الأنس بالله


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وألفه من ثلاثة عناصر هي: البدن الذي هو من تراب، والروح التي هي نفخة غيبية من أمر الله، والعقل الذي هو نور رباني فضل الله به هذا الإنس البشري على سائر الحيوانات، وكل واحد من هذه العناصر الثلاثة قابل للتطوير والنماء والزيادة من الخير، وقابل للتردي والرجوع إلى أسفل سافلين؛ فلذلك احتاج الإنسان إلى التربية وزيادة أدائه في مجالاته الثلاثة، فتربية البدن تكون بالحفاظ على الصحة والتغذية والنظافة، وتربية العقل تكون بالتفكير السليم في المواطن المأذون للعقل في التدبر فيها، وبزيادة العلم، وتربية الروح إنما تكون بترقيقها، وإزالة ما فيها من العيوب والأدران والأوساخ، وتحليها بصفات المؤمنين وتخليها عن صفات المنافقين، وهذه الأمور كلها ممكنة، فالإنسان يمكن أن يعالج نفسه حتى يتعود على المهارات التي لم يكن يكتسبها فيعود بدنه على حمل الأثقال، وعلى تلقي الصعوبات، كما أنه يمكن أن يروض نفسه على فهم العويص، واستيعابه بزيادة معلوماته حتى يتسنى له فهم ما غلب غيره، ويمكن أن يحسن أخلاقه، وأن يزيد تقواه وقربه من الله سبحانه وتعالى بتربيته لنفسه، وإذا أهمل الإنسان نفسه ودساها فإنها لا تزال تزداد درناً وبعداً عن الله سبحانه وتعالى، وانغماساً في الملذات والشهوات، واقتراباً من الحيوانات والبهائم، حتى يسخط عليه الله جل جلاله، وحتى يطرده عن رحمته؛ ولذلك أقسم الله جل جلاله أحدى عشر قسماً على فلاح من زكى نفسه، وعلى خسران من دساها أي: دسسها وأهملها، فقال تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:1-10].

وهذه التربية تمر بثلاث مراحل:

مرحلة ما قبل البلوغ

المرحلة الأولى: الإنسان فيها متلق غير مشارك في التنفيذ ولا في التخطيط، كالولد الصغير، فإن أبويه يعلمانه أو من يقوم مقامهما ويكسبانه ما أرادا من الأخلاق فهو صفحة بيضاء قابلة للخير والشر كما قال الله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10]، فبحسب الصحبة والعناية ينشأ الإنسان، فإما أن ينشأ على طاعة الله والقرب منه، والتوجه إليه، فيكون شاباً نشأ في عبادة الله، ويكون موعوداً بظل الله الأكبر يوم لا ظل إلا ظله كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ).

وإذا كانت الأخرى فإنه سينشأ بعيداً عن الله سبحانه وتعالى، وكلما ازداد في العمر كلما ازداد اتباعاً للشهوة، ورغبةً في أمور الدنيا، فيدبر عن باب الله جل جلاله، ويقبل على متاهات الدنيا الفانية، وبذلك يزداد بعداً ويقطع أشواطاً طويلةً فينقطع عن طريق الحق، ويتردى في الوحل، وإذا حاول الاستقامة والرجوع فإن الأمر سيكون شاقاً بالنسبة إليه، فيشق عليه أن يترك ما تعوده لسنوات طويلة، ويشق عليه أن يترك ما كان محباً له لسنوات طويلة، لكن الأمر يبقى قابلاً للرجوع، ويبقى الباب مفتوحاً للتوبة والندم على ما فرط فيه الإنسان في جنب الله إلى أن يحصل أحد أمرين:

الأمر الأول: خاص بالإنسان وهو الغرغرة، أي: أن تصل نفسه إلى السياق فتتجاوز صدره، إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:83-85]، فحينئذ لا يؤذن له بالرجوع، ولا ينفعه إلا ما كان قد عمل.

والأمر الثاني: عام وهو طلوع الشمس من مغربها، فإن قبل المغرب باباً اسمه باب التوبة، وهو مشرع مفتوح الآن على مصراعيه، والله تعالى يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، حتى إذا أمسك الله الشمس وأمرت أن تطلع من مغربها فإن ذلك الباب يغلق، فلا تقبل التوبة إلا ممن كان قدم خيراً في هذه الحياة كما قال الله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً [الأنعام:158].

مرحلة البلوغ

فلذلك يحتاج الإنسان بعد تلك التربية في المرحلة الأولى التي كان أبواه يقومان بها بالإضافة إلى عوامل التلقي الأخرى كالمدرسة والصحبة والشارع ووسيلة الإعلام إلى مرتبة ثانية يكون الإنسان فيها مشاركاً في التخطيط والتنفيذ، أو مستنداً بالتنفيذ، وهي مرحلة البلوغ التي يكون الإنسان فيها مسئولاً عن نفسه، وقد بدأ الملائكة يكتبون عليه أعماله، وهو مسئول حينئذ عن تصرفاته، وأغلب الناس لا يدركون هذا التحول والانتقال، فتكون المرحلة الثانية استمراراً للمرحلة الأولى، فإذا كان قد نشأ في المرحلة الأولى صالحاً كانت المرحلة الثانية امتداداً لها، وإذا كان قد نشأ طالحاً كانت المرحلة الثانية امتداداً لها.

