن تحيل على دين غير ثابت؛ لأن المحال به في الأصل غير ثابت، ويجوز في هذه الحالة أن يعاوض بالمثل.
وبناءً على ذلك فرقوا بين الزوج والزوجة، فإن الزوجة إذا أحالت على الدين الذي ليس لها حق المطالبة به إلا بعد الدخول لم تصح حوالتها؛ لأن الدين لم يستقر ولم يثبت، لكن لو أن هذا الدين وهو العشرة آلاف ريال أحال به الزوج فإنه يصح ويعتبر في هذه الحالة صحيحاً.
بمعنى: المرأة إذا طالبت الرجل بعشرة آلاف ولم يدخل بها فأحالها على رجل آخر صح؛ لأنه في هذه الحالة لا يشترط استقرار المحال به -يعني نفس الدين الذي للزوجة على الزوج- وإنما من حقه أن يمتنع من الإحالة، فيجوز له عندها أن يحيلها على طرف ثانٍ.
زيادة في التوضيح نقول: المحال به وهو الدين الذي تحيل عليه يشترط أن يكون مستقراً حتى لا تغرر بصاحب الحق، لكن عكسه الأمر فيه خفيف، فإن الشخص نفسه إذا كانت المرأة تطالبه بعشرة آلاف، ولم يثبت بعدُ مطالبتها فأحال به ذلك الدين صح؛ لأنه في هذه الحالة حتى لو رجع فإنه يصح له الرجوع، فالأمر فيه أوسع من غيره.
اتفاق الدينين جنساً ووصفاً ووقتاً وقدراً
هذا الشرط الثاني من شروط صحة الحوالة: اتفاق الدينين جنساً ووصفاً وقدراً.
الجنس: أن يتفق الدينان -الدين الأول الذي تحيل به والدين الثاني الذي تحيل عليه- جنساً كذهب بذهب وفضة بفضة ودنانير بدنانير ودراهم بدراهم وريالات بريالات ودولارات بدولارات.
فلا يصح أن يحيل بذهب على فضة، ولا يصح أن يحيل بريالات على دولارات؛ لأن رصيد الريالات من الفضة ورصيد الدولارات من الذهب، ولا يصح أن يحيل الريالات بالجنيهات ولا العكس؛ لأن رصيد الريالات من الفضة ورصيد الجنيهات من الذهب.
فلو أن شخصاً له على آخر ثلاثة آلاف ريال، والمديون له على شخص ثانٍ مبلغ ألف دولار، فالثلاثة آلاف ريال تعادل الألف دولار، فأراد أن يحيل، نقول: لا يصح؛ لأنه في هذه الحالة تدخله شبهة الربا.
ولذلك قال العلماء: لا يصح أن يحيل إلا مع اتحاد الدينين جنساً، وهذا راجع إلى مسألة أن الحوالة فيها شبهة بيع الدين بالدين.
ولذلك العلماء اختلفوا في الحوالة على وجهين، وبعضهم يقسمه إلى ثلاثة أوجه:
قال بعض العلماء: الحوالة من بيع الدين بالدين. فأنت لك عليّ عشرة آلاف دين، وأنا أُحيلك على شخص آخر لي عليه عشرة آلاف، فأصبح من باب بيع الدين بالدين، وهذا الوجه يقول به طائفة من العلماء رحمهم الله.
وفائدة هذا الوجه:
أنك إذا قلت: إن الحوالة من باب بيع الدين بالدين يثبت فيها خيار المجلس، وتسري عليها أحكام البيوع، ويعتبر عقد الحوالة بناءً على هذا القول مستثنىً من الأصل وخارجاً عن الأصل، وهذا في الحقيقة من أقوى الأقوال في المسألة وهو أنه من بيع الدين بالدين، فإن الذين قالوا: بأنها عقد إرفاق أو عقد استيفاء لم يستطيعوا أن يطبقوا أوصاف الاستيفاء في الأثر.
ولذلك إذا أحال على مليء فاحتال فإنه لا يستطيع أن يرجع إليه، فدل على أن الذمة قد انتقلت، وهذا لا يمكن أن يقع في مسألة الاستيفاء كما ذكرنا في الرهونات، وإنما يقع في مسألة البيع.
ولذلك القول: بأنها من بيع الدين بالدين من القوة بمكان، والسؤال: إذا كان الشرع قد حرم بيع الدين بالدين فكيف جازت الحوالة؟ قالوا: إن هذا مستثنى من الأصل.
ولذلك يجوز إخراج الخاص من العام، فالأصل العام يقتضي عدم جواز بيع الدين بالدين، ولكن جاز في الحوالة لورود إذن الشرع بها ولهذا نظائر؛ فإن الشرع يضع الشيء فتبقى قاعدة ثم يستثني فروعاً منها، وقد يأتي الحكم في الشرع على سبيل العموم ثم يخصص الشرع منه ما شاء.
وبناءً على ذلك تكون الحوالة فيها صورة البيع، وعلى هذا فإنهم يقولون: لابد وأن يكون الدينان متفقين جنساً كذهب بذهب وفضة بفضة، فلا يصح أن يحيل ذهباً على فضة ولا فضة على ذهب، كذلك أيضاً: لابد أن يتفق الدينان صفة؛ لأن الدين يكون معجلاً ويكون مؤجلاً؛ فإذا كان لك على شخص دين إلى نهاية محرم وأحالك على شخص عليه دين مؤجل إلى نهاية محرم صحت الحوالة، فلو قال لك: يا محمد! لي على زيد عشرة آلاف في نهاية محرم، فالعشرة آلاف التي لك عليّ في نهاية محرم أحيلك على الدين الذي لي على زيد؛ صح ذلك لاتفاق الدينين تأجيلاً.
وكذلك تعجيلاً فلو أنه أعطاك خمسة عشر ألفاً وحل الأجل في يوم خمسة عشر من ذي الحجة، فجاءك وقال لك: يا فلان! لي عليك خمسة عشر ألفاً أعطنيها، فتقول: أنا لي على زيد من الناس خمسة عشر ألفاً، وقد حلت مثلما حل دينك، اذهب وخذها من فلان فحينئذٍ يصح؛ لأن الدينين اتفقا صفة فالعاجل بالعاجل والآجل بالآجل، لكن لو كان أحدهما مُعجلاً والآخر مؤجلاً لم يصح، فلابد من اتفاقهما تعجيلاً وتأجيلاً.
الوصف: معلوم أن الدنانير من الذهب تختلف، فهناك الدنانير المصرية والدنانير الأميرية والدراهم البغلية فيقولون: جنساً كذهب بذهب وفضة بفضة، ووصفاً وعليه فدراهم مصرية بأميرية لا يصح؛ لأن هذه لها صفة غير صفة هذه، أو دنانير مكسرة بدنانير صحيحة، أو دراهم مكسرة بدراهم صحيحة لا يصح، لكن دراهم صحيحة، بدراهم صحيحة ودنانير صحيحة بدنانير صحيحة يصح.
ويدخل في الوصف التعجيل والتأجيل، وبعض العلماء يفرق التعجيل والتأجيل في الوقت كما صنع المصنف فقال: (جنساً ووصفاً ووقتاً).
الوقت: هو التعجيل والتأجيل، ولابد في المؤجل أن يتفقا قرباً وبعداً، فلا يصح أن يكون الدينان أحدهما أجله قريب والثاني أجله بعيد، بل لابد وأن يتفق الأجلان حتى تصح الحوالة.
قدراً: كعشرة آلاف بعشرة آلاف وخمسة عشر، بخمسة عشر، لكن يجوز أن يحيله بعشرة آلاف على شخص له عليه عشرون، فيقول له: أعطه منها عشرة يصح، ولا يؤثر وجود الفضل والزيادة، وتكون الحوالة في الحق الثابت بالدين الأول، فيقول له: لك عليّ عشرة آلاف ولي على زيد عشرون، اذهب وخذ منها عشرة سداداً لدينك ووفاءً لحقك.
قال: [ ولا يؤثر الفاضل ].
كما ذكرنا كأن يحيله بعشرة آلاف على من له عليه عشرون.
