خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع باب أهل الزكاة [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول المصنِّف رحمه الله: [باب: أهل الزكاة ثمانية].
الأهل للشيء: هو المستحق له، تقول: فلان أهلٌ لكذا إذا كان مستحقاً له.
وقوله رحمه الله: (أهل الزكاة) أي: المستحقون لها وهي فريضته في أموال المسلمين، وقد قسم الله عز وجل الزكاة من فوق سبع سماوات، ولم يكلْ قسمتها إلى نبيٍ مرسل ولا إلى ملكٍ مقرب، الأمر الذي يدل على عظيم أمرها، وما ينبغي من العناية بشأنها.
وقد عقد المصنف رحمه الله هذا الباب في كتاب الزكاة لأهميته؛ لأنه بعد بيان الحق الواجب في الأموال، وبيان الأحكام المتعلقة بذلك الحق، شرع في بيان مصارفها، والعلماء يقولون: أهل الزكاة، ويقولون: مصارف الزكاة، والمراد بذلك بيان من المستحق لأخذ الزكاة.
فقال رحمه الله: (أهل الزكاة ثمانية)، وهذا إجمالٌ قبل البيان، وهو أسلوب من أساليب القرآن والسنة، وفائدته تهيئة السامع والقارئ لما يُذكر، إضافة إلى إحداث الشوق بترتب الجمل بعضها على بعض.
وعد أهل الزكاة ثمانية هو الذي ورد به النص في كتاب الله عز وجل في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60] أي: عليمٌ سبحانه وتعالى بأمر عباده، وعليم بما يشرِّعه لهم، وحكيم في حكمه سبحانه وتعالى وما يكون من تقديره، فختم الآية بما يناسبها، وهو العلم والحكمة؛ وكلتاهما من صفات الله عز وجل.
وهذه الأصناف الثمانية، حصر الله مصارف الزكاة فيها، والدليل على الحصر أنه قال سبحانه: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ [التوبة:60]، (وإنما) أسلوب حصر وقصر، يفيد إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، كأنه يقول: لا صدقة لغير هؤلاء، ولما قال: (إنما) فهمنا بهذا الأسلوب أنه سيخصِّص، وذلك يقتضي أن مصارف الزكاة خاصة، وهو يدل على ضعف تعميم الزكاة في وجوه الخير، وعدم رجحان القول الذي يقول: إن الزكاة تُصرف في وجوه الخير عموماً، إذ لو كانت الزكاة تُصرف في وجوه الخير عموماً؛ لما كان لقوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فائدة، ولقال: إنما الصدقات في وجوه الخير، لكن كونه يخص ذلك ويقصره ويحصره في وجوه خاصة من البر، يدل على أنه ليس كل البر، بل أصناف معينة يخص الشرع إعطاء الزكاة بها، فوجب التقيد بها.
ولأن الذي يقول بجواز صرفها في وجوه الخير عموماً يستدل بقوله سبحانه: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60]، وهذا اللفظ إذا أُطلق في كتاب الله عز وجل فالمراد به في الأصل الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهذا هو الذي وردت به نصوص الكتاب والسنة، ويعرف ذلك بالاستقراء والتتبع، ولذلك كان جماهير أهل العلم من الأئمة الأربعة وأتباعهم على أن الزكاة تختص بهذه الأصناف الثمانية، ولا تُصرف في مطلق وجوه الخير.
وذهب بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، وبعض المتأخرين إلى ترجيح القول الذي يقول بصرفها في وجوه الخير عموماً، وهذا القول مرجوح؛ وذلك أنه يستند إلى قوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [ التوبة:60 ]، وقد بيّنا أن قوله: (في سبيل الله) إذا أُطلق في الكتاب والسنة فالمراد به الجهاد، ومما يدل على ضعف حمل: (في سبيل الله) على العموم أن قوله: (وفي سبيل الله) يحتمل معنيين:
إما خاص بمن ذكرنا وهم المجاهدون، وإما عام.
فإذا قيل بعمومه، فإن العرب لا تعرف إدخال العام بين خاصَّين، وإنما تقدم العام وتعطف الخاص عليه، أو تقدم الخاص لشرفه وتعطف العام عليه، فتقول: دخل محمدٌ والناس، فتقدم الخاص وهو محمد لشرفه وفضله، ثم تقول: والناس وهو العام، أو تقول: دخل الناس ومحمدٌ، للدلالة على شرفه وفضله، كقوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر:4] فخصَّص بعد تعميم، وهذا هو أسلوب القرآن وأسلوب العرب.
أما أن تقول: دخل الناس ومحمد والناس، أو تقول: دخل محمد والناس ومحمد، تؤكد ذلك، فهذا لا تعرفه العرب.
وكذلك تقول: دخل الناس ومحمدٌ وعلي، أو تقول: دخل محمد وعلي والناس، أما أن تقول: دخل محمد والناس وعلي، فلا يستقيم؛ لأنك تدخل العام بين خاصين، فهذا لا يعرف في أساليب العرب، وإنما يعطف العام على الخاص، أو الخاص على العام كما هو معروف بالاستقراء.
وعلى هذا فإن القول بالتخصيص بالأصناف الثمانية وهو مذهب الجمهور هو الظاهر؛ لما ذكرناه من استقراء نصوص الكتاب والسنة، ولأننا لو قلنا بالتعميم فإن هذا يفوِّت المقصود من التنصيص على الأفراد الخاصة.
ويختص هؤلاء الثمانية بالمسلمين، فأما الكفار فلا تدفع لهم الزكاة، ولا يجوز صرفها إليهم ولو كانوا فقراء أو مساكين أو غارمين ولو كانت فيهم أي صفة من صفات أهل الزكاة، فإنما تدفع للمسلمين خاصة، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.
وقد جاءت الآية مطلقة شاملة في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، وهذا يدل على أن القرآن قد يُطلق ويريد الخصوص، وأنه ليس كل نص مطلقٍ في القرآن نحمله على إطلاقه حتى نتتبع ونعرف هل هناك إجماعٌ يخصص عمومه أو يقيد مطلقه، أم لا، فهذه الآية لو أخذ أحدٌ بإطلاقها لقال: تُدفع الزكاة للكفار، ولا أحد يقول بذلك، فدل على أن المطلق في الكتاب والسنة ينبغي الرجوع إلى ضوابطه، هل يوجد ما يخصصه إذا كان عاماً، وهل يوجد ما يقيده إذا كان مطلقاً.
الصنف الأول: الفقراء
وهو مأخوذ من الفقر؛ وهو شدة الحاجة، وأصح أقوال العلماء: أن الفقير أشد حاجة من المسكين، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة أنه استعاذ بالله من الفقر، كما في أذكار الصباح والمساء، فكان يقول: (أعوذ بك من الكفر والفقر) فاستعاذ بالله من الفقر، ثم قال: (اللهم أحيني مسكيناً) فدل على أن المسكنة أقلّ من الفقر، ولو كانت المسكنة فوق الفقر وأشد منه لما استقامت استعاذته عليه الصلاة والسلام وسؤاله الله عز وجل أن يحييه مسكيناً، فدل على أن المسكنة دون الفقر.
ودل أيضاً دليل الكتاب على أن المسكنة دون الفقر، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79] فوصفهم بكونهم مساكين مع أنهم مالكون للسفينة، ومن هنا قال العلماء: الفقر أشد من المسكنة.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على جواز صرف الزكاة للفقراء بنص الآية الكريمة، وضابط الفقير: هو الذي لا يجد كفايته بالكلية، أو يجد بعضها ولا تصل إلى النصف فأكثر، هذا هو الفقير.
ويُعرف الفقر بعدة دلائل:
الدليل الأول: معرفتك الشخصية بذلك الفقير، بأن تعرف حاله، وتعرف شدة عوزه وفقره وضيق يده، فإذا كنت تعرفه بنفسك مطّلعاً على حاله، كأخيك وابن عمك وأختك وقريبتك، فلا حرج حينئذٍ في دفع الزكاة إليه.
