شرح زاد المستقنع باب الخيار [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

يقول المصنف رحمه الله تعالى: [الرابع: خيار التدليس]:

شرع المصنف رحمه الله في النوع الرابع من أنواع الخيارات، وهذا النوع يتعلق بالتدليس، وأصله من الدلسة وهي الظلمة.

ويقع هذا الخيار إذا دلس البائع على المشتري، فأظهر له حسن الشيء المبيع وجماله وكماله، وكان الواقع والحقيقة أنه بخلاف ذلك، فإذا دلس عليه وأوقعه في لبس من أمره، فاشترى الشيء على أنه كاملٌ فبان ناقصاً، واشترى الشيء على أنه سالِمٌ فبان معيباً، فإنه حينئذ يكون للمشتري الخيار، فيقال له: إن شئت قبلت، وإن شئت رددت.

وخيار التدليس فيه عدل من الله سبحانه وتعالى، ولطف بعباده، وذلك أن المبيعات ربما اغتر المشتري بظاهرها، وظن أنها سالمة فدفع فيها القيمة على أنها تستحق ما دفع، ثم يتبين له أن الأمر بخلاف ذلك، وحينئذٍ لطف الله عز وجل به، فشرع له أن يرد المبيع؛ لأنه اشتراه كاملاً فبان ناقصاً، واشتراه سالماً فبان معيباً، ولم يقع البيع على شيء معيب، وإنما وقع البيع على شيء سالم من العيوب، فشُرِع له أن يرده.

وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب على المسلم أن ينصح لأخيه المسلم، وألَّا يغشه ولا يدلس عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من غشنا فليس منا) والسبب في ذلك: أنه دخل السوق، فوجد رجلاً يبيع الطعام، فأدخل يده صلى الله عليه وسلم في طعامه، فأصابت يدُه البلل، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: هلَّا وضعته فوق الطعام حتى يراه الناس؟! من غشنا فليس منا).

فدل هذا الحديث الشريف على حرمة التدليس على المسلم.

ويقع التدليس بوضع الشيء الطيب من أعلى ووضع الرديء من أسفل.

ويقع التدليس بتسوية الأشياء، فتُرى على أنها جميلة وكاملة وعلى أنها فاضلة، ثم يتبين أن الأمر بخلاف ذلك.

وقد ذكر المصنف رحمه الله لهذا أمثلة، تعتبر بمثابة التطبيق لما ذكر من نص.

صور لخيار التدليس

قال رحمه الله: [كتسوية شعر الجارية وتجعيده]:

وفي بعض النسخ: [كتسويد شعر الجارية] وقد كانوا في القديم يشترون الجواري والإماء، ويحصل التدليس في صفة الجواري فيسرح الشعر، فترغب الناس فما كان أسود الشعر، ويكون شعرها أشقر فيضرب بلون السواد، أو يكون شعر الجارية أحمر فيصبغ بلون السواد، كل ذلك ترغيباً للمشتري في الصفقة، فإذا فعل هذا وصبغ شعر الجارية على لون يحبه الناس، ثم تبين أن الأمر بخلاف ذلك، شرع حينئذٍ خيار التدليس.

وكذلك على النسخة الأخرى [كتسوية شعر الجارية ] وهذه التسوية تكون بتسريحه على وجه يكون فيه التواء، وهذا النوع من الشعر إذا كان ملتوياً، كان فيه دليل على قوة البدن وصحته، بخلاف ما إذا كان الشعر رقيقاً فالغالب أنه يدل على ضعف البدن، فحينئذٍ إذا سواه بهذه الصفة، رغب المشتري في الجارية، وظنها قوية وظنها جميلة الشعر، ثم يتبين أن الأمر بخلاف ذلك.

هذه أمثلة قديمة، وفي عصرنا الحاضر ربما فعل البائع شيئاً في صفقته التي يعرضها للبيع، فجملها وحسن صورتها من الظاهر وهي في الباطن بخلاف ذلك، فيثبت خيار التدليس كما يثبت فيما ذكره المصنف رحمه الله من الأمثلة القديمة.

قوله: (وتجعيده)

وهكذا التسوية والتجعيد، ومن التسوية تسوية الثياب، وقد ذكرها العلماء رحمهم الله، وهذا بالمبالغة في كيها وتنظيفها حتى تبدو كأنها جديدة، وهي قديمة، أما لو كانت قديمة، وكويت وعرضت للبيع فلا بأس، لكن أن تكون قديمة ثم يحسن ظاهرها فإذا رآها الإنسان ظنها جديدة، والواقع بخلاف ذلك، فهذا يعتبر من التدليس كما ذكر المصنف في تجعيد الشعر، فإن تجعيد الشعر إذا سرحه على وجه يبدو فيه ملتفاً، فإنه يرغب في الجارية أكثر، فهذا من التدليس والغش والكذب ويوجب للمشتري الخيار.

قال رحمه الله: [وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها]:

وقد كانت المزارع في القديم يستقى لها، وإذا جمع الماء وأرسل أمام الزبون أو أمام المشتري رغب في البستان وظن أن الماء كثير، وهكذا في زماننا ما يوجد من (المكائن)، ففي بعض الأحيان تدار (المكينة) فيكون الماء قوياً عند إدارتها في الأول، ثم يبدأ يضعف فيضعف حتى يصل إلى مستواه المعتاد، بعد ساعة أو بعد ساعتين، أو بعد ثلاث، فإذا جاء المشتري يريد أن يشتري المزرعة، فإنه يدير (المكينة) أو نحوها، فينظر فإذا بالماء كثير؛ لأنه في بداية الصب، فيظن المشتري أن ماء المزرعة كثير، ويرغب فيها، ويعتقد أنها متوفرة الماء، فيشتريها وإذا بالماء قليل، فإذا فعل البائع هذا الشيء، فإنه يثبت للمشتري خيار التدليس، وقد كان الواجب على البائع أن يقول له: هذا الماء كثير، ولكنه بعد ساعة أو بعد ساعتين، يبقى مثلاً (بوصتين) أو يبقى (ثلاث بوصات)، أو يبقى (بوصة) أو (نصف بوصة) كما هو متعارف عليه في أعراف الناس اليوم، فإذا لم يبين له ذلك على هذا الوجه فقد ظلمه ودلس عليه، وحينئذ يثبت خيار التدليس.