أن تكون الحوالة بمعلوم
أن تكون الحوالة برضا المحيل
هذه أربعة شروط هي التي تصح بها الحوالة، وقد عبر المصنف بقوله: (ولا تصح) وهذا يدل على أن الشروط شروط صحة؛ لأننا قدمنا أن هناك شروط صحة، وهناك شروط إجزاء، وهناك شروط نفاذ، وهنا قصد المصنف أن يبيّن أن هذا الشرط إذا لم يوجد ولم يتحقق لا نحكم بصحة عقد الحوالة.
فإذاً هذه الأربعة شروط لا تصح الحوالة بدونها وهي:
- الشرط الأول: أن يكون بدين ثابت مستقر.
- الشرط الثاني: أن يكون الدينان متفقين جنساً ووصفاً ووقتاً وقدراً.
- الشرط الثالث: أن تكون بمعلوم لا بمجهول.
- الشرط الرابع: أن تكون برضا المحيل.
هذه أربعة شروط لابد من توفرها، أما رضا المحيل: فقد حكى العلماء رحمهم الله الإجماع بهذه الصيغة بلا خلاف، فليس هناك أحد يخالف ويقول: إنها تقع حتى ولو لم يرض، إلا خلافاً شاذاً حكي عن الحسن البصري أحد أئمة التابعين رحمه الله برحمته الواسعة، ولكن جماهير السلف والخلف على هذا القول أنها لا تصح إلا برضا المحيل.
ذكر المصنف رحمه الله الشرط الأول بقوله: [لا تصح] أي: الحوالة [إلا على دين مستقر].
الديون تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
- دين لازم ومستقر.
- وعكسه دين غير لازم وغير مستقر.
- ودين لازم غير مستقر.
النوع الأول من الديون: وهو الدين اللازم المستقر: مثلوا له بأروش الجنايات، وقيم المتلفات، وثمن المعاوضات في المبيع المقبوض، هذه ثلاثة أمثلة.
المثال الأول:
أروش الجنايات: يكون الدين فيها مستقراً؛ رجل اعتدى على رجل ولو كان خطأً، كأن يكون صدمه بسيارته أنه فتلفت رجله أو يده فانشلت، فثبت حكم القاضي بأن عليه نصف الدية، فإذاً يثبت للمجني عليه خمسون ألف ريال التي هي نصف الدية، فإذا حكم القاضي بذلك فمعناه أن المجني عليه يطالب الجاني بدين لازم مستقر.
لازم لأن الجناية ثابتة عليه، وهذا الأرش قد جعله الشرع مقابل الجناية.
فبوجود السبب ينشأ المسبب، فلا إشكال في ثبوت الجناية، وعليه لا إشكال في ثبوت الحق وهو نصف الدية، فإذاً أصبح لازماً؛ لأنه ليس من حق الجاني أن يقول: لا أعطيك، بل يلزمه ويطالب بها رغماً عن أنفه؛ لأن هذا من جناية يديه ومن كسبه وسعيه.
فإذاً أولاً: هو لازم ولا يملك أن يتصالح في الامتناع منه، وثانياً: مستقر لأنه لا يئول إلى السقوط، وليس بمتردد يحتمل أن يبقى ولا يبقى، فإذاً أروش الجنايات يكون الدين فيها لازماً ومستقراً.
المثال الثاني:
قيم المتلفات: لو أن رجلاً صدم سيارة رجل فأتلفها أو كسر بها شيئاً، فقدر أهل الخبرة ذلك الإتلاف بعشرة آلاف ريال.
فإذاً يُلزم بضمان هذا التلف الذي قدر أهل الخبرة أن قيمته عشرة آلاف ريال، فنقول: هذا الدين الذي تعلق بالذمة إذا قضى به القاضي لازم مستقر؛ لأنه ليس بالمتردد الذي يحتمل أن يبقى ويحتمل أن يلغى، فهو ثابت بثبوت الإتلاف، كما ذكرنا في الجنايات.
المثال الثالث:
كذلك أيضاً ثمن المعاوضات في المبيع المقبوض مثلاً: لو أن رجلاً اشترى منك سيارة بعشرين ألف ريال، قال لك: اشتريت سيارتك هذه بعشرين ألفاً، وقدمنا في البيع أن الإيجاب والقبول هو الصيغة للبيع، فإذا قال: قبلت لزمه البيع، فيبقى خيار المجلس إذا افترقتما وقبض السيارة لزمه أن يدفع ثمنها.
فإذاً صار عقداً لازماً لأن البيع لازم، وقد بينا أنه من العقود اللازمة، والعشرون ألفاً التي هي قيمة السيارة مستحقة بالقبض.
- أروش الجنايات.
- قيم المتلفات.
- ثمن المعاوضات في المبيع المقبوض.
النوع الثاني: الدين غير اللازم غير المستقر مثاله: كما ذكرنا في المكاتبة رجل قال لعبده: كاتبتك باثني عشر ألفاً تدفع كل شهر ألفاً، لكن الكتابة من حيث هي يحتمل أن يعجز العبد فيعود رقيقاً ويحتمل أن يقوى وتمضي الكتابة، فهي دين غير مستقر.
ولذلك يقولون: يشترط في صحة الحوالة أن تكون في الديون المستقرة، فالكتابة من حيث هي تعتبر من الديون غير المستقرة؛ وغير لازمة لأنه في هذه الحالة لو أن الرقيق قال: لا أريد، فإنه من حقه ولا يلزم بالكتابة.
كذلك الجعالة لو قال: من عثر على سيارتي فله عشرة آلاف، فقبل العثور على السيارة فإن هذه العشرة آلاف غير مستحقه، ويحتمل أن يعثر عليها فيثبت الدين ويحتمل ألا يعثر عليها فلا يثبت الدين، فهو دين غير مستقر.
وغير لازم لأن من حقه أن يفسخ الجعالة قبل، لو أنه قال: من وجد سيارة ضائعة أعطيه عشرة آلاف ثم قال: رجعت، فإن من حقه أن يرجع؛ لأنه عقد غير لازم، فإذاً غير لازم والدين أيضاً غير مستقر، فهذا النوع الثاني من الديون.
النوع الثالث: الديون غير اللازمة غير المستقرة، وذلك كما لو قال له: بعتك عمارتي بعشرة آلف على أن لكل واحد منا الخيار ثلاثة أيام، ففي مدة الخيار نقول: البيع لازم من حيث هو، والأصل أنه عقد شرعي صحيح وثابت لا إشكال فيه، ولكن بالنسبة لهذا الدين وهو قيمة العمارة يحتمل أن يرجع أحدهما في مدة الخيار ويحتمل أن لا يرجع، فهو دين غير مستقر.
وعلى هذا لما أجازت الشريعة هذه الأنواع الثلاثة من الديون فصّل العلماء رحمهم الله في الحوالة فقالوا: إنها لا تصح إلا في الديون المستقرة.
فلا تصح إلا على دين مستقر، فلا تصح بالمكاتبة، ولا تصح -مثلاً- بمؤخر مهر المرأة أو إذا كان قبل الدخول، فلو أن امرأة عقد عليها رجل بعشرة آلاف، فلها عليه عشرة آلاف، لكن إذا لم يدخل بها فهي لا تستحق العشرة آلاف، ولا تستحق المبلغ إلا إذا دخل بها.
فيحتمل أن يدخل بها وتستحق العشرة آلاف، ويحتمل أن لا يدخل بها، فلو أرادت أن تحيل على زوجها بهذا الدين لم يصح؛ لأنه في هذه الحالة لم يترك لها استحقاق العشرة آلاف أو استحقاق المبلغ الذي ذكرناه.
فإذاً الشرط الأول في صحة الحوالة: أن تكون بدين مستقر، وهذا الشرط راجع إلى الركن الثالث وهو المحال به، فإنه لا تقع الحوالة إلا في ديون مستقرة، فإن كان الدين غير مستقر لم تصح الحوالة.
قال رحمه الله: [ولا يعتبر استقرار المحال به]
(المحال به): وهو الدين الذي لك على الشخص وتريد أن تحيله على الغير، فمن حقك في هذه الحالة أن تحيل على دين غير ثابت؛ لأن المحال به في الأصل غير ثابت، ويجوز في هذه الحالة أن يعاوض بالمثل.
وبناءً على ذلك فرقوا بين الزوج والزوجة، فإن الزوجة إذا أحالت على الدين الذي ليس لها حق المطالبة به إلا بعد الدخول لم تصح حوالتها؛ لأن الدين لم يستقر ولم يثبت، لكن لو أن هذا الدين وهو العشرة آلاف ريال أحال به الزوج فإنه يصح ويعتبر في هذه الحالة صحيحاً.
بمعنى: المرأة إذا طالبت الرجل بعشرة آلاف ولم يدخل بها فأحالها على رجل آخر صح؛ لأنه في هذه الحالة لا يشترط استقرار المحال به -يعني نفس الدين الذي للزوجة على الزوج- وإنما من حقه أن يمتنع من الإحالة، فيجوز له عندها أن يحيلها على طرف ثانٍ.
زيادة في التوضيح نقول: المحال به وهو الدين الذي تحيل عليه يشترط أن يكون مستقراً حتى لا تغرر بصاحب الحق، لكن عكسه الأمر فيه خفيف، فإن الشخص نفسه إذا كانت المرأة تطالبه بعشرة آلاف، ولم يثبت بعدُ مطالبتها فأحال به ذلك الدين صح؛ لأنه في هذه الحالة حتى لو رجع فإنه يصح له الرجوع، فالأمر فيه أوسع من غيره.
قال رحمه الله: [ويشترط اتفاق الدينين جنساً ووصفاً ووقتاً وقدراً].
هذا الشرط الثاني من شروط صحة الحوالة: اتفاق الدينين جنساً ووصفاً وقدراً.
الجنس: أن يتفق الدينان -الدين الأول الذي تحيل به والدين الثاني الذي تحيل عليه- جنساً كذهب بذهب وفضة بفضة ودنانير بدنانير ودراهم بدراهم وريالات بريالات ودولارات بدولارات.
فلا يصح أن يحيل بذهب على فضة، ولا يصح أن يحيل بريالات على دولارات؛ لأن رصيد الريالات من الفضة ورصيد الدولارات من الذهب، ولا يصح أن يحيل الريالات بالجنيهات ولا العكس؛ لأن رصيد الريالات من الفضة ورصيد الجنيهات من الذهب.
فلو أن شخصاً له على آخر ثلاثة آلاف ريال، والمديون له على شخص ثانٍ مبلغ ألف دولار، فالثلاثة آلاف ريال تعادل الألف دولار، فأراد أن يحيل، نقول: لا يصح؛ لأنه في هذه الحالة تدخله شبهة الربا.
ولذلك قال العلماء: لا يصح أن يحيل إلا مع اتحاد الدينين جنساً، وهذا راجع إلى مسألة أن الحوالة فيها شبهة بيع الدين بالدين.
ولذلك العلماء اختلفوا في الحوالة على وجهين، وبعضهم يقسمه إلى ثلاثة أوجه:
قال بعض العلماء: الحوالة من بيع الدين بالدين. فأنت لك عليّ عشرة آلاف دين، وأنا أُحيلك على شخص آخر لي عليه عشرة آلاف، فأصبح من باب بيع الدين بالدين، وهذا الوجه يقول به طائفة من العلماء رحمهم الله.
وفائدة هذا الوجه:
أنك إذا قلت: إن الحوالة من باب بيع الدين بالدين يثبت فيها خيار المجلس، وتسري عليها أحكام البيوع، ويعتبر عقد الحوالة بناءً على هذا القول مستثنىً من الأصل وخارجاً عن الأصل، وهذا في الحقيقة من أقوى الأقوال في المسألة وهو أنه من بيع الدين بالدين، فإن الذين قالوا: بأنها عقد إرفاق أو عقد استيفاء لم يستطيعوا أن يطبقوا أوصاف الاستيفاء في الأثر.