وضابط الفقر في هذه الحالة أن تطّلع على نفقته، فتجده لا يجد ما يُنفق على نفسه، وقد يجد ما يُنفق على نفسه لكن لا يجد ما ينفقه على أولاده، فإذا كان يجد طعاماً لنفسه ولا يجد الطعام لأولاده فهو فقير؛ لأن من احتاج فيمن تلزمه نفقته كان كحاجته في نفسه، وعلى هذا يُحكم بفقره، ويجوز لك حينئذٍ أن تدفع له الزكاة بسهم الفقير.
الدليل الثاني الذي تعرف به فقره: أن يشهد عدلان على فقره وعوزه وشدة حاجته، فإذا شهد عدلان تثق بهما وبشهادتهما أن فلاناً فقير، حلّ لك أن تدفع الزكاة له.
الدليل الثالث: الأمارات والعلامات الظاهرة التي يغلب على الظن فقره مع سؤاله، كأن يأتيك إنسان ويقول: إني فقير، وأنت تعرف ظواهر حال هذا الإنسان، فترى عليه أثر الجوع، وترى عليه ضعف البدن، وأحواله أمامك تدل على هذا الضعف، وإن كنت لا تعلم على الحقيقة نفقته مثل الحالة الأولى التي ذكرناها، ففي هذه الأحوال كلها تَصرِف الزكاة إليه بسهم الفقير.
لكن لو أن هذا الفقير جاءك وسألك الزكاة وأنت لا تعلم حاله، فحينئذٍ لا تخلو من ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن تقطع بكذبه، أو يغلب على ظنك كذبه، فحينئذٍ لا يجوز لك صرف الزكاة إليه قولاً واحداً، ولو قال إنه فقير، ولو ادعى الفقر ما دمت تعلم أنه ليس بفقير، فلا يحل لك أن تصرف الزكاة إليه، فإن صرفتها إليه بناءً على دعواه أنه فقير، فإنه يلزمك قضاء هذه الزكاة.
وعلى هذا فلو أخبر الإنسان أنه فقير، وأنت تعلم من حاله أنه كاذب أو عنده ما يسد حاجته، ويخرج به عن وصف الفقر والمسكنة، فإنه حينئذٍ لا يجوز لك دفع الزكاة إليه، وإن دفعتها عن نفسك وجب عليك القضاء، وإن دفعتها وكيلاً عن شخص وجب عليك أن تغرم مثلها وتدفعها للمستحق.
الحالة الثانية: أن تشك في حاله فلا تدري أهو صادق أو كاذب، وفي هذه الحالة لا يجوز لك أن تدفع الزكاة إليه إذا شككت من حاله، ووجِد ما يحتمل صدقه ويحتمل كذبه، حتى تتحرى وتتأكد أو يغلب على ظنك أنه محتاج، فإن دفعت الزكاة إليه وأنت تشك في فقره وحاجته، فحينئذٍ لا يُجزيك، ويلزمك قضاء الزكاة كما في الحالة الأولى، لأنه لا يجوز الصرف إلا مع اليقين أو غلبة الظن، فإذا كان الإنسان شاكاً، فإننا لن نتيقن صرف الزكاة لمستحقها، والأصل وجوبها، فوجب على من تولاها على هذا الوجه وصرفها على الشك أن يقضيها.
فهذه حالتان: إذا تيقن الكذب أو شك في صدقه وكذبه.
الحالة الثالثة: أن يغلب على ظنه صدقه، فإن غلب على ظنه صدقه بوجود دلائل وأمارات تدل على ذلك الصدق جاز له وحلّ أن يدفع الزكاة إليه.
قوله: [وهم من لا يجدون شيئاً أو يجدون بعض الكفاية]:
أي: وهم الذين لا يجدون شيئاً، فتجده يطوي يومه جائعاً، كقريب لك تراه لا يفطر ولا يتغدى ولا يتعشى ولا يجد طعاماً يأكله يوماً، وأنت تعلم أن السبب في عدم إصابته للطعام عدم وجوده، فيمضي عليه اليوم، وفي اليوم الثاني يصيب بعض الكفاية، ثم اليوم الثالث لا يجد، أو يجد بعض الكفاية، بشرط: أن لا تصل إلى أكثر الكفاية وهي النصف فأكثر، فمثل هذا يعتبر فقيراً، أو يكون عنده دخل، ولكنه نزرٌ قليل بحيث لا يكفيه إذا كان وحيداً، أو يكفيه ولكن لا يكفيه مع أهله وأولاده.
فلو فرضنا أن دخله في اليوم خمسة أو عشرة ريالات، فإن هذه الخمسة أو العشرة إذا نظرت إليها في قوته في ذلك اليوم لو كان وحيداً فإنها لا تصل إلى أكثر السداد، فتحكم بأنه لو كان دخله العشرة أنه محتاج، لكن بشرط أن لا يكون له دخل آخر بحيث يغلب على ظنك أن هذا الدخل هو الوحيد الذي لا يجد غيره، فحينئذٍ يجوز لك أن تبني على هذا الدليل حاجته وفقره وتدفع الزكاة إليه.
فضابط الفقير أن لا يجد شيئاً، أو يجد ولكن هذا الوجدان لا يقوم بأكثر الكفاية، فلو كان أكثر الكفاية خمسين ريالاً، وهو يجد الأربعين أو الثلاثين أو خمساً وأربعين ونحو ذلك، فهذا يعتبر فقيراً، وتدفع الزكاة إليه بسهم الفقر، فإن دفعت الزكاة إليه بسهم الفقر قدّرت حاجته إذا كان وحيداً، أو قدّرت حاجته وحاجة من يعول كأولاده وزوجه، فإذا كان خلال السنة احتاج إلى نفقة ثلاثة آلاف ريال، تعطيه من زكاتك ثلاثة آلاف ريال، وقس على ذلك.
الصنف الثاني: المساكين
والمساكين هم الصنف الثاني من أصناف أهل الزكاة، والمساكين: مأخوذ من المسكنة، وهي الذلة.
ويقول العلماء: ضابط المسكين أن يجد أكثر الكفاية، ولذلك وصف الله الذين يملكون السفينة بأنهم مساكين، مع أنهم مالكون للمال، فدل على أن الإنسان قد يملك المال ويُوصف بالمسكنة، فيجوز لك أن تُعطيه الزكاة على قدر ما يسد حاجته، فلو كان هذا المسكين عنده سيارة مثلاً، وهذه السيارة يعمل عليها، ولكنها لا تكفي دخلاً له، أو مصاريفها وكلفَتُها تحمِّله أكثر مما يدخل عليه، أو تستنفذ أكثر ما يدخل عليه حتى لا يصل إلى كفايته أو أكثر الكفاية، حلّ لك أن تُعطيه من الزكاة ما يسد كفايته.
فلو كانت نفقته في العام ستة آلاف، ودخله أربعة آلاف استحق أن تعطيه ألفين؛ لأنه في هذه الحالة مسكين قد وجد النصف فأكثر، فتعطيه بسهم المساكين.
والفرق بين المسكين والفقير: أن الفقير تقدِّر نفقته لأنه لا يجدها، فتعطيه نفقته للعام، فلو كانت نفقته في العام ستة آلاف أعطيته ستة آلاف، ولكن المسكين يجد أكثر النفقة، فتحتاج إلى تقدير وضبط، فلا تستعجل بأن تُخرج له نفقة كاملةً، إنما تنظر وتتحرى وتسأله، فإذا كان دخله ستة آلاف ومصاريفه عشرة آلاف فهو يحتاج إلى أربعة آلاف، فلو أعطيته خمسة آلاف فالألف زائدة عن حاجته، ولذلك يقولون: يغرم المقسِّم إذا أعطى أكثر من الحاجة في المسكين، أو أعطى أكثر الحاجة في الفقير.
الصنف الثالث: العاملون عليها
الصنف الثالث: العاملون عليها وهم جباتها وحفّاظها في القديم، ولا يزال إلى الآن يُحتاج إلى جباية الزكاة وجلبها ممن وجبت عليهم، الأمر الذي يحتاج إلى سفر السعاة إلى موارد المياه لعد الإبل والنظر في أموال الناس، وكذلك سفرهم إلى البساتين، وخرصها وتقديرها.
فهؤلاء هم السعاة الذين يبعثهم ولي الأمر لمعرفة مقدار ما فرض الله عز وجل على الناس، فهم جباة يجلبون الزكاة، وحفّاظ لها يحفظونها.
فالزكاة تحتاج إلى هذين الصنفين: من يجبي، ومن يحفظها ويقوم عليها، ففي جبي الزكاة يدخل الخارص، وهو الذي يقوم بخرص النخل، ويعرف مقادير ما فيه، وكذلك أيضاً الذين يقومون بجمع زكاة الحبوب والثمار، وعلى هذا فهؤلاء يُعطون نصيبهم، فالخارص لو كانت أجرته ثلاثة آلاف استحق أن يأخذ ثلاثة آلاف، ولو كان غنياً أو كان ثرياً؛ لأن إعطاءه هذا المال أشبه بالإجارة، ولا يُنظر فيه لا إلى فقر أو غنى.
أما لو كان الساعي فقيراً، فإنه يحتاج إلى تفصيل، فنعطيه أجرته أولاً، ثم ننظر بعد الأجرة هل سدّت الأجرة فقره أو لم تسده، فإن كان يحتاج إلى نفقة ستة آلاف وأجرته كانت ستة آلاف أو سبعة آلاف فقد خرج بأجرة العمل عن وصف الفقر، وحينئذٍ لا يُعطى، وإن كانت أجرته ثلاثة آلاف وحاجته في العام ستة آلاف؛ أُعطي ثلاثة آلاف، ثلاثة آلاف أجرة لسعيه، وثلاثة آلاف لمسكنته أو فقره.
وعلى هذا فإن السعاة يأخذون من باب الإجارة، ويقدر عملهم ولي الأمر أو من يقوم مقامه، نقدر كم يكون نصيب من عمل هذا العمل، فإذا كان جبى المال من مكان بعيد ومن مسافات بعيدة تحتاج إلى مئونة للسفر، وتحتاج إلى مئونة في الطعام، ومئونة في الحمل، ومئونة في النزول؛ فكل ذلك يقدر ويعطى حقه كاملاً.
ثم الأموال التي تحفظ بعد جبايتها تحتاج إلى حراسة رعاية، وتحتاج إلى من يقوم على الإبل والغنم والبقر إذا جُبيت ويسوسها، وهم الرعاة، فهؤلاء الرعاة الذين يحفظون الإبل أو البقر أو الغنم التي جُبيت في الزكاة لهم سهم، ولهم نصيب يقدَّر عملهم بالمعروف، يقدَّر أجرة عمل مثلهم، فيعطون من الزكاة على قدر استحقاقهم.
وهل يُعطى المقسِّم للزكاة، أو لا يعطى؟
قال بعض العلماء: يُعطى إذا نصّبه ولي الأمر، كأن يحتاج لتوزيع المال في بلد، فإذا تولى قاضٍ أو عالم هذا المال، وأراد توزيعه واحتاج إلى من يساعده، فإن هؤلاء الذين يساعدونه يستحقون نصيباً من الزكاة إذا كانوا مولَّون.
أما لو كان وكيلاً عن شخص، فهذا لا يستحق، كأن يكون عندك زكاة خمسة آلاف ريال ثم تذهب وتعطيه لشخص من أجل أن يوزعها، فيقوم هذا الشخص ويأخذ من هذه الزكاة، فقالوا: لا يأخذ، ولا يستحق؛ والسبب في ذلك أن الواجب عليك أنت أصلاً أن تقوم بدفعها، فإذا دفعتها إلى شخص آخر، فإن احتاج نفقة أو سأل مالاً فأعطه من مالك، أما أن يكون دخيلاً على الفقراء والضعفاء ويُنقص حقّهم في مالك فلا، لأنه بإمكانك أن تقوم بهذا، والأصل فيك أن تتولى توزيعها بنفسك.
قالوا: فإذا قام الغير بدون إذنٍ فإنه لا يستحق أن يأخذ المال في هذه الحالة، وعلى ذلك فإنه يختص الحكم في العاملين عليها بالجباية ومن يقوم بحفظها.
الصنف الرابع: المؤلفة قلوبهم
المؤلفة قلوبهم هم أقوام على الكفر يرجى إسلامهم، أو على الإسلام وتُخشى عليهم الفتنة، فلم تطمئن قلوبهم بالإيمان، فهؤلاء يعطون ما يكون في غالب الظن سبباً لثباتهم أو دخولهم في الإسلام.
فأما الصنف الأول وهم الذين على الكفر، ويغلب على الظن أنك لو أعطيتهم من الزكاة أنهم يدخلون، قالوا: يعطون، ويقدِّر الوالي المال الذي يغلب على الظن تأليف قلوبهم به، وحينئذٍ يعطيهم إياه ولو كانوا أغنياء، ولو كانوا غير محتاجين، من باب إدخالهم في الإسلام وتأليفهم له.
وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فقسم الغنائم، فأعطى أبا سفيان رضي الله عنه وأرضاه، وأعطى معاوية وأعطى عباس بن مرداس السلمي وعيينة بن حصن الفزاري والزبرقان بن بدر ، كل هؤلاء أعطاهم مائة مائة من الإبل، وكل ذلك من باب تثبيتهم على الإسلام وتقوية عزائمهم على الثبات على الدين.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسقط هذا النوع من أصناف الزكاة، وقال: (إنما أُعطوا وكان الإسلام محتاجاً إليهم، واليوم الإسلام في عزة ومنعة، فمن أراد أن يسلم ومن أراد أن يكفر)، فكأنه رأى تخصيص ذلك بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن جماهير الصحابة وإجماع العلماء رحمة الله عليهم على مشروعية صرفها بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن بعض العلماء يرى أنه إذا كان الإسلام في عزة ومنعة ويمكنه كسر شوكة الكفار، أنه لا يصرف هذا المال حتى لا يضر بمصالح الضعفاء والفقراء، ويصبح من أسلم من الكفار أسلم ومن لم يسلم لا يعطى.
والصحيح ما ذكرناه من العموم؛ لأن الناس على أقسام إذا كانوا كفاراً، منهم من يدخل للإسلام بالقوة ولا يدخله إلا رهبة الإسلام وقوته وشدته، فهؤلاء شرع الله لهم الجهاد، ومنهم من يدخل في الإسلام عن قناعة وعلم، كأن تقارعه الحجة بالحجة كعلماء الملل المخالفة، فإنك إذا ناظرتهم وأقمت عليهم الحجة قد يتقبلون الحق، وكذلك بالنسبة لمن يطلب الحق وينشده ولو كان على الكفر، فهذا تقام عليه الحجة بالبرهان، والأولون تقام عليهم الحجة بالسنان، فإما أن يسلموا وإما أن تضرب رقابهم.
وأما بالنسبة للنوع الثالث فإنهم يدخلون الإسلام عن طريق المال والإغراء، كأقوامٍ تعلقت نفوسهم بالدنيا، خاصة إذا كانوا على الكفر، فإذا أُعطوا من المال طمعوا في الإسلام أكثر، ولذلك مضى الرجل إلى قومه وقال: (لقد جئتكم من عند رجل لا يخشى الفقر) يعني النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطاه وأرضاه.
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فإنه لما أعطى عيينة بن حصن الفزاري والزبرقان وأعطى معاوية بن أبي سفيان وأباه أبا سفيان رضي الله عن الجميع، غضبت الأنصار وقالوا: (أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم) فبلغت المقالة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك اليوم من أشد الأيام على الأنصار، كانت فيه فتنة وامتحان وابتلاء من الله عز وجل لهم، ولكن جعل الله عاقبته إلى خير، حتى إن سعداً رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنهم يقولون كذا وكذا، يريد مقالتهم: أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال: أين أنت يا سعد؟ قال: الرجل مع قومه، فإني أجد في نفسي ما يجدون.
أي: كيف نقاتل عن الإسلام وندافع عنه ثم تقسم الغنائم على أقوام هم حديثو عهد بإسلام، فقال: اجتمعوا لي يا معشر الأنصار. فاجتمعوا له في خيمة لا يوجد فيها غيرهم، ثم قال: أفيكم غيركم؟ قالوا: يا رسول الله لا، إلا ابن بنتنا وهو النعمان بن مقرن رضي الله عنه، فقال: ابن بنت القوم منهم.
ثم قال: ما مقالة بلغتني عنكم؟
فقالوا: يا رسول الله -وكانوا قوم صدق- أما أهل العلم منا والحلم فلم يقولوا إلا خيراً، وأما سفهاؤنا وشبابنا فقالوا: أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم؟
فقال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار! أوقد وجدتم في لعاعة من الدنيا أعطيها أقواماً أتألفّ قلوبهم للإسلام. ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم حبه لهم، وقال: والله لو سلك الناس وادياً وشعباً وسلك الأنصار وادياً وشعباً لسلكت شعب الأنصار وواديهم، أما تحبون أن يرجع الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لما تنقلبون به إلى رحالكم خير مما ينقلبون به إلى رحالهم، ثم قال: الأنصار شعاري، والناس دثاري.. إلى آخر الحديث.
المقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسّم الغنائم وتألف بها هذا النوع، وجعل لهم حظاً في القسم، ولذلك كأن الإسلام يقصد من هذا النوع الذي يرجى إسلامه أن يكون له مطمع في هذا الدين، فإذا دخل ورأى سماحة الإسلام وأخلاقه وشمائله والخير الذي فيه اطمأن قلبه بدون مال، وهذه هي حكمة الشرع، ولذلك يدخل للدنيا، ثم إذا رأى سماحة الإسلام وما في الإسلام من خير، عزف عن ذلك كله ورجا ما عند الله من الرحمة وخاف ما عند الله من العقوبة والعذاب. فمقصود الشرع تأليف قلوب أمثال هؤلاء.
وكذلك لو كان مسلماً ولكنه على اضطراب في إسلامه، أو كان صاحب ثروة في حال الكفر ثم أصبح في حالٍ ضعيف بعد إسلامه، فتعطيه من أجل أن تقويه وتثبته على الدين، فهذا يعطى، ويكون التقدير بحسب الحال والمصلحة التي يغلب على ظنك أنه لو أخذها رُجي ثباته على الإسلام وتمسكه به.
وقوله رحمه الله: (المؤلفة قلوبهم) لقوله تعالى: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [التوبة:60]، فنص سبحانه وتعالى على هذا الصنف، وهم الذين يرجى ثباتهم على الإسلام.
وهناك نوع ألحقه العلماء بالمؤلفة قلوبهم لدفع شرهم عن المسلمين، فهؤلاء هم أقوام لهم مكانة ووجاهة، كأن يكونوا عشائر كفر، ورؤساؤهم هؤلاء إذا أسلموا رُجي إسلام من وراءهم، وإذا لم يرج إسلامهم كُفّ شرهم عن المسلمين، أو يغلب على ظنك أنك لو دخلت للدعوة وأعطيت هؤلاء المال سكتوا عنك وأعانوك على الدعوة مع أنهم على الكفر، فيعطون لمصلحة الدعوة ولمصلحة الإسلام، ولا حرج في ذلك.
الصنف الخامس: المكاتبون
وذلك لقوله تعالى: وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60] والرقاب: جمع رقبة، والمراد بهم المكاتبون كما نص المصنِّف رحمه الله، وهم الأرقاء المسلمون الذين يكاتبون أسيادهم للعتق.
وقد جعل الله عز وجل من الأبواب التي يُفك فيها الرق عن الأرقاء أن يكاتب العبد سيده، وقد أمر الله عز وجل بذلك أمر ندب واستحباب: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33] ، فهؤلاء يعطون من الزكاة لقوله تعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33].
فيُعطون من الزكاة على قدر ما يكون سداداً لهم وسبباً في فك رقابهم من الرق، فلو كاتب عبدٌ سيده بستة آلاف ثم استطاع أن يسدد ثلاثة آلاف منها فبقيت ثلاثة آلاف، فيعطى ثلاثة آلاف لكي يتمكن من عِتق نفسه، وهكذا لو كانت الكتابة في بداية أمرها، بأن قال له السيد: كاتبتك باثني عشر ألفاً، تدفع في كل شهر ألفاً، قال: قبلت، فهذا عقد كتابة، ففي بداية كتابة العقد جاءك، وقال: كاتبت سيدي على كذا وكذا، جاز أن تعطيه كل ما كاتب عليه وتعتقه، وهكذا لو جاءك في أنصاف الكتابة أو جاءك في آخرها وقد بقيت عليه أنجم وأقساط، أي: أن الحكم لا يختص بحالة دون حالة، وإنما يعطون على نفس السبب الموجب للإعطاء وهو فكهم من الرق، سواءً كان ذلك في أول الكتابة أو في أثنائها أو في آخرها.
وقوله: [ويفك منها الأسير المسلم]:
قال بعض العلماء: قال الله: وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60] ، وهذا يختص بالأرقاء، ولا يشمل الأسير.
وقال بعضهم: يقاس الأسير على العبد إذا طلب العتق. وهذا القياس لا يخلو من نظر، والأقوى والأحوط أن الحكم يختص بالمكاتبين؛ لأن الله نص عليهم وقال: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33] ، وهذا هو المراد بقوله: وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60] ولذلك يختص الحكم به، وأما فك الأسير المسلم فإنه يفك من ماله إن كان عنده مال، وإذا لم يكن عنده مال فعلى جماعة المسلمين أن يسعوا في فكاكه على الأصل المعروف في الشرع، وإلا من بيت مال المسلمين على حسب وجود القدرة في فكه.
الصنف السادس: الغارمون
قوله: (الغارم لإصلاح ذات البين ولو مع غِنَى) أي: ولو كان غنياً وحالته حال غِنَى.
والغارم: من الغُرم، والغرم هو الخسارة، ومنه القاعدة المشهورة: (الغنم بالغرم) وهي معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (الخراج بالضمان) .
والغارم هو الشخص الذي يدفع المال للصلح بين المسلمين، فقد كانوا في القديم عندما تقع الفتن بين الناس، وتقع بينهم جراحات، أو يقع بينهم قتل، يأتي رؤساء العشائر كأمراء القبائل ونحوهم للصلح، وقد يكون هذا الأمير من القبيلة كبيراً فيتحمل مائة رقبة، بمعنى أنه يريد الصلح بين الطائفتين، ويكون الذين قتلوا قرابة مائة شخص، فيقول: علي ديتهم، وهذا يعتبر غرماً ويستحق به أن يعان من الزكاة؛ لأنه فعل الخير، وأصلح ذات البين التي هي من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وأعظمها أجراً ومثوبة في الدنيا والآخرة.
فهؤلاء كرؤساء العشائر وأُمرائهم الذين يتولون الصلح بين الناس يُعطون.
وهكذا لو وقعت خصومة بين اثنين وخشيت أن يقع بينهما أمرٌ لا تحمد عقباه، وقد يكونان من الأرحام والقرابة فجئت تصلح بينهم، وكان سبب الخصومة تلف سيارة، أو تلف دار، وهذا التلف بخمسة آلاف أو ستة آلاف، فقلت: أنا متحملٌ لها، وتحمّلت الخمسة أو الستة الآلاف، فإنك تعطى من الزكاة؛ لأن هذا لإصلاح ذات البين، وحينئذٍ يشرع دفع الزكاة إلى من غَرِم على هذا الوجه.
قال بعض العلماء: ومن الغارمين الذين يتحمّلون الديون، كشخصٍ ينفق على أهله وولده، فيتحمل الدين، فهذا الشخص محتاج وأصابه العوز حتى ركبته الديون، وعليه دين عشرة آلاف ريالٍ، أو عشرين ألف ريال، أو ثلاثين ألف ريال، وعندك زكاة، فيجوز دفع الزكاة إليه، لكن الذي يتحمّل الدين يحتاج إلى نظر، فلا تعطِ أحداً مديوناً حتى تسأل عن سبب الدين، وحينئذٍ لا يخلو سبب الدين من ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون سبب الدين أمراً محرماً، كذهابه إلى أماكن الفساد وسفره إليها حتى تحمّل الديون، فهذا لا يعطى من الزكاة وجهاً واحداً؛ لأنها معونة على الإثم، والله عز وجل نهى عن التعاون على الإثم، والشرع لا يعين على المحرم، وبناءً على ذلك لا يعطى مثل هذا من الزكاة.
الحالة الثانية: أن يكون أنفقها في شهوة حلال، أو على وجه السفه، في شهوة حلال كأن يشتري السيارات والبيوت، ويبالغ في الترف وهو ضيِّق المال ضيق اليد، ليس عنده قدرة، ولكنه يتوسع في الشهوات المباحة، وتجد عنده نوعاً من السفه، لا يُحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء لغيره، يشتري الشيء بعشرة آلاف وهو يباع بعشرة آلاف فيبيعه بتسعة آلاف، أو بثمانية آلاف، فهذا سفيه، ومثل هذا لا يعطى من الزكاة؛ لأنه أنفقها على وجه السفه الذي نهى الله عن إعطاء المال فيه، فقال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5] ، فلو قلنا بمشروعية سداد دينه فكأنه تشريع للسفه، وإعانة عليه، والسفه تبذير الأموال في الشهوات، كما أشار بعض العلماء إليه بقوله:
والسفه التبذير للأموال في لذة وشهوة حلال
ممكن أن يتزوج ويتحمل الدين، ويكون زواجه بثلاثين ألف ريال سعودي، ولكنه يسرف في زواجه حتى يصل إلى مائة ألف، ثم يقول: أنا مديون، ويزاحم الفقراء والمساكين، فهذا لا يعطى، وإنما يعطى بقدر الحاجة، وينظر إلى قدر حاجته، والدين الذي كان صحيحاً معتبراً شرعاً.
الحالة الثالثة: أن يكون دينه على وجه معتبرٍ شرعاً، كإنسان يتدين في نفقته ونفقة عياله، جاءك رجل وقال: إني مديون، فسألته عن دينه، فقال: صاحب البقالة له عليَّ ثلاثة آلاف ريال، فتسأل صاحب البقالة وإذا به يقول: هذا الرجل كان يأخذ مني هذه الأموال طعاماً في نفقة أولاده، فهذا لا بأس أن تعطيه؛ لأنه من أهل الزكاة.
كذلك أيضاً جاءك وقال: إني مديون، قلت له: كم دينك؟ قال: عشرة آلاف، سألت: هذه العشرة آلاف ما سببها؟ قال: استأجرت بيتاً لي بخمسة عشر ألفاً، سددت منها خمسة وبقيت عشرة، تنظر في هذا البيت، هل هذا البيت فيه بذخ وإسراف وكان بإمكانه أن يستأجر بما هو أقلّ، وأسرف واستأجر بما هو أكثر، فحينئذٍ تعطيه بقدر الحاجة، أم أنه قد وضع الشيء في موضعه، فالبيت الذي استأجره لائق به وبأولاده، ولا إسراف فيه ولا بذخ، فحينئذٍ تعطيه من الزكاة.
الشاهد: أنه لا بد من التحري، وليس كل صاحب دين رفع إليك حاجته وأنه مديون يُعطى من الزكاة، بل ينبغي التحري والتقصي والسؤال، وإلا لو فتح هذا الباب لضاعت أموال الزكاة، وأصبح الرجل يسرف في شهواته وملذاته، ثم يأتي ويقول: إنه مديون.
فإنما يعطى المديون الذي استدان لطعامه وشرابه وكسائه، أو جاءك مديون وقال: إني مرضت واحتجت إلى عملية، وفعلت هذه العملية، وكلّفتني عشرة آلاف ريال أو خمسة عشر ألف ريال، أو جاء الخبر أن فلاناً أجرى عملية وتحمّل بسببها عشرين ألف ريال، فيُعطى ويسدد دينه، هذه أمور محتاج إليها، وقد تصل إلى الضرورة، فمثل هؤلاء هم الذين يُعطون من الزكاة.
أما إذا كان كل من قام يدّعي أنه مديون، أعطي من الزكاة لقوله تعالى: وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60] فهذا ليس بصحيح، وإنما يتقيد كما ذكر العلماء بأن يكون دينه على وجه معتبرٍ شرعاً، لا إسراف فيه ولا حرمة.
الصنف السابع: المجاهدون في سبيل الله عز وجل
قوله: (الذين لا ديوان لهم) الديوان: هو العطاء كالراتب ونحوه، فهؤلاء ما دام أن لهم عطاء فلا يُعطون من الزكاة، أما لو تطوّع إنسان بالجهاد في سبيل الله عز وجل وخرج، فقال بعض العلماء: يعطى لسلاحه، وقال بعضهم: يعطى لنفقته وسفره وتجهيزه للغزو، فيجهّز في ملبسه ومركبه، وكذلك آلات جهاده، والقول الثاني أقوى، وشرط ذلك: أن لا يكون لهم ديوان.
أما لو كان لهم ديوان بأن خصص لهم قدر معين من بيت المال، فإنهم لا يُعطون من الزكاة إلا إذا وُجدت فيهم حاجة من وجه آخر.
الصنف الثامن: ابن السبيل
ابن السبيل: نُسب إلى السبيل وهو الطريق، والمراد بابن السبيل المسافر، وشرطه: أن يكون منقطعاً، وتعطيه لرجوعه إلى بلده، لا لإنشاء السفر، ففرق بين إنشاء السفر وبين الرجوع عن السفر، ولذلك يعبّر العلماء فيه ويقولون: المنقطع، والمنقطع هو الذي يريد البلغة إلى داره، وحينئذٍ لا يخلو من حالتين:
إما أن يكون ابن السبيل غنياً بحيث لو رجع إلى بلده كان عنده مالٌ ووفاء لما أعطيته، فقال بعض العلماء: يُعطى للبلغة، ثم يقضي هذا الدين الذي أُعطيه؛ لأنه احتاج بقدر ما يصل إلى بلده، ثم زالت حاجته فوجب عليه السداد.
وقال بعض العلماء: يعطى وإن كان غنياً ولا يطالب بالقضاء.
والأول أحوط.
وأما إذا كان فقيراً هنا وفي بلده، بحيث لو سافر إلى بلده لا يملك السداد، فإنه يُعطى بقدر ما يوصِّله إلى بلده، ويُعطى شيئين: أحدهما: ما يتعلق بمركوبه، والثاني: ما يتعلق بزاده وطعامه ونفقة أكله وشربه ونحو ذلك، ويلتحق بذلك إذا كان في الطريق منازل ينزل فيها كالمحطات، فإنه يحتاج إلى الاستئجار فيها لنوم وراحة ونحو ذلك.
هذا بالنسبة لابن السبيل، فإنه يعطى بقدر حاجته التي توصله إلى بلده.
قال المصنف رحمه الله: [دون المنشئ للسفر من بلده، فيعطى قدر ما يوصله إلى بلده].
قوله: (دون المنشئ) فلو قال: أريد أن أُسافر؛ لم يُعط، وإنما يُعطى الذي انقطع عن أهله وولده، ويريد أن يرجع إليهم، كأن يكون في سفر ثم تضيع نقوده، أو يأتي بنقود ثم تستنفذ هذه النقود في الطريق ولم يحسب حسابه، أو يأتي وهو على عوز لأمرٍ ضروري ثم ينقطع.
لكن فصّل بعض العلماء في السبيل، وفرّقوا بين السفر، فقالوا: يُنظر في سفره، فإن كان سفره سفر طاعة أو سفراً مباحاً لا إسراف فيه ولا سفه فإنه يعطى، أما إن كان سفره على وجه السفه أو على وجه الحرمة فلا يعطى.
وتوضيح ذلك: أنه إذا سافر سفراً مباحاً كالتجارة، ثم لما جاء إلى البلد الذي سافر إليه ضاعت نقوده أو استنفذت بسبب طول البقاء، فهذا يعطى بقدر ما يبلغه.
وقد يكون السفر واجباً، كأن يسافر لحج وعمرة، وهما عليه فريضة، فيسافر من أجل القيام بفرض الله عليه، فينقطع، فحينئذٍ يعطى.
أما لو سافر لأمرٍ محرّم فيه عقوق أو ارتكاب محرم فإنه لا يعطى؛ لأنه إعانة على الحرام، والشرع لا يأذن بالحرام، فكأننا إذا أعطيناه أعناه على الحرام.
وقال بعض العلماء: إنه يعطى إذا كان سفره إلى الحرام وأراد أن يرجع إلى بلده، وظهرت عليه آثار توبته ورجوعه إلى الله، أما إذا كان مستمراً على معصيته واعتدائه لحدود ربه فإنه لا يعطى؛ لأنه آثم في ذهابه ورجوعه، وحينئذٍ لا يعطى على هذا الوجه.
قال المصنف رحمه الله: [الفقراء].
وهو مأخوذ من الفقر؛ وهو شدة الحاجة، وأصح أقوال العلماء: أن الفقير أشد حاجة من المسكين، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة أنه استعاذ بالله من الفقر، كما في أذكار الصباح والمساء، فكان يقول: (أعوذ بك من الكفر والفقر) فاستعاذ بالله من الفقر، ثم قال: (اللهم أحيني مسكيناً) فدل على أن المسكنة أقلّ من الفقر، ولو كانت المسكنة فوق الفقر وأشد منه لما استقامت استعاذته عليه الصلاة والسلام وسؤاله الله عز وجل أن يحييه مسكيناً، فدل على أن المسكنة دون الفقر.
ودل أيضاً دليل الكتاب على أن المسكنة دون الفقر، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79] فوصفهم بكونهم مساكين مع أنهم مالكون للسفينة، ومن هنا قال العلماء: الفقر أشد من المسكنة.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على جواز صرف الزكاة للفقراء بنص الآية الكريمة، وضابط الفقير: هو الذي لا يجد كفايته بالكلية، أو يجد بعضها ولا تصل إلى النصف فأكثر، هذا هو الفقير.
ويُعرف الفقر بعدة دلائل:
الدليل الأول: معرفتك الشخصية بذلك الفقير، بأن تعرف حاله، وتعرف شدة عوزه وفقره وضيق يده، فإذا كنت تعرفه بنفسك مطّلعاً على حاله، كأخيك وابن عمك وأختك وقريبتك، فلا حرج حينئذٍ في دفع الزكاة إليه.
وضابط الفقر في هذه الحالة أن تطّلع على نفقته، فتجده لا يجد ما يُنفق على نفسه، وقد يجد ما يُنفق على نفسه لكن لا يجد ما ينفقه على أولاده، فإذا كان يجد طعاماً لنفسه ولا يجد الطعام لأولاده فهو فقير؛ لأن من احتاج فيمن تلزمه نفقته كان كحاجته في نفسه، وعلى هذا يُحكم بفقره، ويجوز لك حينئذٍ أن تدفع له الزكاة بسهم الفقير.
الدليل الثاني الذي تعرف به فقره: أن يشهد عدلان على فقره وعوزه وشدة حاجته، فإذا شهد عدلان تثق بهما وبشهادتهما أن فلاناً فقير، حلّ لك أن تدفع الزكاة له.
الدليل الثالث: الأمارات والعلامات الظاهرة التي يغلب على الظن فقره مع سؤاله، كأن يأتيك إنسان ويقول: إني فقير، وأنت تعرف ظواهر حال هذا الإنسان، فترى عليه أثر الجوع، وترى عليه ضعف البدن، وأحواله أمامك تدل على هذا الضعف، وإن كنت لا تعلم على الحقيقة نفقته مثل الحالة الأولى التي ذكرناها، ففي هذه الأحوال كلها تَصرِف الزكاة إليه بسهم الفقير.
لكن لو أن هذا الفقير جاءك وسألك الزكاة وأنت لا تعلم حاله، فحينئذٍ لا تخلو من ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن تقطع بكذبه، أو يغلب على ظنك كذبه، فحينئذٍ لا يجوز لك صرف الزكاة إليه قولاً واحداً، ولو قال إنه فقير، ولو ادعى الفقر ما دمت تعلم أنه ليس بفقير، فلا يحل لك أن تصرف الزكاة إليه، فإن صرفتها إليه بناءً على دعواه أنه فقير، فإنه يلزمك قضاء هذه الزكاة.
وعلى هذا فلو أخبر الإنسان أنه فقير، وأنت تعلم من حاله أنه كاذب أو عنده ما يسد حاجته، ويخرج به عن وصف الفقر والمسكنة، فإنه حينئذٍ لا يجوز لك دفع الزكاة إليه، وإن دفعتها عن نفسك وجب عليك القضاء، وإن دفعتها وكيلاً عن شخص وجب عليك أن تغرم مثلها وتدفعها للمستحق.
الحالة الثانية: أن تشك في حاله فلا تدري أهو صادق أو كاذب، وفي هذه الحالة لا يجوز لك أن تدفع الزكاة إليه إذا شككت من حاله، ووجِد ما يحتمل صدقه ويحتمل كذبه، حتى تتحرى وتتأكد أو يغلب على ظنك أنه محتاج، فإن دفعت الزكاة إليه وأنت تشك في فقره وحاجته، فحينئذٍ لا يُجزيك، ويلزمك قضاء الزكاة كما في الحالة الأولى، لأنه لا يجوز الصرف إلا مع اليقين أو غلبة الظن، فإذا كان الإنسان شاكاً، فإننا لن نتيقن صرف الزكاة لمستحقها، والأصل وجوبها، فوجب على من تولاها على هذا الوجه وصرفها على الشك أن يقضيها.
فهذه حالتان: إذا تيقن الكذب أو شك في صدقه وكذبه.
الحالة الثالثة: أن يغلب على ظنه صدقه، فإن غلب على ظنه صدقه بوجود دلائل وأمارات تدل على ذلك الصدق جاز له وحلّ أن يدفع الزكاة إليه.
قوله: [وهم من لا يجدون شيئاً أو يجدون بعض الكفاية]:
أي: وهم الذين لا يجدون شيئاً، فتجده يطوي يومه جائعاً، كقريب لك تراه لا يفطر ولا يتغدى ولا يتعشى ولا يجد طعاماً يأكله يوماً، وأنت تعلم أن السبب في عدم إصابته للطعام عدم وجوده، فيمضي عليه اليوم، وفي اليوم الثاني يصيب بعض الكفاية، ثم اليوم الثالث لا يجد، أو يجد بعض الكفاية، بشرط: أن لا تصل إلى أكثر الكفاية وهي النصف فأكثر، فمثل هذا يعتبر فقيراً، أو يكون عنده دخل، ولكنه نزرٌ قليل بحيث لا يكفيه إذا كان وحيداً، أو يكفيه ولكن لا يكفيه مع أهله وأولاده.
فلو فرضنا أن دخله في اليوم خمسة أو عشرة ريالات، فإن هذه الخمسة أو العشرة إذا نظرت إليها في قوته في ذلك اليوم لو كان وحيداً فإنها لا تصل إلى أكثر السداد، فتحكم بأنه لو كان دخله العشرة أنه محتاج، لكن بشرط أن لا يكون له دخل آخر بحيث يغلب على ظنك أن هذا الدخل هو الوحيد الذي لا يجد غيره، فحينئذٍ يجوز لك أن تبني على هذا الدليل حاجته وفقره وتدفع الزكاة إليه.
فضابط الفقير أن لا يجد شيئاً، أو يجد ولكن هذا الوجدان لا يقوم بأكثر الكفاية، فلو كان أكثر الكفاية خمسين ريالاً، وهو يجد الأربعين أو الثلاثين أو خمساً وأربعين ونحو ذلك، فهذا يعتبر فقيراً، وتدفع الزكاة إليه بسهم الفقر، فإن دفعت الزكاة إليه بسهم الفقر قدّرت حاجته إذا كان وحيداً، أو قدّرت حاجته وحاجة من يعول كأولاده وزوجه، فإذا كان خلال السنة احتاج إلى نفقة ثلاثة آلاف ريال، تعطيه من زكاتك ثلاثة آلاف ريال، وقس على ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [والمساكين يجدون أكثرها أو نصفها].
والمساكين هم الصنف الثاني من أصناف أهل الزكاة، والمساكين: مأخوذ من المسكنة، وهي الذلة.
ويقول العلماء: ضابط المسكين أن يجد أكثر الكفاية، ولذلك وصف الله الذين يملكون السفينة بأنهم مساكين، مع أنهم مالكون للمال، فدل على أن الإنسان قد يملك المال ويُوصف بالمسكنة، فيجوز لك أن تُعطيه الزكاة على قدر ما يسد حاجته، فلو كان هذا المسكين عنده سيارة مثلاً، وهذه السيارة يعمل عليها، ولكنها لا تكفي دخلاً له، أو مصاريفها وكلفَتُها تحمِّله أكثر مما يدخل عليه، أو تستنفذ أكثر ما يدخل عليه حتى لا يصل إلى كفايته أو أكثر الكفاية، حلّ لك أن تُعطيه من الزكاة ما يسد كفايته.
فلو كانت نفقته في العام ستة آلاف، ودخله أربعة آلاف استحق أن تعطيه ألفين؛ لأنه في هذه الحالة مسكين قد وجد النصف فأكثر، فتعطيه بسهم المساكين.
والفرق بين المسكين والفقير: أن الفقير تقدِّر نفقته لأنه لا يجدها، فتعطيه نفقته للعام، فلو كانت نفقته في العام ستة آلاف أعطيته ستة آلاف، ولكن المسكين يجد أكثر النفقة، فتحتاج إلى تقدير وضبط، فلا تستعجل بأن تُخرج له نفقة كاملةً، إنما تنظر وتتحرى وتسأله، فإذا كان دخله ستة آلاف ومصاريفه عشرة آلاف فهو يحتاج إلى أربعة آلاف، فلو أعطيته خمسة آلاف فالألف زائدة عن حاجته، ولذلك يقولون: يغرم المقسِّم إذا أعطى أكثر من الحاجة في المسكين، أو أعطى أكثر الحاجة في الفقير.
قال المصنف رحمه الله: [والعاملون عليها، وهم جباتها وحفاظها].
الصنف الثالث: العاملون عليها وهم جباتها وحفّاظها في القديم، ولا يزال إلى الآن يُحتاج إلى جباية الزكاة وجلبها ممن وجبت عليهم، الأمر الذي يحتاج إلى سفر السعاة إلى موارد المياه لعد الإبل والنظر في أموال الناس، وكذلك سفرهم إلى البساتين، وخرصها وتقديرها.
فهؤلاء هم السعاة الذين يبعثهم ولي الأمر لمعرفة مقدار ما فرض الله عز وجل على الناس، فهم جباة يجلبون الزكاة، وحفّاظ لها يحفظونها.
فالزكاة تحتاج إلى هذين الصنفين: من يجبي، ومن يحفظها ويقوم عليها، ففي جبي الزكاة يدخل الخارص، وهو الذي يقوم بخرص النخل، ويعرف مقادير ما فيه، وكذلك أيضاً الذين يقومون بجمع زكاة الحبوب والثمار، وعلى هذا فهؤلاء يُعطون نصيبهم، فالخارص لو كانت أجرته ثلاثة آلاف استحق أن يأخذ ثلاثة آلاف، ولو كان غنياً أو كان ثرياً؛ لأن إعطاءه هذا المال أشبه بالإجارة، ولا يُنظر فيه لا إلى فقر أو غنى.
أما لو كان الساعي فقيراً، فإنه يحتاج إلى تفصيل، فنعطيه أجرته أولاً، ثم ننظر بعد الأجرة هل سدّت الأجرة فقره أو لم تسده، فإن كان يحتاج إلى نفقة ستة آلاف وأجرته كانت ستة آلاف أو سبعة آلاف فقد خرج بأجرة العمل عن وصف الفقر، وحينئذٍ لا يُعطى، وإن كانت أجرته ثلاثة آلاف وحاجته في العام ستة آلاف؛ أُعطي ثلاثة آلاف، ثلاثة آلاف أجرة لسعيه، وثلاثة آلاف لمسكنته أو فقره.
وعلى هذا فإن السعاة يأخذون من باب الإجارة، ويقدر عملهم ولي الأمر أو من يقوم مقامه، نقدر كم يكون نصيب من عمل هذا العمل، فإذا كان جبى المال من مكان بعيد ومن مسافات بعيدة تحتاج إلى مئونة للسفر، وتحتاج إلى مئونة في الطعام، ومئونة في الحمل، ومئونة في النزول؛ فكل ذلك يقدر ويعطى حقه كاملاً.
ثم الأموال التي تحفظ بعد جبايتها تحتاج إلى حراسة رعاية، وتحتاج إلى من يقوم على الإبل والغنم والبقر إذا جُبيت ويسوسها، وهم الرعاة، فهؤلاء الرعاة الذين يحفظون الإبل أو البقر أو الغنم التي جُبيت في الزكاة لهم سهم، ولهم نصيب يقدَّر عملهم بالمعروف، يقدَّر أجرة عمل مثلهم، فيعطون من الزكاة على قدر استحقاقهم.
وهل يُعطى المقسِّم للزكاة، أو لا يعطى؟
قال بعض العلماء: يُعطى إذا نصّبه ولي الأمر، كأن يحتاج لتوزيع المال في بلد، فإذا تولى قاضٍ أو عالم هذا المال، وأراد توزيعه واحتاج إلى من يساعده، فإن هؤلاء الذين يساعدونه يستحقون نصيباً من الزكاة إذا كانوا مولَّون.
أما لو كان وكيلاً عن شخص، فهذا لا يستحق، كأن يكون عندك زكاة خمسة آلاف ريال ثم تذهب وتعطيه لشخص من أجل أن يوزعها، فيقوم هذا الشخص ويأخذ من هذه الزكاة، فقالوا: لا يأخذ، ولا يستحق؛ والسبب في ذلك أن الواجب عليك أنت أصلاً أن تقوم بدفعها، فإذا دفعتها إلى شخص آخر، فإن احتاج نفقة أو سأل مالاً فأعطه من مالك، أما أن يكون دخيلاً على الفقراء والضعفاء ويُنقص حقّهم في مالك فلا، لأنه بإمكانك أن تقوم بهذا، والأصل فيك أن تتولى توزيعها بنفسك.
قالوا: فإذا قام الغير بدون إذنٍ فإنه لا يستحق أن يأخذ المال في هذه الحالة، وعلى ذلك فإنه يختص الحكم في العاملين عليها بالجباية ومن يقوم بحفظها.
قال المصنف رحمه الله: [والرابع: المؤلفة قلوبهم ممن يرجى إسلامه، أو كفّ شرِّه، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه].
المؤلفة قلوبهم هم أقوام على الكفر يرجى إسلامهم، أو على الإسلام وتُخشى عليهم الفتنة، فلم تطمئن قلوبهم بالإيمان، فهؤلاء يعطون ما يكون في غالب الظن سبباً لثباتهم أو دخولهم في الإسلام.
فأما الصنف الأول وهم الذين على الكفر، ويغلب على الظن أنك لو أعطيتهم من الزكاة أنهم يدخلون، قالوا: يعطون، ويقدِّر الوالي المال الذي يغلب على الظن تأليف قلوبهم به، وحينئذٍ يعطيهم إياه ولو كانوا أغنياء، ولو كانوا غير محتاجين، من باب إدخالهم في الإسلام وتأليفهم له.
وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فقسم الغنائم، فأعطى أبا سفيان رضي الله عنه وأرضاه، وأعطى معاوية وأعطى عباس بن مرداس السلمي وعيينة بن حصن الفزاري والزبرقان بن بدر ، كل هؤلاء أعطاهم مائة مائة من الإبل، وكل ذلك من باب تثبيتهم على الإسلام وتقوية عزائمهم على الثبات على الدين.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسقط هذا النوع من أصناف الزكاة، وقال: (إنما أُعطوا وكان الإسلام محتاجاً إليهم، واليوم الإسلام في عزة ومنعة، فمن أراد أن يسلم ومن أراد أن يكفر)، فكأنه رأى تخصيص ذلك بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن جماهير الصحابة وإجماع العلماء رحمة الله عليهم على مشروعية صرفها بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن بعض العلماء يرى أنه إذا كان الإسلام في عزة ومنعة ويمكنه كسر شوكة الكفار، أنه لا يصرف هذا المال حتى لا يضر بمصالح الضعفاء والفقراء، ويصبح من أسلم من الكفار أسلم ومن لم يسلم لا يعطى.
والصحيح ما ذكرناه من العموم؛ لأن الناس على أقسام إذا كانوا كفاراً، منهم من يدخل للإسلام بالقوة ولا يدخله إلا رهبة الإسلام وقوته وشدته، فهؤلاء شرع الله لهم الجهاد، ومنهم من يدخل في الإسلام عن قناعة وعلم، كأن تقارعه الحجة بالحجة كعلماء الملل المخالفة، فإنك إذا ناظرتهم وأقمت عليهم الحجة قد يتقبلون الحق، وكذلك بالنسبة لمن يطلب الحق وينشده ولو كان على الكفر، فهذا تقام عليه الحجة بالبرهان، والأولون تقام عليهم الحجة بالسنان، فإما أن يسلموا وإما أن تضرب رقابهم.
وأما بالنسبة للنوع الثالث فإنهم يدخلون الإسلام عن طريق المال والإغراء، كأقوامٍ تعلقت نفوسهم بالدنيا، خاصة إذا كانوا على الكفر، فإذا أُعطوا من المال طمعوا في الإسلام أكثر، ولذلك مضى الرجل إلى قومه وقال: (لقد جئتكم من عند رجل لا يخشى الفقر) يعني النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطاه وأرضاه.
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فإنه لما أعطى عيينة بن حصن الفزاري والزبرقان وأعطى معاوية بن أبي سفيان وأباه أبا سفيان رضي الله عن الجميع، غضبت الأنصار وقالوا: (أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم) فبلغت المقالة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك اليوم من أشد الأيام على الأنصار، كانت فيه فتنة وامتحان وابتلاء من الله عز وجل لهم، ولكن جعل الله عاقبته إلى خير، حتى إن سعداً رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنهم يقولون كذا وكذا، يريد مقالتهم: أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال: أين أنت يا سعد؟ قال: الرجل مع قومه، فإني أجد في نفسي ما يجدون.
أي: كيف نقاتل عن الإسلام وندافع عنه ثم تقسم الغنائم على أقوام هم حديثو عهد بإسلام، فقال: اجتمعوا لي يا معشر الأنصار. فاجتمعوا له في خيمة لا يوجد فيها غيرهم، ثم قال: أفيكم غيركم؟ قالوا: يا رسول الله لا، إلا ابن بنتنا وهو النعمان بن مقرن رضي الله عنه، فقال: ابن بنت القوم منهم.
ثم قال: ما مقالة بلغتني عنكم؟
فقالوا: يا رسول الله -وكانوا قوم صدق- أما أهل العلم منا والحلم فلم يقولوا إلا خيراً، وأما سفهاؤنا وشبابنا فقالوا: أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم؟
فقال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار! أوقد وجدتم في لعاعة من الدنيا أعطيها أقواماً أتألفّ قلوبهم للإسلام. ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم حبه لهم، وقال: والله لو سلك الناس وادياً وشعباً وسلك الأنصار وادياً وشعباً لسلكت شعب الأنصار وواديهم، أما تحبون أن يرجع الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لما تنقلبون به إلى رحالكم خير مما ينقلبون به إلى رحالهم، ثم قال: الأنصار شعاري، والناس دثاري.. إلى آخر الحديث.
المقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسّم الغنائم وتألف بها هذا النوع، وجعل لهم حظاً في القسم، ولذلك كأن الإسلام يقصد من هذا النوع الذي يرجى إسلامه أن يكون له مطمع في هذا الدين، فإذا دخل ورأى سماحة الإسلام وأخلاقه وشمائله والخير الذي فيه اطمأن قلبه بدون مال، وهذه هي حكمة الشرع، ولذلك يدخل للدنيا، ثم إذا رأى سماحة الإسلام وما في الإسلام من خير، عزف عن ذلك كله ورجا ما عند الله من الرحمة وخاف ما عند الله من العقوبة والعذاب. فمقصود الشرع تأليف قلوب أمثال هؤلاء.
وكذلك لو كان مسلماً ولكنه على اضطراب في إسلامه، أو كان صاحب ثروة في حال الكفر ثم أصبح في حالٍ ضعيف بعد إسلامه، فتعطيه من أجل أن تقويه وتثبته على الدين، فهذا يعطى، ويكون التقدير بحسب الحال والمصلحة التي يغلب على ظنك أنه لو أخذها رُجي ثباته على الإسلام وتمسكه به.
وقوله رحمه الله: (المؤلفة قلوبهم) لقوله تعالى: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [التوبة:60]، فنص سبحانه وتعالى على هذا الصنف، وهم الذين يرجى ثباتهم على الإسلام.
وهناك نوع ألحقه العلماء بالمؤلفة قلوبهم لدفع شرهم عن المسلمين، فهؤلاء هم أقوام لهم مكانة ووجاهة، كأن يكونوا عشائر كفر، ورؤساؤهم هؤلاء إذا أسلموا رُجي إسلام من وراءهم، وإذا لم يرج إسلامهم كُفّ شرهم عن المسلمين، أو يغلب على ظنك أنك لو دخلت للدعوة وأعطيت هؤلاء المال سكتوا عنك وأعانوك على الدعوة مع أنهم على الكفر، فيعطون لمصلحة الدعوة ولمصلحة الإسلام، ولا حرج في ذلك.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] | 3704 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] | 3620 استماع |
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق | 3441 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] | 3374 استماع |
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة | 3339 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] | 3320 استماع |
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] | 3273 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] | 3228 استماع |
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص | 3186 استماع |
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] | 3169 استماع |