قال رحمه الله: [كتسوية شعر الجارية وتجعيده]:

وفي بعض النسخ: [كتسويد شعر الجارية] وقد كانوا في القديم يشترون الجواري والإماء، ويحصل التدليس في صفة الجواري فيسرح الشعر، فترغب الناس فما كان أسود الشعر، ويكون شعرها أشقر فيضرب بلون السواد، أو يكون شعر الجارية أحمر فيصبغ بلون السواد، كل ذلك ترغيباً للمشتري في الصفقة، فإذا فعل هذا وصبغ شعر الجارية على لون يحبه الناس، ثم تبين أن الأمر بخلاف ذلك، شرع حينئذٍ خيار التدليس.

وكذلك على النسخة الأخرى [كتسوية شعر الجارية ] وهذه التسوية تكون بتسريحه على وجه يكون فيه التواء، وهذا النوع من الشعر إذا كان ملتوياً، كان فيه دليل على قوة البدن وصحته، بخلاف ما إذا كان الشعر رقيقاً فالغالب أنه يدل على ضعف البدن، فحينئذٍ إذا سواه بهذه الصفة، رغب المشتري في الجارية، وظنها قوية وظنها جميلة الشعر، ثم يتبين أن الأمر بخلاف ذلك.

هذه أمثلة قديمة، وفي عصرنا الحاضر ربما فعل البائع شيئاً في صفقته التي يعرضها للبيع، فجملها وحسن صورتها من الظاهر وهي في الباطن بخلاف ذلك، فيثبت خيار التدليس كما يثبت فيما ذكره المصنف رحمه الله من الأمثلة القديمة.

قوله: (وتجعيده)

وهكذا التسوية والتجعيد، ومن التسوية تسوية الثياب، وقد ذكرها العلماء رحمهم الله، وهذا بالمبالغة في كيها وتنظيفها حتى تبدو كأنها جديدة، وهي قديمة، أما لو كانت قديمة، وكويت وعرضت للبيع فلا بأس، لكن أن تكون قديمة ثم يحسن ظاهرها فإذا رآها الإنسان ظنها جديدة، والواقع بخلاف ذلك، فهذا يعتبر من التدليس كما ذكر المصنف في تجعيد الشعر، فإن تجعيد الشعر إذا سرحه على وجه يبدو فيه ملتفاً، فإنه يرغب في الجارية أكثر، فهذا من التدليس والغش والكذب ويوجب للمشتري الخيار.

قال رحمه الله: [وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها]:

وقد كانت المزارع في القديم يستقى لها، وإذا جمع الماء وأرسل أمام الزبون أو أمام المشتري رغب في البستان وظن أن الماء كثير، وهكذا في زماننا ما يوجد من (المكائن)، ففي بعض الأحيان تدار (المكينة) فيكون الماء قوياً عند إدارتها في الأول، ثم يبدأ يضعف فيضعف حتى يصل إلى مستواه المعتاد، بعد ساعة أو بعد ساعتين، أو بعد ثلاث، فإذا جاء المشتري يريد أن يشتري المزرعة، فإنه يدير (المكينة) أو نحوها، فينظر فإذا بالماء كثير؛ لأنه في بداية الصب، فيظن المشتري أن ماء المزرعة كثير، ويرغب فيها، ويعتقد أنها متوفرة الماء، فيشتريها وإذا بالماء قليل، فإذا فعل البائع هذا الشيء، فإنه يثبت للمشتري خيار التدليس، وقد كان الواجب على البائع أن يقول له: هذا الماء كثير، ولكنه بعد ساعة أو بعد ساعتين، يبقى مثلاً (بوصتين) أو يبقى (ثلاث بوصات)، أو يبقى (بوصة) أو (نصف بوصة) كما هو متعارف عليه في أعراف الناس اليوم، فإذا لم يبين له ذلك على هذا الوجه فقد ظلمه ودلس عليه، وحينئذ يثبت خيار التدليس.

قال المصنف رحمه الله: [الخامس: خيار العيب]:

يذكر المصنف رحمه الله: القسم الخامس من أقسام الخيار، وهو خيار العيب.

والعيب في اللغة: النقص، يقال: عابه عيباً ومعيباً إذا انتقصه، والمراد بالعيب في البيع: نقصان المالية نقصاً مؤثراً.

(نقصان المالية): والمالية: تأتي على وجهين:

فيراد بها القيمة، فمثلاً: أنت تشتري السيارة على أنها سالمة من العيب، فتكون قيمتها عشرة آلاف، وبهذا العيب تنقص قيمتها إلى تسعة آلاف، فمعنى ذلك: أنها انتقصت عشر قيمتها، وحينئذٍ يقولون: إن وجود هذا العيب أنقص المالية والقيمة، فالعيب هو الذي ينقص المالية أي: القيمة.

وقال بعض العلماء: المال هو كل شيء فيه منفعة. وعلى هذا يكون نقصان المالية: إما نقص المنفعة الحسية أو نقص المنفعة المعنوية.

ونقص المنفعة الحسية كأن يشتري دابة مقطوعة القدم، تبدو شلاء أو بها عرج أو نحو ذلك.

أو نقصان النفع بحيث يكون العيب راجع إلى النفع، مثل الجنون في الأرقاء.

وهكذا بالنسبة للعيوب الخلقية الموجودة في الدواب، فقد كانت الدواب في القديم، لها عيوب خَلقية وخُلقية.

فمن العيوب الخُلقية: إذا أراد أن يركب على الدابة جمحت ونفرت، وفي بعض الأحيان ربما أسقطت الرجل من على ظهرها، والجنون أيضاً في البهيمة، فهذه عيوب كلها تؤثر في نفسية المبيع.

وتارةً يكون العيب راجعاً إلى الذات، فإذا رجع إلى ذات المبيع -كما ذكرنا- كالشلل، فباعه عبداً فبان مشلولاً أو باعه دابة فبانت مشلولة، أو بان بها عمى أو مرض في جسمها، أو نحو ذلك، فهذه العيوب الجسدية تنقص المنفعة، فأنت إذا أردت أن تنتفع من دابة جموح فإنها تضر بك، وتعطل مصالحك.

وإذا كانت الدابة مريضة واشتريتها على أنها سليمة، فإذا جئت تركبها فإنك تتعطل عن مصالحك وتتأخر عن منافعك ووجود المرض فيها قد يضر في لبنها وحليبها، وقد يضرك بلحمها إذا أكلتها.

فنقصت المالية من جهة نقص المنفعة، فالمنفعة إذا قلنا: نقصان المالية نقصان القيمة فلا إشكال، وإن قلنا: نقصان المالية نقصان المنفعة سيتم تأوليها على هذا الوجه.