مرحلة الوعي والإدراك

ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي مرحلة الوعي والإدراك عندما يبلغ الإنسان أشده، ويعلم أنه قد قطع شوطاً إلى الدار الآخرة واقترب من الموت: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [الأعراف:185]، فيأتي التذكير بالله سبحانه وتعالى، ويأتي الواعظون، وأبلغ الواعظين وعظاً الموت، والشيء مذكر قبل الموت بالانتقال من هذه الدار كذلك، وحينئذ سيحاول الإنسان أن يراجع مسيرة حياته إذا هدي، وسيحاول الازدياد من الخير وهو يعلم أنه في سباق مع الزمن؛ لأنه ما يدري متى يفجؤه الموت، وسيقيس ما فرط فيه في السنوات الماضية والساعات والأيام وهو كثير على ما يحاول الإتيان به مما هو صالح في المستقبل، فقد لا تتاح له فرصة على قدر ما مضى، فإذا بلغ مثلاً ثلاثين سنة وتذكر أن هذه الثلاثين بكاملها لم تكن فيما هو مرضي عند الله سبحانه وتعالى، وكان الذي يقرب من الله فيها أعمال قليلة وهي مدخولة، فهو يتذكر صلاته وما فيها من النقص، ويتذكر طهارته، ويتذكر ما فيه من الإخلال بحقوق إلهية، وما لديه من النقص في الإخلاص لله جل جلاله، ومع ذلك ما معه من المخالفات سواءً كانت من الكبائر والفواحش، أو من الصغائر واللمم، فإذا تذكر ذلك علم أنه قد لا يتاح له أن يعيش ثلاثين سنةً أخرى حتى يمحو بها ما عمل خلال الثلاثين السابقة، وأيضاً لو قدر أن عاشها فلم تخل كلها لكفة الحسنات، بل سيكون فيها دخل كثير ونقص؛ فلذلك يحتاج إلى الرشد في هذه المرحلة والتنبه لنفسه.

المرحلة الأولى: الإنسان فيها متلق غير مشارك في التنفيذ ولا في التخطيط، كالولد الصغير، فإن أبويه يعلمانه أو من يقوم مقامهما ويكسبانه ما أرادا من الأخلاق فهو صفحة بيضاء قابلة للخير والشر كما قال الله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10]، فبحسب الصحبة والعناية ينشأ الإنسان، فإما أن ينشأ على طاعة الله والقرب منه، والتوجه إليه، فيكون شاباً نشأ في عبادة الله، ويكون موعوداً بظل الله الأكبر يوم لا ظل إلا ظله كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ).

وإذا كانت الأخرى فإنه سينشأ بعيداً عن الله سبحانه وتعالى، وكلما ازداد في العمر كلما ازداد اتباعاً للشهوة، ورغبةً في أمور الدنيا، فيدبر عن باب الله جل جلاله، ويقبل على متاهات الدنيا الفانية، وبذلك يزداد بعداً ويقطع أشواطاً طويلةً فينقطع عن طريق الحق، ويتردى في الوحل، وإذا حاول الاستقامة والرجوع فإن الأمر سيكون شاقاً بالنسبة إليه، فيشق عليه أن يترك ما تعوده لسنوات طويلة، ويشق عليه أن يترك ما كان محباً له لسنوات طويلة، لكن الأمر يبقى قابلاً للرجوع، ويبقى الباب مفتوحاً للتوبة والندم على ما فرط فيه الإنسان في جنب الله إلى أن يحصل أحد أمرين:

الأمر الأول: خاص بالإنسان وهو الغرغرة، أي: أن تصل نفسه إلى السياق فتتجاوز صدره، إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:83-85]، فحينئذ لا يؤذن له بالرجوع، ولا ينفعه إلا ما كان قد عمل.

والأمر الثاني: عام وهو طلوع الشمس من مغربها، فإن قبل المغرب باباً اسمه باب التوبة، وهو مشرع مفتوح الآن على مصراعيه، والله تعالى يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، حتى إذا أمسك الله الشمس وأمرت أن تطلع من مغربها فإن ذلك الباب يغلق، فلا تقبل التوبة إلا ممن كان قدم خيراً في هذه الحياة كما قال الله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً [الأنعام:158].

فلذلك يحتاج الإنسان بعد تلك التربية في المرحلة الأولى التي كان أبواه يقومان بها بالإضافة إلى عوامل التلقي الأخرى كالمدرسة والصحبة والشارع ووسيلة الإعلام إلى مرتبة ثانية يكون الإنسان فيها مشاركاً في التخطيط والتنفيذ، أو مستنداً بالتنفيذ، وهي مرحلة البلوغ التي يكون الإنسان فيها مسئولاً عن نفسه، وقد بدأ الملائكة يكتبون عليه أعماله، وهو مسئول حينئذ عن تصرفاته، وأغلب الناس لا يدركون هذا التحول والانتقال، فتكون المرحلة الثانية استمراراً للمرحلة الأولى، فإذا كان قد نشأ في المرحلة الأولى صالحاً كانت المرحلة الثانية امتداداً لها، وإذا كان قد نشأ طالحاً كانت المرحلة الثانية امتداداً لها.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع