شرح زاد المستقنع باب صلاة الجمعة [3]


الحلقة مفرغة

عدد ركعاتها، والسنة فيما يقرأ فيها

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: الجمعة ركعتان].

أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن الجمعة ركعتان، وهي هدي النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الأحاديث الصحيحة، ركعتان يجهر فيهما بالقراءة.

قال رحمه الله تعالى: [يسن أن يقرأ جهراً في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقين].

قوله: (يسن) أي: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله أنه قرأ في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقون، أما اختيار الجمعة فالمناسبة في ذلك أنه يوم الجمعة، ولذلك إذا قرأها ختمها بأمرهم بما يدل على أهمية شهود صلاة الجمعة؛ لأن الله ختمها بالأمر بحضور صلاة الجمعة وشهودها والنهي عن التخلف عنها، وأما سورة المنافقون؛ فلأنها تشتمل على صفاتهم المذمومة التي حذّر الله منها عباده المؤمنين، فيكون ذلك أدعى إلى دعوة الناس إلى الإخلاص وترك الرياء وصفات المنافقين التي لا يحبها الله عز وجل، فذكر صفات أهل النفاق فيه قرع للقلوب، وتذكير لها وتحذير لها من سلوك هذا السبيل الذي سمّى الله أهله، ونفّر العباد من اتباعه.

التفصيل في حكم إقامة الجمعة في أكثر من موضع من البلد

قال رحمه الله تعالى: [وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة].

والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده لم يجمِّعوا أكثر من جمعة واحدة، وكان أهل قباء على أميال من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجدهم له الفضل والمكانة، ومع ذلك لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمِّعوا، وهذا يدل على أنه لا تشرع أكثر من جمعة في المدينة الواحدة، فإن وجدت الحاجة كاتساع العمران كما هو موجود الآن، وأصبح الناس في مشقة أن يشهدوا الجمعة في مسجد واحد فيجوز التعدد بقدر الحاجة.

وأول تعدد للجمعة وقع في بغداد في عهد بني العباس، وذلك في عصر هارون الرشيد رحمه الله، فإنه ازدحم الناس على جسر دجلة، وشهد أهل جانب بغداد الشرقي الجمعة فكانوا يزدحمون على الجسر، فربما سقطوا بدوابهم في النهر وغرقوا وماتوا، ولربما مات الضعفاء من النساء والأطفال ونحوهم، فاسترخص الناس في أن يقيموا الجمعة في الشط الثاني من بغداد، فأذن لهم ورخص لهم القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة ، وهي أول مسألة حصل فيها تعدد الجمعة كما يذكر العلماء رحمة الله عليهم، ولما أفتاهم أن يجمِّعوا أمرهم أن يعيدوها ظهراً احتياطاً.

قال رحمه الله تعالى: [فإن فعلوا، فالصحيحة ما باشرها الإمام أو أذن فيها].

قوله: [فإن فعلوا] أي: عددوا من دون حاجة فهم آثمون، كأن تكون هناك جمعة في حي وهناك حي قريب منه، فيقول أهل الحي القريب: لو أننا أحدثنا جمعة في حينا، ولا حاجة أن نذهب إلى الحي الثاني. فإحداثهم للجمعة محرم إذا لم توجد حاجة وضرورة، فحينئذٍ إذا أحدثوها أثموا.

فإن صلوا فهل العبرة بالجمعة القديمة، أم العبرة بالجمعة الحديثة، أم العبرة بالجمعتين وكلتاهما صحيحة؟

هذا فيه تفصيل بين العلماء:

فبعض العلماء يقول: العبرة عندي بأول الجمعتين، فأول الجمعتين وقعت هي المجزئة، فلو أن المسجد الحديث بكّر وصلى الجمعة قبل فجمعته هي المعتدّ بها وهي المعتبرة، ولا ينظر إلى قديم ولا إلى جديد وهذا يقول به بعض أصحاب الشافعي رحمه الله.

القول الثاني: العبرة بالمسجد القديم، وهو قول الجمهور، كما ينص عليه أصحاب الإمام مالك رحمه الله، وأصحاب الإمام أحمد ، وكذلك جمع من أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله على الجميع، وهذا هو ظاهر القرآن، قال تعالى: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108] ، فدل على أن المسجد الذي هو أقدم جمعته هي المعتبرة، وعلى هذا فالجمعة في المسجد الثاني لاغية، سواءٌ أوقعت قبل جمعة المسجد القديم أم وقعت بعده، فالعبرة بالمسجد القديم، سواء أتقدم أم تأخر، ولا حاجة إلى تفصيل العلماء رحمة الله عليهم.

وهناك وجه آخر -كما درج عليه المصنف- أن العبرة بالجمعة التي أذن فيها الإمام وهذا مشكل؛ لأنه ربما أذن الإمام لأصحاب الجمعة الثانية، والجمعة الأولى في الأصل كانت موجودة قبل إذن الإمام، فحينئذٍ لازم هذا أن يحكم ببطلان الجمعة بالمسجد العتيق وصحتها في المسجد الحديث، وظاهر القرآن يدل على خلاف هذا، فيستصحب نص القرآن على أن العبرة بالمسجد القديم؛ لأنه أحق، والمسجد الجديد داخل عليه، وأهله ظلموا المسجد القديم بدخولهم عليه، ولذلك يعتد بالجمعة التي تقع في المسجد القديم، ولو كانت متأخرة، أما لو كانت وجدت حاجة لإحداث الجمعة الثانية فلا إشكال، فكلتا الجمعتين صحيحة.

قال رحمه الله تعالى: [فإن استويا في إذن أو عدمه فالثانية باطلة].

لو أذن الإمام بكلتا الجمعتين فقد قيل: العبرة بالأسبق وقوعاً، وهي التي وقعت ولو كانت في الجمعة القديمة، فإنها هي الصحيحة، ولو أن الجمعة التي وقعت في المسجد الحديث وقعت قبل فإنها هي الصحيحة، والصحيح ما ذكرناه أن العبرة بالمسجد القديم سواء أستويا في الإذن أم استويا في الوقت، أم شك في الوقت، فالعبرة بالمسجد القديم على ظاهر آية التوبة، وهي نص قوي في الاعتداد بالمسجد القديم وعدم الاعتداد بالمسجد الحديث الطارئ عليه.

قال رحمه الله تعالى: [وإن وقعتا معاً أو جهلت الأولى بطلتا].

إذا كانت العبرة بالوقت فيرد السؤال: لو وقعتا معاً فما الحكم؟

والجواب: تبطل الجمعتان؛ لأنه لا بد من تصحيح إحدى الجمعتين وإلغاء الأخرى، والضابط في التصحيح مستوٍ فيهما، فلا وجه لتصحيح إحداهما دون الأخرى، قال: [بطلتا]، فيصلونها ظهراً.

والصحيح أن العبرة بالجمعة القديمة -كما ذكرنا- حتى ولو استويتا في الوقت.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: الجمعة ركعتان].

أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن الجمعة ركعتان، وهي هدي النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الأحاديث الصحيحة، ركعتان يجهر فيهما بالقراءة.

قال رحمه الله تعالى: [يسن أن يقرأ جهراً في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقين].

قوله: (يسن) أي: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله أنه قرأ في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقون، أما اختيار الجمعة فالمناسبة في ذلك أنه يوم الجمعة، ولذلك إذا قرأها ختمها بأمرهم بما يدل على أهمية شهود صلاة الجمعة؛ لأن الله ختمها بالأمر بحضور صلاة الجمعة وشهودها والنهي عن التخلف عنها، وأما سورة المنافقون؛ فلأنها تشتمل على صفاتهم المذمومة التي حذّر الله منها عباده المؤمنين، فيكون ذلك أدعى إلى دعوة الناس إلى الإخلاص وترك الرياء وصفات المنافقين التي لا يحبها الله عز وجل، فذكر صفات أهل النفاق فيه قرع للقلوب، وتذكير لها وتحذير لها من سلوك هذا السبيل الذي سمّى الله أهله، ونفّر العباد من اتباعه.

قال رحمه الله تعالى: [وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة].

والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده لم يجمِّعوا أكثر من جمعة واحدة، وكان أهل قباء على أميال من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجدهم له الفضل والمكانة، ومع ذلك لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمِّعوا، وهذا يدل على أنه لا تشرع أكثر من جمعة في المدينة الواحدة، فإن وجدت الحاجة كاتساع العمران كما هو موجود الآن، وأصبح الناس في مشقة أن يشهدوا الجمعة في مسجد واحد فيجوز التعدد بقدر الحاجة.

وأول تعدد للجمعة وقع في بغداد في عهد بني العباس، وذلك في عصر هارون الرشيد رحمه الله، فإنه ازدحم الناس على جسر دجلة، وشهد أهل جانب بغداد الشرقي الجمعة فكانوا يزدحمون على الجسر، فربما سقطوا بدوابهم في النهر وغرقوا وماتوا، ولربما مات الضعفاء من النساء والأطفال ونحوهم، فاسترخص الناس في أن يقيموا الجمعة في الشط الثاني من بغداد، فأذن لهم ورخص لهم القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة ، وهي أول مسألة حصل فيها تعدد الجمعة كما يذكر العلماء رحمة الله عليهم، ولما أفتاهم أن يجمِّعوا أمرهم أن يعيدوها ظهراً احتياطاً.

قال رحمه الله تعالى: [فإن فعلوا، فالصحيحة ما باشرها الإمام أو أذن فيها].

قوله: [فإن فعلوا] أي: عددوا من دون حاجة فهم آثمون، كأن تكون هناك جمعة في حي وهناك حي قريب منه، فيقول أهل الحي القريب: لو أننا أحدثنا جمعة في حينا، ولا حاجة أن نذهب إلى الحي الثاني. فإحداثهم للجمعة محرم إذا لم توجد حاجة وضرورة، فحينئذٍ إذا أحدثوها أثموا.

فإن صلوا فهل العبرة بالجمعة القديمة، أم العبرة بالجمعة الحديثة، أم العبرة بالجمعتين وكلتاهما صحيحة؟

هذا فيه تفصيل بين العلماء:

فبعض العلماء يقول: العبرة عندي بأول الجمعتين، فأول الجمعتين وقعت هي المجزئة، فلو أن المسجد الحديث بكّر وصلى الجمعة قبل فجمعته هي المعتدّ بها وهي المعتبرة، ولا ينظر إلى قديم ولا إلى جديد وهذا يقول به بعض أصحاب الشافعي رحمه الله.

القول الثاني: العبرة بالمسجد القديم، وهو قول الجمهور، كما ينص عليه أصحاب الإمام مالك رحمه الله، وأصحاب الإمام أحمد ، وكذلك جمع من أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله على الجميع، وهذا هو ظاهر القرآن، قال تعالى: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108] ، فدل على أن المسجد الذي هو أقدم جمعته هي المعتبرة، وعلى هذا فالجمعة في المسجد الثاني لاغية، سواءٌ أوقعت قبل جمعة المسجد القديم أم وقعت بعده، فالعبرة بالمسجد القديم، سواء أتقدم أم تأخر، ولا حاجة إلى تفصيل العلماء رحمة الله عليهم.

وهناك وجه آخر -كما درج عليه المصنف- أن العبرة بالجمعة التي أذن فيها الإمام وهذا مشكل؛ لأنه ربما أذن الإمام لأصحاب الجمعة الثانية، والجمعة الأولى في الأصل كانت موجودة قبل إذن الإمام، فحينئذٍ لازم هذا أن يحكم ببطلان الجمعة بالمسجد العتيق وصحتها في المسجد الحديث، وظاهر القرآن يدل على خلاف هذا، فيستصحب نص القرآن على أن العبرة بالمسجد القديم؛ لأنه أحق، والمسجد الجديد داخل عليه، وأهله ظلموا المسجد القديم بدخولهم عليه، ولذلك يعتد بالجمعة التي تقع في المسجد القديم، ولو كانت متأخرة، أما لو كانت وجدت حاجة لإحداث الجمعة الثانية فلا إشكال، فكلتا الجمعتين صحيحة.

قال رحمه الله تعالى: [فإن استويا في إذن أو عدمه فالثانية باطلة].

لو أذن الإمام بكلتا الجمعتين فقد قيل: العبرة بالأسبق وقوعاً، وهي التي وقعت ولو كانت في الجمعة القديمة، فإنها هي الصحيحة، ولو أن الجمعة التي وقعت في المسجد الحديث وقعت قبل فإنها هي الصحيحة، والصحيح ما ذكرناه أن العبرة بالمسجد القديم سواء أستويا في الإذن أم استويا في الوقت، أم شك في الوقت، فالعبرة بالمسجد القديم على ظاهر آية التوبة، وهي نص قوي في الاعتداد بالمسجد القديم وعدم الاعتداد بالمسجد الحديث الطارئ عليه.

قال رحمه الله تعالى: [وإن وقعتا معاً أو جهلت الأولى بطلتا].

إذا كانت العبرة بالوقت فيرد السؤال: لو وقعتا معاً فما الحكم؟

والجواب: تبطل الجمعتان؛ لأنه لا بد من تصحيح إحدى الجمعتين وإلغاء الأخرى، والضابط في التصحيح مستوٍ فيهما، فلا وجه لتصحيح إحداهما دون الأخرى، قال: [بطلتا]، فيصلونها ظهراً.

والصحيح أن العبرة بالجمعة القديمة -كما ذكرنا- حتى ولو استويتا في الوقت.

شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من السنن التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة، فمنها ما يتعلق بالصلاة كالسنن الراتبة، ومنها ما يتعلق بالمكلف من ناحية تهيؤه لصلاة الجمعة ومضيه إليها، فقال رحمه الله في بيان السنة الراتبة التي تكون بعد الجمعة: [إن أقلها ركعتان]، وهذا على ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنه صلى بعد الجمعة ركعتين)، وهاتان الركعتان كان عليه الصلاة والسلام يصليهما في بيته، ولذلك حفظ بعضها من أحاديث أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن.

وكذلك ثبت عنه في حديث ابن عمر: (أنه عليه الصلاة والسلام صلى بعد الجمعة ست ركعات) ، وللعلماء رحمهم الله في هذا أقوال:

فهناك أحاديث أنه صلى ركعتين، وهناك أحاديث أنه صلى أربعاً، وأنه صلى ست ركعات، وأنه بيّن أن السنة يوم الجمعة ست ركعات.

فبعض العلماء يقول: إذا صلى في المسجد يصلي أربعاً، وإذا تسنن في بيته يصلي ركعتين جمعاً بين النصوص، فما جاء عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن من صلاته عليه الصلاة والسلام بالركعتين يكون في بيته، فنعمل الحديث على ظاهره، وما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من صلاته في المسجد أربعاً بعد الجمعة يكون في المسجد فهذا وجه للجمع.

ومنهم من خير فقال: يصلي تارة ركعتين، ويصلي تارة أربع ركعات، والاختلاف ليس اختلاف تضاد، إنما هو اختلاف تنوع، فإن شاء صلى ركعتين وإن شاء صلى أربعاً، كأنه يرى أن أقصى ما يصلى هو الأربع ركعات.

ومن العلماء من قال: إن السنة هي ست ركعات، كما ثبت في حديث ابن عمر، فكان عليه الصلاة والسلام يصلي أربع ركعات في مسجده وركعتين في بيته، وهذا هو أقوى الأقوال، وهو أن السنة أقصى ما يكون فيها ست ركعات، وأقل ما يكون فيها الركعتان، ولذلك من أراد أن يصيب السنة على أكمل وجوهها وأتمها، فليصل ركعتين في بيته إذا رجع، ويصلي قبلها أربعاً في المسجد.

ولكن إذا لم يتيسر له أن يصلي الأربع في المسجد فإنه يصلي الست في بيته، وإذا لم يكن له بيت، كأن يكون صلى ويريد أن يرجع إلى ضيافة، أو إلى دعوة ولا يتيسر له الرجوع إلى بيته يصلي في المسجد ستاً، وهذا هو المحفوظ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه كان يصلي ست ركعات في مسجده، كما أثر عنه حينما قدم إلى مكة رضي الله عنه وأرضاه.

والخلاصة من هذا أن للجمعة راتبة، وتختص راتبتها بالبعدية، وليس للجمعة راتبة قبلية، وذهب بعض السلف إلى أن للجمعة راتبة قبلية، وأنه يصلي قبل الجمعة ركعتين، وهذا مأثور عن بعض السلف من الأئمة رحمة الله عليهم، وقال به بعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.

والأقوى الذي دلت عليه السنة أنه لا يصلى قبل الجمعة راتبة، ولكن الأفضل والسنة للإنسان إذا قدم إلى المسجد قبل صلاة الجمعة أن يكثر من النوافل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيان بعض الأعمال والفضائل يوم الجمعة: (ثم دخل المسجد فصلى، ثم جلس فأنصت) ، ولذلك استحب العلماء أن يكثر من الصلاة، خاصة وأنه قبل الجمعة بعد الزوال، وهناك قول يقول: إنها ساعة إجابة، ولذلك يستكثر من الصلاة ويصلي؛ لأن أفضل الأعمال هي الصلاة، فيستكثر من الصلاة، ولكن لا يتقيد بالسنة الراتبة، أي: ليس لها سنة راتبة.

واختلف العلماء في الصلاة بين الأذان الأول والثاني:

فمذهب طائفة من أصحاب الشافعي رحمهم الله أنه يصلي بين الأذان الأول والثاني؛ لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة) ، فقالوا: لا حرج أن يصلي بين الأذان الأول والثاني، وكان الإمام أحمد رحمة الله عليه إذا أذن المؤذن الأول قام فصلى حتى يشرع الخطيب في خطبته، فيصلي بين الأذان الأول والثاني.

وذهب الجمهور إلى أن حديث: (بين كل أذانين صلاة) يختص بالأذان والإقامة، وأنه لا يشمل الجمعة ولكن مع هذا لا ينكر على من يصلي بين الأذان الأول والثاني، وليس هناك نص صحيح في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على تحريم الصلاة بين الأذان الأول والثاني، فلو أن إنساناً صلى لا ينكر عليه، خاصة وأن ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة) يحتمله، وقد قال به أئمة، والأصل في المسائل الخلافية أنه إذا تمسك أحدهم بظاهر السنة المحتملة فإنه لا ينكر على من فعلها، ولكن إذا اعتقد الفضل بأن قال: أقصد الصلاة بين الأذان الأول والثاني، فإذا اعتقد مزية الفضل في هذا الوقت يكون قد أحدث، أما لو أنه صلى صلاة مجردة، فإن الصلاة في هذا الوقت النصوص دالة على مشروعيتها وجوازها، ولا ينكر على من فعلها، وليس هناك وجه لتحريم الصلاة إلا بنص من الكتاب أو السنة.

ولذلك يبين في هذه المسألة، فإذا صلى بين الأذان الأول والثاني، وأخذ بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة) ، والأذان الأول أذان شرعي، وقد أجمعت الأمة وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعد عهد عثمان رضي الله عنه على هذا الأذان، وقال: إنني أتأول ظاهر هذا الحديث: (بين كل أذانين صلاة) ، فهذا وجه تحتمله السنة، ولذلك لا ينكر على من فعله، إنما ينكر لو اعتقد مزية الفضل، فإذا اعتقد مزية الفضل فقد أحدث في دين الله ما ليس منه باعتقاد فضل لوقت لم يرد النص به عيناً، أما لو صلى مطلق الصلاة، أو صلى لتأول ظاهر الحديث: (بين كل أذانين صلاة) ، فإنه لا ينكر عليه، خاصة أن من أهل العلم رحمة الله عليهم من يقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة) السبب فيه أنه إذا أذن المؤذن فتحت أبواب السماء، فشرع أن يصلى بين الأذان والإقامة، ولذلك يستجاب الدعاء بين الأذان والإقامة، وذلك نظراً إلى كونه إذا أذن المؤذن فتحت أبواب السماء لاشتمال الأذان على أفضل ما يقال وأعظم الكلمات وأجلها عند الله، وهي شهادة التوحيد، فتفتح أبواب السماء، وهذا المعنى ينطبق على الأذان الأول؛ لأنه أذان شرعي أجمعت الأمة على اعتباره والاعتداد به.

قال رحمه الله تعالى: [وأكثره ست].

أي: أكثر هذه السنة الراتبة البعدية ست ركعات، والصحيح -كما قلنا- أنه ليس هناك راتبة قبلية وإنما راتبة بعدية فقط، وهذا مما تختص به الجمعة، بخلاف صلاة الظهر في كل يوم فلها راتبة قبلية وبعدية، وقد تقدم الكلام على هذه الراتبة، وبيان ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أعدادها عند كلامنا على صلاة السنن الراتبة.

فقوله: [أكثرها ست] أي: أكثر ما يتنفل به كراتبة بعدية، ولكن لو أن إنساناً أراد أن يصلي بعد الجمعة نافلة مطلقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمرو بن عبسة : (فإذا زالت فأمسك عن الصلاة، فإذا انتصفت في كبد السماء فأمسك عن الصلاة، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم، فإذا زالت فصل فإن الصلاة حاضرة مشهودة) ، ولذلك لم يفرق بين الجمعة وغيرها، فلا حرج أن يتنفل النفل المطلق، لكن النفل الذي يقصد منه راتبة الجمعة البعدية لا يكون إلا على أقصى درجة، وهي ست ركعات، وهذا هو أقصى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة وأن حديث الست فيه جمع بين الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأربع والذي ورد عنه بالركعتين.