ولذلك إذا أحال على مليء فاحتال فإنه لا يستطيع أن يرجع إليه، فدل على أن الذمة قد انتقلت، وهذا لا يمكن أن يقع في مسألة الاستيفاء كما ذكرنا في الرهونات، وإنما يقع في مسألة البيع.
ولذلك القول: بأنها من بيع الدين بالدين من القوة بمكان، والسؤال: إذا كان الشرع قد حرم بيع الدين بالدين فكيف جازت الحوالة؟ قالوا: إن هذا مستثنى من الأصل.
ولذلك يجوز إخراج الخاص من العام، فالأصل العام يقتضي عدم جواز بيع الدين بالدين، ولكن جاز في الحوالة لورود إذن الشرع بها ولهذا نظائر؛ فإن الشرع يضع الشيء فتبقى قاعدة ثم يستثني فروعاً منها، وقد يأتي الحكم في الشرع على سبيل العموم ثم يخصص الشرع منه ما شاء.
وبناءً على ذلك تكون الحوالة فيها صورة البيع، وعلى هذا فإنهم يقولون: لابد وأن يكون الدينان متفقين جنساً كذهب بذهب وفضة بفضة، فلا يصح أن يحيل ذهباً على فضة ولا فضة على ذهب، كذلك أيضاً: لابد أن يتفق الدينان صفة؛ لأن الدين يكون معجلاً ويكون مؤجلاً؛ فإذا كان لك على شخص دين إلى نهاية محرم وأحالك على شخص عليه دين مؤجل إلى نهاية محرم صحت الحوالة، فلو قال لك: يا محمد! لي على زيد عشرة آلاف في نهاية محرم، فالعشرة آلاف التي لك عليّ في نهاية محرم أحيلك على الدين الذي لي على زيد؛ صح ذلك لاتفاق الدينين تأجيلاً.
وكذلك تعجيلاً فلو أنه أعطاك خمسة عشر ألفاً وحل الأجل في يوم خمسة عشر من ذي الحجة، فجاءك وقال لك: يا فلان! لي عليك خمسة عشر ألفاً أعطنيها، فتقول: أنا لي على زيد من الناس خمسة عشر ألفاً، وقد حلت مثلما حل دينك، اذهب وخذها من فلان فحينئذٍ يصح؛ لأن الدينين اتفقا صفة فالعاجل بالعاجل والآجل بالآجل، لكن لو كان أحدهما مُعجلاً والآخر مؤجلاً لم يصح، فلابد من اتفاقهما تعجيلاً وتأجيلاً.
الوصف: معلوم أن الدنانير من الذهب تختلف، فهناك الدنانير المصرية والدنانير الأميرية والدراهم البغلية فيقولون: جنساً كذهب بذهب وفضة بفضة، ووصفاً وعليه فدراهم مصرية بأميرية لا يصح؛ لأن هذه لها صفة غير صفة هذه، أو دنانير مكسرة بدنانير صحيحة، أو دراهم مكسرة بدراهم صحيحة لا يصح، لكن دراهم صحيحة، بدراهم صحيحة ودنانير صحيحة بدنانير صحيحة يصح.
ويدخل في الوصف التعجيل والتأجيل، وبعض العلماء يفرق التعجيل والتأجيل في الوقت كما صنع المصنف فقال: (جنساً ووصفاً ووقتاً).
الوقت: هو التعجيل والتأجيل، ولابد في المؤجل أن يتفقا قرباً وبعداً، فلا يصح أن يكون الدينان أحدهما أجله قريب والثاني أجله بعيد، بل لابد وأن يتفق الأجلان حتى تصح الحوالة.
قدراً: كعشرة آلاف بعشرة آلاف وخمسة عشر، بخمسة عشر، لكن يجوز أن يحيله بعشرة آلاف على شخص له عليه عشرون، فيقول له: أعطه منها عشرة يصح، ولا يؤثر وجود الفضل والزيادة، وتكون الحوالة في الحق الثابت بالدين الأول، فيقول له: لك عليّ عشرة آلاف ولي على زيد عشرون، اذهب وخذ منها عشرة سداداً لدينك ووفاءً لحقك.
قال: [ ولا يؤثر الفاضل ].
كما ذكرنا كأن يحيله بعشرة آلاف على من له عليه عشرون.
الشرط الثالث من شروط صحة الحوالة: أن تكون بالمعلوم فلا تصح بالمجهول؛ لأنها إبراء للذمم، فلا يصح أن تكون بالمجهولات، لابد وأن يتحقق فيها العلم، خاصة وأننا قلنا: إن فيها شبهة البيع، فعلى القول بأن فيها شبهة البيع؛ فالبيع لا يصح بالمجهول، وقد بينّا اشتراط العلم بالمبيع.
الشرط الرابع: رضا المحيل، فإذا أراد أن يحيلك اشترط أن يحيلك برضاه واختياره، ولا يصح دون رضا المحيل مثلاً، لو كان لك على زيد عشرة آلاف وأنت تعلم أن زيداً له على عمرو عشرة آلاف ليس من حقك أن تذهب إلى عمرو مباشرة دون أن يحيلك زيد، فإذاً: يتشرط فيها رضا المحيل، ولا يشترط رضا المحال كما سيأتي.
هذه أربعة شروط هي التي تصح بها الحوالة، وقد عبر المصنف بقوله: (ولا تصح) وهذا يدل على أن الشروط شروط صحة؛ لأننا قدمنا أن هناك شروط صحة، وهناك شروط إجزاء، وهناك شروط نفاذ، وهنا قصد المصنف أن يبيّن أن هذا الشرط إذا لم يوجد ولم يتحقق لا نحكم بصحة عقد الحوالة.
فإذاً هذه الأربعة شروط لا تصح الحوالة بدونها وهي:
- الشرط الأول: أن يكون بدين ثابت مستقر.
- الشرط الثاني: أن يكون الدينان متفقين جنساً ووصفاً ووقتاً وقدراً.
- الشرط الثالث: أن تكون بمعلوم لا بمجهول.
- الشرط الرابع: أن تكون برضا المحيل.
هذه أربعة شروط لابد من توفرها، أما رضا المحيل: فقد حكى العلماء رحمهم الله الإجماع بهذه الصيغة بلا خلاف، فليس هناك أحد يخالف ويقول: إنها تقع حتى ولو لم يرض، إلا خلافاً شاذاً حكي عن الحسن البصري أحد أئمة التابعين رحمه الله برحمته الواسعة، ولكن جماهير السلف والخلف على هذا القول أنها لا تصح إلا برضا المحيل.
قال رحمه الله: [وإذا صحت نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه وبرئ المحيل].
(وإذا صحت): الضمير عائد إلى الحوالة. فإذا صحت نقلت الدين والحق إلى ذمة المحال عليه. فإذا كان لك عليّ عشرة آلاف وأحلتك وصحت حوالتي انتقل حقك عليّ إلى ذمة زيد الذي ليّ عليه عشرة آلاف.
وبناءً على ذلك يلاحظ أنها إلى البيع أقرب، ولذلك لو أحاله للاستيفاء لم يضر ولا نحكم باللزوم بمجرد الحكم كما ذكرنا في الرهن، وعلى هذا بمجرد وجود الشروط المعتبرة بصحة الحوالة لزمته، وليس من حقه أن يرجع لا المحيل ولا المحال.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع) وفي رواية لـابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما: (فأَتْبِعْهُ) وهذا يدل على أنها إذا صحت حينئذٍ نحكم بانتقال الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.
وأنبه ما على مسألة مهمة ستأتي إن شاء الله، فنحن أخرنا مسائل من العقود المعاصرة التي إن شاء الله سنتكلم عليها بعد باب الحوالة؛ والمشكلة أنه تؤخذ أسماء العقود الشرعية وتوضع على الأشياء ويدعى أنها شرعية، ولذلك أحببنا أن لا نتعرض للمسائل المعاصرة إلا بعد انتهائنا من العقود الشرعية كي نتصورها ونفهمها، حتى إذا جئنا نقول: منهم من يقول: إنها حوالة نقول: أنتم تعرفون أن الحوالة ضابطها كذا وكذا فهل ينطبق الضابط هنا أو لا؟
بمعنى حينما يأتي رجل إلى المصرف ويعطيه عشرة آلاف ريال على أن يحيلها إلى بلد في الخارج بقيمة غير قيمة الريالات -إلى دولارات أو إلى جنيهات- فهذه لا تعتبر حوالة لعدم الاتفاق في الجنس، ثم ليس فيها دين مستقر أيضاً.
فما سبق يطلق عليه عامة الناس حوالة ولو جئت تقول: هذا لا يجوز؛ لأنه يشترط فيه التقابض فهو بيع وصرف، قال: لا هذا حوالة والحوالة جائزة شرعاً، فالعقود الشرعية لابد وأن تضبط بما ضبطها به أهل العلم مما استنبط من الكتاب والسنة.
إذاً المسألة السابقة ليست من باب الحوالة، وإنما تكون في هذه الحالة وكالة وصرفاً، صرف لأنه صرف العشرة آلاف ريال إلى دولارات أو جنيهات أو إلى أي عملة أخرى، ثم وكل أن يعطى فلان في ذلك البلد، فهي إلى الوكالة أشبه منها بالحوالة؛ لأنه ليس له على الطرف الثاني بالبلد الثاني دين، إذاً ليس هناك دينان فلا يمكن أن ينطبق عليها ضابط الحوالة، فالحوالة التي ذكرها العلماء سبق ذكرها وذكر ضوابطهما، فانظروا كيف يكون الاسم والمسمى في الظاهر شيء، ولكن في الحقيقة والجوهر واللب شيء آخر.
ومن هنا ننبه على مسألة مهمة -وإن شاء الله سننبه عليها أكثر- وهي قضية المسائل في المعاملات المعاصرة، لا تتحدث عن أي معاملة معاصرة تريد تخريجها على القديم إلا بعد ضبط القديم، فإذا قالوا: وديعة انظر ما هو ضابط الوديعة عند المتقدمين، وبعد أن تفهم ما هي الوديعة، وما هي حقيقتها عند المتقدمين، انظر في صورة المسألة المعاصر هل استوفت الأوصاف المعتبرة أم لا؟
إذا قال قائل: لو أردت أن أحيل عشرة آلاف من جدة إلى المدينة، فالدين واحد وهو عشرة آلاف بعشرة آلاف فحينئذٍ نقول: هذه المسألة ليست من باب الحوالة؛ لأنه ما مِن دين ثانٍ، يعني أنت الآن تتعامل مع شخص هو نفسه الذي سيفوض شخصاً آخر.
وبناءً على ذلك يقولون: إنها إلى الوكالة أشبه منها من الحوالة، وهناك وجه عند اتفاق المبلغ المحال جنيهات أو ريالات أن يعطى حكم الحوالة، وسنبين ذلك عند حديثنا عن أحكام الحوالات بعد الانتهاء من باب الحوالة إن شاء الله تعالى.
قال: [نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه وبرئ المحيل]
إذا أحلت شخصاً واستوفيت الشروط المعتبرة للحوالة، تكون عندها نقلت الحق وهو العشرة آلاف من ذمتك إلى ذمة من أحلت إليه، وبهذا تكون قد برئت ذمتك؛ لكن بالشروط التي ذكرناها في صحة الحوالة، وأن تكون الحوالة قد استوفي فيها شرط الإلزام، كأن تحيل على مليء، فلو أحلت على مفلس أو أحلت على غير مليء، فإنه لا تبرأ ذمتك ولا يلزم بالاتباع، لكن لو قبل برئت ذمتك.
فإذاً من حيث الأصل نقول: إذا استوفت الحوالة شروطها وكانت على مليء واحتال المحال فإنها تبرأ ذمة المحيل.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] | 3704 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] | 3620 استماع |
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق | 3441 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] | 3374 استماع |
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة | 3339 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] | 3320 استماع |
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] | 3273 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] | 3228 استماع |
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص | 3186 استماع |
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] | 3169 استماع |