فتاوى نور على الدرب [519]


الحلقة مفرغة

السؤال: هل ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بشكلٍ جماعي في أيامٍ محددة جائز؟ أرجو منكم التوجيه مأجورين.

الجواب: إن العبادات التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه مبنية على أصلين:

الأصل الأول: الإخلاص لله عز وجل، بأن يقصد الإنسان بتعبده لله التقرب إلى الله تعالى، والوصول إلى باب كرامته، لا يقصد بذلك مالاً، ولا جاهاً، ولا رئاسةً، ولا غير ذلك من أمور الدنيا، بل لا يقصد إلا التقرب إلى الله والوصول إلى دار كرامته، ودليل هذا من الكتاب والسنة، قال الله تبارك وتعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:2] ، وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5] ، وقال الله تبارك وتعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] ، والآيات في هذا كثيرة.

وأما السنة ففيها أحاديث، منها: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه )، فإن فقد الإخلاص من العبادة بأن شاركها الرياء وهو أن يعمل العمل الصالح لله لكن يظهره للناس ليمدحوه على ذلك، فإن العبادة تكون باطلةً مردودة؛ لأن الإنسان أشرك فيها مع الله عز وجل حيث راءى الناس بها، ومع كونها باطلة مردودة فهو آثم بذلك مشركٌ بالله إلا أن هذا الشرك شركٌ أصغر ليس مخرجاً من الملة، والشرك وإن كان أصغر فإن الله تعالى لا يغفره؛ لعموم قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] .

وقال بعض العلماء: إن الشرك الأصغر داخلٌ تحت المشيئة، لكن الذي يظهر القول الأول، وأنه لا يغفر لكن صاحبه لا يخلد في النار؛ لأنه شركٌ أصغر.

إذاً: لا بد في كل عبادة من الإخلاص لله تعالى فيها، فمن أشرك مع الله فيها غيره فإنه يأثم بذلك وتبطل عبادته.

الأصل الثاني الذي تنبني عليه العبادات: اتباع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويدل لهذا الأصل قوله تبارك وتعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] ، وقول الله تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] ، وقول الله تبارك وتعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].

ولا يمكن أن تتم المتابعة والموافقة للرسول عليه الصلاة والسلام إلا إذا وافقت العبادة أو إذا وافق العمل الشرع في أمورٍ ستة:

الأول: السبب، يعني: أن يكون سبب هذه العبادة ثابتاً بالشرع.

والثاني: الجنس، بأن يكون جنس هذه العبادة ثابتاً بالشرع.

والثالث: القدر، بأن يأتي الإنسان بالعبادة على القدر الذي جاءت به الشريعة.

والرابع: الكيفية، بأن يأتي الإنسان بالعبادة على الوجه الذي جاءت به الشريعة.

والخامس: الزمان، بأن يأتي الإنسان بالعبادة في الزمن الذي حدده الشرع لها.

والسادس: المكان، بأن يأتي الإنسان بالعبادة في المكان الذي حدده الشارع لها.

فإذا اختل واحدٌ من هذه الأمور الستة لم تتحقق المتابعة، وصار هذا من البدع، فأما الأول وهو السبب فإنه لا بد أن يكون السبب الذي بنينا عليه هذه العبادة ثابتاً بالشرع، فإن لم يكن ثابتاً بالشرع فإن ما بني على ما ليس بثابتٍ شرعاً فإنه ليس بمشروع، ومن ذلك ما يحدثه الناس في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب حيث يحدثون احتفالاً زعماً منهم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عرج به في هذه الليلة ليلة سبعٍ وعشرين، وهذا لا أصل له في التاريخ، ولا أصل له أيضاً في الشرع، فإن الذي يظهر من التاريخ أن الإسراء والمعراج كان في ربيعٍ الأول، وأما من الشرع فلا أصل له أيضاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخلفاءه الراشدين والصحابة أجمعين لم يرد عنهم أنهم كانوا يحتفلون في الليلة التي عرج فيها برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومعلومٌ أن الشرع لا يأتي إلا من طريقه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ).