العيوب التي تؤثر في المبيع والعيوب التي تستحق بالشرط

والعيوب تارة تكون عيوباً في ذات المبيع، أو تكون عيوباً مستحقة بالشرط.

فالعيوب التي تكون في ذات المبيع هي التي تعطل منافع المبيع أو تنقص قيمته، وهي ترجع إلى ذات الشيء فيبدو ناقصاً بعد أن ظنه كاملاً، وهذا العيب ينقص المنفعة أيضاً فلا يستطيع أن يجد منه من المنافع والمصالح ما كان يرجوه ويأمله.

وكذلك أيضاً تكون العيوب عيوب كمال، والعيوب الكمالية: هي التي لا يستحق فيها المشتري الخيار، إلا إذا اشترطها على البائع، فمثلاً:

إذا اشترى الإنسان سيارة، واشترط شيئاً في السيارة، والسيارة بذاتها كاملة، فمنفعة السير موجودة، ومنفعة الركوب عليها ممكنة، لكنه اشترط أن يكون فيها (مسجل)، فهذا شرط كمال، إذ يمكن أن تباع السيارة بدون مسجل.

فلو بيعت بدون مسجل وجاء المشتري يقول: هذه السيارة معيبة، قلنا: ما عيبها؟ قال: ليس بها مسجل، نقول: عدم وجود المسجل ليس بمؤثر في منافع السيارة، وليس بعيب في ذات السيارة، فالسيارة تراد للركوب غالباً ومنافع الركوب فيها ممكنة، وحينئذ نقول: هذا ليس بعيب.

لكن لو قال عند الشراء: أشترط أن يكون بها (مسجل)، فإن عدم وجوده عيب. أو باع بيتاً.

فإذا قال لك: أبيعك بيتي، وصفته كذا وكذا، وصف لك طوله وعرضه، وصفاته الكاملة، لكنك قلت له: أشترط أن يكون فيه -مثلاً- الهاتف أو الماء أو الكهرباء، فهذه منافع، والبيت لذاته إنما يعد للسكنى.

فلو أن رجلاً اشترى بيتاً، ثم لم يجد فيه الهاتف، وقال: هذا عيب، قلنا: ليس بعيب؛ لأن البيت يراد للسكن، ولا يراد للاتصال فعدم وجود هذا الجهاز فيه لا يقتضي نقصانه ولا يقتضي كونه معيباً؛ لكن لو أنه اشترط عليه وجود هذا الجهاز فيه فإنه يعتبر عيباً، ويجوز له أن يرد إذا لم يجد هذه الصفة فيه.

لو اشترى أرضاً فقال للبائع: أشترط أن يكون لها صك شرعي، فقال البائع: وهو كذلك، أي: لها صك شرعي، وتم العقد بينهما على هذا الأساس، وتبين أن الأرض لا صك لها، أو أنه لا يملكها بصك، فحينئذ من حق المشتري أن يرد الأرض ويعتبر هذا العيب.

إذاً: العيوب الكمالية لا تكون عيوباً إلا إذا اشترطت. وفي بعض الأحيان تكون الكمالات عيوباً إذا لم تشترط إذا جرى بذلك العرف، فمثلاً:

لو قال لك: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف، فنظرت في السيارة وإذا بها على ما تريد وترغب، وجميع أوصافها وما تريده منها من الانتفاع ممكن ومتيسر، لكنك لما دفعت العشرة آلاف وركبتها، إذا بها لا يوجد بها المكيف -مثلاً- فجئت وقلت: هذا عيب.

ففي هذه الحالة ننظر: لو جرى العرف أن هذا النوع من السيارات الغالب أن يكون فيها مكيفاً، فحينئذٍ: (المعروف عرفاً كالمشروط لفظاً).

فنقول: صحيح أنه لم يقل: أشترط أن يكون بها هذا الجهاز؛ ولكنه معروف بالعرف أن هذا النوع من السيارات يوجد به هذا الكمال فهو كالشرط، أي: جريان العرف به كالشرط، وإنما سكت المشتري لأنه سيشتري شيئاً معروفاً.

الخلاصة:

هناك عندنا عيوب مؤثرة في ذات المبيع، وعندنا عيوب تستحق بالشرط، وهذا ما مثلناه في العصر الحديث وفي القديم كأن يقول لك: أشتري منك العبد بشرط أن يكون كاتباً، أي: يعرف الكتابة؛ لأنهم يحتاجونه في كتابة الرسائل ونحوها، حتى يستأجره الناس وينتفع من وراء ذلك.

أو أشترط أن تكون له صنعة.. إلى آخر ذلك من الشروط، فالرقيق بذاته منفعته موجودة؛ لكن اشتراط الكتابة فيه يستحق به الرد، متى ما وجد على خلاف الشرط.

وهكذا بالنسبة للدابة -كما مثلنا في الحديث- فقد كانوا في القديم يشترطون أن تكون الدابة هملاجة، أي: السريعة، أو أن يكون الفرس سريعاً، أو أن يكون البعير سريعاً؛ لأنه يريده للركوب ولأن الدواب في القديم تارةً تشترى للحم، ويسمونها: الشاة الأكولة، الناقة الأكولة، البقرة الأكولة، أي: أنها اشتريت من أجل لحمها لكي تؤكل.

وتارةً تشترى للركوب، فيقال: دابة ركوب، ناقة ركوب، أي: اشتراها من أجل أن يركب عليها.

وتارةً تشترى من أجل الحليب، فيقال: شاة حلوب، وبقرة حلوب، وناقة حلوب.

فهذه الكمالات: كونها حلوباً، وركوباً، أو سمينة طيبة اللحم؛ لا تعتبر عيوباً إلا إذا اشترطها المشتري.

وبهذا يتبين أن العيب في قول العلماء: هو نقصان المالية، وذلك إما أن يكون نقصاً في الذات، أو نقصاً في النفع، ثم هذان النوعان -نقص الذات ونقص النفع- يعتبر منها العيب المؤثر أي: الذي يعتبر نقصه قوياً.

وأما النوع الثاني من العيوب: وهي العيوب التي تستحق بالشروط، وهي التي يسميها العلماء رحمهم الله: عيوب الكمالات، فلا تستحق بالطلب والدعوى، ولكن إذا جرى العرف بوجودها ولم توجد في المبيع، كان من حق المشتري أن يرد المبيع، ويثبت له خيار العيب، وهذا من حيث الإجمال.

من حيث التفصيل:

المبيعات تارة تكون عقارات.

وتارة تكون منقولات.

وتارة تكون من الأثمان.

