خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [3]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد
الفطر بعذر المرض والسفر
ويسن الفطر لمريض؛ لأن الله تعالى يقول: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] فأمرنا الله عز وجل أن نعدل في حال السفر والمرض إلى الفطر، لكن هل ذلك على سبيل الوجوب أو على سبيل التخيير؟
للعلماء قولان:
قال جمهور العلماء: من كان مريضاً أو على سفر إن شاء أفطر وإن شاء صام، فهذا مذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة.
وقال بعض العلماء: المسافر لا يصح منه أن يصوم، ولو صام في السفر بطل صيامه ويجب عليه القضاء؛ لأن الله يقول: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] أي: أنه يجب عليه أن يفطر، ويكون صومه في عدة من أيام أخر، وهذا مذهب الظاهرية.
والصحيح: مذهب الجمهور؛ وذلك لأن السنة فسرت القرآن وبينت المراد منه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه مسافراً، قال أنس : (فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم).
وفي الصحيح: أن عمرو بن حمزة -رضي الله عنه- سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إني أطيق الصوم في السفر. فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر) فخيره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلزمه عليه الفطر؛ فدل على أن الإنسان مخير.
لكن إذا حصل الحرج والمشقة للإنسان في السفر فإنه يعدل إلى الفطر، وقد يجب عليه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صام حتى بلغ كراع الغميم، وهو موضع بين مكة والمدينة، أقرب إلى مكة منه إلى المدينة، وكراع الغميم هو كراع البحر، أقرب إلى جهة عسفان، المسافة ما بين المدينة وعسفان تقرب من سبع مراحل أو ثمان مراحل، والثمان المراحل: قرابة ثمانية أيام، وكلها كان يصومها عليه الصلاة والسلام، فاشتد الصوم على المسافرين من أصحابه فأفطر عليه الصلاة والسلام، وأخبر أن أقواماً لا يزالون صائمين، فقال عليه الصلاة والسلام : (أولئك العصاة .. أولئك العصاة) وهذا لأن اليوم كان شديد الحر، عظيم الضرر على المسافرين؛ فكان المنبغي عليهم أن يأخذوا برخصة الله عز وجل عليهم، فصار تكلفهم الصيام فيه حرج ومشقة على النفس.
ومن هنا قال العلماء: نفرق في المسافر؛ فإذا كان السفر يحرجه ويتعبه ويشق عليه أن يصوم فيه؛ فإنه يعدل إلى الفطر، وقال بعضهم بالوجوب كما ذكرنا، وأما إذا كان يجد المشقة ولا تصل به إلى الحرج فهو مخير بين أن يفطر وبين ألا يفطر.
أما الحالة الثالثة: وهي أن يسافر وهو مرتاح -كما هو الحال في وسائل السفر الموجودة اليوم- فلا يجد عناءً ولا مشقة، فهل يجوز له أن يفطر؟
الجواب: نعم، يجوز له أن يفطر؛ لأن الشرع علق العلة بالغالب، والقاعدة في الأصول في مثل هذه الرخص أنه لا يلتفت فيها إلى نادر الصور؛ لأن نادر الصور أن المسافر يرتاح، والواقع أن المسافر له عناءان وعليه مشقتان: مشقة ظاهرة، ومشقة باطنه.
أما المشقة الظاهرة: فهي التعب في التحمل والنزول والغربة.
وأما المشقة الباطنة: فهي مشقة التعب النفسي في بعده عن أهله، وتغربه عن وطنه، وإقدامه على المكان الموحش والأرض القفراء التي لا أنيس فيها ولا جليس، فهذا يرهق النفس ويتعبها وإن كان في الظاهر مرتاحاً مستجماً، فالشرع علق الرخصة بوجود السفر.
فنحن نقول: من شاء أن يصوم ومن شاء أن يفطر، ولو كان في حالة من الراحة والاستجمام؛ لأن الله عز وجل جعل للمسافر أن يفطر بغض النظر عن كونه مرتاحاً أو غير مرتاح، ولا نفرق بين المرتاح وغيره؛ لأن التفريق بين المرتاح وغيره مبني على الاجتهاد والنظر، والقول باعتبار الظاهر من النص أولى وأحرى.
ولذلك من الخطأ ما يقع فيه بعض الناس من الإنكار على المسافر المرتاح أنه يفطر، وهذا خطأ؛ لأن الله عز وجل أباح للمسافر أن يفطر ولم يفرق بين مسافر وآخر، ولذلك لا يجوز لأحد أن ينكر على مسافر إذا أفطر ولو كان في أقصى راحة واستجمام؛ لأن الله عز وجل أحل له ذلك، فلا نلزمه بما لم يلزمه الله عز وجل به، ونقول: هو بالخيار، إن شاء أفطر وإن شاء صام، والأفضل له إذا كان في سفر وكان مرتاحاً أن يصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر؛ ولأن ذلك يبرئ ذمته، وإبراء الذمة أولى من شغلها، فكونه يبرئ ذمته بالعاجل أفضل؛ ولأنه لا يضمن أن يبقى، ولذلك كونه يخلي نفسه من المسئولية والتبعة فهو أفضل له وأولى وأحرى، فعلى هذا قالوا: الأفضل له أن يصوم ولا يفطر.
الضابط في السفر المرخص فيه بالإفطار
أي: يباح الفطر للمسافر بشرط: أن يكون سفره سفر قصر، وسفر القصر هو: أن يكون المكان الذي يقطعه في سفره مسيرة يوم وليلة على الإبل المعتادة، وهذا يقرب من خمس وسبعين إلى ثمانين كيلومتراً، فمن قصد بلدة ومدينة تبعد عن مدينته ما بين خمس وسبعين إلى ثمانين كيلومتراً فإنه يباح له أن يفطر، وأما إذا كانت المدينة تبعد عنه أقل من ذلك كسبعين أو ستين كيلو متراً فإنه لا يفطر، ولو كان الفرق يسيراً ككيلومتر أو نصف كيلومتر عن المسافة المعتبرة فإنه لا يفطر، وقد استغرب بعض المتأخرين ذلك وقالوا: كيف تحدد مسافة السفر، فنقول لشخص قصد مدينة تبعد أربعاً وسبعين كيلومتراً لا يفطر، ومن قصد مدينة من خمسة وسبعين كيلومتراً يفطر؟
نقول: هذا تفريق من الشرع، ولذلك لما سئل عبد الله بن عباس عن القصر في السفر من مكة إلى مر الظهران والجموم، قال: لا، ولكن إلى جدة وعسفان والطائف.
فأجاز رضي الله عنه القصر إلى جدة، وكانت تبعد مسافة القصر، والطائف لأنها تبعد مسافة القصر، وعسفان لأن عسفان كان بينها وبين مكة مرحلة، والمرحلة هي مسيرة اليوم الكامل، وهذه مرحلة كاملة كانت بين عسفان ومكة، فأجاز القصر في هذه المسافة ولم يجز دونها، وكان ابن عمر كذلك يقصر إذا ذهب إلى مزرعته بوادي ريم، وريم تبعد عن المدينة فوق السبعين كيلومتراً، وهي مسافة المرحلة الكاملة.
وعلى هذا فإننا نقول: إن الله عز وجل أباح للمسافر أن يفطر، ولكننا لا نجيز في كل سفر الفطر ما لم يكن هذا السفر معتبراً شرعاً، والسفر المعتبر شرعاً هو ما بلغ مسيرة اليوم والليلة، والدليل على اعتبار الشرع له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة) فلو كان ما دون مسيرة اليوم والليلة يسمى سفراً لقال عليه الصلاة والسلام: لا يحل لامرأة أن تسافر يوماً، أو: لا يحل لامرأة أن تسافر ليلة، أو: لا يحل لامرأة أن تسافر نهاراً، أو: لا يحل لامرأة أن تخرج من المدينة، لو كان كل خروج من المدينة سفراً لقال: لا يحل لامرأة أن تخرج من المدينة، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (أن تسافر) وقيد السفر بقوله: (مسيرة يوم وليلة) أخذ منه جمهور العلماء أن السفر هو مسيرة اليوم والليلة.
فمن قصد من بلده موضعاً يبعد مسيرة اليوم والليلة وقدره من خمسة وسبعين إلى ثمانين كيلومتراً فإنه يقصر ويفطر.
ويشترط في هذا السفر ألا يكون سفر معصية؛ لأن سفر المعصية لا يجوز للإنسان أن يفطر فيه؛ لأنه ليس بسفر معتبر شرعاً، فإن بلغ به الحرج والمشقة والضيق حل له الفطر من باب آخر لا من باب السفر.
والأصل في ذلك: أن الشرع لم يأذن له بهذا السفر، فصار كغير المسافر، وإنما يحل له أن يقصر وأن يفطر إذا كان سفره يعتبره الشرع سفراً، وأما ما لم يعتبره الشرع سفراً فإنه لا يفطر فيه، كالسفر إلى حرام وقطيعة رحم وعقوق والدين، فمثل هذه الأسفار لا يترخص صاحبها فيها، ولا يجوز له أن يفطر ولا أن يقصر الصلاة كما قررناه في باب صلاة المسافر.
حكم من نوى صيام يوم ثم سافر في أثنائه
هذا مذهب جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم: أنه إذا أقام ثم طرأ عليه السفر في أثناء اليوم، فإنه يجوز له أن يفطر، فلا يشترط في المسافر أن يكون قد بيت النية بالسفر، فلو طرأ عليك السفر أثناء اليوم حل لك أن تفطر بمجرد خروجك من المدينة.
والأصل في ذلك أن الله تعالى يقول: أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، فوصف الإنسان بكونه على سفر.
وذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جواز الفطر في داخل المدينة، وكان بعض العلماء يقول بجواز الفطر بالنية، وهذا من أضعف المذاهب؛ لأنه يخالف نص القرآن وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن نص القرآن الثابت في كتاب الله عز وجل أنه وصف الإنسان بكونه على سفر، والذي على سفر لا يكون مسافراً إلا إذا أسفر، والإنسان لا يقال: إنه على سفر، إلا إذا خرج وأسفر، والإسفار يتحقق بخروجك من آخر عمران المدينة؛ فإذا خرجت من آخر عمران المدينة حل لك أن تفطر، وأما إذا كنت داخل المدينة فإنه لم يتحقق كونك مسافراً.
ولذلك يقولون: إنه لا يرخص له الفطر إلا إذا جاوز آخر العمران، وقد بينا ضوابط مجاوزة آخر العمران في باب صلاة المسافر في كتاب الصلاة، وبينا ضابط ذلك، وما أثر عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـأبي بصرة الغفاري رضي الله عنه من كونه أفطر وهو يرى البنيان، قال العلماء في جوابه: إن قوله: إن ذلك من السنة، مراده: أنه لا يشترط أن يغيب عن نظرك رؤية العمران؛ فهناك مسألتان:
المسألة الأولى: خروجك من المدينة.
والمسألة الثانية: إذا خرجت من المدينة هل يشترط أن تغيب العمران، بمعنى أن تبعد وتبعد حتى إذا نظرت لا ترى أثراً للعمران، أم أن العبرة بمجرد خروجك؟
فظاهر ما جاء عن أبي بصرة أنه حينما كان على مركبه وسفينته على دجلة أنه كان يرى العمران، فدل على أن رؤية العمران لا تسقط الرخصة، وهذا صحيح ويقول به الجمهور: أن العبرة بمجاوزتك للعمران، وأن رؤيتك له ولو كنت على متر من العمران جاز لك أن تفطر، فلا يشترط عدم الرؤية، وفرق بين مسألة الرؤية وبين مسألة النية.
ومما يدل على أن الشرع رخص في السفر؛ أنه أعطى رخصتين:
الرخصة الأولى: قصر الصلاة.
والرخصة الثانية: الفطر في الصوم، وكلاهما من جنس العبادة، ومع هذا فإنه لا يقصر الصلاة بالإجماع وهو في المدينة، ولو كانت نيته السفر، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربع ركعات، مع أنه ناو للسفر لحجة الوداع، فصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، فمعنى ذلك أنه إذا أصبح ذلك اليوم وهو ناو للسفر لم يقصر الصلاة، وكذلك في الصوم، لو أصبح وهو ناو للسفر لا يباح له الفطر ما لم يخرج من المدينة ويجاوز عمرانها على الصفة التي ذكرها في باب صلاة المسافر.
إفطار الحامل والمرضع
أي: قضتا ذلك اليوم، ولا يلزمهما إطعام.
والحامل والمرضع لا يخلو في فطرهما من ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون الخوف على أنفسهما.
الحالة الثانية: أن يكون الخوف على الولد.
الحالة الثالثة: أن يكون الخوف على النفس مع الولد.
فإن كان خوفهما على أنفسهما أو على أنفسهما مع الولد فإنه يباح لهما الفطر والقضاء بدون إطعام، لأن العذر متصل بهما.
وإن خافتا على الولد أفطرتا وقضتا وأطعمتا.
وهذا على ظاهر آية البقرة، فإن ابن عباس -رضي الله عنه- كان يرى أنها باقية في الحامل والمرضع : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] قال: إن المرأة الحامل عليها أن تطعم المسكين، وهذا في حالة ما إذا كانت مفطرة عن نفسها؛ فخالف جمهور العلماء، والجمهور على أنه إذا أفطرت المرأة الحامل والمرضع خوفاً على أنفسهما فإن الواجب عليهما القضاء دون الإطعام كالمسافر والمريض، لأن العذر متصل بهما.
أما إذا خافتا على الولد وحده ولم يكن الخوف على النفس؛ فإنه حينئذٍ يلزمهما الإطعام والقضاء عن ذلك اليوم، قالوا: الإطعام لمكان انفصال العذر، وأما بالنسبة للقضاء فلكون اليوم واجباً عليهما بالأصل.
وقوله: [وعلى ولديهما قضتا وأطعمتا لكل يوم مسكيناً].
أي: إذا خافتا على الولد.
المرضع في بعض الأحيان تكون صحتها طيبة، وهي قادرة على الصوم؛ ولكنها تخاف أنها إن صامت فلن يجد الولد اللبن ويتضرر بصيامها، فقالوا: حينئذٍ يكون فطرها لعلة منفصلة عنها وهو الولد.
وهكذا بالنسبة للحامل، فإنها تطيق الصوم في نفسها، ولكنها تخشى أن يتضرر الولد، كأن يقول لها الطبيب: إذا صمت في هذا الشهر فإن الولد سيتضرر، فحينئذٍ يكون الخوف على الولد وليس على المرأة الحامل، فيكون العذر في كلتا الصورتين منفصلاً لا متصلاً بالمرأة نفسها.
فيقول المصنف رحمه الله: [ويسن لمريض يضره ولمسافر يقصر].
ويسن الفطر لمريض؛ لأن الله تعالى يقول: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] فأمرنا الله عز وجل أن نعدل في حال السفر والمرض إلى الفطر، لكن هل ذلك على سبيل الوجوب أو على سبيل التخيير؟
للعلماء قولان:
قال جمهور العلماء: من كان مريضاً أو على سفر إن شاء أفطر وإن شاء صام، فهذا مذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة.
وقال بعض العلماء: المسافر لا يصح منه أن يصوم، ولو صام في السفر بطل صيامه ويجب عليه القضاء؛ لأن الله يقول: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] أي: أنه يجب عليه أن يفطر، ويكون صومه في عدة من أيام أخر، وهذا مذهب الظاهرية.
والصحيح: مذهب الجمهور؛ وذلك لأن السنة فسرت القرآن وبينت المراد منه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه مسافراً، قال أنس : (فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم).
وفي الصحيح: أن عمرو بن حمزة -رضي الله عنه- سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إني أطيق الصوم في السفر. فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر) فخيره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلزمه عليه الفطر؛ فدل على أن الإنسان مخير.
لكن إذا حصل الحرج والمشقة للإنسان في السفر فإنه يعدل إلى الفطر، وقد يجب عليه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صام حتى بلغ كراع الغميم، وهو موضع بين مكة والمدينة، أقرب إلى مكة منه إلى المدينة، وكراع الغميم هو كراع البحر، أقرب إلى جهة عسفان، المسافة ما بين المدينة وعسفان تقرب من سبع مراحل أو ثمان مراحل، والثمان المراحل: قرابة ثمانية أيام، وكلها كان يصومها عليه الصلاة والسلام، فاشتد الصوم على المسافرين من أصحابه فأفطر عليه الصلاة والسلام، وأخبر أن أقواماً لا يزالون صائمين، فقال عليه الصلاة والسلام : (أولئك العصاة .. أولئك العصاة) وهذا لأن اليوم كان شديد الحر، عظيم الضرر على المسافرين؛ فكان المنبغي عليهم أن يأخذوا برخصة الله عز وجل عليهم، فصار تكلفهم الصيام فيه حرج ومشقة على النفس.
ومن هنا قال العلماء: نفرق في المسافر؛ فإذا كان السفر يحرجه ويتعبه ويشق عليه أن يصوم فيه؛ فإنه يعدل إلى الفطر، وقال بعضهم بالوجوب كما ذكرنا، وأما إذا كان يجد المشقة ولا تصل به إلى الحرج فهو مخير بين أن يفطر وبين ألا يفطر.
أما الحالة الثالثة: وهي أن يسافر وهو مرتاح -كما هو الحال في وسائل السفر الموجودة اليوم- فلا يجد عناءً ولا مشقة، فهل يجوز له أن يفطر؟
الجواب: نعم، يجوز له أن يفطر؛ لأن الشرع علق العلة بالغالب، والقاعدة في الأصول في مثل هذه الرخص أنه لا يلتفت فيها إلى نادر الصور؛ لأن نادر الصور أن المسافر يرتاح، والواقع أن المسافر له عناءان وعليه مشقتان: مشقة ظاهرة، ومشقة باطنه.
أما المشقة الظاهرة: فهي التعب في التحمل والنزول والغربة.
وأما المشقة الباطنة: فهي مشقة التعب النفسي في بعده عن أهله، وتغربه عن وطنه، وإقدامه على المكان الموحش والأرض القفراء التي لا أنيس فيها ولا جليس، فهذا يرهق النفس ويتعبها وإن كان في الظاهر مرتاحاً مستجماً، فالشرع علق الرخصة بوجود السفر.
فنحن نقول: من شاء أن يصوم ومن شاء أن يفطر، ولو كان في حالة من الراحة والاستجمام؛ لأن الله عز وجل جعل للمسافر أن يفطر بغض النظر عن كونه مرتاحاً أو غير مرتاح، ولا نفرق بين المرتاح وغيره؛ لأن التفريق بين المرتاح وغيره مبني على الاجتهاد والنظر، والقول باعتبار الظاهر من النص أولى وأحرى.
ولذلك من الخطأ ما يقع فيه بعض الناس من الإنكار على المسافر المرتاح أنه يفطر، وهذا خطأ؛ لأن الله عز وجل أباح للمسافر أن يفطر ولم يفرق بين مسافر وآخر، ولذلك لا يجوز لأحد أن ينكر على مسافر إذا أفطر ولو كان في أقصى راحة واستجمام؛ لأن الله عز وجل أحل له ذلك، فلا نلزمه بما لم يلزمه الله عز وجل به، ونقول: هو بالخيار، إن شاء أفطر وإن شاء صام، والأفضل له إذا كان في سفر وكان مرتاحاً أن يصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر؛ ولأن ذلك يبرئ ذمته، وإبراء الذمة أولى من شغلها، فكونه يبرئ ذمته بالعاجل أفضل؛ ولأنه لا يضمن أن يبقى، ولذلك كونه يخلي نفسه من المسئولية والتبعة فهو أفضل له وأولى وأحرى، فعلى هذا قالوا: الأفضل له أن يصوم ولا يفطر.
وقوله: [ومسافر يقصر].
أي: يباح الفطر للمسافر بشرط: أن يكون سفره سفر قصر، وسفر القصر هو: أن يكون المكان الذي يقطعه في سفره مسيرة يوم وليلة على الإبل المعتادة، وهذا يقرب من خمس وسبعين إلى ثمانين كيلومتراً، فمن قصد بلدة ومدينة تبعد عن مدينته ما بين خمس وسبعين إلى ثمانين كيلومتراً فإنه يباح له أن يفطر، وأما إذا كانت المدينة تبعد عنه أقل من ذلك كسبعين أو ستين كيلو متراً فإنه لا يفطر، ولو كان الفرق يسيراً ككيلومتر أو نصف كيلومتر عن المسافة المعتبرة فإنه لا يفطر، وقد استغرب بعض المتأخرين ذلك وقالوا: كيف تحدد مسافة السفر، فنقول لشخص قصد مدينة تبعد أربعاً وسبعين كيلومتراً لا يفطر، ومن قصد مدينة من خمسة وسبعين كيلومتراً يفطر؟
نقول: هذا تفريق من الشرع، ولذلك لما سئل عبد الله بن عباس عن القصر في السفر من مكة إلى مر الظهران والجموم، قال: لا، ولكن إلى جدة وعسفان والطائف.
فأجاز رضي الله عنه القصر إلى جدة، وكانت تبعد مسافة القصر، والطائف لأنها تبعد مسافة القصر، وعسفان لأن عسفان كان بينها وبين مكة مرحلة، والمرحلة هي مسيرة اليوم الكامل، وهذه مرحلة كاملة كانت بين عسفان ومكة، فأجاز القصر في هذه المسافة ولم يجز دونها، وكان ابن عمر كذلك يقصر إذا ذهب إلى مزرعته بوادي ريم، وريم تبعد عن المدينة فوق السبعين كيلومتراً، وهي مسافة المرحلة الكاملة.
وعلى هذا فإننا نقول: إن الله عز وجل أباح للمسافر أن يفطر، ولكننا لا نجيز في كل سفر الفطر ما لم يكن هذا السفر معتبراً شرعاً، والسفر المعتبر شرعاً هو ما بلغ مسيرة اليوم والليلة، والدليل على اعتبار الشرع له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة) فلو كان ما دون مسيرة اليوم والليلة يسمى سفراً لقال عليه الصلاة والسلام: لا يحل لامرأة أن تسافر يوماً، أو: لا يحل لامرأة أن تسافر ليلة، أو: لا يحل لامرأة أن تسافر نهاراً، أو: لا يحل لامرأة أن تخرج من المدينة، لو كان كل خروج من المدينة سفراً لقال: لا يحل لامرأة أن تخرج من المدينة، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (أن تسافر) وقيد السفر بقوله: (مسيرة يوم وليلة) أخذ منه جمهور العلماء أن السفر هو مسيرة اليوم والليلة.
فمن قصد من بلده موضعاً يبعد مسيرة اليوم والليلة وقدره من خمسة وسبعين إلى ثمانين كيلومتراً فإنه يقصر ويفطر.
ويشترط في هذا السفر ألا يكون سفر معصية؛ لأن سفر المعصية لا يجوز للإنسان أن يفطر فيه؛ لأنه ليس بسفر معتبر شرعاً، فإن بلغ به الحرج والمشقة والضيق حل له الفطر من باب آخر لا من باب السفر.
والأصل في ذلك: أن الشرع لم يأذن له بهذا السفر، فصار كغير المسافر، وإنما يحل له أن يقصر وأن يفطر إذا كان سفره يعتبره الشرع سفراً، وأما ما لم يعتبره الشرع سفراً فإنه لا يفطر فيه، كالسفر إلى حرام وقطيعة رحم وعقوق والدين، فمثل هذه الأسفار لا يترخص صاحبها فيها، ولا يجوز له أن يفطر ولا أن يقصر الصلاة كما قررناه في باب صلاة المسافر.
[وإن نوى حاضر صيام يوم ثم سافر في أثنائه فله الفطر].
هذا مذهب جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم: أنه إذا أقام ثم طرأ عليه السفر في أثناء اليوم، فإنه يجوز له أن يفطر، فلا يشترط في المسافر أن يكون قد بيت النية بالسفر، فلو طرأ عليك السفر أثناء اليوم حل لك أن تفطر بمجرد خروجك من المدينة.
والأصل في ذلك أن الله تعالى يقول: أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، فوصف الإنسان بكونه على سفر.
وذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جواز الفطر في داخل المدينة، وكان بعض العلماء يقول بجواز الفطر بالنية، وهذا من أضعف المذاهب؛ لأنه يخالف نص القرآن وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن نص القرآن الثابت في كتاب الله عز وجل أنه وصف الإنسان بكونه على سفر، والذي على سفر لا يكون مسافراً إلا إذا أسفر، والإنسان لا يقال: إنه على سفر، إلا إذا خرج وأسفر، والإسفار يتحقق بخروجك من آخر عمران المدينة؛ فإذا خرجت من آخر عمران المدينة حل لك أن تفطر، وأما إذا كنت داخل المدينة فإنه لم يتحقق كونك مسافراً.
ولذلك يقولون: إنه لا يرخص له الفطر إلا إذا جاوز آخر العمران، وقد بينا ضوابط مجاوزة آخر العمران في باب صلاة المسافر في كتاب الصلاة، وبينا ضابط ذلك، وما أثر عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـأبي بصرة الغفاري رضي الله عنه من كونه أفطر وهو يرى البنيان، قال العلماء في جوابه: إن قوله: إن ذلك من السنة، مراده: أنه لا يشترط أن يغيب عن نظرك رؤية العمران؛ فهناك مسألتان:
المسألة الأولى: خروجك من المدينة.
والمسألة الثانية: إذا خرجت من المدينة هل يشترط أن تغيب العمران، بمعنى أن تبعد وتبعد حتى إذا نظرت لا ترى أثراً للعمران، أم أن العبرة بمجرد خروجك؟
فظاهر ما جاء عن أبي بصرة أنه حينما كان على مركبه وسفينته على دجلة أنه كان يرى العمران، فدل على أن رؤية العمران لا تسقط الرخصة، وهذا صحيح ويقول به الجمهور: أن العبرة بمجاوزتك للعمران، وأن رؤيتك له ولو كنت على متر من العمران جاز لك أن تفطر، فلا يشترط عدم الرؤية، وفرق بين مسألة الرؤية وبين مسألة النية.
ومما يدل على أن الشرع رخص في السفر؛ أنه أعطى رخصتين:
الرخصة الأولى: قصر الصلاة.
والرخصة الثانية: الفطر في الصوم، وكلاهما من جنس العبادة، ومع هذا فإنه لا يقصر الصلاة بالإجماع وهو في المدينة، ولو كانت نيته السفر، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربع ركعات، مع أنه ناو للسفر لحجة الوداع، فصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، فمعنى ذلك أنه إذا أصبح ذلك اليوم وهو ناو للسفر لم يقصر الصلاة، وكذلك في الصوم، لو أصبح وهو ناو للسفر لا يباح له الفطر ما لم يخرج من المدينة ويجاوز عمرانها على الصفة التي ذكرها في باب صلاة المسافر.
وقوله: [وإن أفطرت حامل أو مرضع خوفاً على أنفسهما قضتاه فقط].
أي: قضتا ذلك اليوم، ولا يلزمهما إطعام.
والحامل والمرضع لا يخلو في فطرهما من ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون الخوف على أنفسهما.
الحالة الثانية: أن يكون الخوف على الولد.
الحالة الثالثة: أن يكون الخوف على النفس مع الولد.
فإن كان خوفهما على أنفسهما أو على أنفسهما مع الولد فإنه يباح لهما الفطر والقضاء بدون إطعام، لأن العذر متصل بهما.
وإن خافتا على الولد أفطرتا وقضتا وأطعمتا.
وهذا على ظاهر آية البقرة، فإن ابن عباس -رضي الله عنه- كان يرى أنها باقية في الحامل والمرضع : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] قال: إن المرأة الحامل عليها أن تطعم المسكين، وهذا في حالة ما إذا كانت مفطرة عن نفسها؛ فخالف جمهور العلماء، والجمهور على أنه إذا أفطرت المرأة الحامل والمرضع خوفاً على أنفسهما فإن الواجب عليهما القضاء دون الإطعام كالمسافر والمريض، لأن العذر متصل بهما.
أما إذا خافتا على الولد وحده ولم يكن الخوف على النفس؛ فإنه حينئذٍ يلزمهما الإطعام والقضاء عن ذلك اليوم، قالوا: الإطعام لمكان انفصال العذر، وأما بالنسبة للقضاء فلكون اليوم واجباً عليهما بالأصل.
وقوله: [وعلى ولديهما قضتا وأطعمتا لكل يوم مسكيناً].
أي: إذا خافتا على الولد.
المرضع في بعض الأحيان تكون صحتها طيبة، وهي قادرة على الصوم؛ ولكنها تخاف أنها إن صامت فلن يجد الولد اللبن ويتضرر بصيامها، فقالوا: حينئذٍ يكون فطرها لعلة منفصلة عنها وهو الولد.
وهكذا بالنسبة للحامل، فإنها تطيق الصوم في نفسها، ولكنها تخشى أن يتضرر الولد، كأن يقول لها الطبيب: إذا صمت في هذا الشهر فإن الولد سيتضرر، فحينئذٍ يكون الخوف على الولد وليس على المرأة الحامل، فيكون العذر في كلتا الصورتين منفصلاً لا متصلاً بالمرأة نفسها.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] | 3704 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] | 3620 استماع |
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق | 3441 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] | 3374 استماع |
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة | 3339 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] | 3320 استماع |
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] | 3273 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] | 3228 استماع |
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص | 3186 استماع |
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] | 3169 استماع |