فمن أحدث احتفالاً ليلة السابع والعشرين من شهر رجب لهذه المناسبة فإنه بناها على سببٍ لم يثبت شرعاً، بل ولم يثبت تاريخياً كما ذكرنا.

الأمر الثاني: أن تكون العبادة موافقة للشرع في الجنس، فإن أتى بعبادة لغير الجنس الذي جاءت به الشريعة فإن عبادته مردودة عليه ولا تقبل منه، مثال ذلك: أن يضحي الإنسان بالخيل بأن يذبح فرساً يوم عيد الأضحى يتقرب به إلى الله عز وجل كما يتقرب بذبح البقرة، فإن هذه العبادة لا تقبل منه ولا تكون أضحية؛ لأنها من غير الجنس الذي وردت به الشريعة، فإن الأضاحي إنما تكون من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم.

الثالث: أن تكون العبادة موافقةً للشرع في قدرها، فإن لم تكن موافقةً للشرع في قدرها بأن نقصت أو زادت فإنها لا تقبل، وبهذا لو صلى الإنسان صلاة الظهر خمس ركعات لم تقبل منه؛ لأنه زاد على القدر الذي جاءت به الشريعة، ولو أنه صلاها ثلاث ركعات لم تقبل منه أيضاً؛ لأنه نقص عن القدر الذي جاءت به الشريعة.

الرابع: أن تكون موافقة للشرع في كيفيتها، بأن يأتي بها على الكيفية التي أتت بها الشريعة، فلو صلى الإنسان أربع ركعات لكنه كان يأتي بالسجود قبل الركوع فإن الصلاة لا تقبل منه؛ لأنه أتى بها على كيفيةٍ لم ترد بها الشريعة فكانت مردودة عليه لعدم تحقق الاتباع في حقه.

الخامس: أن تكون موافقةً للشرع في زمانها، فإن لم تكن موافقة للشرع في زمانها فإنها لا تقبل، فلو صام في شهر رجب بدلاً عن شهر رمضان فإن ذلك لا يقبل منه ولا يجزئه عن رمضان؛ لأن رمضان خص الصيام فيه دون غيره من الشهور، فمن أتى به في زمن آخر لم يكن أتى بهذه العبادة في الوقت الذي حدده الشرع، وكذلك لو صلى الظهر قبل زوال الشمس فإنها لا تقبل منه؛ لأنه أتى بها في غير الزمن الذي حدده الشارع لها.

السادس: أن تكون موافقة للشرع في مكانها، فلو أن الإنسان اعتكف في بيته في العشر الأواخر من رمضان بدلاً من أن يعتكف في المساجد فإن هذا الاعتكاف لا يصح منه؛ لأنه في غير المكان الذي حدده الشارع للاعتكاف.

وليعلم أن مخالفة الشريعة في هذه الأمور الستة أو في واحدٍ منها يترتب عليه أمران:

الأمر الأول: الإثم إذا كان عامداً.

والأمر الثاني: البطلان، فإن كان جاهلاً فإنه يسقط عنه الإثم ولكن العبادة تبقى باطلة، فإن كانت مما يقضى إذا بطل وجب عليه قضاؤها، وإن كانت مما لا يقضى سقطت عنه.

بناءً على ذلك نقول في جواب هذا السؤال: إن ذكر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غير الأوقات التي ورد فيها ذكره ليس بمشروع، فلو أن الإنسان أراد أن يأتي بقول: أشهد أن محمداً رسول الله التي تقال في الأذان وفي غير الأذان أيضاً أتى بها في الضحى بناءً على أنه يريد بها الأذان فإننا نقول: لا يقبل منه ذلك؛ لأن الأذان له وقتٌ معين وهو ما إذا دخل وقت الصلاة وأراد أن يصلي.