فإذا باع الإنسان أو اشترى فإما أن يبيع ثمناً، ويشتري ثمناً، وإما أن يبيع مثمناً ويشتري مثمناً، أو يبيع ثمناً ويشتري مثمناً، كما ذكرنا في تقسيمات البيع الثلاثة:

- مثمن بمثمن، وهو بيع المقايضة.

- ثمن بثمن، وهو بيع الصرف.

- ثمن بمثمن وهو البيع المطلق.

ففي الثمن يكون النقص في الورق النقدي والعيب في الورق النقدي، كأن يبيعه ورقاً أو يصرف له ورقاً مزوراً أو مزيفاً، وفي القديم كانوا يقولون: (دراهم زيوف ودنانير زيوف).

في عصرنا الحاضر يصرف له دولارات مزيفة، هذه الدولارات المزيفة إذا ثبت زيفها، كان من حقه أن يردها وأن يأخذ عين ما دفع.

وكذلك أيضاً بالنسبة لنقص القيمة الشرائية لها، فهذه ليس لها قيمة شرائية أصلا،ً ما دامت زيوفاً.

في بعض الأحيان يكون الورق الموجود دولارات، قال لك: أصرف لك هذه المائة دولار بألفين ريال مثلاً، فقلت له: قبلت، فأخذت المائة دولار فوجدتها مقطعة، وهذه المقطعة لا يمكن أن تسري في السوق، ولا تقبل ولا تروج، فمن حقك أن تردها؛ لأن هذا نقص يؤثر في الانتفاع من هذه الدولارات؛ لأنك حينما أخذتها إنما أخذتها من أجل أن تكتسب بها وتنتفع بها، فتتعطل منفعتك بهذا النقص، فحق لك أن تردها وتستبدلها أو تلغي العقد نهائياً.

الحالة الثانية: أن يكون البيع في المثمونات، والمثمونات إما عقارات وإما منقولات.

فالعقارات مثل البيوت، ومثل الأرضين، ففي البيوت يبيعه بيتاً فيه عيب، وعيوب البيوت تنقسم إلى قسمين:

- إما عيوب في ذات البيوت ومنافعها والانتفاع بها من السكنى تحتها والاستظلال ونحو ذلك.

- وإما عيوب نفسية تؤثر في سكنك في البيت، فتزعجك وتقلقك ولا تريحك.

فإن كانت العيوب في ذات البيت، كانكسار سقفه، فإنه إذا باعك البيت ثم تبين أنه منكسر السقف، أو لا تأمن أن يسقط السقف عليك، فهذا نقص في المالية، من حقك أن ترد به البيع، أو باعك عمارة وتبين أن فيها دوراً كاملاً مشقق، أو جميع أدواره مشققاً، بحيث قال أهل الخبرة: هذا ضرر فادح أو فيه خطر على السكنى في مثل هذا، فمن حقك أن ترد.

كذلك أيضاً إذا باعك وكانت الغرف مقسمة على وجه لا يمكن معه الانتفاع، كأن تشتريها للسكنى، وقلت له: أريد عمارة فيها شقق من أجل أن أؤجرها، أو من أجل أن أسكنها، وتبين أن هذه العمارة كانت سكناً للعمال، ونظامها في التقسيم لا يصلح أن تصير به شققاً، فهذا مضر لمنفعتك ويمنعك من الارتفاق بها، فيحق لك الرد، فهذه كلها عيوب حسية في ذات المبيع.

وهناك عيوب في العقارات، فقد يكون العقار أيضاً فيه عيب حسي إذا كان من الأراضي والمزارع، مثل:

أن يبيعه مزرعة في مجرى السيل، فإن المزرعة في مجرى السيل عرضة إلى أن يأتي السيل ويأخذ ما فيها من زرع وحرث وما فيها من ماشية، بل وما فيها من أنفس، فإذا تبين أن مكانها مهدد بالسيل، كان من حقه أن يرد؛ لأن هذا العيب يضر به، وقد يؤدي إلى هلاكه وذهاب أمواله. وحينما ذكرنا عيوب العمائر، أو عيوب البيوت من انشقاق السقف ، أو انكسار خشبه، أو وجود الأرضة التي كانت تأكل السقف في القيديم، فهذه كلها عيوب حسية.

لكن قد يكون العيب في البيت معنوياً، وذلك مثل سكن الجن في البيت، أي: إذا كان البيت مسكونا،ً وهذا معروف بالمشاهدة والتجربة، وقد نبه الإمام ابن قدامة رحمه الله والمتقدمون على مثل هذه العيوب، فلو كانت الدار مسكونة، وهذا له علامات، ففي بعض الأحيان ينفتح الباب بدون وجود شخص، وفي بعض الأحيان ينطفئ المصباح بدون أن يطفئه آدمي، وفي بعض الأحيان تسمع الأصوات، فلابد أن توجد دلائل بشهادة أهل الخبرة أن هذا البيت مسكون، ففي هذه الحالة من حقه أن يرد البيت.

كذلك أيضاً: الجار السوء، فجار السوء الذي يؤذي الإنسان ، قال بعض العلماء: إنه عيب معنوي، فذات الدار كاملة، وصفاتها كاملة؛ لكن إذا تبين أن جارها جار سوء يؤذي الإنسان في عرضه، ويؤذيه في نفسه بالكلام عليه، ولا يأمنه إذا غاب على أهله، ففي هذه الحالة قال بعض العلماء : إن جار السوء يستحق به الرد، خاصة إذا كان شريراً ومضراً.

إذاً: العقارات يكون عيبها حسياً، ويكون عيبها معنوياً.

فإذا كانت البيوت فيها عيب السكن، وعيب جار السوء، فكيف يكون في المخططات والأرضين؟

يكون في المخطط بعدم القيمة للأرض، وذلك بعدم وجود الصك الشرعي لها، فلو باعه أرضاً وتبين أن صكها مزور، أو أن الصك ليس لها إنما هو لغيرها، ففي هذه الحالة من حقه أن يرد، فكل هذه الصفات وهذه العيوب مؤثرة في المبيع، إما أثرت في عين المبيع، أو أثرت في قيمة المبيع والانتفاع به.

وأما عيوب الدواب فكما ذكرنا، فيكون العيب في ذاتها، الذي هو العيب الحسي، مثل مقطوعة القدم، ومقطوعة الرجل، مقطوعة اليد والشلاء، ومقطوعة الأذن، مثلاً:

لو اشتريت شاة للأضحية، وتبين أنها مقطوعة الأذن، فحينئذٍ من حقك الرد؛ لأن مثلها لا تستطيع أن تضحي بها، على قول من قال: في حديث عدي رضي الله عنه: إن مقطوعة الأذن لا يضحى بها.

في زمننا الحاضر مثلاً: لو اشتريت شاة وتبينت فيها الأورام والغدد، التي قد تضر بالإنسان إذا أكل من لحم هذه الشاة، فإذا تبين أن فيها هذا العيب وفيها هذا الضرر، كان من حقك أن ترد.

وعيوب الدواب المعنوية مثل: إذا جاء يركب على الفرس ينفر منه، إذا جاء يركب على الناقة نفرت منه، وهذه يسمونها الدابة الجموح، وهي التي لا ترتاح ولا تستأنس للراكب، وفي بعض الأحيان قد تتسبب في قتله، كما في حديث ابن عباس في الرجل الذي وقصته الدابة في حجة الوداع.

كذلك أيضاً الرقيق تكون فيه عيوب دينية، أو عيوب دنيوية، وسيذكرها المصنف رحمه الله.

وكذلك بقية المبيعات تقاس على هذا.

مثلاً: الثياب لها عيوب والأطعمة لها عيوب، فالطعام لو اشتريته وتبين أنه قد انتهت صلاحيته، وقد باعك في المدة التي قد انتهت صلاحية المبيع فيه، أو قال لك: هذا الطعام مدته إلى شهر، وتبين أن مدته أقل من شهر، وأنت تريده لشهر، فكل هذه تمنعك من الانتفاع؛ فالإنسان إذا اشتراه ووجد العيب في الذات أو في المنفعة أو كان عيباً معنوياً، فمن حقه أن يرد المبيع.

مشروعية خيار العيب

ذكر المصنف رحمه الله خيار العيب، والسؤال: ما هو الدليل على كون المسلم يستحق عند وجود العيب رد المبيع؟

الدليل على ذلك: كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل العلم.

أما كتاب الله: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] هذه الآية الكريمة وجه الدلالة منها في قوله : لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] و(الباطل) أكل المال بدون وجه حق.

وعلى هذا: لو باعك السيارة كاملة بعشرة آلاف، وظهر بها عيب ينقص قيمتها إلى ثمانية آلاف، فمعناه أنه قد أخذ منك الألفين بدون وجه حق.

ولذلك يقولون: بيع المعيبات وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل؛ لأنك تدفع القيمة كاملة في شيء كامل، والواقع أنه ناقص، فكأن ثمن المبيع على النقص يعتبر مأكولاً بالباطل، فهذا وجه الدلالة من الآية الكريمة.

وأما من السنة: فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث المصرّاة أنه قال صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين، إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)

وهذا حديث عظيم، فقد فرع عليه العلماء رحمهم الله مسائل العيوب، وحاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى فيه المسلم عن أن يصر الإبل والغنم، وفي حكمهما بقية الدواب.

ومعنى (تصرية الإبل والغنم): أنهم كانوا في القديم يأخذون الناقة، ويمتنعون من حلبها ثلاثة أيام أو يومين أو أربعة، فينتفخ اللبن في ضرعها، فإذا رآها رجل ظنها كثيرة اللبن، فاشتراها على أنها حلوب، ثم تبين أن حليبها ليس بالصفة التي اشتراها إذاً: فالتصرية أن يمتنع من حلب الشاة أو الناقة مدة حتى يكثر أو يعظم اللبن في ضرعها، قال صلى الله عليه وسلم لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها أي: من اشترى شاة أو ناقة مصراة (فهو بخير النظرين) أي: هو بين أمرين وإن شاء أمسكها، أي: إن رضيها وقال: رضيتها، والله عز وجل يعوضني في الآخرة، وسكت عن العيب، فهذا حقه، كما لو سامح المسلم المسلم في حقه، وإما أن يسخطها ويردها على صاحبها، فقال صلى الله عليه وسلم: (وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) أي: رد الناقة أو الشاة ومعها صاع من تمر، جبراناً لذلك النقص الذي استفاده من حلبها في الأيام الماضية.

إذاً: حديث المصراة دليل على إثبات خيار العيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن ابتاعها -أي: اشتراها- فهو بخير النظرين)، فقوله: هذا يدل على أن من اشترى شيئاً معيباً، أنه بخير النظرين إما أن يمسك وإما أن يرد.

وفي هذا الحديث دليل أيضاً على حرمة التدليس والغش؛ لأنه قال: (لا تصروا) والنهي للتحريم؛ لأن القاعدة: (أن النهي يحمل على ظاهره الموجب للتحريم، حتى يدل الدليل على خلاف ذلك).

وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء رحمهم الله على إثبات خيار العيب من حيث الجملة، فكلهم متفقون على أنه إذا باعه شيئاً معيباً واشتراه المشتري دون أن يعلم بالعيب، أن من حقه أن يرد، على تفصيل سنذكره إن شاء الله، يختلف بحسب اختلاف مذاهب العلماء رحمهم الله.

وفي خيار العيب حكم عظيمة منها: دفع الضرر عن المسلم.

فقد شرع الله خيار العيب دفعاً للضرر عن المسلم، ولذلك أمر من اشترى المعيب أن يرده إذا لم يرد، أو يبقيه إن رضيه، وأذن الله عز وجل له أن يرد المعيب، وهذا يدل على مشروعية أخذ المسلم بحقه إذا تبين له أنه مظلوم، فقد قال عليه الصلاة والسلام وإن سخطها ردها، فمن حقك أن ترد المعيب لأنك ظُلمت، وقد اشتريت الكامل ولم تشتر الناقص، ودفعت ثمن الكامل ولم تدفع ثمن الناقص فقط، وكأنك حينما اشتريت الشيء على أنه كامل وتبين أنه ناقص فكأنك عقدت العقد الذي بينك وبين البائع على شيء غير هذا الشيء، وبناء عليه تستحق الرد.

وفي خيار العيب -أيضاً- قرع وتوبيخ لأهل الغش وصيانة لأسواق المسلمين من الكذابين والغشاشين، ولو أنه كلما ظهر عيب ردت المبيعات لعُرف الغشاشون، ولم يستطيعوا أن يتسلطوا على المسلمين، ولكن إذا لم يعط المسلم خيار العيب، فإن معنى ذلك أن يتسلط الغشاشون ولا يجدون من يردعهم عن غش المسلمين، فتصبح الأسواق مليئة بالغش والكذب، حتى لا يأمن الإنسان في تجارته وبيعه وشرائه.

والعيوب تارة تكون عيوباً في ذات المبيع، أو تكون عيوباً مستحقة بالشرط.

فالعيوب التي تكون في ذات المبيع هي التي تعطل منافع المبيع أو تنقص قيمته، وهي ترجع إلى ذات الشيء فيبدو ناقصاً بعد أن ظنه كاملاً، وهذا العيب ينقص المنفعة أيضاً فلا يستطيع أن يجد منه من المنافع والمصالح ما كان يرجوه ويأمله.

وكذلك أيضاً تكون العيوب عيوب كمال، والعيوب الكمالية: هي التي لا يستحق فيها المشتري الخيار، إلا إذا اشترطها على البائع، فمثلاً:

إذا اشترى الإنسان سيارة، واشترط شيئاً في السيارة، والسيارة بذاتها كاملة، فمنفعة السير موجودة، ومنفعة الركوب عليها ممكنة، لكنه اشترط أن يكون فيها (مسجل)، فهذا شرط كمال، إذ يمكن أن تباع السيارة بدون مسجل.

فلو بيعت بدون مسجل وجاء المشتري يقول: هذه السيارة معيبة، قلنا: ما عيبها؟ قال: ليس بها مسجل، نقول: عدم وجود المسجل ليس بمؤثر في منافع السيارة، وليس بعيب في ذات السيارة، فالسيارة تراد للركوب غالباً ومنافع الركوب فيها ممكنة، وحينئذ نقول: هذا ليس بعيب.

لكن لو قال عند الشراء: أشترط أن يكون بها (مسجل)، فإن عدم وجوده عيب. أو باع بيتاً.

فإذا قال لك: أبيعك بيتي، وصفته كذا وكذا، وصف لك طوله وعرضه، وصفاته الكاملة، لكنك قلت له: أشترط أن يكون فيه -مثلاً- الهاتف أو الماء أو الكهرباء، فهذه منافع، والبيت لذاته إنما يعد للسكنى.

فلو أن رجلاً اشترى بيتاً، ثم لم يجد فيه الهاتف، وقال: هذا عيب، قلنا: ليس بعيب؛ لأن البيت يراد للسكن، ولا يراد للاتصال فعدم وجود هذا الجهاز فيه لا يقتضي نقصانه ولا يقتضي كونه معيباً؛ لكن لو أنه اشترط عليه وجود هذا الجهاز فيه فإنه يعتبر عيباً، ويجوز له أن يرد إذا لم يجد هذه الصفة فيه.

لو اشترى أرضاً فقال للبائع: أشترط أن يكون لها صك شرعي، فقال البائع: وهو كذلك، أي: لها صك شرعي، وتم العقد بينهما على هذا الأساس، وتبين أن الأرض لا صك لها، أو أنه لا يملكها بصك، فحينئذ من حق المشتري أن يرد الأرض ويعتبر هذا العيب.

إذاً: العيوب الكمالية لا تكون عيوباً إلا إذا اشترطت. وفي بعض الأحيان تكون الكمالات عيوباً إذا لم تشترط إذا جرى بذلك العرف، فمثلاً:

لو قال لك: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف، فنظرت في السيارة وإذا بها على ما تريد وترغب، وجميع أوصافها وما تريده منها من الانتفاع ممكن ومتيسر، لكنك لما دفعت العشرة آلاف وركبتها، إذا بها لا يوجد بها المكيف -مثلاً- فجئت وقلت: هذا عيب.

ففي هذه الحالة ننظر: لو جرى العرف أن هذا النوع من السيارات الغالب أن يكون فيها مكيفاً، فحينئذٍ: (المعروف عرفاً كالمشروط لفظاً).

فنقول: صحيح أنه لم يقل: أشترط أن يكون بها هذا الجهاز؛ ولكنه معروف بالعرف أن هذا النوع من السيارات يوجد به هذا الكمال فهو كالشرط، أي: جريان العرف به كالشرط، وإنما سكت المشتري لأنه سيشتري شيئاً معروفاً.

الخلاصة:

هناك عندنا عيوب مؤثرة في ذات المبيع، وعندنا عيوب تستحق بالشرط، وهذا ما مثلناه في العصر الحديث وفي القديم كأن يقول لك: أشتري منك العبد بشرط أن يكون كاتباً، أي: يعرف الكتابة؛ لأنهم يحتاجونه في كتابة الرسائل ونحوها، حتى يستأجره الناس وينتفع من وراء ذلك.

أو أشترط أن تكون له صنعة.. إلى آخر ذلك من الشروط، فالرقيق بذاته منفعته موجودة؛ لكن اشتراط الكتابة فيه يستحق به الرد، متى ما وجد على خلاف الشرط.

وهكذا بالنسبة للدابة -كما مثلنا في الحديث- فقد كانوا في القديم يشترطون أن تكون الدابة هملاجة، أي: السريعة، أو أن يكون الفرس سريعاً، أو أن يكون البعير سريعاً؛ لأنه يريده للركوب ولأن الدواب في القديم تارةً تشترى للحم، ويسمونها: الشاة الأكولة، الناقة الأكولة، البقرة الأكولة، أي: أنها اشتريت من أجل لحمها لكي تؤكل.

وتارةً تشترى للركوب، فيقال: دابة ركوب، ناقة ركوب، أي: اشتراها من أجل أن يركب عليها.

وتارةً تشترى من أجل الحليب، فيقال: شاة حلوب، وبقرة حلوب، وناقة حلوب.

فهذه الكمالات: كونها حلوباً، وركوباً، أو سمينة طيبة اللحم؛ لا تعتبر عيوباً إلا إذا اشترطها المشتري.

وبهذا يتبين أن العيب في قول العلماء: هو نقصان المالية، وذلك إما أن يكون نقصاً في الذات، أو نقصاً في النفع، ثم هذان النوعان -نقص الذات ونقص النفع- يعتبر منها العيب المؤثر أي: الذي يعتبر نقصه قوياً.

وأما النوع الثاني من العيوب: وهي العيوب التي تستحق بالشروط، وهي التي يسميها العلماء رحمهم الله: عيوب الكمالات، فلا تستحق بالطلب والدعوى، ولكن إذا جرى العرف بوجودها ولم توجد في المبيع، كان من حق المشتري أن يرد المبيع، ويثبت له خيار العيب، وهذا من حيث الإجمال.

من حيث التفصيل:

المبيعات تارة تكون عقارات.

وتارة تكون منقولات.

وتارة تكون من الأثمان.