ثم إن ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا شك أنه من أجل العبادات، والصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أفضل الأعمال، ومن صلى على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً، فالإكثار من الصلاة عليه بلا عدد وبدون زمنٍ معين وبدون مكانٍ معين هذا خيرٌ من أن يجعل الإنسان لهذه الصلاة وقتاً معيناً وعدداً معيناً وصفةً معينة؛ لأن كل شيء يسنه الإنسان لنفسه ولو كان أصله مشروعاً يكون من البدع، ويكون من البدع في كيفيته أو زمانه أو مكانه حسب ما فصلنا آنفاً، والإنسان إذا استغنى بالسنة عن غيرها كفت وحصل بها الخير الكثير، وإن كان الإنسان قد يتقال السنة في بعض الأحيان ويقول: أنا أريد أن أعمل أكثر من ذلك فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنكر على الذين تقالوا سنته وهديه وأرادوا أن يزيدوا على ذلك، حيث اجتمع نفرٌ فقال بعضهم لبعض حين سألوا عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم في السر، أي: فيما لا يبدو للناس، فكأنهم تقالوا هذا العمل، وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يعني: ونحن لم يحصل لنا ذلك، فقال بعضهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثاني: أنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأنكر عليهم، وقال: ( من رغب عن سنتي فليس مني ).

فاتباع السنة خير، حتى وإن كان الإنسان يظن أنه عملٌ قليل، فإن ما وافق السنة وإن كان أقل فهو خيرٌ مما لم يوافق السنة وإن كان أكثر؛ ولهذا لو أن الإنسان أراد أن يطيل ركعتي الفجر، أي: سنة الفجر أراد أن يطيلها وقال: أنا أحب أن أزداد من قراءة القرآن، وأحب أن أزداد من التسبيح، وأحب أن أزداد من الدعاء، فأحب أن أطيل ركعتي الفجر، فإننا نقول له: هذا ليس بصحيح، ومنهجك هذا غير صحيح؛ لأن السنة في سنة الفجر التخفيف، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يخففها حتى تقول عائشة : ( حتى إني أقول: أقرأ بأم القرآن )، فلو كان عندنا رجلان أحدهما صلى سنة الفجر على وجهٍ خفيف لكنه محافظ على الطمأنينة، والثاني صلاها على وجهٍ أطول قلنا: إن الأول أصوب وأفضل من الثاني من أجل موافقة السنة، ثم إنه يبين ذلك أيضاً ( أن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسل رجلين في حاجة فلم يجدا الماء فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأحدهما توضأ وأعاد الصلاة، والآخر لم يعد الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للذي لم يعد الصلاة قال له: أصبت السنة، وقال للآخر لك الأجر مرتين ). فصوب الأول ولم يصوب الثاني، لكنه جعل له الأجر مرتين؛ لأنه فعل ما يعتقده عبادة متأولاً ظاناً أن هذا هو الذي يجب عليه فأثيب على هذا الاجتهاد، وإن كانت السنة في خلافه.

السؤال: ما حكم الشكل الجماعي للذكر؟

الجواب: اجتماع الناس على الذكر جماعياً بأن يقولوا بصوتٍ واحد: الله أكبر، أو الحمد لله، أو لا إله إلا الله، أو اللهم صل على محمد، أو ما أشبه ذلك هذا لا نعلم له أصلاً في سنة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل كان الصحابة يذكرون الله تعالى ويثنون عليه كل مع نفسه، وها هم في حجة الوداع مع النبي عليه الصلاة والسلام منهم المهل ومنهم المكبر، ولا أحدٌ يتبع أحداً في ذلك، ولم يجتمعوا على التلبية، وإنما كان كل إنسانٍ يلبي لنفسه، فهذا هو المشروع.

أما ما وردت به السنة من الاجتماع على الدعاء وعلى الذكر فهذا يتبع فيه السنة، فالاجتماع على دعاء القنوت في الوتر في صلاة التراويح وما أشبه ذلك فهذا يتبع فيه السنة.

السؤال: إذا أراد المصلي أن ينبه أحداً إلى وجوده، فماذا يفعل؟

الجواب: كأن السائل يقول: لو استأذن عليه أحد وهو يصلي فماذا يفعل؟ نقول: له طريقان:

الطريق الأول: أن يسبح، فيقول: سبحان الله، سبحان الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ( إذا نابكم شيء في صلاتكم فليسبح الرجال، وليصفق النساء ).

أما الطريق الثاني: بأن يتنحنح، كما ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان لي مدخلان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا دخلت وهو يصلي تنحنح لي، فهذان طريقان.

وهناك طريقٌ ثالث لا بأس به إن شاء الله وإن كنت لا أعلم له أصلاً في السنة وهو أن يرفع صوته بما يقول، إن كان في قراءة يرفع صوته بالقراءة، إن كان في ركوع رفع صوته بالتسبيح، قال: سبحان ربي العظيم لينتبه المستأذن عليه، لكن الأولى التسبيح أو النحنحة.

السؤال: الخطيب يوم الجمعة هل يجوز له صلاة تحية المسجد ويجلس أو يصعد إلى المنبر مباشرةً؟

الجواب: هذا يمكن أن نعرف حكمه مما سبق في الجواب عن السؤال الأول، وهو أن اتباع السنة هو الخير، فهذه المسألة نجيب عنها من وجهين:

الوجه الأول: أن بعض أئمة الجوامع يتقدمون ويأتون في الساعة الأولى أو الثانية رجاء أن يصيبوا أجر من تقدم، ثم يصلون ما شاء الله ويجلسون إلى أن تزول الشمس ثم يقوم فيصعد المنبر، وهذا اجتهادٌ لكنه خلاف الصواب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأتي يوم الجمعة ويجلس ينتظر الزوال ثم يقوم فيسلم على الناس، بل كان عليه الصلاة والسلام يأتي حين الزوال أو حين يريد أن يخطب دون أن يتقدم.

الوجه الثاني: أن الخطيب إذا دخل في الوقت الذي يريد أن يخطب فيه فإنه لا يصلي ركعتين، بل السنة أن يتقدم إلى المنبر ويصعد على المنبر ويأتي بالخطبة، قال أهل العلم: ويسلم على المأمومين إذا دخل، أي: على من حول الباب، ويسلم كذلك إذا صعد المنبر على عموم الجماعة.

السؤال: إذا صليت الوتر وبعد ذلك أريد قيام الليل، هل أوتر مرة ثانية أم تكفي المرة الأولى أم أصلي ركعة في بداية القيام؟

الجواب: أولاً: إذا كان الإنسان يطمع أن يقوم في آخر الليل فلا يوتر في أول الليل، بل يجعل وتره آخر الليل؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( اجعلوا آخر صلاتكم في الليل وتراً )؛ ولأن صلاة آخر الليل مشهودة فيكون أفضل، وأما من خاف ألا يقوم فليوتر أول الليل؛ لئلا يفوته الوتر؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبا هريرة رضي الله عنه، بل أوصاه أن يوتر قبل أن ينام، وقال عليه الصلاة والسلام: ( من خاف ألا يقوم آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخر الليل فليوتر آخره، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل )، ولكن إذا كان الإنسان لا يطمع أن يقوم في آخر الليل، فإننا نقول: أوتر أول الليل، ثم إن قدر له أن يقوم بعد ذلك فإنه لا يصلي ركعةً في افتتاح تهجده، ولا يوتر مرةً أخرى، بل يصلي ركعتين ركعتين إلى أن يطلع الفجر، فإن قال قائل: كيف نقول بهذا وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً ) كنا نقول به؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يقل: لا تصلوا بعد الوتر، بل قال: ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً ) هكذا قال. وهذا الرجل الذي خاف ألا يقوم من آخر الليل فأوتر أول الليل قد جعل آخر صلاته بالليل وتراً، فامتثل أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يرد نهيٌ من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصلاة بعد الوتر، ويشبه هذا من بعض الوجوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى )، فإن بعض أهل العلم فهم من ذلك أن المراد ألا يليه إلا أولوا الأحلام والنهى، وقال بناءً على ذلك: إنه إذا وجد من لم يبلغ في الصف الأول فإنه يؤخر إلى الصف الثاني، ولكن من تأمل الحديث وجد أنه لا دلالة فيه على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ( ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى ) فهو حثٌ لأولي الأحلام والنهى أن يتقدموا حتى يكونوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، بل حتى يكونوا هم الذين يلون رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ليفقهوا عنه ويأخذوا عنه سنته، ولو كان يريد ألا يقوم أحدٌ من الصغار في الصف الأول لقال: لا يلني إلا أولوا الأحلام والنهى.

السؤال: عند وفاة أحد من الناس نقوم بتغسيله وتكفينه في بيته ونحمله إلى المقبرة، ونضعه على بعد عشرة أو عشرين متراً في المقبرة، ونصلي عليه، فهل هذا جائز؟

الجواب: نعم، تجوز الصلاة على الميت في المقبرة؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه صلى على القبر بعد الدفن، والصلاة على الميت لا فرق بينها وبين الصلاة على القبر؛ لأن الكل صلاة على ميت، ولكن جرت العادة عند عامة الناس الذي نشاهد والذي نسمع أنه يذهب بالميت إلى المسجد، حتى ولو كان في غير أوقات الصلاة؛ لأنه إذا ذهب به إلى المسجد ومروا به من عند الناس فقد يتبعهم أحد ويصلي على الميت، وكلما كثر المصلون على الميت كان أفضل؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( ما من رجلٍ مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه )، فربما يكون في حضورهم إلى المسجد فائدة وهي أن يتبعهم أناسٌ من الذين حول المسجد يصلون على الميت يكثرون المصلين، وهم أيضاً يؤجرون على الصلاة على الميت فالأفضل هو هذا أن يذهب به إلى المسجد، ويصلى عليه في المسجد، ثم يخرج به إلى المقبرة، وإن ذهبوا به إلى المقبرة رأساً بدون أن يدخلوا به المسجد فلا حرج.

ولكن لو قال قائل: هل الأفضل أن نبادر بدفنه أو نؤخره إلى الصلاة؟ قلنا: إذا كانت الصلاة قريبة فالأفضل تأخيره إلى الصلاة، أي: إلى صلاة الجماعة؛ لأن ذلك أكثر للمصلين، وربما يكون أكثر للمتبعين أيضاً، أما إذا كان في وقتٍ طويل فإن المبادرة بدفن الميت أفضل وأولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر بالإسراع بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: ( أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحةً فخيرٌ تقدمونه إليه، وإن تك سوى ذلك فشرٌ تضعونه عن رقابكم ).

السؤال: عبارة: حمل إلى مثواه الأخير، هل في هذه العبارة شيء؟

الجواب: هذه فيها شيء كبير، لو كان الناس يفهمون معناها وأرادوها؛ لأن قول القائل: إنه حمل إلى مثواه الأخير يفيد أن القبر هو آخر مرحلة وآخر منزلةٍ للإنسان، وليس الأمر كذلك، بل إن القبر يعتبر ممراً ومزاراً، والمثوى الأخير هو إما الجنة وإما النار، وهذه العبارة لو أخذنا بظاهرها لكانت تتضمن إنكار البعث، وإنكار البعث كفر؛ لأن الإيمان هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، لكن غالب الناس يطلقها وهو لا يدري ما معناها، أو يريد ما يفهمه المسلمون كلهم من أن هذه القبور ممرٌ وزيارة وليست مثوىً أخيراً؛ ولذلك نرى أنه لا يجوز للإنسان أن يطلقها، حتى وإن كان يريد بها ما يعلمه المؤمنون بالضرورة من الدين وهو أنه لا بد من البعث، ولا بد من الخروج من هذه المقابر، وأنا قلت: إن المقابر مزار؛ لقول الله تبارك وتعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2]، يذكر أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ بهذه الآية يقول: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:2]، فقال الأعرابي: والله ما الزائر بمقيم، والله إن هناك شيئاً وراء هذه المقابر.