فإذا باع الإنسان أو اشترى فإما أن يبيع ثمناً، ويشتري ثمناً، وإما أن يبيع مثمناً ويشتري مثمناً، أو يبيع ثمناً ويشتري مثمناً، كما ذكرنا في تقسيمات البيع الثلاثة:

- مثمن بمثمن، وهو بيع المقايضة.

- ثمن بثمن، وهو بيع الصرف.

- ثمن بمثمن وهو البيع المطلق.

ففي الثمن يكون النقص في الورق النقدي والعيب في الورق النقدي، كأن يبيعه ورقاً أو يصرف له ورقاً مزوراً أو مزيفاً، وفي القديم كانوا يقولون: (دراهم زيوف ودنانير زيوف).

في عصرنا الحاضر يصرف له دولارات مزيفة، هذه الدولارات المزيفة إذا ثبت زيفها، كان من حقه أن يردها وأن يأخذ عين ما دفع.

وكذلك أيضاً بالنسبة لنقص القيمة الشرائية لها، فهذه ليس لها قيمة شرائية أصلا،ً ما دامت زيوفاً.

في بعض الأحيان يكون الورق الموجود دولارات، قال لك: أصرف لك هذه المائة دولار بألفين ريال مثلاً، فقلت له: قبلت، فأخذت المائة دولار فوجدتها مقطعة، وهذه المقطعة لا يمكن أن تسري في السوق، ولا تقبل ولا تروج، فمن حقك أن تردها؛ لأن هذا نقص يؤثر في الانتفاع من هذه الدولارات؛ لأنك حينما أخذتها إنما أخذتها من أجل أن تكتسب بها وتنتفع بها، فتتعطل منفعتك بهذا النقص، فحق لك أن تردها وتستبدلها أو تلغي العقد نهائياً.

الحالة الثانية: أن يكون البيع في المثمونات، والمثمونات إما عقارات وإما منقولات.

فالعقارات مثل البيوت، ومثل الأرضين، ففي البيوت يبيعه بيتاً فيه عيب، وعيوب البيوت تنقسم إلى قسمين:

- إما عيوب في ذات البيوت ومنافعها والانتفاع بها من السكنى تحتها والاستظلال ونحو ذلك.

- وإما عيوب نفسية تؤثر في سكنك في البيت، فتزعجك وتقلقك ولا تريحك.

فإن كانت العيوب في ذات البيت، كانكسار سقفه، فإنه إذا باعك البيت ثم تبين أنه منكسر السقف، أو لا تأمن أن يسقط السقف عليك، فهذا نقص في المالية، من حقك أن ترد به البيع، أو باعك عمارة وتبين أن فيها دوراً كاملاً مشقق، أو جميع أدواره مشققاً، بحيث قال أهل الخبرة: هذا ضرر فادح أو فيه خطر على السكنى في مثل هذا، فمن حقك أن ترد.

كذلك أيضاً إذا باعك وكانت الغرف مقسمة على وجه لا يمكن معه الانتفاع، كأن تشتريها للسكنى، وقلت له: أريد عمارة فيها شقق من أجل أن أؤجرها، أو من أجل أن أسكنها، وتبين أن هذه العمارة كانت سكناً للعمال، ونظامها في التقسيم لا يصلح أن تصير به شققاً، فهذا مضر لمنفعتك ويمنعك من الارتفاق بها، فيحق لك الرد، فهذه كلها عيوب حسية في ذات المبيع.

وهناك عيوب في العقارات، فقد يكون العقار أيضاً فيه عيب حسي إذا كان من الأراضي والمزارع، مثل:

أن يبيعه مزرعة في مجرى السيل، فإن المزرعة في مجرى السيل عرضة إلى أن يأتي السيل ويأخذ ما فيها من زرع وحرث وما فيها من ماشية، بل وما فيها من أنفس، فإذا تبين أن مكانها مهدد بالسيل، كان من حقه أن يرد؛ لأن هذا العيب يضر به، وقد يؤدي إلى هلاكه وذهاب أمواله. وحينما ذكرنا عيوب العمائر، أو عيوب البيوت من انشقاق السقف ، أو انكسار خشبه، أو وجود الأرضة التي كانت تأكل السقف في القيديم، فهذه كلها عيوب حسية.

لكن قد يكون العيب في البيت معنوياً، وذلك مثل سكن الجن في البيت، أي: إذا كان البيت مسكونا،ً وهذا معروف بالمشاهدة والتجربة، وقد نبه الإمام ابن قدامة رحمه الله والمتقدمون على مثل هذه العيوب، فلو كانت الدار مسكونة، وهذا له علامات، ففي بعض الأحيان ينفتح الباب بدون وجود شخص، وفي بعض الأحيان ينطفئ المصباح بدون أن يطفئه آدمي، وفي بعض الأحيان تسمع الأصوات، فلابد أن توجد دلائل بشهادة أهل الخبرة أن هذا البيت مسكون، ففي هذه الحالة من حقه أن يرد البيت.

كذلك أيضاً: الجار السوء، فجار السوء الذي يؤذي الإنسان ، قال بعض العلماء: إنه عيب معنوي، فذات الدار كاملة، وصفاتها كاملة؛ لكن إذا تبين أن جارها جار سوء يؤذي الإنسان في عرضه، ويؤذيه في نفسه بالكلام عليه، ولا يأمنه إذا غاب على أهله، ففي هذه الحالة قال بعض العلماء : إن جار السوء يستحق به الرد، خاصة إذا كان شريراً ومضراً.

إذاً: العقارات يكون عيبها حسياً، ويكون عيبها معنوياً.

فإذا كانت البيوت فيها عيب السكن، وعيب جار السوء، فكيف يكون في المخططات والأرضين؟

يكون في المخطط بعدم القيمة للأرض، وذلك بعدم وجود الصك الشرعي لها، فلو باعه أرضاً وتبين أن صكها مزور، أو أن الصك ليس لها إنما هو لغيرها، ففي هذه الحالة من حقه أن يرد، فكل هذه الصفات وهذه العيوب مؤثرة في المبيع، إما أثرت في عين المبيع، أو أثرت في قيمة المبيع والانتفاع به.

وأما عيوب الدواب فكما ذكرنا، فيكون العيب في ذاتها، الذي هو العيب الحسي، مثل مقطوعة القدم، ومقطوعة الرجل، مقطوعة اليد والشلاء، ومقطوعة الأذن، مثلاً:

لو اشتريت شاة للأضحية، وتبين أنها مقطوعة الأذن، فحينئذٍ من حقك الرد؛ لأن مثلها لا تستطيع أن تضحي بها، على قول من قال: في حديث عدي رضي الله عنه: إن مقطوعة الأذن لا يضحى بها.

في زمننا الحاضر مثلاً: لو اشتريت شاة وتبينت فيها الأورام والغدد، التي قد تضر بالإنسان إذا أكل من لحم هذه الشاة، فإذا تبين أن فيها هذا العيب وفيها هذا الضرر، كان من حقك أن ترد.

وعيوب الدواب المعنوية مثل: إذا جاء يركب على الفرس ينفر منه، إذا جاء يركب على الناقة نفرت منه، وهذه يسمونها الدابة الجموح، وهي التي لا ترتاح ولا تستأنس للراكب، وفي بعض الأحيان قد تتسبب في قتله، كما في حديث ابن عباس في الرجل الذي وقصته الدابة في حجة الوداع.

كذلك أيضاً الرقيق تكون فيه عيوب دينية، أو عيوب دنيوية، وسيذكرها المصنف رحمه الله.

وكذلك بقية المبيعات تقاس على هذا.

مثلاً: الثياب لها عيوب والأطعمة لها عيوب، فالطعام لو اشتريته وتبين أنه قد انتهت صلاحيته، وقد باعك في المدة التي قد انتهت صلاحية المبيع فيه، أو قال لك: هذا الطعام مدته إلى شهر، وتبين أن مدته أقل من شهر، وأنت تريده لشهر، فكل هذه تمنعك من الانتفاع؛ فالإنسان إذا اشتراه ووجد العيب في الذات أو في المنفعة أو كان عيباً معنوياً، فمن حقه أن يرد المبيع.

ذكر المصنف رحمه الله خيار العيب، والسؤال: ما هو الدليل على كون المسلم يستحق عند وجود العيب رد المبيع؟

الدليل على ذلك: كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل العلم.

أما كتاب الله: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] هذه الآية الكريمة وجه الدلالة منها في قوله : لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] و(الباطل) أكل المال بدون وجه حق.

وعلى هذا: لو باعك السيارة كاملة بعشرة آلاف، وظهر بها عيب ينقص قيمتها إلى ثمانية آلاف، فمعناه أنه قد أخذ منك الألفين بدون وجه حق.

ولذلك يقولون: بيع المعيبات وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل؛ لأنك تدفع القيمة كاملة في شيء كامل، والواقع أنه ناقص، فكأن ثمن المبيع على النقص يعتبر مأكولاً بالباطل، فهذا وجه الدلالة من الآية الكريمة.

وأما من السنة: فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث المصرّاة أنه قال صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين، إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)

وهذا حديث عظيم، فقد فرع عليه العلماء رحمهم الله مسائل العيوب، وحاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى فيه المسلم عن أن يصر الإبل والغنم، وفي حكمهما بقية الدواب.

ومعنى (تصرية الإبل والغنم): أنهم كانوا في القديم يأخذون الناقة، ويمتنعون من حلبها ثلاثة أيام أو يومين أو أربعة، فينتفخ اللبن في ضرعها، فإذا رآها رجل ظنها كثيرة اللبن، فاشتراها على أنها حلوب، ثم تبين أن حليبها ليس بالصفة التي اشتراها إذاً: فالتصرية أن يمتنع من حلب الشاة أو الناقة مدة حتى يكثر أو يعظم اللبن في ضرعها، قال صلى الله عليه وسلم لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها أي: من اشترى شاة أو ناقة مصراة (فهو بخير النظرين) أي: هو بين أمرين وإن شاء أمسكها، أي: إن رضيها وقال: رضيتها، والله عز وجل يعوضني في الآخرة، وسكت عن العيب، فهذا حقه، كما لو سامح المسلم المسلم في حقه، وإما أن يسخطها ويردها على صاحبها، فقال صلى الله عليه وسلم: (وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) أي: رد الناقة أو الشاة ومعها صاع من تمر، جبراناً لذلك النقص الذي استفاده من حلبها في الأيام الماضية.

إذاً: حديث المصراة دليل على إثبات خيار العيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن ابتاعها -أي: اشتراها- فهو بخير النظرين)، فقوله: هذا يدل على أن من اشترى شيئاً معيباً، أنه بخير النظرين إما أن يمسك وإما أن يرد.

وفي هذا الحديث دليل أيضاً على حرمة التدليس والغش؛ لأنه قال: (لا تصروا) والنهي للتحريم؛ لأن القاعدة: (أن النهي يحمل على ظاهره الموجب للتحريم، حتى يدل الدليل على خلاف ذلك).

وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء رحمهم الله على إثبات خيار العيب من حيث الجملة، فكلهم متفقون على أنه إذا باعه شيئاً معيباً واشتراه المشتري دون أن يعلم بالعيب، أن من حقه أن يرد، على تفصيل سنذكره إن شاء الله، يختلف بحسب اختلاف مذاهب العلماء رحمهم الله.

وفي خيار العيب حكم عظيمة منها: دفع الضرر عن المسلم.

فقد شرع الله خيار العيب دفعاً للضرر عن المسلم، ولذلك أمر من اشترى المعيب أن يرده إذا لم يرد، أو يبقيه إن رضيه، وأذن الله عز وجل له أن يرد المعيب، وهذا يدل على مشروعية أخذ المسلم بحقه إذا تبين له أنه مظلوم، فقد قال عليه الصلاة والسلام وإن سخطها ردها، فمن حقك أن ترد المعيب لأنك ظُلمت، وقد اشتريت الكامل ولم تشتر الناقص، ودفعت ثمن الكامل ولم تدفع ثمن الناقص فقط، وكأنك حينما اشتريت الشيء على أنه كامل وتبين أنه ناقص فكأنك عقدت العقد الذي بينك وبين البائع على شيء غير هذا الشيء، وبناء عليه تستحق الرد.

وفي خيار العيب -أيضاً- قرع وتوبيخ لأهل الغش وصيانة لأسواق المسلمين من الكذابين والغشاشين، ولو أنه كلما ظهر عيب ردت المبيعات لعُرف الغشاشون، ولم يستطيعوا أن يتسلطوا على المسلمين، ولكن إذا لم يعط المسلم خيار العيب، فإن معنى ذلك أن يتسلط الغشاشون ولا يجدون من يردعهم عن غش المسلمين، فتصبح الأسواق مليئة بالغش والكذب، حتى لا يأمن الإنسان في تجارته وبيعه وشرائه.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع